|
الصعود بديلا عن الخلاص ....... عن اضطرابات مسرح ما بعد يناير!
عبد الناصر حنفي
الحوار المتمدن-العدد: 4964 - 2015 / 10 / 23 - 20:54
المحور:
الادب والفن
في دراسة بعنوان: "حالات مسرح ما بعد يناير: من الاندفاع إلى التبدد"، قدمت وصفا يتقصى المنحى الفينومينولوجي لما أتصور أنه جرى عبر هذه الفترة، وقد خلصت في بعض النتائج إلى تحول موضوعة "البطل المخلص" إلى "الحدث المخلص" وذلك في إطار الاندفاع إلى توطين "حدث 25 يناير" مسرحيا، بكل ما رافق هذا من استدعاء كافة الطبعات المختلفة من النموذج الستيني للبطل المخلص وإعادة استخدام كل ما تراكم من مصكوكات جمالية وأرصدة رمزية مرتبطة بهذا النموذج لصالح تأكيد نقطة الخلاص الجديدة تلك، والتي ما لبثت أن شهدت تحولا آخر مع تطورات ما بعد يناير جرى عبره تبني موضوعة "الكتلة المخلصة" بدلا من الحدث المخلص، ثم ما تلى ذلك من تبدد أفق وموضوعة الخلاص نفسها. وقد جادلت أن هذا المسار أفضى إلى تفكك وإنهيار ذلك الفضاء الجمالي الذي تأسس على موضوعة الخلاص بكافة تبدياتها، بكل ما يعنيه هذا من أزمة فقد المسرح المصري لجزء ضخم للغاية من الارصدة الرمزية والجمالية التي راكمها في تناول المسألة الاجتماعية، والتي باتت الآن غير صالحة للاستخدام بنفس الكفاءة التي كانت عليها فيما قبل يناير، فضلا –بالطبع- عن الأزمة الأعم والأكثر عمقا والمتعلقة بما أصاب الخيال الاجتماعي المصري في علاقته بالمستقبل. وخلال اليومين الماضيين شاهدت في مهرجان نوادي المسرح عرضين بدا أنهما يحاولان التصدي للأزمة التي اشرت إليها عبر تكريس موضوعة "الصعود" كبديل لموضوعة "الخلاص"، العرض الأول "العطر"، إخراج محمد أسامة عطا، جاء من الشمال، الاسكندرية، بينما الآخر "المايسترو"، إخراج محمد سيد، أتى من الجنوب، المنيا، ومع هذه المباعدة الجغرافية فإن أي تشابهات أو تقاطعات سنتمكن من رصدها هنا سيصعب ردها إلى محض تفاعل مباشر أو بسيط أو شخصي، فالأكثر ترجيحا ومنطقية أن ثمة تفاعل مشترك مع الأفق الاجتماعي العام والآني أنتج هذه التشابهات والتقاطعات. ولن نسعى هنا إلى تسطير تقييم جمالي، أو مسح نقدي لما قدمه العرضان، بل سنحاول تقديم ما يشبه الوصف الفينومينولوجي لكيفيات الوعي الذي انبنى عليه عالمهما ورصد لحظات أو تبديات ظهوره. هدفنا إذا هو إبراز وتحليل ملامح العالم الذي يقترحه أو يفكر فيه العرضان باعتباره –أولا- إستجابة، أو محاولة لمقاومة؛ حالة "التبدد" التي إنتهي إليها مسرح ما بعد يناير، وكذلك بإعتباره –ثانيا- إستجابة للسؤال الغامض والمقلق والمكبوت حول العلاقة بالعالم والمستقبل والذي بات يهيمن شيئا فشيئا على الخيال الاجتماعي المصري. وبداية فكلا العرضين يعود بعالمه إلى ماضي مجتمع الآخر الغربي عبر استحضار تلك الفترات الإشكالية التي سبقت إمتطاءه للتاريخ مع بداية تدشينه للحداثة، فرواية العطر لباتريك زوسكيند المأخوذ عنها العرض الأول تدور وقائعها في القرن الثامن عشر، وهو نفس القرن الذي ولد فيه بيتهوفن الذي يدور العرض الثاني حول سيرته الذاتية، وهو بالمناسبة أيضا نفس القرن الذي شهدت نهايته الحملة الفرنسية على مصر، والتي تمثل لحظة ظهور إلتفاتنا التاريخي إلى "صعود" الغرب بوصفه إشكالية تخصنا وتتعلق بمصيرنا، وبداية تلك الرحلة التاريخية الفصامية من العلاقة المغتربة مع الذات وتصورها عبر الآخر الذي حلمنا بتجاوزه، وحلمنا أن نكونه، ولكننا فشلنا في كلا الأمرين تماما، المرة تلو الأخرى، على نحو قاسي ومحرج بات يجبرنا على الاعتراف به وعدم تجاهله!، لذلك، وبينما نحن في غمار تلك الأزمة الاجتماعية الراهنة فإن عودة هذين العرضين إلى استطلاع الماضي الإشكالي "للآخر" بدلا من النكوص التقليدي إلى ما نعتقد أنه ماضينا الخاص -كما فعلنا كثيرا في الفترات المشابهة- هو أمر يشي بإلماحات لا يمكن إغفالها، أو التغاضي عن التفكير فيها، وحتى إذا أصر البعض على أننا هنا إزاء محض صدفة أو حدث عرضي، فالواضح أن هذه الصدفة قادرة على أن تصرخ بالكثير مما قد لا يطيب لنا أن نسمعه. وكلا العرضين يجمع بينهما الجدية "القاتمة" المنكفئة على موضوعها، وعلى ترسيخ ثقل حضور العالم الذي تقدمه بحيث أن التفكير فيما هو خارجه يبدو ممتنعا وعصيا، وكأننا أمام عالم بلا خارج يحده، بلا حواف، بلا اسقاطات أو تلميحات لأي أوضاع أو علاقات تتجاوز المقتضيات المألوفة لحدود هذا العالم الزمانية والمكانية، ولكنه مع ذلك ليس مجرد عالم مغلق على ذاته، بقدر ما هو عالم متفرد لا يتجاور مع اي عوالم أخرى ولا يتحاور أو يتداخل معها، إنه ليس بديلا لشيء، ولا يوجد شيء يمكن أن يكون بديلا له، إنه موجود فقط هنا والآن، وحتى النهاية. وبرغم الفقر الواضح (على مستوى الانتاج والخيال معا) في محاولة العرضين بلورة حالة من التماهي الشكلي مع العالم الذي يقدمانه عبر ما تيسر لهما من ملابس واكسسوارات، إلا أن هذا بحد ذاته يشي بالرغبة التي تأسس عليها التفكير، أي الرغبة في الذهاب أو الانتقال إلى هناك، حيث بداية تاريخ صعود الآخر، عبر فتح المسافة على كامل اتساعها بعيدا عن الآني الذي نعيشه، عل شيئا ما يتأكد، أو يظهر مفصحا عن نفسه! ومع تأكيدنا على التباين الملحوظ في المستوى الفني والطموح الجمالي بين العرضين (والذي يميل لصالح عرض العطر) إلا أنهما يتقاطعان في تذبذب الإحكام التقني بين مشهد وآخر، أو حتى داخل المشهد الواحد، فضلا عن مستويات متفاوتة من الارتباك، والذي يصل إلى حد الارباكات الشكلية حينا، أو الاعتوارات الدرامية والاختلالات البنائية حينا آخر، وكأنهما تحت سيطرة حالة من اللهاث الساعي إلى الوصول إلى نقطة النهاية وحسب، وكأن ما نمر به في طريقنا نحو هذه النهاية هو مجرد أحداث طارئة بلا أهمية في ذاتها، إنها أشبه ما تكون بالعلامات الموزعة على الطرق "السريعة" والتي يكاد دورها ينحصر في طمأنتنا أننا مستمرين في الحركة والاقتراب من هدفنا، وفي هذا الإطار أهمل العرضان التدقيق في العديد من التفاصيل والعلاقات بغض النظر عن مدى ما كان يتطلبه هذا من جهد بسيط ومتاح في بعض الأحيان، وهو ما يعني أننا هنا أمام حالة من الاهتمام اللامتكافيء بمكونات العالم والتي تتوزع عبر ثقل الانهمام ببعضها والاستغراق فيه، مقابل خفة اللامبالاة بالبعض الآخر، وقليل من التأمل في خرائط توزيع الاهتمام سيكشف بوضوح الغرض من استحضار عالم القرن الثامن عشر، والذي يتعلق بموضوعة "الصعود". العرضان إذا لا يهتمان أو يكترثان حقا إلا برحلة "صعود" البطل، وهو صعود لا يكاد يرتبط باي شيء تقريبا إلا بما يستطيع هذا البطل القيام به، إنه محض تحقق لطاقاته الكامنة بغض النظر عن مدى الصعوبات التي تكتنف هذا التحقق، ومقابل هذا يخفت حضور الصراع بمعناه الدرامي والاجتماعي، فالصعود هنا ليس استجابة أو حلا لأزمة مطروحة، ولا انتصارا على شيء في الخارج، ولا بالطبع نتيجة إكتساب شيء جديد عبر الاحتكاك بالعالم، فالعرضين لا يقدمان تقريبا سوى كروكي عام لرحلة صعود غير خاضعة للتأمل ولا للتفكير أو حتى للتساؤل عن جدواها بالمقام الأول، وما لدينا هنا هو محض رصد لحالة صعود فردي، وليس خلاص جماعي أو حتى فرديا، فلا خلاص في هذا العالم الذي يبدو وكأنه لم يعد بالامكان سوى اعتباره بمثابة الأرض التي تقطعها الرحلة نحو تسنم ذروة شيء ما، وكأنه لا بديل سوى السعي إلى مغادرة هذا العالم بكل ما فيه على أن تكون هذه المغادرة عبر اقتحامه من نقطة انجاز أعلى ولو قليلا من الانحطاط الذي يسوده. رحلة صعود لا خلاص إذا: ولكنه ليس صعودا فرديا طبقا للمفهوم البورجوازي التقليدي الذي يجد جذوره في القرن الثامن عشر!، فالصعود هنا ليس من "أجل" تعظيم المنفعة الذاتية لفرد ما، كما أنه ليس من أجل منفعة المجموع أيضا، كل ما هنالك أن من يصعد، أو ينجز الصعود هو فرد، ولكن الأمر ينتهي به إلى التلاشي خارج العالم أو الذوبان في عمقه على نحو يلغي وجوده الذاتي الخاص، إنها رحلة من أجل الموت لا من أجل الحياة، من أجل مغادرة العالم لا البقاء فيه. والملاحظ أيضا أن الأهداف أو الدوافع التي تطالب أو تسعى إلى رحلة الصعود في العرضين هي مجرد معطى قبلي، بمعنى أنها لم تتخلق عبر صراع يحددها بوصفها ضرورة، ولا تم تقديمها كلحظة إختيار حاسمة تطورت عن مواجهة إشكالية ما أو الوعي بها، فدوافع "جان" بطل عرض "العطر" لم يتم طرحها للنقاش أو التحليل قط، بل تم تقديمها وكأنها غريزة قبلية "حيوانية" الطابع ومتعالية على إمساك الوعي بها، وكأننا مع جان أمام آلة مبرمجة على ما تفعله وتستهدفه، أو –بالمقابل- أمام تجسيد لمطلب الاخلاص الكامل والانصياع المطلق "لبرنامج ما" وذلك عبر قناعة مطلقة لا يخدشها أي تساؤل أو نقاش، ومهما بدا أن ذلك يورطنا في جرائم منحطة فلا ينبغي لهذا أن يسترعي إنتباهنا أكثر من اللازم ما دامت مثل هذه الجرائم هي أحد متطلبات الصعود، ذلك الصعود الذي بات اثقل من العالم ذاته، وأكثر منه أهمية بحيث تتحول وظيفة أو حضور هذا العالم التافه إلى مجرد مبرر أو تكأة لتجلي "رحلة الصعود"! بينما دوافع بيتهوفن في عرض "المايسترو" هي أمر يفرض عليه عنتا من قبل ابيه، حيث يتم تقديمها دائما وكأنها في حالة "تخارج" عن الذات، وحتى عندما يختفي "الأب" أو تبدو محاولاته فاشلة في برمجة بيتهوفن، فستحل محله شخصية شبحية تتولى رعاية دوافع البطل وتحافظ على حظوظه في إرتقاء مدرج الصعود، وهذا الشبح، الصامت دوما، سيظهر في هيئة مسربلة بالبياض الملائكي، ولكن بوجه اسود!، وسيكثف حضوره كلما بدا أن التواجد في العالم بات أمرا غير محتمل ليرسم طريق الخروج منه. دوافع بيتهوفن إذا تقدم في حالة تخارج تام عن ذاته، وكأنها لا تخصه، وكأنها مجرد إقتراح شبه إجباري وليس عليه سوى إتباعه. وفضلا عن داخلية، أو آلية، جان المصمتة أو الحيوانية، وتخارج بيتهوفن عن ذاته، فكلاهما ولد بهبة أو موهبة فطرية استثنائية للغاية تتعلق بحاسة مفردة دون غيرها، فجان يستطيع استقبال واستخلاص الروائح من أي شيء وكل شيء تقريبا، إنه قادر على إنتزاع جوهر الوجود الإنساني مختزلا في محض روائح يمكن تخزينها وتركيبها معا وصولا إلى إقتناص روح العالم في زجاجة صغيرة!، أما بيتهوفن، فهو ذلك الشخص القادر على أن يضخ في آذاننا جوهر الوجود ذاته، وهكذا، فكلاهما يتمتع بسيطرة شبه سحرية على حاسة ما من حواسنا. و التعارض بين ثنائية الاستقبال والارسال لدى البطلين مقرون بتشوه أو إعاقة في الطرف الآخر للثنائية، فجان "المستقبل" لما يصدر عن الآخرين، لديه إعاقة واضحة في "الإرسال"، أوالإفصاح عن نفسه، بحيث سيبدو دائما كأبله مستغرق في حالة من الوعي البدائي العاجز عن التواصل مع الآخرين، فيما سيعاني بيتهوفن "المرسل" من إعاقة في الإستقبال، تصل إلى حد الصمم الكامل الذي يجعله عاجزا عن التواصل مع العالم من حوله، وعاجزا حتى عن إدراك موسيقاه، ويمكن ملاحظة مدى عمق ترابط طرفي هذه الثنائية أكثر عندما نحلل حضورها على المحور الزمني، فجان سيظهر منذ اللحظات الأولى للعرض وهو يتمتع بهبته كاملة غير منقوصة سيبدو تشوهه ماثلا أمامنا في اللحظة ذاتها ودون تغيير حتى النهاية، أما بيتهوفن الذي عاند في الاعتراف بقدرته وتأخر في اكتشافها فسيتأخر بالمقابل ظهور إعاقته (الصمم)، وسيتم كشفها على مراحل مثلها مثل عبقريته الموسيقية. ومحافظة العرضين على هذه السيمترية الصارمة بين طرفي الثنائية المكونة لجوهر "الإستطاعة" التي يتمتع بها بطليهما تشي بما هو أكثر من مجرد الاحتفاء بمفهوم البطل التراجيدي الذي يعاني نقصا أساسيا أمام العالم الذي يتعين عليه مواجهته، فالنقص هنا لا يبدو عائقا مطلوب تجاوزه بقدر ما يقدم بوصفه شرطا مرتبطا بإكتمال القدرة على الإنجاز. في كلا العرضين يظهر "الآخرون" بوصفهم مجرد موضوعات أقرب إلى حالة التشيؤ، لا ذوات فاعلة، إنهم ما يتم استهلاكه في الطريق إلى رحلة الصعود، أو تلك الصفحة البيضاء الفارغة التي سيكتب عليها البطل إنجازه، فجان الاقرب للحيوانية يعاملهم بوصفهم طرائد للصيد حينا، أو مصدر للمضايقات العارضة حينا آخر، وهو لا يسمح لنفسه أن يتحول إلى رد فعل على ما يقومون به، ولا حتى على سبيل إظهار التألم عندما يقومون بضربه أو الاعتداء عليه، أما بيتهوفن فكلما تقدم في رحلة صعوده أصبح اكثر أريحية في إظهار غروره وتعاليه على من حوله، وحتى محاولة بعضهم جعل البطل مادة للاستغلال المادي الرخيص (صانع العطور مع جان، والصديق مدير الأعمال مع بيتهوفن) سيتم عبورها سريعا دون أدنى ميل لإدانتها أو حتى تبرير ظهورها. ويصل استخفاف العرضين بالشخصيات المحيطة بالبطل إلى ذروته عبر تلك المشاهد التي بادرا فيها إلى تحويل هذه الشخصية أو تلك من الحالة المسرحية إلى "موقع سردي" أو مجرد أداة للتعليق على الأحداث، بغض النظر عن علاقة هذه الشخصية/ الأداة بما تعلق عليه. وبعبارة أخرى فإن احتقار الجموع البادي في العرضين بلغ درجة من العمق أجبرته على الافصاح عن نفسه على المستوى التقني. كلا العرضين يراهن بلا كلل على المزيد من تنشيط المجال الحسي لتلك الحاسة التي يتخذها موضوعا له، وهو ما يتضح أكثر فأكثر كلما تقدما في مسارهما، فلن تنقطع الرائحة العطرية أبدا في الأول، مثلما سيبدو أن الموسيقى تجاهد كي لا تتوقف في الثاني، تشغيل حواسنا إذا واستثارتها واستفزازها يكاد يكون الجسر الأساسي الذي يحاول العرضان بناؤه مع متلقيهما لدمجه في عالمهما، بحيث سينتهي عرض "العطر" وقد خلف وراءه سحابة كثيفة من الغبار المعطر والتي ظللت خشبة وصالة مسرح السامر على نحو دفع بعضهم إلى السعال، أما عرض "بيتهوفن" فلن ينتهي قبل أن يسمعنا أكثر من مرة ذلك الأزيز المؤلم الذي يصيب بطله، والذي طال أحيانا أكثر مما ينبغي بحيث كاد أن يتحول إلى إيذاء محقق، وبالتالي فهذا الالحاح الحسي الذي يصل إلى حد الوقاحة أحيانا سيبدو وكأنه "خفض" لحالة حضور ما يقدمه العرضان من المستوى التأملي إلى المستوى الحسي الأكثر بساطة، حيث لا حاجة إلى مناقشة أو طرح ما يثير الاختلاف، فنحن –حينما يتعلق الأمر بالتلقي الحسي المباشر- نتحول إلى ما يشبه الكتلة المتجانسة الخالية من النتوءات بحيث يكاد يكون كل منا مماثلا للآخر، ودون تمايز يذكر. وبالطبع فهناك الكثير مما يمكننا التفكير فيه سواء على مستوى الدلالة الاجتماعية أو السياسية إنطلاقا مما يكرسه العرضان من رهان على تحويل الجموع إلى كتلة حسية مصمتة، تتداخل حسيا –ولكن دون فعل- مع البطل، ورحلة صعوده! ***** تطور مجتمع ما بعد يناير عبر ثلاثة حالات بدأت بالاندفاع الرومانسي تجاه العالم، مرورا بتحول هذا الاندفاع تجاه الداخل/الذات الاجتماعية بوصفها الكتلة التي تملك تحقيق الخلاص، وإنتهت إلى حالة "تبدد" وتشتت تلك الطاقة الاجتماعية التي أثارت كل هذه الأمواج، وعلى مستوى المسرح إقترن هذا "التبدد" بعدة استجابات، فالعديد من العروض بدت وكأنها تدير ظهرها تماما لأي تماس مباشر مع الواقع الآني، فيما حاولت عروض أخرى السعي إلى مقاومة هذا التبدد عبر "استثمار بقايا الطاقة الاجتماعية التي توزعت طبقا للموقف من الصراعات السياسية، وفي سبيل ذلك تبنت عدة استراتيجيات تبدأ أولا من محاولة استحضار بقايا حالة الاندفاع الرومانسي ووضعها موضع المساءلة المصحوبة باستحداث حالات عنف وصخب تنبع ذاتيا من شعور عميق -لا يكاد يعي ذاته- بخفة التحولات السياسية وتقلباتها شبه العبثية، مرورا بمحاولات هتك الجلال الأسطوري لما هو تاريخي، ولما هو "شعبي" (الكتلة المخلصة)، وهو ما يمكن أن نجده في عروض قدمت في مهرجان نوادي المسرح الماضي مثل "حدث أثناء الخطاب" (قصر الانفوشي، اخراج ابراهيم حسن)، و"بره السور" (قصر بورسعيد، إخراج مصطفى الشموتي). وتمر –ثانيا- بمحاولة إعادة تشكيل علاقات النصوص لصالح استبقاء وتجميد لحظة مقاومة لا تكاد تحفل بمبررات وجودها، باستثناء إصرارها على تقديم نفسها بوصفها البديل الوحيد لليأس المعمم، وكأنها لحظة انتظار -شبه أبدية- لمنفذ الخروج من التيه، وهو ما نجده في أجلى صوره مع عرض "الجزيرة" (قصر بورسعيد، إخراج حسام سامي)، الذي وضع ممثليه فوق الصلبان طوال العرض كشاهد على ما لا ينبغي تجاوزه أو نسيانه، بحيث بات الرعب الحقيقي الذي يقاومه العرض وشخصياته هو ذلك الفعل –الرحيم بطبيعته- المتمثل في إنزالهم من فوق الصليب، بإعتباره سيؤدي مباشرة إلى ابتلاع العدم لقضيتهم وكأنها لم تكن!. ***** هذه الاستراتيجيات المختلفة في مقاومة "التبدد"، بما فيها هذا الإمعان في تقبل ما هو قاسي وفظ إنسانيا، بل وطلبه، والحرص على استمراره، بوصفه وسيلة لإستبقاء حضور الصراع الذي قد يعني في الوقت نفسه المحافظة على استبقاء حظوظ الأمل فيما هو أسمى: كل ذلك يجد ما يربطه بالعرضين اللذين نتناولهما هنا باعتبارهما تنويعة أخرى ومختلفة في سياق هذه المحاولات. فبديلا عن "الخلاص" بكافة تنويعاته، أو استفزاز المقاومة، والعمل على استبقاء حضورها ايا كانت تكلفته، فنحن أمام إعلاء لفكرة الصعود نحو ما يتجاوز هذا العالم، صعود يطرح بوصفه مطلبا مكتفي بذاته وبغير حاجة إلى اي شروط من خارجه باستثناء "فاعل مفرد" أو "بطل ما" يحمل قدرة استثنائية معطاة قبليا، وليس عليه أن يشقى أو يكافح من أجل الحصول عليها، فضلا عن أن هذه "القدرة" مرتبطة أو مشروطة على نحو مباشر بما يبدو لنا وكأنه نقص وجودي في تكوين البطل، مثلما يرتبط تحقق إنجاز الصعود بالتباعد إنسانيا عن التواصل مع الآخرين بوصفهم مجرد عوائق في طريقه، ولكن مع استخدامهم كأدوات أو اشياء، مع الرهان على إدماجنا كمتلقين على المستوى الحسي فحسب بحيث نصير على نحو ما جزءا من هذا المشروع الذي يلوح في الخلفية بتجربة صعود "الآخر"! وفي النهاية فنحن أمام مجرد محاولة في تأكيد إمكان الصعود أو بالاحرى إبتهال موجه نحوه، دعوة لاستحضاره وعدم إفلاته من نطاق الاهتمام الجمعي، بوصفه ما ينعش الأمل في استحداث حالة من التغيير الجذري في العلاقة بالعالم، وهو ما يمكن أن يملأ ولو جزءا بسيطا من تلك الفجوة التي بات يعاني منها خيالنا الإجتماعي في تصوره للمستقبل.
(نشرت في النشرة الورقية المصاحبة لمهرجان النوادي الختامي رقم 24)
#عبد_الناصر_حنفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظاهرة المسرح: بين العطاء الجمالي، والعطاء الاجتماعي *
-
نحو أعادة بناء حركة نوادي المسرح (4) خلق مساحات جديدة للعرض
-
نحو إعادة بناء حركة نوادي المسرح (3) من العروض إلى الفرق
-
نحو أعادة بناء حركة نوادي المسرح (4) من العروض إلى الفرق - خ
...
-
نحو إعادة بناء حركة نوادي المسرح (1)
-
نحو إعادة بناء نوادي المسرح (2) استعادة الأمل
-
حالات مسرح ما بعد يناير: من الاندفاع إلى التبدد .. -فرضيات أ
...
-
عن انهيار مسرح الثقافة الجماهيرية 1- نوادي المسرح
-
ورقة قديمة حول إعادة بناء مسرح الثقافة الجماهيرية عبر مؤسسة
...
-
عن ناس مسرح الثقافة الجماهيرية
-
الهيئة العامة للمناورات الثقافية: ومشروع مجدي الجابري!
-
التقنيات الأولية لمسرح الشارع
-
البارون والكتخدا: ملاحظات عابرة حول الثقافة المصرية في عصر ف
...
-
في تحقير مهنة النقد المسرحي: ملاحظات حول نشرات المهرجانات ال
...
-
نقاد مسرح الثقافة الجماهيرية: روح الحركة
-
نحو تأسيس ابستمولوجيا المدينة : تأملات تمهيدية في نمط حضور ا
...
-
دعوة إلى الاحتجاج- من الحظيرة إلى التخشيبة ، وقاحات مركز الإ
...
-
حول ظاهرة المسرح المصري
-
نمط حضور المدينة : تأملات أولية
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|