|
أسمال ليست طاعنة في السن
هاشم تايه
الحوار المتمدن-العدد: 1360 - 2005 / 10 / 27 - 07:50
المحور:
الادب والفن
في السنوات البالية التي سقطت ، أخيرا ، عن أجسادنا بعد أن أخذتْ حيفها ، منا ، نحن المبتلين بالأرباب ، الأرباب الثقال على قلوبنا ، الخفاف في الميزان ، الأرباب الذين يتكاثرون دوماً بلا أدنى شرعية من أرض ومن سماء .. في تلك السنوات ، في عربتها الرّثة البلهاء اقتيدت الحياة ، بلا قلب ، في منحدر موحش فتهالكت بين الحجر الأصم جسداً ناشفاً لا يستره إلا ثوب مهلهل تكالبت عليه الريح ، وصنعت منه دمية ليديْها البطرتين .. في أيامنا تلك ، أيامنا الخَلِقات ، اجتاحت مدننا كالوباء بألوان كابية وروائح عطنة ، أثوابٌ تعتّقت في دِنان الزمن ، أثواب طعنتها السنون والأيام والساعات ، وقتلتْها فأمست مثل خيوطٍ من حجر .. الأثواب الطعينة تلك طارت بها إلينا الأيدي الملوثة لشركات النفايات مدسوسة في صرر هائلة ككوابيس شائخة في القماط ، أو كمرضٍ لعين منتفخ لا بد من نفيه خارج الحدود والتخلص منه .. انتشرت ، وفشت ، وطغت فاحتلت أرصفتنا الكسيرة بأكداس بدينة ، وتنقّلت تُلولها الباهتة كحيوانات منهكة مأسورة على العربات بين الناس المعصوفين ، وتحولت ، هي البائرة ، إلى تجارة رابحة ، فتُحِتْ لها محال حديثة في أعرق أسواقنا ، وسُلّطت عليها الأضواء كعرائس غريبة تفتّق عنها البحر .. طالعتنا في أول عهدنا بها ، حييةً خائفة ، يعذبها يقين بأنها غدت بلا ثمن ، ورعبٌ يقول لها : - إنك ستُحرَقين في مدن النيران ! لكنها سرعان ما نبذت حياءها ، واستراحت من خوفها ، وودّعت رعبها ، لما عرفت أنها مطلوبة للحياة رغم موتها ، وأن لها ثمناً ، هي أيضا . فما كان منها إلا أن تصلبت بعد هشاشة ، كأمل وحيد لا بد منه لنا ، نحن الغرقى الذين خرجنا من بحور النكبات عراة فلم نجد ما يسترنا غير تلك الأثواب المتربصة على القارعة القفراء .. أسلمناها أجسادنا وأبحناها لها طائعين ، وتملّكت الأسمال الفانية أرواحنا وجلودنا ودمنا بالثمن الذي لا نملك ما سواه ، فانتفضت حيّةً ، وصنعت بنا ما صنعت غربةٌ بغريب.. ألسْتَ تذكر ، يوم أقبلتَ عليها شاباً بلا حيلة ، فإذا بك تحسّ بأنك في ذيل العمر ما إنْ تلفّعتَ بها ؟! تلك الأثواب الشمطاوات عثرت علينا لتسلّي أرواحها الشائخة ، وكأننا لعبة ظفرت بها ، وبغبطة ، لم تكن تنتظرها ، أرسلت خيوطها البائدة فإذا الزمن الطفل ، وقد التفت عليه بطانتها ينقلب كهلاً ، والزمن الكهل يُقعي في حضنها عجوزاً. قبل أن تغتسل أنت ، غسلْتَها بدأبٍ باليدين وبالقدمين ، وكَويْتَها بشمس وشمس ، وأرسلْتَ عليها هواءً وهواء ، ودعمتَها بخيطٍ وخيط ، حتى إذا ألانتْ روحَها الحجريّ ، بعد عنادٍ وعناء دفعتَ فيها كيانك الملتاع ، وهرعتَ بها إلى مرآتك النصف .. وابتسمت .. فسطعت موناليزا ابتسامتك على وجهٍ رَثّ غضّنتْه الغضون ! . كيف نسيت ، قبل أن تبتاعها وتزفّها إلى البيت ، أنْ تُحطّم ما تبقّى من مرآتك ، وأن تستغني إلى الأبد عن شيء اسمه مرآة ؟ . إن مجرد وجودك في ثوبٍ بالٍ معناه أنك في يومٍ بالٍ من زمن رقيع .. ومعناه أيضا ، وأرجو ألاّ ترتعب يا قطين الأسمال ، أنك تقعد وتقوم وتمشي في قبر من خيوط .. أن تُدخل ، عفواً تدفن ، جسدَك في طمر خَلِقٍ غريب ، وتتجاسر فتفتح الباب وتخرج به إلى الحياة الصلدة معناه أنك سمحت لتاريخ آخر أن يهدد تاريخك ، ولجسد آخر أن يحتك بجسدك ، وخيوط ذكرى لم تألفها أن تلتحم بخيوط ذكراك ، ولرائحة لم تشمّها أبداً أن تذوب فيها رائحتك . ستكون ( أنت ) الحاضر مقبوضاً عليك ومأسوراً في ( هو ) الغائب . ستجد جسدك في جسد آخر ، ودمك في دم آخر ، وروحك في روح أخرى ، ودموعك في دموع أُخَر .. وعندما تجلس في المسطر الكئيب منتظراً فرصة عمل هاربة ، وتفتح فمك لتذرف كلمتك الناقمة ، سيفتح الثوب الذي يرتديك فمَهُ في نفس اللحظة ليقول كلمته هو الآخر .. ستُشعل ، في الحال ، السيجارة الوحيدة التي ادّخرتها بنارٍ تستجديها من العابرين ، وعندما تسفح دخانها ، وتذيع رائحتها الكريهة ، ستجد الساكن الغريب في ثوبك الحائل يقول : - أرجوك رشفة واحدة من سيجارتك ، ولو هي رخيصة ، فلقد اشتقت إلى التدخين ! . أنت إذن ، بثوبك المسكون ، سابح في زمنين متربّصاً على الرصيف كطير يسكن في طير .. وسيقف بك الرصيف حتماً حين يقرعك ارتيابُك ويهزّ رأسك هزّاً ، ويعصف بذرة يقينك عصفاً ، وسيصرخ صارخُك المهدود: - أثَوبٌ أنا أم جسد ؟! في يوم مهيض الساعات حملتَها إلى البيت برثاثتها وبأدران زمنها الغابر .. قبضتَ عليها باليدين ، بعد أن قلبت عاليَها سافلها ، ونفضتَها نفضاً ، فما ندّ عن روحها الناشف إلا الهباء الأبكم .. يا لحلمك الخاسر ، يخرج من جيوبها الفارغة بلا خفّين ! أرأيت، حينما أقفلت أزرارها على جسدك ، كيف أجفلتْ وارتاعتْ بعدما سرى فيها رعبُ دمك ، وفئرانُ جوعك ، وأشباح كوابيسك ، كيف ارتجفت واقشعرّت خيوطُها الواهنة .. وفي يوم عاصف من أيامك العاصفات انهار خيطٌ من خيوطها ، وسقط صريعاً على الأرض ، فانحنيت عليه مذعوراً ، وما كان بوسعك أبدا أن تصدّق أن ذاك الناحل الصريع ليس خيطَ روحك ! . تلك الأثواب التي شاخت في أرضها البعيدة ، ونزفتْ فيها أعمارَها كلّها ، وغدت شلاّء عاجزة ، فتقاعدتْ هناك عن العمل ، وودّعتْ ساكنيها الجاحدين الذين أتلفوها في اليقظة وفي النوم ، وفي الصلاة وفي الإثم ، ورموها عنهم ، بعدما أبلوها غير آبهين ، وانتظرت أن تُدفَن في قمامة ، وجدت فرصتها على أجسادنا سانحة ، فمنحنا خيوطها البالية دمنا وأرواحنا وعاشت فينا ثانيةً. ألم يكن عبورها إلينا عبوراً من الحياة الدنيا إلى قيامتنا الحيّة ؟! . هناك في أوطانها التي نزحتْ منها كتب عليها أهلوها الموت بأجسادهم في نهار وليل طويلين فنيتْ فيهما خيوطُها ، وكتبنا لها نحن الحياة بأجسادنا في الوطن الأليم . اليوم ، بعد أن أفرجت عنا الأقدار العاصية بثمن مر ، تسربت عبر حدودنا المصدّعة الأسمال مرة أخرى ، لكنها هذه المرة ، أسمال ليست طاعنة في السن ، بل بأعمار فيها بعض غضارة مهملة تُسعِد من عَدِمَ الغضارة في عمره وثيابه .. أسمال أخرى تنهمر على أفقنا التاعس في صورة ثياب وأثاث منزلي وأجهزة كهربائية وسيارات.. أسمال أنهكتها أيام أهليها البعيدين وذكرياتهم وأحلامهم ، فأهدروا كياناتها التي ملّوها ، لنا ، ليس بغير ثمن ، وكأنما كُتِب على أيامنا وأحلامنا وذكرياتنا أن تعيش فيها أيام وأحلام وذكريات غريبة لا نعرفها كأننا أعشاشها ... أسمال لا ترغب إلا فينا نحن الذين يرغب فينا الجميع ليس من أجل سواد عيوننا التي رأتْ وأبصرتْ كلّ شيء. أيتها الأسمال ، يا سرابيلنا البائدة ، أنتِ من جَمَعَنا ، ووحّدنا ، وأعطانا علاماتنا الفارقة الصريحة كالشمس ، وجعلنا محتشدين في الطرقات كطبقة عاصفة هدّتْ الريح الجائرة وهدمتْها
#هاشم_تايه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بصوت هادئ حمّال الأسيّة !
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|