أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - جمال الغيطاني... خذلتني















المزيد.....

جمال الغيطاني... خذلتني


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 4960 - 2015 / 10 / 19 - 11:02
المحور: الادب والفن
    


لم تكن إذن رحلة من رحلاتك في متون العمارة والآثار والتاريخ تلك التي تغوص فيها بعيدًا عنّا نحن تلامذتك وأحبّتك ومريديك، ثم تعود إلينا مُحمّلا بالإبداع الذي تضخّه في وجداننا، فنتعلم ماذا قال لنا السَّلفُ الصالحُ في حكاياته الخالدة! هكذا قررت خُذلاني يا أستاذ جمال!
في هذا المكان تحديدًا، مجلة 24AE، كتبتُ لك يوم 16 أغسطس الماضي رسالة طويلة أناشدك فيها ألا تتأخر عنّا في رحلتك لأن لديّ ما أودُّ أن أخبرك به. أخبرتك بأنني أرسلتُ لكَ يومها رسالةً بالهاتف أُحييكَ فيها على مقالك الأخير بموقع “مبتدا”: “إسماعيل... المُفترى عليه". فأنا مثلك أحبُّ الخديوي إسماعيل الذي أهدى مصرَ دار الأوبرا المصرية، التي أسمّيها تدليلا: “دولة الأوبرا” حيث أجد راحتي وهدوئي واتزاني الروحي وصفائي الذهني. وانتظرتُ أن تردّ على رسالتي كما عوّدتني، بذلك الحياء الجميل الذي أعرفه فيك كلما أطرى إنسانٌ على عمل من أعمالك. لكنك لم ترد على رسالتي! وعلمتُ من الصحفُ، وأنا في أمريكا، أنك في غيبوبة وترقد في المستشفى! فلم أفهم ما معنى كلمة "غيبوبة" حين تهاجم عقلاً نيّرًا مثل عقلك الأنور، ولا قلبًا مبدعًا مثل قلبك الأنقى، ولا روحًا مُشعّة مثل روحك الأشرق! غيبوبة؟! كذِب الأطباءُ وإن صدقوا. لا تسموّها غيبوبة، بل قولوا إنها رحلةً وجودية من رحلاته الصوفية التي يذهب إليها لكي يحتشد بلغة السماء فيعود إلينا مثقلا بالرؤيا.
لكن الأطباء لم يرق لهم حديثي وقالوا إنها غيبوبة. كوما طويلة. وأكّد لي صديقنا المشترك المبدع الكبير يوسف القعيد، أن الأمر خطير! وما معنى كلمة "خطير" بدورها؟! هل تعني أنك مريض؟ وما معنى كلمة "مريض" أيضًا حين يتعلّق الأمر بقلب مبدع كبير بحجم جمال الغيطاني؟! ومن قال إن من حقّك أن تمرض؟ أنت ملكنا نحن، ملك مصر، وملك العالم، أنت إحدى ثرواتنا ونفائسنا.
أخبرتك في رسالتي إليك أنني أعلمُ أنكَ ستقومُ من غفوتك/ رحلتك، وتنهض لتعيش ألفَ عام. خبّرتني العصفورةُ بهذا، والعصافيرُ لا تكذب. قالت: ومَن سواه أجدرُ بأن يعيش ألفَ عام، وقد وهبتَ كلَّ من قرأك ألفَ حياةٍ، وحياة؟! قالت العصفورة إن الموسوعات لا تموت، ولا المبدعين. لأن التاريخ لا يموت. وفيك أنت يا أستاذي اجتمعتِ الموسوعةُ مع الإبداع مع التاريخ في رجل ذي مجد وجلال وجمال؟! يمازحُك، وهو جادٌّ، ويخبرك بأنه يعيشُ حتى الآن محضَ مصادفةٍ! فتقول له جادًّا إنما المصادفةُ ألا يعيش! ومَن سواه أحقُّ بالعيْش ليمنحَ العيْشَ للجوعى والفقراء؟ جوعى الفنّ الراقي والفقراء إلى الإبداع والجمال الذين لا يشبعون من قراءة رواياته المفخّخة بالمعرفة والجمال، وسماع أحاديثه الملهمة الشيقة حول تواريخ شوارعنا القديمة وحوارينا وأزقّتنا ومساجد القاهرة العامرة الآسرة وكنائسها؟!
في مدينة النور، باريس الجارحة بجمالها، نسيتُ جمال الغيطاني الأديب، والتقيتُ بالإنسان. في ربيع 2003، نسيتُ مَن كنتُ أظنّه الرجلَ الجافَّ المتعالي الذي يرتدي ذلك القناع الجامد الذي يضعه فوق وجهه ليوحي إليك أنه لا يراك. جوار كنيسة نوتردام، على مقربة من نهر السين، خبأتُ هذا الرجل في زاوية النسيان الأبدي من ذهني، وتأهبتُ لمعرفة الرجل الجديد الذي أحببته في معهد العالم العربي بباريس. هناك، تعرفت على جمال الغيطاني الجديد. الرجل الذي يحمل قلب طفل لا يهرم. رأيت الدموع تقاوم الإفصاح عن نفسها أثناء كلمة سمير سرحان، الكاتب المسرحي الكبير ورئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب آنذاك. كان سمير سرحان في باريس للعلاج من السرطان الذي أقعده على مقعد متحرك صعد به منصّة الحفل لتحية المشاركين في مهرجان ربيع الشاعرات، والاحتفاء بالوفد المصري المكوّن من الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، والروائي جمال الغيطاني، والشاعرة الصغيرة آنذاك، كاتبة السطور. جاء سرحان لتحيتنا رغم المرض والوهن، صوتُه يتهدج إعياءً. وكان بين الغيطاني وسرحان خصومةٌ عابرة وقتئذ. لكنني لمحتُ في عيني الغيطاني الجالس جواري ما يشبه دمعةً تقاوم النزول من عينيه. وأسرع ليناوله بنفسه زجاجة الماء حين ظمأ مثل أخٍ يقتله مرضُ أخيه. إلى هذا الحد يمكن أن تخدعنا الوجوه وتعطل رؤية الرهافة التي تقبع وراءها؟! هل هذا هو الرجل الذي ظننتُه جافًّا جامدًا؟!
وفوق هذا يحمل الغيطاني خفة ظل تلمسها حين يقول لك إنه يجلس معك الآن بالمصادفة، لأن قذيفةً أو أخرى كانت لابد أن تقتله من تلك التي كانت تنفجر إلى جواره في حرب الاستنزاف حين كان يعمل مراسلا حربيًّا في الفترة بين عاميْ 1968- 1973. ثم يشرح لك متى تعرف أن هذه القذيفة سوف تصيب رأسَك ولا تخطئه. إن رأيت القذيفة في خط مستقيم، فهي بعيدة عن رأسك، وأنت آمنٌ. ولكن إن رأيتها نقطة صغيرة فاعلمْ أنها موجّةٌ نحو رأسك وبين عينيك، وانتظرْ الموت. ثم يحكي لك كيف أطاحت القذيفةُ برأس رجل كان يشاركه الطعام ولم يستطع أحدٌ إنقاذه. ثم يبتسم قائلا: القذيفة أخطأت هدفَها!
لم أكن أعلم أن لقائي بالأستاذ قبل شهرين في منزل السفيرة "مشيرة خطاب" هو لقائي الأخير به. لو كنت أعلم لاحتضنته لأخبئه من الموت. يومها ابتسم لي الغيطاني نصف ابتسامة وقال: “عاملة دوشة ليه يا بنت؟!” وأجبته: “والله أنا غلبانة يا أستاذ. بس فيه ناس فاضية شوية ومش لاقيين حاجة يعملوها وبيتسلوا علينا.” لم أكن أعلم أنها مزحته الأخيرة لي. وإلا ما قبلتها منه وتجهمتُ في وجهه يملؤني الغضب والعتاب. علمتُ بأمر ما أسماه الأطباء غيبوبة وأنا في شيكاغو، بعد ساعات قليلة من لقائي الأخير به. وتبًّا للأسفار والأميال ومياه المحيطات التي تفصلنا عن أحبتنا. لو كنتُ بالقاهرة وقتها لجلست عند سريره بالمستشفى أنتظرُ مع زوجته الجميلة الكاتبة "ماجدة الجندي" وجموع محبيه أن يفتح عينيه الطيبتين ويبتسم قائلا: “أنا أعيش الآن بالصدفة!” فنجيبُ في صوتٍ واحد: “بل الصدفة ألا تعيش يا أستاذ!”
عدتُ من سفرتي ولم تعد من رحلتك!
-;-وانتظرتك شهرًا وشهرين طوالا كأنهما الدهر !
-;-ناشدتك في صلواتي أن تعود. أحضرت رواياتك من مكتبتي وأشهدتها عليك فقالت لي غدًا سيعود. 
-;-طلبتُ منك في مقالي لك أن تعيش ألف عام. ولم أتصور أنك ستخيب رجائي فأنت ربيب نجيب محفوظ الذي عاش ألف عام.
لماذا لم تعد من رحلتك وسافرت منها للسماء، حتى دون أن تلوّح! حين ناجيتك في صلواتي جاء صوتك يطمئنني بأن الغد موعدنا. وجاء الغدُ ولم تجئ. 
-;-فمنذ متى لا يفي الأساتذة بوعودهم لتلامذتهم؟ كان لدي عديد الحكايات التي لابد أن أستكملها معك بعد حوارنا الأخير! 
-;-الله يسامحك يا أستاذ جمال. 
-;-الله يسامحك.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قانون مكافحة التجهيل العمدي
- هكذا الحُسنُ قد أمر
- ما العلمانية؟
- سجينة طهران
- السلطان قابوس والاستنارة
- حزب النور سنة 1919
- السيف والرمح والقرطاس والقلم
- المراجعات على نهج ناجح إبراهيم
- أرجوحةُ الخَدَر ودولةُ الحاجة
- الأوغاد لا يسمعون الموسيقى
- حوار شامل مع الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت حول التيارات المتطر ...
- صباحُ الخير يا زينب
- الكارت الخائب
- أنا أغنى امرأة في العالم
- مسيحيو حزب النور
- بيان إلى السلفي ناجح إبراهيم من فاطمة ناعوت
- إحنا آسفين يا خروف!
- مرة واحد فكّر، طق مات ( حوار تليفزيوني مع كاتب)
- شهداءُ من أبناءِ زايد
- موت أمي


المزيد.....




- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - جمال الغيطاني... خذلتني