|
كارل ماركس
عبد السلام أديب
الحوار المتمدن-العدد: 4959 - 2015 / 10 / 18 - 14:26
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
كنت على وشك اجراء عملية جراحية خلال شهري مايو ويونيو من سنة 2015، عندما اتصل بي الصديق أحمد الحارثي مدير مجلة نوافذ، مقترحا علي المساهمة إلى جانب باحثين آخرين في العدد المقبل لمجلته حول ماركس والماركسية. وقد قبلت الاقتراح على الفور دون ان اخبر الصديق انني مقبل على اجراء عملية جراحية خطيرة. وهكذا اصطحبت معي حاسوبي وبضعة كتب الى المستشفى، حيث اشتغلت قبل العملية وبعدها على كتابة هذه الورقة حول كارل ماركس، وقد كان من نتيجة هذا الدمج بين وضعي الصحي الشخصي وتعمقي في دراسة شخصية كارل ماركس وسياق ظهور الماركسية ومكانتها في التاريخ، أنه رفع من معنوياتي وقوى ثقتي بنفسي في مواجهة المرض الخبيث. فيما يلي إذن حصيلة هذا العمل.
المحتويات
أولا: مكانة كارل ماركس في التاريخ
1 – السياق التاريخي لنشأة كارل ماركس 2 – المصادر الثلاثة للفكر الماركسي 3 – أطروحات تغيير الواقع وانعكاساتها ما بعد وفاة ماركس
ثانيا: المادية الديالكتيكية
1 – التصور المثالي والتصور المادي للعالم
2 – قوانين الديالكتيك المادي
1 - قانون تحول الكم الى الكيف
أ – في الطبيعة ب - في المجتمع
2 - قانون وحدة وصراع الأضداد
أ – في الطبيعة ب – في المجتمع
3 - قانون نفي النفي
أ – في الطبيعة ب – في المجتمع
ثالثا: المادية التاريخية
1 - مفهوم المادية التاريخية؟ 2 - مفهوم التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية
المقترب الأول: المادية التاريخية ونظرية انحطاط نمط الانتاج
1 - نظرية انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي في قلب الفكر الماركسي اللينيني 2 - حتمية انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي تقابلها حتمية الثورة البروليتارية 3 - بعض مؤشرات انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي
المقترب الثاني: تراكمات الانتقال نحو الاشتراكية
1 - استراتيجية الرأسمالية من أجل ضمان استمراريتها
أ – الحروب ب – التسلح ج – المديونية د – التخدير الايديولوجي
2 - استراتيجيات كل من القوى الاصلاحية والقوى الثورية في مواجهة الازمة بدلا من الخاتمة
-;- كارل ماركس "التاريخ لا يفعل شيئا، انه الانسان، الحقيقي الحي، هو الذي يفعل كل شيء" كارل ماركس – العائلة المقدسة
لقد مرت الآن 132 سنة على وفاة كارل ماركس، ورغم ذلك لا زالت افكار ماركس والماركسية تشكل شبحا بالنسبة لأعداء مشروع المجتمع الانساني الاشتراكي الخالي من الفوارق الطبقية ومن الاستغلال الطبقي، والذين ليسوا سوى الطبقة البرجوازية المهيمنة اقتصاديا وسياسيا على العالم بدون شريك منذ بروزها في ظل المجتمع الاقطاعي أواخر القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر رغم ان النظام الرأسمالي نفسه عرف تغيرات كبرى. وأبرز دليل على هذا التأثير المرعب لشبح افكار كارل ماركس الاشتراكية هو غياب تدريس الماركسية في المقررات المدرسية والجامعية سواء في مجال الفلسفة أو في مجال الاقتصاد أو في مجال العلوم الاجتماعية والتاريخية.
سنحاول فيما يلي اعطاء لمحة بشكل موجز حول مكانة أفكار كارل ماركس في التاريخ، ثم نستعرض الخطوط العريضة للفلسفة الماركسية ثم أخيرا نتناول بعض خلاصات كارل ماركس في مجال المادية التاريخية.
أولا: مكانة كارل ماركس في التاريخ
ولد كارل ماركس في بلدة ترير جنوب غرب ألمانيا في 5 مايو 1818، من أسرة بورجوازية صغيرة يهودية، اعتنقت البروتستانتية لحماية نفسها من الاضطهاد ولكي يحافظ هنريش ماركس والد كارل ماركس على مهنته كمحامي1. درس كارل ماركس الحقوق والاقتصاد السياسي ثم التاريخ والفلسفة في جامعتي بون وبرلين في السنوات المتراوحة ما بين 1835 و1841، حيث حصل على شهادة دكتوراه في الفلسفة حول موضوع الفوارق الموجودة في فلسفة الطبيعة عند كل من ديموقريطس وأبيقور. وهو موضوع صعب مكنت ماركس من الالمام بمجمل فلسفة الاغريق وخاصة الفلسفة المادية والمنهج الديلكتيكي وتطورهما. انتمى كارل ماركس في شبابه لعدة نوادي فكرية كان ابرزها نادي الهغليين اليساريين الشباب، بعد ذلك مارس مهنة الصحافة في كولون فكان لكتاباته السياسية والفلسفية وقع كبير على الرأي العام مما جعل السلطات تمنع الجرائد التي كان يكتب فيها. انتقل ماركس الى باريس سنوات 1844 و1845، حيث التقى صديقه الكبير فريدريك انجلز، حيث اشتغلا معا على عدد من الاعمال كالإيديولوجية الالمانية والعائلة المقدسة كما نشر ماركس نقده للاشتراكية الطوباوية عند جوزيف برودون تحت عنوان بؤس الفلسفة، كما كتب مخطوطاته الباريسية لسنة 1844. ونظرا للأنشطة السياسية لماركس التحريضية طرد من فرنسا حيث توجه الى بروكسيل والتي طرد منها أيضا سنة 1848 عائدا منها الى باريس وبعد طرده مرة أخرى من هناك سيتوجه الى لندن حيث سيستقر الى أن توفي في 14 مارس 1883. من بين الانشطة السياسية التي كانت وراء طرد كارل ماركس من البلدان الاوروبية التي يلجأ اليها، مساهمته في تأسيس عصبة الشيوعيين واشرافه على وضع البيان الشيوعي سنة 1848 فكان لهما دور تحريضي على الثورات العمالية التي حدثت في عدد من البلدان الأوروبية. في لندن انكب كارل ماركس على دراسة التاريخ والاقتصاد السياسي وكتابة مؤلفه الشهير رأس المال الذي وظف فيه منظوره الفلسفي والاجتماعي والاقتصادي، فجاء تركيبا لمختلف سيرورات الاكتشافات الفكرية والعلمية التي عرفها عصره.
وفي سنة 1864 ساهم كارل ماركس في تأسيس الرابطة الدولية للعمال (الأممية الشيوعية الأولى) والتي ستعرف تصدعا عقب أحداث كمونة باريس سنة 1871 ومحاولات باكونين تصفية الأممية2. حيث تم نقل المقر المركزي لهذه المنظمة العمالية الاممية الى الولايات المتحدة الامريكية أولا قبل أن يتم حلها سنة 1876.
1 – السياق التاريخي لنشأة كارل ماركس
لفهم محتوى الماركسية وخلفيات تبلورها في سياقها التاريخي بالموازاة مع ما كان يحدث في أوروبا، لا بد من تطبيق منهجية المادية التاريخية على نشأة كارل ماركس من خلال دراسة السياق التاريخي نشأته. فكارل ماركس ولد في بداية القرن التاسع عشر وهي فترة كانت لا تزال تشهد ارهاصات ما بعد الثورة الفرنسية لسنة 1789 التي كانت بمثابة ثمرة عصر الانوار الهادف الى التخلص من ظلمات عصر الاقطاع وتحكم الكنيسة وذلك بكل ما كانت تعنيه على المستوى الاقتصادي من انهيار تام لنمط الانتاج الاقطاعي؛ وعلى المستوى السياسي والايديولوجي من انهيار تام لهيمنة الكنيسة وامراء الاقطاع والملكية المطلقة. ولم تكن الأحداث التي عجلت بانهيار نظام الاقطاع في أوروبا يسيرة بعدما عمر هذا النظام ازيد من 14 قرن(من القرن الرابع الى القرن 18). فسقوط نظام اقتصادي وسياسي لا يحدث هكذا بين عشية وضحاها، بل هو نتيجة تراكم صراع طبقي اقتصادي وسياسي وايديولوجي وثقافي لمدى أربعة قرون (القرن 15 – القرن 18).
ولا شك ان انتصار عصر الانوار اقتصاديا وايديولوجيا على المجتمع الاقطاعي العتيق كان له وقع كبير على البيئة التي نشأ فيها كارل ماركس، كما ان انتصار البرجوازية السياسي والاقتصادي والايديولوجي لم يكن دائما حاملا لبوادر التقدم ومبادئ الثورة كالحرية والمساواة والإخاء، وهي شعارات الثورة الفرنسية. فمعلوم ان استعمار الشعوب الاخرى من طرف البرجوازية وابادة بعضها بالكامل والاتجار في ساكنتها على اساس اعتبارهم كعبيد، حيث بيع منهم الملايين، وتم ترحيلهم نحو امريكا للعمل في مزارع القطن او في الوحدات الصناعية. كما ان نمط الانتاج الرأسمالي الناشئ كان يحقق من جهة الارباح الخيالية للبرجوازية التي بدأ نجمها يسطع جراء تراكم الثروات المنهوبة بينما كانت تخلق في المقابل البؤس والفقر وحيث كان يفرض على العمال المبلترين الذين تم حرمانهم من وسائل الانتاج كاقنان ارض سابقين، العمل لساعات طويلة قد تصل الى ثمانية عشرة ساعة في اليوم مقابل أجور زهيدة وفي ظل شروط قاسية لا انسانية. فمثل هذا التناقض العميق الذي ولد مع تطور نمط الانتاج الرأسمالي، كان لا بد أن يثير ردود فعل قوية.
هنا كان ظهور الاشتراكية الطوباوية على يد العديد من المفكرين الاوروبيين بتزامن مع صعود نمط الانتاج الرأسمالي منذ القرنين الخامس عشر والسادس عشر، بمثابة رد فعل طبيعي على هذا التناقض ومآسي نمط الانتاج الرأسمالي. فالماركسية اذن ظهرت كسيرورة طبيعية للفكر الاشتراكي المناهض للرأسمالية.
2 – المصادر الثلاثة للفكر الماركسي:
لقد عايش كارل ماركس الحياة الفكرية الفلسفية بألمانيا خلال فترة دراسته كما مارس السياسة من خلال مهنة الصحافة في كلونيا، وعندما انتقل الى فرنسا أدى التراكم المعرفي والميداني السابق لدى ماركس الى الانتقال نحو مرحلة نوعية جديدة أعلى تركزت في التطلع الى الدمقرطة الراديكالية والتحرر السياسي والاجتماعي وارساء اسس المادية التاريخية، وتجسدت تلك التطلعات في أهم مؤلفاته الفلسفية: كالمسألة اليهودية 1843 ، العائلة المقدسة 1844 والمخطوطات الباريسية لسنة 1844 والايديولوجية الالمانية 1846 وبؤس الفلسفة 1847 الذي انتقد فلسفة البؤس لجوزيف برودون وقد دفعت هذه الأعمال ماركس الى الاهتمام أكثر بالاقتصاد السياسي3.
كما شكل اختلاط كارل ماركس بمفكري فرنسا الاشتراكيين واستيعاب مناهج التأريخ السوسيولوجي الفرنسي مناسبة لتطوير رؤيته الاشتراكية والسياسية للعالم وبالتالي التطلع الى الانتقال من الثورة البرجوازية الى الثورة البروليتارية وبالتالي الاندفاع بكل حيوية نحو تأسيس عصبة الشيوعيين وانتاج مؤلفات ماركس السياسية الرئيسية كالبيان الشيوعي سنة 1848 والعمل المأجور ورأس المال سنة 1849 وبعد حدوث هزات ثورية في كافة عواصم البلدان البرجوازية الاوروبية سنوات 1848 – 1849 نتيجة انتشار الفكر الشيوعي التحرري وخفوتها بعد ذلك نتيجة الثورة المضادة،
استطاع ماركس وضع استنتاجات لهذه الصراعات الطبقية والسياسية الثورية من خلال كتبه: الصراع الطبقي في فرنسا سنة 1950 وكتاب 18 برومير لويس بونابارت سنة 1852.
وبعد استقرار كارل ماركس في بريطانيا انكب على دراسة عميقة للاقتصاد السياسي الانجليزي خلال عقد الخمسينات من القرن التاسع عشر عرفت خلالها تعاونا صحافيا بين كارل ماركس ونيويورك ديلي تريبيون (1852 – 1862) وانتاجه لمخطوطة كراندريس (اسس نقد الاقتصاد السياسي، 1857 – 1858) وأيضا نقد الاقتصاد السياسي (1859).
وخلال عقد الستينات من القرن التاسع عشر أكمل ماركس انتاجه الاقتصادي في كتب السيد فوكت 1860 ونظرية فائض القيمة 1862 – 1863 واصدار الكتاب الأول من رأس المال سنة 1867 ومخطوطين للكتابين الثاني والثالث (1869 – 1879) كما عمل في نفس الوقت على تأسيس الأممية الأولى التي قدم كلمتها الافتتاحية سنة 1864.
نستخلص مما سبق أن المصادر الفكرية الثلاثة لكارل ماركس تشكلت من الفلسفة والتاريخ خلال فترة دراسته في ألمانيا ثم من خلال استيعاب الفكر الاشتراكي ومنهج التأريخ السوسيولوجي الفرنسي والممارسة السياسية في كل من فرنسا وبلجيكا ثم من خلال استيعاب عمق الاقتصاد السياسي الانجليزي والعمل على تطويره اثناء استقرار ماركس في لندن4.
لكن الاضافات المهمة لكارل ماركس لهذه المنابع الثلاثة تمثلت في نقده للفلسفة الالمانية الكلاسيكية وخاصة نقده لكل من هيغل وفيورباخ اللذان اخذ عنهما كارل ماركس الديالكتيك والمادية الفلسفية بعدما خلصهما من المثالية الهغلية والمادية المثالية عند فيورباخ. ثم تحول نقد كارل ماركس للاشتراكية الفرنسية وللمذهب التأريخي السوسيولوجي الاشتراكي الفرنسي، إلى عملية تطوير للاشتراكية الطوباوية نحو الاشتراكية العلمية. كما عمل ماركس على تحويل التأريخ السوسيولوجي الفرنسي الى المادية التاريخية والتي أقامها على ثلاث أطروحات مركزية رئيسية كما يلي:
1 – تقوم السيرورة التاريخية على أنماط انتاج متعاقبة معينة، نميز داخلها بين بنيات انتاج تحتية، تنبني على اساس علاقات انتاج بين طبقات مستغلة بكسر الغين وأخرى مستغله بفتح الغين. ومن أجل الاستمرار والمحافظة على هذا الشكل من بنيات الانتاج التحتية، تعمل الطبقة المهيمنة على بلورة بنيات فوقية ايديولوجية وسياسية وثقافية وقانونية ودينية ... اخ.
2 – يتبلور محرك التاريخ انطلاقا من حدة التناقض القائم بين الطبقات المتصارعة ويتمثل في سيرورة الصراع الطبقي القائم والذي يشمل مختلف فروع الانشطة الاجتماعية. ويتفجر هذا الصراع بشكل موضوعي مستقل عن ارادة ووعي اطراف الصراع. حيث يصبح الوجود الاجتماعي وموقع الافراد في حلقات الانتاج هو المحدد للوعي الطبقي ولمآل هذا الصراع.
3 – تنشأ الدولة نتيجة لانقسام المجتمع الى طبقات، وتتحول الى أداة لدعم والمحافظة واعادة انتاج نفس الطبقة المهيمنة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. لذلك فان الدولة تضمحل حالما تتحقق الثورة البروليتاريا وتعمل من خلال دكتاتورية البروليتارية على الغاء الانقسام الطبقي القائم. وعند انتقال كارل ماركس الى بريطانيا عمل على انتقاد الاقتصاد السياسي الانجليزي، خاصة نظريات آدام سميت وريكاردوا، متجاوزا تناقضاتهما وبلور أطروحاته الاقتصادية من خلال أجزاء كتابه رأس المال الثلاثة.
وتجدر الاشارة الى ان كارل ماكس كان يفكر في مشروع وضع كتاب فلسفي للتعريف بالمادية الديالكتيكية وبالمادية التاريخية التي كانت عبارة عن أفكارمبعترة في كافة كتبه، تعالج القضايا الكبرى التي تتناولها، لكنه لم يتمكن من ذلك نظرا لانشغاله بمشاريعه الاخرى ذات الأولوية ككتاب رأس المال. وهنا يجب التنويه بالمجهودات التي قام بها رفيق كارل ماركس، فردريك انجلز للتعريف بهذه الفلسفة والتي لا يمكن الاستغناء عنها ونذكر من بينها: ضد دوهرينغ 1878، وديالكتيك الطبيعة 1878 وهما كتابان وضعا بتعاون وثيق بين انجلز وماركس. ثم كتاب لودفينغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية الذي تم نشره بعد وفاة كارل ماركس سنة 1883.
ولفهم الفلسفة المادية الديالكتيكية الماركسية، في تطبيقاتها التنظيمية والسياسية والثقافية والايكولوجية، يجب بالضرورة على كل دارس، الرجوع بالإضافة الى الأعمال الكاملة لكارل ماركس وفردريك انجلز الغنية بها، الى التجارب التاريخية اللاحقة لهذه الفلسفة عند كل من لينين وستالين وماو تسيتونغ. فلينين عمق الفهم الفلسفي للماركسية في دفاتره الفلسفية لسنة 1915، كما وظف الديالكتيك المادي في ممارساته السياسية بدءا بالتنظيم الحزبي واستراتيجيات الحزب وتاكتيكاته ومرورا عبر أشكال تحليله للصراع الطبقي محليا وعالميا، ووصولا الى كيفية اعتماد ديكتاتورية البروليتاريا بعد نجاح الثورة البلشفية سنة 1917. أما التجربة الاشتراكية التاريخية لستالين فتتيح للباحث أيضا، كما هائلا من التطبيقات النظرية للديالكتيك المادي، خصوصا في مجال بلورة نمط الانتاج الاشتراكي، اقتصاديا، ومن خلال اساليب التخطيط الاشتراكي وأيضا في كيفية مواجهة الحرب ضد العدوان النازي وأيضا في مواجهة عمليات التخريب الداخلية التي كانت تستهدف الاتحاد السوفياتي قبيل الحرب العالمية الثانية. أما تجربة ماو تسيتونغ التاريخية فتتضمن أيضا العديد من الدروس الملموسة في مجال استيعاب وتطبيق الديالكتيك المادي.
3 – أطروحات تغيير الواقع وانعكاساتها ما بعد وفاة ماركس
لقد ساعدت الفلسفة المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية علماء التاريخ على تجاوز فهمهم السطحي المثالي السابق للسيرورة التاريخية، فلم تعد مجرد تسلسل عشوائي للأحداث كان يقف وراءها أبطال خارقين أو فلاسفة متنورين أو انبياء مبعوثين من وراء الطبيعة، بل أصبح التاريخ عبارة عن سيرورات مادية ملموسة تفاعلية فيما بين معطيات الطبيعة المادية والحاجيات الانسانية الاساسية تؤدي الى بلورة الوعي الجماعي في اطار انساق اجتماعية تشكل ما يسمى بالكائن الاجتماعي، وعلى أساس هذا التفاعل بين الوعي الاجتماعي والواقع المادي الموضوعي أمكن وضع أنساق اجتماعية، تاريخية، تتيح فهم التطور التاريخي للمجتمعات الانسانية.
فقد قامت المادية التاريخية على أساس اساليب انتاج الكائن الاجتماعي للحياة المباشرة واعادة انتاج هذه الحياة(توفير الغذاء والتوالد). كما وضع كارل ماركس بناء على نتائج خلاصاته التاريخية مراحل متمايزة للمجتمعات البشرية تقوم على أساس قوى الانتاج وعلاقات الانتاج التي تسود خلال تلك المراحل. فقد توصل إلى أن المجتمعات البشرية قد مرت أولا من مرحلة المجتمع البدائي، حيث كان الانسان يعيش في تجمعات صغيرة، ويتعاطى للصيد والقطف، وحيث لم توجد خلال هذه المرحلة لا الدولة ولا الفوارق الطبقية، لان انتاج الانسان كان يقتصر على ما هو ضروري للحياة اليومية، وهي مرحلة دامت آلاف القرون.
بعد ذلك ظهر المجتمع العبودي حيث أدى تقسيم العمل وظهور الانتاج الاجتماعي الزائد غير الضروري الى الانقسام الطبقي، وأصبحت أداة الانتاج الرئيسية هي امتلاك العبيد بشتى الوسائل وخاصة الحروب، فبينما تقوم قوى الانتاج على القوى العضلية للعبيد فإن علاقات الانتاج في هذه المرحلة قامت بين العبيد ومالكي العبيد. ويمكن الرجوع الى تاريخ جميع الامبراطوريات السابقة فسنجد أن أمجادها قد بنيت على أساس هذا النمط من الانتاج5. فعلى سبيل المثال كان الحافز الأساسي للتوسع الاستعماري للإمبراطورية الرومانية يقوم على جلب المزيد من العبيد للعمل. وستنهار الامبراطورية الرومانية التي دامت حوالي 15 قرن نتيجة تناقضات علاقات الانتاج مع قوى الانتاج. أي عدم قدرة النظام على تأمين استمرار خدمات العبيد وتوفيرهم في ظل نفس علاقات الانتاج. ولا زالت ثورة سبارتاكوس تؤرخ الى ثورة العبيد على الاسياد في روما.
فتح انهيار الامبراطورية الرومانية المجال لظهور مرحلة تاريخية جديدة من نمط الانتاج الاقطاعي الذي قام على كاهل أقنان الارض كقوى انتاج اساسية وعلى علاقات انتاج مختلة بين أمراء الاقطاع والملكيات المطلقة والكنيسة من جهة، وأقنان الارض الفلاحين الفقراء من جهة أخرى. حيث قامت علاقات هيمنة قانونية للطرف الأول على هؤلاء الافلاحين الاقنان، الذين يظلون ملتصقين بالأرض طيلة حياتهم، بل يرث ابناؤهم هذه الوضعية التي يملك فيها أمراء الاقطاع في مواجهتهم حق الموت والحياة.
ثم حينما حلت مرحلة انحطاط نظام الاقطاع نتيجة تفاقم التناقضات الحادة بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج وانفجارها على شكل ثورات للفلاحين بتحريض من القوى البرجوازية الصاعدة، سيفتح المجال أمام ظهور مرحلة جديدة يسود فيها نمط الانتاج الرأسمالي، والذي قام على قوى انتاجية أساسية هو قوة العمل المأجور وعلى علاقات انتاج مختلة بين البرجوازية مالكة وسائل الانتاج وبروليتاريا ليس لها ما تملك سوى بيع قوة عملها، للبرجوازية، لقاء أجور زهيدة لا تضمن سوى امكانية استمرارها على قيد الحياة. وقد ظهر نمط الانتاج الرأسمالي أواخر القرن الخامس عشر وترسخ عبر الثوراث ضد الاقطاع(كالثورتين الانجليزية والفرنسية) وعبر تحكم البرجوازية في السلطة السياسية وتوسعها عبر الحروب (خاصة حروب نابوليون). كما ازدهر نمط الانتاج الرأسمالي مع الثورة الصناعية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبلغ مرحلة الامبريالية مع بداية القرن العشرين. ومنذ بداية القرن العشرين يعيش نمط الانتاج الرأسمالي مرحلة انحطاطه ظهرت مؤشرته من خلال كافة الحروب العالمية والاقليمية وكافة اشكال البربرية الناشئة بل والمتعاظمة. وكل ذلك يؤكد على التناقض العميق القائم بين قوى الانتاج من جهة وعلاقات الانتاج من جهة أخرى.
ان ادراك كارل ماركس لطبيعة السيرورة المادية التاريخية التي يتطور في اطارها نمط الانتاج، جعلته يتنبأ بسقوط نمط الانتاج الرأسمالي حين بلوغ قوى الانتاج وعلاقات الانتاج مرحلة قصوى من التناقض الداخلي6. بحيث يؤدي تراكم ردود فعل الطبقات المضطهدة (البروليتاريا) الى قفزة نوعية من خلال الثورة البروليتارية والانتقال نحو المجتمع الشيوعي. لكن بعد المرور من مرحلة اشتراكية انتقالية في ظل ديكتاتورية البروليتاريا كوضع سياسي انتقالي يتم خلاله القضاء على الطبقات الاجتماعية السابقة من خلال التخطيط وتحقيق وفرة في الانتاج المادي الضروري لانتاج واعادة انتاج الحياة المباشرة.
إذن فالمجتمع الشيوعي البديل الذي تنبأ كارل ماركس بحتميته التاريخية بعد صراع طبقي مرير سيشكل اختيارا وحيدا أمام الانسانية من أجل تجاوز تناقضات المجتمع الطبقي الرأسمالي الحالي. ان هذا المنظور الماركسي للعالم ولسيرورته التاريخية أقامه كارل ماركس وفردريك انجلز على الفلسفة المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية. وهما المنهجيتان الماركسيتان اللتان اقام على اساسهما تصورهما للعالم وتنبؤاتهما والتي جاء بعدهما كل من لينين وستالين وماو تسيتونغ في محاولة لتجسيد هذه الفلسفة على أرض الواقع من خلال قيادة الثورتين البلشفية في روسيا سنة 1917 والصينية سنة 1949.
لدينا اليوم عينتان من التجارب الاشتراكية والتي يمكن على ضوئهما تقييم الفكر الماركسي على ارض الواقع، تتمثل الأولى في الاشتراكية التي قامت في الاتحاد السوفياتي خلال حياة ستالين الى غاية 1953، والثانية تجربة الاشتراكية في الصين خلال حياة ماوتسيتونغ الى حين وفاته سنة 1976. وإذا كانت هاتان التجربتان قد انهارتا لأسباب مادية داخلية وخارجية تاريخية موضوعية فتجب دراستهما بنفس المنهج الديالكتيكي المادي، وفي ترابط مع الوضع العالمي والصراع الدائر بين الطبقة الرأسمالية المهيمنة عالميا والتي تعيش مرحلة انحطاطها والحركة العمالية العالمية المتطلعة للتحرر واقامة المجتمع الشيوعي.
نستخلص من كل ما سبق ان الفكر الماركسي هو فكر الحركة العمالية العالمية التي وان فشلت موجاتها الثورية السابقة فإن تطلعاتها نحو التحرر ستظل قائمة الى ان تتمكن من انهاء عهد تحكم البرجوازية في مصير البشرية والمرور نحو شكل اجتماعي اكثر انسانية.
فإذن ماركس والماركسية عبارة عن مشروع سياسي عمالي طبقي ثوري تاريخي، غايته اسقاط نمط الانتاج الرأسمالي الطبقي القائم على الاستغلال واضطهاد الطبقة العاملة. وتقوم الماركسية على المادية الفلسفية والمنهج الديالكتيكي، وتعتبر المادية التاريخية منهجية فهم التطور التاريخي ووسيلة بلورة استراتيجية وتاكتيكات تغيير الواقع الطبقي القائم.
ثانيا: المادية الديالكتيكية
ان الاساس الذي أقام عليه كارل ماركس منهجه المادي هي الفلسفة المادية. وقد بلور ماركس هذه الفلسفة انطلاقا من دراساته للتراث الفلسفي الاغريقي، والتي سبق أن حضر حولها أطروحة دكتوراه حول موضوع "الفوارق في فلسفة الطبيعة عند كل من ديموقريطس وأبيقور". كما أن الفلسفة المادية كانت تعرف ازدهارا خلال عصر الانوار وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر على يد المدارس المادية الثلاث الانجليزية والفرنسية والالمانية، والتي استندت على الاكتشافات العلمية الغزيرة، التي كانت وراء دحض التعاليم الدينية والفلسفة المثالية. ويقدم كارل ماركس في كتابه العائلة المقدسة شرحا مستفيضا لمادية المدرستين الفرنسية والانجليزية كما انتقد أيضا المادية الألمانية وخاصة الفلسفة المادية عند فيورباخ. ويقول ماركس بصدد حديثه عن المدرسة المادية الانجليزية أن: "المادية هي الابنة الحقيقية لبريطانيا العظمى"7.
بالنسبة للمدرسة المادية الألمانية والتي انتعشت خاصة وسط فلاسفة نادي الهغليين اليساريين الشباب فقد تصدى لها كارل ماركس أيضا بالنقد منوها من جهة بإيجابيات نزعتها المادية ومنتقدا من جهة أخرى انحرافيتها المثالية والميتافيزيقية، مفردا لفيورباخ المادي العديد من الانتقادات سواء في كتابه الايديولوجية الالمانية أو في كتابه العائلة المقدسة نفس الشيء قام به انجلز في مؤلفه لودفينغ فيورباخ ونقد الفلسفة الالمانية الكلاسيكية الصادر سنة 1883.
وسنتناول في ما يلي كل من النظرية المادية حول العالم، ثم مكونات الديالكتيك المادي في تفسير الطبيعة والمجتمع.
1 – التصور المثالي والتصور المادي للعالم
اختلف الفلاسفة منذ عهد الاغريق في تفسيراتهم حول العالم والطبيعة والوجود. فقد كان التفسير المتحرر للفلاسفة للعالم، تعترضه مصالح الطبقات الحاكمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. ولذلك كان دائما هناك تناحر بين فلسفة رسمية تعبر عن مصالح الطبقات الحاكمة وفلسفة أخرى ثورية تسعى للتحرر من تلك القوالب الجاهزة لتلك الفلسفة الرسمية8.
فقد ظهر أن الفلسفة توجه أسلوب التفكير وبالتالي الاحساس والعمل. لذلك كان من مصلحة التحالفات الطبقية الحاكمة ان تتعهد فلسفات تخدم هيمنتها السياسية مثلما تتعهد في نفس الوقت الدين الذي يبارك سلطتها ويضفي الشرعية عليها. ومن هنا حدث شرخ في الاتجاهات الفلسفية بين مجموعتين متناقضتين ضلتا في صراع دائم الى يومنا هذا. يمكن اعتبار المجموعة الأولى تتمثل في فلسفة مثالية لا علمية وفي المعتقدات الدينية، حيث كانت تعضد هذه الفلسفة بشكل مستمر السلطة الطبقية القائمة. ومجموعة ثانية متمردة مستقلة مطاردة ومضطهدة ترتبط بالعلوم ارتباطا وثيقا وتتطور مع تطوره وهي الفلسفة المادية.
وكلتا المدرستين الفلسفيتين قديمتان قدم التاريخ، وظلا في صدام دائم. ويكفي اليوم ان نلقي نظرة على برامج التعليم في المدارس والجامعات لكي نتأكد من خلوها من تدريس المواد العلمية المادية. ومن خلال افتحاص بسيط نتأكد أيضا من اختلاف تصور المدرستين للعالم، حيث تتسم الفلسفة المادية بتصورها العلمي للعالم والفلسفة المثالية بتصورها اللاعلمي للعالم.
عندما بدأ الفلاسفة في تفسير العالم والطبيعة والانسان وكل ما يحيط بنا كان عليهم أن يقيموا متمايزات. فهناك ما هو مادي نستطيع أن نراه وأن نلمسه. وهناك وقائع أخرى لا نستطيع أن نراها أو نلمسها، أو نقيسها، كأفكارنا مثلا. فنحن نصنف من جهة، الأشياء المادية، ونصنف من جهة أخرى، الأشياء غير المادية، التي هي من عالم الروح والفكر والأفكار.
وانطلاقا من ذلك وجد الفلاسفة انفسهم إزاء الروح والمادة. ويمكننا بدلا من الحديث عن الروح أن نتكلم أيضا عن الفكر والافكار والوعي والنفس، كما أنه عندما نتكلم على الطبيعة والعالم والارض والوجود، فإن الحديث يدور آنذاك عن المادة. في هذا السياق عندما تحدث فردريك انجلز في كتابه "لودفينك فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" عن الوجود والفكر كان يعني بالوجود المادة وبالفكر الروح.
والمقصود بالفكر هنا هي الفكرة التي نكونها عن الأشياء، حيث تأتينا بعض هذه الأفكار من الاحساسات عادة وتتعلق بمواضيع مادية، وبعضها الآخر كفكرة الله مثلا، والفلسفة واللامتناهي والفكر نفسه وهي تخمينات لا تتعلق بمواضيع مادية ملموسة. المهم هنا هو أنه لدينا آراء وأفكار ومشاعر لأننا نرى ونحس ونخمن.
أما المقصود بالمادة والوجود فهي كل ما تعرضه وتظهره لنا احساساتنا وادراكاتنا. أنه بصورة عامة كل ما يحيط بنا وهذا ما ندعوه "بالعالم الخارجي" فمثلا ورقتي بيضاء، فمعرفتي بأن الورقة بيضاء هي فكرة، وحواسي هي التي أعطتني هذه الفكرة، ولكن المادة هي الورقة بالذات خارج فكري وحواسي.
لذلك عندما يتكلم الفلاسفة عن العلاقات بين الوجود والفكر، أو بين المادة والروح، أو بين الوعي والدماغ الخ... فإنما يتناولون السؤال نفسه يعني: أيهما أهم المادة أم الروح، الوجود أم الفكر؟ أيهما متقدم عن الآخر؟ وهذا هو السؤال الأساسي في الفلسفة9.
إن المقصود بالمثالية هو ذاك المذهب الذي يتم على اساسه تفسير العالم بواسطة الروح. فهذا المذهب يجيب على السؤال الأساسي للفلسفة قائلا: "ان الفكر هو العنصر الرئيسي الأول والاكثر أهمية".
والمثالية إذ تؤكد على الأهمية الأولى للفكر، تؤكد أنه هو الذي يحدث الوجود أو بعبارة أخرى أن: "الروح هي التي تحدث المادة".
هذا هو الشكل الأول للمثالية؛ ولقد وجدت هذه المثالية أقصى نموها في الأديان مؤكدة على أن الله "الذي هو روح خالصة" هو خالق المادة.
فالدين الذي ادعى، وما زال يدعي، أنه خارج المناقشات الفلسفية، هو في الحقيقة، على عكس ما يدعي، التمثل المباشر والمنطقي للفلسفة المثالية.
والحال أن العلم، بتدخله عبر القرون، سرعان ما أصبح ضروريا لتفسير المادة وتفسير العالم والأشياء بمناهج أخرى غير ما يقرره الله وحده عبر انبيائه وما جاؤوا به من كتب مقدسة. وقد بدأ العلم منذ القرن السادس عشر بتفسير ظاهرات الطبيعة بدون أن يأخذ الله في الحسبان، ودونما الحاجة الى فرضية الخلق.
ولمناهضة هذه التفسيرات العلمية، المادية والالحادية، مناهضة قوية، كان من الواجب أن يتم دفع الفلسفة المثالية بعيدا، وأن يتم نفي حتى وجود المادة نفسه.
إن أساس الحجج المعتمدة، في كل الفلسفات المثالية، موجود في محاكمات الأسقف الانجليزي جورج باركلي(1685 – 1753) ومن سار على منواله مثل الفيلسوف السكتلندي دافيد هيوم(1711 – 1776)، وهي على الشكل التالي: تتلخص الفلسفة المثالية في ثلاث أحكام كما يلي9:
1 – الروح تخلق المادة 2 – العالم المادي لا وجود له خارج أفكارنا 3 – أفكارنا هي التي تخلق الأشياء
فالشكل الأول للمثالية هو أن الروح خلقت العالم، وهذا يعني إما أن هناك اله خارج عنا هو الذي خلق العالم وهو ما يلتقي مع المثالية العادية اللاهوتية. أو أن يكون الله قد خلق سراب العالم، مانحا لنا أفكارا لا تنطبق على أية حقيقة مادية. وهذه هي المثالية اللامادية، لباركلي الذي يبرهن على أن الروح هي الواقع الوحيد، وأن المادة هي مستحضر تصنعه روحنا.
ويستتبع ما سبق أن العالم المادي الخارجي لا وجود له الا في أذهاننا، أي في فكرنا فقط، وبالتالي فإن الروح هي التي تخلق سراب المادة بالفعل. ولكن بما أن روحنا، بالنسبة لباركلي عاجزة بمفردها عن خلق هذه الأفكار. وبما أنها لا تستطيع أن تفعل بها ما تريد، فيجب القبول بأن روحا أخرى أكثر قدرة، هي الخالق لهذه الأفكار. فالله إذن هو الذي خلق روحنا، وفرض علينا جميع أفكار العالم التي نصادفها فيه. ولا شيء يحدث الا بمشيئته.
هذه هي الأطروحات الرئيسية التي ترتكز عليها المذاهب المثالية، وهذه هي الأجوبة التي تقدمها للسؤال الأساسي في الفلسفة.
أما بخصوص الفلسفة المادية فإن تاريخها يظهرها لنا، كشيء حي ودائم الحركة، على عكس ما يدعيه مناهضوها والذين يزعمون أن هذا المذهب لم يتطور منذ عشرين قرنا.
لقد تقدمت المعارف الانسانية العلمية عبر القرون. ففي بداية تاريخ الفكر الفلسفي، في عصور الاغريق القديمة، كانت المعارف العلمية شبه معدومة. وكان العلماء الأولون فلاسفة في الوقت نفسه، لأن الفلسفة شكلت خلال تلك الحقبة، كلا متكاملا، مع العلوم الناشئة، حيث كانت الواحدة تشكل امتدادا للأخرى.
بعد ذلك، تدخلت العلوم في تفسيرها لظاهرات العالم، مما أزعج تدقيقاتها الفلسفة المثالية الرسمية بل وناقضتها، الشيء الذي أدى الى نشوء نزاع بين الفلسفة والعلوم. ولأن العلوم متناقضة بطبيعتها مع الفلسفة المثالية الرسمية في تلك الحقبة، فقد كان من الضروري أن تنفصل عنها. فانفصال العلوم عن الفلسفة كان بسبب التناقض العميق بين الفكر اللاعلمي للفلسفة المثالية الرسمية والفكر العلمي الرافض للخرافة.
لكن الفلسفة التي نشأت في الأصل مع العلوم، وارتبطت بها وخضعت لها، ستعود مرة أخرى من خلال ثورة الفلاسفة الماديين على الفكر المثالي اللاعلمي وبالتالي ارتبطت وتطورت هذه الفلسفة المادية مع العلوم لتتواصل مع المادية الحديثة، مادية ماركس وانجلز، ويتلاحم من جديد العلم بالفلسفة في المادية الدياليكتيكية. فالمادية والعلوم مرتبطتان احداهما بالأخرى، وحيث أصبحت المادية تخضع بصورة مطلقة للعلم. وهذا رغم المحاولات الدؤوبة للفكر المثالي اللاعلمي لمحاربة الفكر المادي العلمي.
تؤكد مادية ماركس وانجلز أولا على أن هناك صلة وثيقة بين الوجود والفكر، بين المادة والذهن. فبالنسبة لهما الوجود والمادة هما الحقيقة الأولى، الشيء الأول. ثم الذهن هو الحقيقة الثانية، التالية، الخاضعة للمادة. فبالنسبة لهما، ليس الذهن أو الله هو خالق العالم والمادة، ولكن العالم والمادة والطبيعة، هي التي تخلق الذهن. "فالذهن ليس سوى أعلى نتاج للمادة"11.
لذلك إذا أعدنا طرح السؤال: "كيف يحدث أن الانسان يفكر؟ أجابتنا الفلسفة المادية بأن الانسان يفكر لأنه يملك دماغا، وأن الفكر هو نتاج الدماغ، فليس هناك فكر بدون مادة، بدون جسد.
"إن وعينا وفكرنا، مهما يبدوان منفصلان عن ذواتنا، فإنهما ليسا سوى نتاج جهاز مادي جسمي واحد هو الدماغ"12.
وبالتالي فالوجود والمادة هي أشياء واقعية بالنسبة للماديين، أشياء موجودة خارج فكرنا، وليست بحاجة للفكر أو للدهن حتى توجد. كذلك الذهن لا يمكن أن يوجد بدون مادة، فليس هناك نفس خالدة ومنفصلة عن الجسد.
فالأشياء التي تحيط بنا توجد مستقلة عنا على عكس ما يدعي المثاليون وهي التي تهبنا افكارنا، وافكارنا ليست سوى انعكاس الاشياء في دماغنا. وجوابا عن التساؤلات التالية:
- ما هي العلاقة بين أفكارنا عن العالم المحيط بنا، والعالم نفسه؟ - وهل يستطيع فكرنا أن يعرف العالم الواقعي؟ - وهل يمكننا في تصوراتنا أن نكون انعكاسا صادقا للواقع؟
والمقصود هنا في اللغة الفلسفية، اشكالية مطابقة الفكر والكائن13:
- تؤكد الفلسفة المادية، على اننا نستطيع معرفة العالم، والأفكار التي نكونها عن هذا العالم تزداد صحة، لكوننا نستطيع دراستها بواسطة العلوم، وهذه العلوم تبرهن لنا دائما بالتجربة أن الأشياء التي تحيط بنا تتمتع فعلا بواقعية خاصة بها، مستقلة عنا، ويستطيع الناس اعادة انتاج هذه الأشياء جزئيا، وخلقها اصطناعيا.
فالفلسفة المادية تؤكد في معرض جوابها على الاشكالية الأساسية للفلسفة:
1 – بأن المادة هي التي تنتج الذهن، وإننا، علميا، لم نصادف قط ذهنا بدون مادة.
2 – ثم إن المادة موجودة خارج كل ذهن وليست بحاجة للذهن حتى توجد لأنها تملك وجودا خاصا، وأنه بالتالي، على عكس ما يدعي المثاليون، ليست أفكارنا هي التي تخلق الأشياء، بل أن الأشياء هي التي تعطينا أفكارنا.
3 – إن باستطاعتنا معرفة العالم وإن الأفكار التي نكونها عن المادة والعالم تزداد صحة، طالما أننا نستطيع بواسطة العلوم تحديد ما نعرفه سابقا واكتشاف ما نجهل.
وحول طبيعة المادة يشير الماديون الى أن المادة واقع خارجي مستقل عن الذهن ولا حاجة لها للذهن حتى توجد. يقول لينين في هذا الموضوع: "إن مفهوم المادة لا يعبر الا عن الواقع الموضوعي الذي يعطي لنا في الإحساس"14. أما عن طبيعة المادة وكيف هي فتجيبنا الفلسفة المادية بأنه على العلم أن يجيب وليس الفلسفة.
فبالنسبة للمفهوم لم يتغير الجواب منذ القديم وحتى يومنا هذا. أما بالنسبة لطبيعة المادة وماهيتها فالجواب يتغير ومن الضروري أن يتغير لأنه يخضع للعلوم ولحالة المعارف البشرية، فهو ليس جوابا نهائيا.
وإذا كانت المادة توجد خارجة عنا، فإنها توجد أيضا في الزمان وفي المكان، وأنها في حركة دائمة. فبينما تعتقد الفلسفة المثالية أن المكان والزمان أفكار لذهننا (كان كانط هو أول من دعم هذا الاتجاه). بالنسبة لها، المكان هو صورة نعطيها للأشياء، المكان يخلق من ذهن الانسان، والشيء نفسه بالنسبة للزمان.
فإن الفلسفة المادية تؤكد، على العكس، أي أن المكان ليس فينا، إنما نحن الذين نوجد في المكان. وتؤكد أيضا أن الزمان هو شرط ضروري لمجرى حياتنا، وأن المكان والزمان هما بالتالي غير منفصلين عما يوجد خارجا عنا، أي عن المادة. "إن الأشكال الأساسية لكل كائن هي المكان والزمان، وأي كائن خارج الزمان يعتبر سخافة كبيرة، بقدر ما هي سخافة أن يوجد الكائن خارج المكان"15.
"وتؤكد علوم الطبيعة ايجابيا أن الأرض كانت موجودة في أوضاع لم يكن ليسكنها، ولا يمكن أن يسكنها، لا انسان ولا أي كائن حي. إذ أن المادة العضوية ظاهرة متأخرة، ونتاج تطور طويل"16.
فإذا كانت العلوم تقدم لنا إذن البرهان على أن المادة موجودة في المكان والزمان، فهي تعلمنا في نفس الوقت أن المادة متحركة. هذا التدقيق الذي زودتنا به العلوم الحديثة مهم جدا، لأنه يحطم النظرية القديمة التي كانت المادة بموجبها غير قادرة على الحركة، أي خامدة. فالحركة هي نمط وجود المادة .. ولا يمكن تصور المادة بدون حركة، تماما كما لا يمكن تصور الحركة بدون مادة"17.
نعلم اليوم أن العالم في حالته الحاضرة هو نتيجة لسيرورة طويلة في جميع المجالات. وبالتالي هو نتيجة لحركة بطيئة ولكنها مترابطة ومتواصلة. "فليس الكون سوى مادة في حالة الحركة، وهذه المادة التي هي في حالة حركة لا يمكن أن تتحرك الا في المكان والزمان"18.
2 – قوانين الديالكتيك المادي
تنطلق المادية الديالكتيكية من أولوية المادة مع استخدام قوانين الديالكتيك لفهم علاقات الترابط المادي وتطورها سواء في الطبيعة أو في المجتمع. فالمادية الديالكتيكية19 تعتمد إذن، على جملة من القوانين الناظمة التي تمثل أداة التحليل في هذه الفلسفة. والمقصود بالقانون هنا هي تلك العلاقة السببية التي تحكم متغيرين أو أكثر، وتقرر أنه بوقوع السبب تحدث النتيجة، فلدينا مثلا ظاهرة أو قانون غليان الماء: حيث يصبح الماء في حالة الغليان عندما تصل حرارته 100 درجة، وهذا معناه أنه إذا وقع الشرط وهو بلوغ الحرارة 100 درجة فإن الماء سيصبح بالضرورة في حالة الغليان.
وتقدم كل من الطبيعة والمجتمع العشرات من الامثلة التي يمكن اعتبارها بمثابة قوانين، وحيث يمكن البحث عن العلاقة السببية التي تقف باستمرار وراء وقوع بعض الظواهر في الطبيعة أو بعض الاحداث في المجتمع، لكي نستشف منها أنها عبارة عن قوانين مادية ديالكتيكية. كما أنه لا يمكن وصف شيء بأنه علم، إذا لم يكن مبني على قوانين معينة قابلة للإثبات. وتبعا للقوانين ودرجة دقتها تكون درجة دقة العلم الذي هو موضوع له.
وتتسم القوانين التي تحكم العلاقات العامة بين الظاهرات والاشياء سواء في الطبيعة أو المجتمع بالطابع الموضوعي، نظرا لان تلك الظاهرات والاشياء لها وجود موضوعي. لذا فإن السمة الأساسية لقانون ما هو أن يكون موضوعيا. هذا يعني أن قوانين تطور الطبيعة والمجتمع لا تتعلق لا بإرادة البشر ولا بوعيهم، وهذا ما تقيم البرهان عليه تجربة البشر. من ذلك أن قوانين الطبيعة تجلت قبل زمن طويل من ظهور المجتمع الانساني. فالإنسان الهومو سابيان20 ظهر على الارض في حقبة حديثة نسبيا (حوالي 2,8 مليون سنة). أما القوانين التي يتحرك كوكبنا بموجبها فإنها وجدت منذ أن وجد الكوكب (حوالي 5 مليار سنة)، والقوانين الناظمة لظاهرة من الظاهرات تفعل فعلها من لحظة تواجد هذه الظاهرة.
لكن الاعتراف بالطابع الموضوعي لقوانين الطبيعة والمجتمع لا ينقض بحال من الأحوال واقع أن البشر قادرون على معرفة تلك القوانين وعلى استغلالها لصالحهم. وكل تاريخ العلم والتقنية شهادة ساطعة على الكيفية التي يستخدم بها البشر القوانين التي اكتشفوها في نشاطهم العملي. إن المادية الديالكتيكية تقر بالدور الفاعل للوعي في حياة الانسان.
وتستند المادية الديالكتيكية كفلسفة علمية إلى ثلاثة قوانين أساسية هي:
1 - قانون تحول الكم إلى الكيف. 2 - قانون وحدة وصراع الأضداد. 3 - قانون نفي النفي.
وتجدر الاشارة الى أن ترتيب هذه القوانين الثلاثة لا علاقة له بأولوية بعضها على البعض الآخر، فهي تشتغل في ترابط وثيق فيما بينها بحيث لا معنى لفصل بعضها عن بعض.
1 - قانون تحول الكم الى الكيف:
أ – في الطبيعة:
حاولت الفلسفة وعلم الطبيعة، منذ القديم، اكتشاف اسباب التنوع في الطبيعة، وكيفية ارتباط ظواهرها بعضها ببعض، خاصة ارتباط الطبيعة الميتة اللاعضوية بالطبيعة الحية العضوية. واسباب ارتباط بعض انواع النباتات والحيوانات بعضها ببعض. وكذا ارتباط الانسان بأنواع من الحيوانات ... الخ.
لكن الاكتشاف الصحيح حول هذه الروابط لم يحدث دفعة واحدة، لان العلم لم يكن متطورا، وكذلك نشاط الانسان العملي. ولذلك سار العلم نحو الحقيقة في طريق معقد بين الشك واليقين، ممهدا التربة لظهور التفسير الصحيح الوحيد لتنوع العالم كيفيا، ومقيما العلاقة الواقعية بين النواحي الكمية والنوعية في الظواهر والعمليات. فتطور الكمياء، والفزياء، والبيولوجيا وغيرها من العلوم ساعد الانسان على النفوذ الى جوهر الظواهر، وعلى فهم التطور كتحول بعض الأشياء، نوعيا، إلى أشياء غيرها، نتيجة التبدلات الكمية. وكان لنجاحات الكمياء أهمية كبيرة خاصة في هذا المضمار.
يقول انجلز: "إن بوسعنا تسمية الكمياء بعلم التحولات الكيفية التي تطرأ على الأجسام نتيجة لتغير تركيبها الكمي."21.
إن التطور الهائل للفزياء، واكتشاف تحول العناصر والاشعاع الراديوي، وتحول بعض الجزيئيات "الأولية" إلى أخرى، كل هذا يؤكد، مرة بعد أخرى، المفهوم الديالكتيكي للتطور في الطبيعة، ويغني هذا المفهوم بمعلومات جديدة.
إن النظرية الماركسية الديالكتيكية حول تحول الكم الى الكيف تعتبر تعميما لمعطيات العلوم حول الطبيعة، وتعميما لتجربة التاريخ الانساني العالمي، وهو يكشف عن أحد أهم قوانين التطور الموضوعية.
ويفسر ماو تسيتونغ الديالكتيك بالانتقال من الكم الى الكيف كما يلي: " إن كل شيء يتخذ في حركته شكلين: شكل السُّكون النسبي، وشكل التَّبدُّل الملحوظ. وإن كلا شكلي الحركة يتسبب فيه صراع العاملين المتناقضين اللذين ينطوي عليهما الشَّيء. فعندما يتخذ الشَّيء في حركته الشَّكل الأول، فإنه يطرأ عليه تبدلٌ كميّ فقط لا تبدلٌ نوعي، لذلك يبدو في حالة من السُّكون الظَّاهريّ. وعندما يتخذ الشَّيء في حركته الشكل الثاني، فإنه يكون قد بلغ نقطة معينة هي قمة التَّبدُّل الكميّ الذي حصل في الشَّكل الأول، فينتج عن ذلك تفكك الكيان الواحد، ويحدث تبدل نوعي، لذلك يبدو الشَّيء في حالة من التَّبدُّل الملحوظ."22.
كما يشير انجلز بهذا الصدد الى أن "التحولات الكيفية في الطبيعة – هذه التحولات المحددة بدقة في كل حالة فردية – لا تحدث الا بإضافة كمية، أو طرح كمي، للمادة أو الحركة (المدعو طاقة)"23. إن حدوث التراكم مع بقاء الحالة على ما هي عليه هو تغير كمي؛ مثلا في حالة الغيمة المتشكلة من البخار تظل التغيرات الكمية تتراكم أي تستمر الأبخرة بالتصاعد والتجمع في الغيم ولا يحدث التغير النوعي إلا عندما تتراكم هذه المتغيرات الكمية الى الدرجة اللازمة لحدوث تغير نوعي أي للدرجة اللازمة من اشباع الغيمة بالأبخرة لهطول المطر.
كما أن نمو الطفل يعتبر تغيرا كميا، وعندما يصل الى مرحلة البلوغ فيعتبر تغيرا نوعيا. فإذا حدثت في جسم الطفل التغيرات النوعية وتراكمت فلا بد أن يحصل هذا التغيير النوعي أي أن يبلغ عندما تصل تغيرات جسمه الفسيولوجية التي تراكمت إلى المستوى الذي يصبح معه بلوغه حقيقة مؤكدة .
وهنا يمكننا القول بأنه عندما يحدث تراكم في التغيرات الكمية الضرورية لحدوث التغيير النوعي فإن حدوثه يصبح أمرا حتميا .فارتفاع درجة حرارة الماء هو تغيير كمي، وطالما ارتفعت درجة حرارة الماء فإن التغيير يضل كميا لان الماء لا زال في حالته السائلة، أما عند بلوغ الماء مستوى 100 درجة حرارية، فيطرأ حينذاك تغير نوعي على الماء لأنه يتحول من سائل الى بخار.
وهكذا يمكننا رصد سلسلة التحول من الكم الى الكيف كما يلي:
1 – التغير الكمي: ارتفاع درجة حرارة الماء، نعتبر ان التغيير هو دائما كميا، لانه لم يحدث أي تغيير في حالة سيولة الماء؛ 2 – التغير الكيفي: تحول الماء من حالة السيولة الى حالة البخار؛ 3 – معيار حصول التحول من الكم الى الكيف: وصول حرارة الماء الى 100 درجة فيتحول الماء الى بخار، أو هبوط حرارة الماء الى 0 درجة، فيتحول الماء الى ثلج. 4 – حتمية التحول: منطوق هذا القانون يقول ان تحول الماء من سائل الى بخار عند بلوغ الدرجة 100 أو التحول الى ثلج عند بلوغ الدرجة صفر، يكون التحول الكيفي حتميا.
في كتابه ضد دوهرينغ، يشرح انجلس حدوث الطفرة الكيفية الحتمية عند بلوغ التراكم الكمي مستوى معين:
"عند بلوغ نقطة حرجة معينة، تؤدي أية زيادة أو نقصان كمي بحت إلى طفرة كيفية، فمثلا، في حالة الماء الذي يسخن أو يبرد، حيث تشكل نقطة الغليان ونقطة الانجماد النقطتان اللتان فيها، تحت ضغط جوي اعتيادي، تحدث الطفرة إلى حالة تكتلية جديدة، والتي عندها نتيجة لذلك يحدث التحول من الكم إلى الكيف24.
كيف يمكن إذن أن نميز التغير النوعي عن التغير الكمي؟، فلا شك ومن واقع رؤيتنا للمادة أن حالة التغير هي مسلمة علمية الاشياء في حالة تغير مستمر لكن كيف نميز بين التغير الكمي والتغير النوعي ؟
إن معيار التميز بين التغيرات الكمية والكيفية في الواقع هو أن التغير الكمي هو تغير مستمر أي يتسم بالاستمرارية ولا ينقطع إلا بحدوث التغير النوعي أو الكيفي، فنمو الجنين في بطن امه هو تغير كمي يتراكم، لكن ولادته هي تغير نوعي كيفي، فقد تحول من جنين إلى طفل مولود، إن التغير النوعي أو الكيفي هو تغير طفري يحدث كطفرة مباغتة مفاجئة تؤدي تماما إلى تغير جذري في النوع. والتغير الكيفي أو النوعي أيضا ليس فعلا مستمرا بل يحدث مرة واحدة دفعة واحدة عند بلوغ التراكمات الكمية للمعيار الضروري أو شرط حدوث هذه الطفرة ، أو عندما يصبح حدوث هذه الطفرة حتميا.
وفي هذا الصدد يقول ستالين:
"على العكس من الميتافيزيقا، لا يعتبر الديالكتيك عملية التطور انها عملية نمو بسيطة، حيث لا تتحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية، بل على انها تطور يجتاز من تحولات كمية تافهة غير محسوسة إلى تحولات اساسية مكشوفة، إلى تحولات كيفية، يعتبرها تطورا لا تحدث التغيرات الكيفيه فيه بصورة تدريجية، بل بصورة سريعة ومفاجئة، تتخذ شكل طفرة من حالة إلى حالة اخرى، لا تحدث بصورة عرضية بل نتيجة طبيعية لتراكم تغيرات كمية غير محسوسة وتدريجية"24.
في المجتمع:
سبقت الاشارة مرارا الى أن المجتمع متحرك كالطبيعة. وتقوم هذه الحركة على الانتقال من التحولات الكمية إلى التحولات الكيفية.
ولقد فهم لينين ذلك حينما كان لا يزال طالبا سنة 1887 في جامعة كازان ـ وكان يقوم بمقاومة القيصرية ـ فأجاب على مفوض الشرطة الذي قال له: "أنكم تنطحون برؤوسكم حائطا لا يتزحزح" ـ حائطا؟ أجل، ولكنه حائط نخره السوس، وتكفيه دفعة بسيطة حتى ينهار"25. فالقيصرية كانت في الواقع، كالحائط الذي أفسدته الأمطار سنة بعد أخرى، ولقد أدرك لينين أن التحول الكيفي (وهو انهيار القيصرية) قريب.
وهكذا يسبق التحولات الكيفية في المجتمع تحولات كمية بطيئة.
فالثورة (تحول كيفي)، إذن، هي نتيجة تاريخية ضرورية لتطور بطيء (تحول كمي). ولقد حدد ستالين بوضوح الجانب الكمي والجانب الكيفي للحركة الاجتماعية حيث يقول :
"يعلمنا المنهج الديالكتيكي أن الحركة تتخذ صورتين: صورة تطورية وصورة ثورية، وتكون الحركة تطورية حين تستمر العناصر التقدمية في عملها اليومي بصورة تلقائية فتحدث في النظام القديم بعض التحولات الكمية الطفيفة. كما تكون الحركة ثورية حين تتحد هذه العناصر تحت لواء فكرة واحدة فتنطلق ضد العدو لتقتلع النظام القديم من جذوره وتحدث في الحياة تحولات كيفية كما تقيم نظاما جديدا محل النظام القديم.
وهكذا يمهد التطور للثورة بينما تقوم الثورة بإتمام هذا التطور كما تساعده في عمله المقبل26.
ويستشهد ستالين على هذا التحليل بحوادث 1905. فلقد "قامت طبقة العمال (البروليتاريا) في دجنبر سنة 1905 بمهاجمة مستودعات الأسلحة ثم سارت للقضاء على الرجعية". ولقد سبق هذه الحركة الثورية تطور طويل تم خلال السنوات السابقة "حين كانت البروليتاريا في تطورها العملي، تقنع بالإضرابات المتفرقة وايجاد نقابات للعمال صغيرة".
وكذلك سبق الثورة الفرنسية عام 1789 نضال طبقي طويل، فإذا بالتحولات الكيفية الهائلة تحدث في فرنسا خلال بضع سنوات (1789–1790) ولم تكن هذه التحولات ممكنة لولا التحولات الكمية التي تراكمت عبر السنين، أي لولا الهجمات العديدة الجزئية التي شنتها البرجوازية ضد الإقطاعية إلى غاية الهجوم النهائي واستيلاء الرأسماليين على الحكم.
أما فيما يتعلق بالثورة الاشتراكية في أكتوبر سنة 1917 فإن كتاب "تاريخ الحزب الشيوعي (البلشفي) في الاتحاد السوفياتي"28 يطلعنا على الطريقة التي تم بها هذا التحول الكيفي الهائل، وهو أكبر تحول في التاريخ، بواسطة سلسلة من التحولات الكمية، فإذا ما أردنا الاقتصار على الفترة بين 1914 ـ1917 ففصول الكتاب تدلنا على تضخم الحركة الشعبية في هذه السنوات الخطيرة حتى استيلاء السوفيات على الحكم. ويجب أن نلاحظ هنا أن الانتقال من الحالة الكيفية القديمة إلى الحالة الجديدة يكون تقدما. فالحالة الرأسمالية هي أفضل من الحالة الإقطاعية، والحالة الاشتراكية أفضل من الحالة الرأسمالية، إذ أن الثورة تقوم بالانتقال من السفلي إلى العلوي. لماذا؟ لأنها تقوم بالتوفيق بين النظام الاقتصادي للمجتمع وبين متطلبات نمو قوى الانتاج.
2 - قانون وحدة وصراع الأضداد
أ – في الطبيعة:
مضمون قانون وحدة وصراع الأضداد هو أنه لا توجد في الوجود ظاهرة إلا وتحمل في داخلها بذرة فنائها. فأضداد الظاهرة تتواجد معها في داخلها وتنبع من ذاتها. كما تعيش التناقضات دوما معا. والأصل في الطبائع التضاد الداخلي. لذلك فإن النقائض تعيش معا.
عندما نقول الشيء يحمل في داخله بذرة فنائه، فمعنى ذلك أن هذه حقيقة ملموسة يعيها الإنسان، ونرى هذا في ما نشاهده فلا يوجد في واقعنا المادي شيء يبقى إلا ما لا نهاية كما هو، فمهما استغرقت مدة فنائه أو تبدله او تغيره، فلا يمكن أن يبقى على حالة واحدة إلى ما لا نهاية. الأشياء الموجودة في الطبيعة هي في حالة تضاد وتناقض داخلي دائم، هذا التناقض هو محفزها نحو التغيير.
يقول إنجلز:
الطبيعة كلها من اصغر الاشياء إلى اكبرها، من حبة الرمل إلى الشمس، من البروتيستا إلى الانسان، هي في حالة دائمة من النشوء والزوال، في حالة تغير متواصل، في حالة حركة وتغير لا يتوقفان29.
ب – في المجتمع:
كل مجتمع له بنية اقتصادية ، هذه البنية تفرز تشكيلات اجتماعية على أسس طبقية مالكين مثلا لرأس المال وعمال، فهذا التقسيم الداخلي للمجتمع يجعله في حالة من وحدة وصراع الأضداد، فالمجتمع ككل وحدة واحدة منسجمة وفي نفس الوقت تتصارع داخله الأضداد، المالكين لرأس المال يريدون زيادة ثرواتهم والعمال يريدون زيادة حصتهم من الأجر وتحسين ظروف معيشتهم والحصول على حقوقهم. إذن فالمجتمع هو في حالة تضاد داخلي. هذا التضاد الداخلي الذي هو جوهر الديالكتيك هو المحرك الأساسي أي محرك التغيير، لأن هذا التضاد هو الذي يؤدي بالنهاية إلى حدوث التغيرات الاجتماعية كنتيجة للصراع الطبقي في داخل المجتمع والذي يعتبر بحد ذاته معطى موضوعي نتيجة للتضاد الموضوعي.
ويمكن ملاحظة التضاد داخل الجسم السياسي لأي مجتمع حيث تتواجد تيارات تتصارع فيما بينها للهيمنة على السلطة السياسية. فهناك يمين رأسمالي وهناك يسار اشتراكي وهناك حركة محافظة دينية وهناك حركات أخرى، وكذلك هناك نظم أو نخب حاكمة تبعا لطبيعة المجتمع الداخلية. فهذه الحركات السياسية تشكل معا وحدة واحدة وفي نفس الوقت هي في حالة صراع. هذا الصراع بينها هو محرك التغير الذي يطرأ على المنظومة السياسية لهذا المجتمع.
ويتميز المجتمع البرجوازي الطبقي بانقسامه الى طبقتين اثنتين أساسيتين متضادتين، هما كل من البرجوازية المهيمنة على وسائل الانتاج الاقتصادية وعلى السلطة السياسية من جهة، والطبقة العاملة من جهة أخرى. ويتجلى التناقض فيما بين الطبقتين على مستوى سعي البرجوازية الى تشغيل قوة عمل الطبقة العاملة بأدنى أجر ممكن، لقاء ساعات طويلة من العمل في اليوم، من اجل الاستحواذ على اكبر كمية من عمل العامل. وحيث لا يتيح الاجر الذي يحصل عليه العامل سوى تجديد قوة عمله للعودة في يوم الغد من اجل الخضوع للاستغلال من جديد. فمصلحة الطبقتين إذن متناقضة بشكل كامل. ولكي تبقي الطبقة البرجوازية، الطبقة العاملة، تحت الاستغلال، فإنها تلجأ الى وسيلتين: أولا، التخدير الايديولوجي وثانيا، القمع المادي.
وتعتمد الطبقة البرجوازية في اطار تخديرها الايديولوجي للطبقة العاملة اساسا على رجال الدين وعلى المثقفين الانتهازيين لنشر الفكر المثالي بين الطبقة العاملة. كما تلجأ ايضا إلى خدمات البرجوازية الصغرى الانتهازية بطبيعتها الا في حالات استثنائية نادرة، وتشكل نصف طبقة تشتغل ملتصقة بالبرجوازية الحاكمة، خاصة في قطاع الخدمات. كما تحصل على مداخيل مقتطعة من فائض القيمة التي ينتجها العمال تتجاوز بكثير اجور هؤلاء. فالبرجوازية الصغرى، نظرا لقربها من الطبقة العاملة، ونظرا ايضا لتطلعاتها التسلقية الى مصاف البرجوازية الحاكمة، فإنها تعمل على توظيف خدماتها السياسية لصالح البرجوازية ومن اجل تخدير الطبقة العاملة وتقليص حدة الصراع الطبقي. وتلعب البرجوازية الصغرى من خلال برامج احزابها الانتهازية، دورا اساسيا في التخفيف من حدة التناقض القائم بين الطبقتين المتناحرتين، موظفة بقوة المركزيات النقابية للحفاظ على استمرارية التخدير اللازم للمحافظة على ما يسمى بالسلم الاجتماعي.
لكن الصراع والتناقض حتى وان تم تخفيفه لبرهة زمنية معينة، نتيجة التخدير الايديولوجي والقمع المادي، فان التراكم الموضوعي للنضالات العمالية تؤدي مع مرور الزمن الى تطور الوعي الطبقي وإلى اشتعال انتفاضات حقيقية تعيد ترتيب موازين القوى. وفي خضم هذا الصراع يحدث التطور نحو مرحلة نوعية جديدة.
النتيجة الأكيدة هي ان انتفاء طبيعة التناقض عن الظواهر معناه أنها فقدت حالة الصراع الداخلي أو سقط التضاد الداخلي وصارت منسجمة وبالتالي فإن النتيجة ستعني توقف التطور. وتأخذ شكلا ثابتا لا يتغير لانتفاء تضادها الداخلي. التاريخ يشير دوما إلى أنه طالما استمر الوجود البشري. فحالة التضاد الداخلي الذي هو طبيعة الأشياء والوجود مستمر ودافع باستمرار إلى التطور بشكل لا نهائي.
قانون وحدة وصراع الأضداد يمكن ان نلاحظه في كل مظاهر حياتنا بشكل عام ، في علاقتنا مع أسرنا في علاقتنا مع أي ظاهرة مجتمعية نعيشها حتى في داخل انفسنا وتفكيرنا.
قد يفهم من الصراع للوهلة الأولى الذي تتواجد فيه الأضداد أنه حالة متشنجة، في الواقع. الصراع الذي تتواجه فيه الأضداد يأخذ عدة مستويات ودرجات من الصراع. فتجد مثلا على مستوى التعبير السياسي المعارض أن هناك مستوى من الرفض والعمل بسرية متناهية أو المواجهة على صفحات الجرائد والتناحر بين الاحزاب. وهناك مستوى الثورة أيضا أو مستوى العنف الدموي الذي قد تلجأ اليه اطراف الصراع السياسي المضطهدة. لهذا قد يكون الصراع تناحريا كالصراع بين الوطنيين والاستعمار، والماء والنار، والحب والبغض، الديموقراطية والديكتاتورية، الحار والبارد...الخ. كما قد يكون الصراع غير تناحري بين الرجل والمرأة، والأب والابن، الصيف والشتاء ... الخ. إذن فالصراع الذي يحاول فيه كل طرف ضد، إلغاء الآخر هو صراع تناحري، أما الصراع الذي لا يلغي فيه طرف ضد الآخر فهو صراع غير تناحري. وقد تمر الأضداد بمراحل، فتنتقل من الصراع غير التناحري إلى الصراع التناحري، فمثلا صراع الاحزاب مع الملكية قد يمر من صراع غير تناحري، تبحث فيه الاحزاب عن دور، ومشاركة سياسية ومستوى من التطبيق الديموقراطي، نحو صراع تناحري عندما تعلن الثورة على النظام الملكي رغبة في تحويله إلى نظام جمهوري مثلا.
لا يمكننا بطبيعة الحال أن نفهم قانون وحدة وصراع الأضداد وأهميته وفعاليته ودوره بشكل صحيح، إلا عندما نتعرف على بقية قوانين المادية الديالكتيكية، مما يمكننا من وضعه وفهمه في مكانه الصحيح. وليس الديالكتيك مجرد ترف فكري بل هو وسيلة فعالة بيد البروليتاريا حينما تستوعبه وتحوله الى سلاح ضد اعدائها.
كتب ستالين في كراسته حول المادية الديالكتيكية :
ان المعالم الاساسية للأسلوب الديالكتيكي الماركسي هي كما يلي:
أ) على العكس من الميتافيزيقي، لا يعتبر الديالكتيك الطبيعة تراكما عرضيا من الاشياء، أو الظواهر، لا ترتبط احداها بالاخرى، أو منعزلة ومستقلة احداها عن الاخرى، بل يعتبرها كيانا كليا مرتبطا ارتباطا لا ينفصم تكون فيه الاشياء والظواهر مرتبطة ارتباطا عضويا وتعتمد احداها على الاخرى وتقرر احداها الاخرى30.
بهذا تقرر المادية وحدة الأضداد معا من وحي الوجود المادي الطبيعي.
ثم يضيف :
ب) وعليه فان الاسلوب الديالكتيكي يعتبر انه لا يمكن فهم اية ظاهرة طبيعية اذا اخذت بذاتها، منعزلة عن الظواهر المحيطة بها، إلى حد ان اية ظاهرة في اي مجال من الطبيعة قد تصبح عديمة المعنى لنا اذا لم تدرس بالترابط مع الظروف المحيطة بها، بل بالانفصال عنها، وانه على العكس من ذلك يمكن تفهم اية ظاهرة وتوضيحها اذا درست في ارتباطها الذي لا تنفصم عراه مع الظواهر المحيطة بها، كظاهرة تقررها الظروف والظواهر المحيطة بها31. إذن، فالظواهر لا يجب أن تدرس معزولة عن ما حولها فهي تدخل معها في تركيب الوحدة الكونية. إن الظاهرة المفردة يستحيل عزلها عن المحيط وإن جاز هذا العزل فهو من قبيل التجزئة في البحث فقط. أما إغفال عضوية العلاقة بالعالم المادي المحيط فسيؤدي حتما إلى نتائج مغلوطة في التحليل، فهل يمكن مثلا أن ندرس الإنسان بمعزل عن الغذاء؟ يواصل ستالين في كراسه:
ج) على العكس من الميتافيزيقي، يعتبر الديالكتيك ان الطبيعة ليست في حالة سكون وعدم حركة وجمود وعدم تغير، بل في حالة حركة دائمة وتغير مستمر، حالة تجدد وتطور مستمرين، حيث ينشأ شيء ما جديد ومتطور على الدوام وشيء متفسخ وزائل على الدوام. وعليه فان الاسلوب الديالكتيكي يتطلب دراسة الظواهر ليس فقط من وجهة نظر علاقاتها المتبادلة واعتماد بعضها على البعض، بل كذلك من وجهة نظر حركتها وتغيرها وتطورها، من وجهة نظر نشوئها وزوالها32 .
فالأشياء دائما هي في حالة وحدة وتضاد في آن معا ولولا هذا التضاد لما حصل التطور. التطور لا يأت من عدم وفكرته لا تولد من فراغ، فلولا التضاد هذا لما حصل التطور. فالسكون عدو التغيير والتغيير هو نتيجة للتضاد الديالكتيكي الذي هو بناء الأشياء.
3 - قانون نفي النفي
أ – في الطبيعة:
يفيدنا قانون نفي النفي أولا بأن حركة التطور ليست حركة خطية بل حركة لولبية، وإن كانت هذه الحركة اللولبية لها محور رأسي يتجه للأمام وأعلى دوما في سلم التطور.
إن تصور حركة التطور الصحيحة ليس كحركة خطية وإنما كحركة لوبية؛ حيث تعود الظاهرة في حركتها إلى النقطة التي انطلقت منها لكن في مستوى أعلى33.
فمن أين يأتي القول بالحركة اللولبية لتطور الظواهر؟
إن حركة التطور هي عبارة عن سلسلة تناقضات حيث يتم تجاوز المراحل القديمة إلى مراحل جديدة لكن المراحل هي مثل الحلقات تتداخل حيث أن فصل كل حلقة على حدة مسألة شبه مستحيلة!
إن باستطاعتنا تميز الحلقة من خلال ذلك التركيب الذي تهيمن عليه تشكيلة معينة لكننا لا نستطيع الزعم أن الحلقة مستقلة تماما لا عن الحلقة التي تسبقها في السلسلة ولا عن الحلقة التي تليها ، مع ذلك هذا لا يمنع أنها هي حلقة لوحدها. فالبذرة عندما تتحول في التراب الى نبتة فإن هذه الاخيرة هي نفي للبذرة كما ان تحول النبتة الى شجرة فان الشجرة نفي للنبتة، فنفي النفي ليس الغاء تام للمرحلة السابقة بل هو تطوير لها. فمثلا الابناء يعتبرون نفيا لآبائهم وفي نفس الوقت استمرارا نوعيا لهم. إننا لو ركزنا انتباهنا على إحدى الحلقات سنجدها متداخلة مع حلقة سابقة وحلقة لاحقة. وهذا تماما هو شكل الظاهرة وهي تحتوي في رحمها على نقائضها.
ب – في المجتمع:
لو أردنا القياس على مثال عملي اجتماعي لأخذنا أي تشكيلة اجتماعية اقتصادية كالإقطاع مثلا:
في الحالة الإقطاعية النموذج السائد في الظاهرة الاجتماعية هو نموذج الإنتاج الإقطاعي، طبقة أرستقراطية صغيرة، مالكة للأرض الزراعية التي هي عصب عملية الانتاج، ثم مزارعين أقنان يمثلون الاغلبية، لكن هناك أيضا عبيد من مخلفات مرحلة أسبق، وهناك نشاط تجاري يتبرعم، وبداية لصناعة المنيفاكتورة. لكن هذا لا يمنع بأن الوصف الذي ينطبق على هذه التشكيلة هو أنها الإقطاع، لأن هذا هو النمط المهيمن على التشكيلة.
إن الانتقال الذي يتم من مرحلة لأخرى هو عملية نفي للمرحلة السابقة لكنه نفي ديالكتيكي. إن ظاهرة التحول من نمط الانتاج الإقطاعي لنمط الإنتاج الرأسمالي هي عملية نفي ديالكتيكي، لأن التغيرات التي راحت تتكرس ببروز النمط التجاري وتراكم الرأسمال التجاري وبداية الصناعة راح يحول معه النمط تدريجيا لصالح الانتاج الرأسمالي ضد نمط الانتاج الاقطاعي. إنه وهو يهيمن – أي النمط الرأسمالي- يقوم بعملية نفي للنمط السابق وهو الإقطاعي ، وما أن يدخل المجتمع النمط الرأسمالي حتى يتحول شكل الظاهرة التي هي التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية هنا ويسود الشكل الانتاج الرأسمالي إلا أن هذا لا يمنع أن نجد على ضفافه نمط إنتاج إقطاعي هو من مخلفات أسلوب الإنتاج السابق لكنه لا يمثل ظاهرة مهيمنة.
لماذا نقول نفي ديالكتيكي؟
نقول نفي ديالكتيكي لأن الحالة المهيمنة السابقة تتحول إلى ضد سلبي في شكل الظاهرة الجديدة والضد الإيجابي في الظاهرة السابقة صار حالة مهيمنة وولد ضد إيجابي جديد من رحم شكل الظاهرة الجديدة.
يركز إنجلز كثيرا على قانون نفي النفي في رده على دوهرين من خلال الأمثلة الطبيعية:
إن عملية خروج الشرنقة من البويضة هي عملية نفي لمرحلة البويضة ، ثم تبدأ مرحلة تراكم كمي جديدة إلى ان تنضج الفراشة جنسيا وتصبح مؤهلة للتزاوج فيتم التزاوج لتضع البيض وتموت نافية النفي34.
هكذا فعملية التطور هي سلسلة لامتناهية من نفي النفي ، الذي ليس رجوعا للوراء وإنما نفي إيجابي لأن اتجاه المحصلة له دوما للأمام وأعلى أي اتجاه تطوري.
ثالثا: المادية التاريخية
تنقسم الفلسفة الماركسية الى شقين، شق أول تمثله المادية الديالكتيكية والتي تشكل النظرية المادية للطبيعة والمجتمع وكيفية تحليله عبر قوانين الديالكتيك وهو ما حاولنا عرضه باختصار شديد في الفقرة السابقة، وشق ثان يتمثل في فلسفة التأريخ السوسيولوجي بالاستناد إلى أدوات التحليل المادية الديالكتيكية لدراسة التاريخ والمجتمع والاقتصاد.
1 - مفهوم المادية التاريخية؟
يقول ماركس في مقدمة كتابه نقد الاقتصاد السياسي الصادر سنة 1859: "ليس وعي الأشخاص هو الذي يقرر وجودهم، لكن ، على العكس، وجودهم الاجتماعي هو الذي يقرر وعيهم"35.
أقام ماركس فكرته هذه على اساس المادية الديالكتيكية والتي تنطلق من أولوية المادة على الوعي. وكما تؤكد ذلك المادية الديالكتيكية فإن الوعي هو مظهر من مظاهر المادة، وحيث لا يمكن لأي كان ان يدعي اليوم بأن هناك امكانية حدوث وعي بدون مادة، أي خارج دماغ الانسان. لكن الأمر يصبح أكثر تعقيدا عندما نضيف الى ما سبق بأننا لا نتكلم هنا عن وعي بسيط أي عن وعي فرد، وانما نتحدث عن وعي عام، عن الوعي كظاهرة عامة.
هيغل الفيلسوف المثالي الشهير عرف الإنسان كموجود أو مخلوق عاقل أو مفكر36، لكن ليس هذا ما نحتاجه فنحن نعرف ان الإنسان عاقل كذلك وأيضا الحيوان عاقل، حيث أن الحيوان يملك القدرة على الإدراك ولديه مخ، فعندما تنظر إلى هذه المخلوقات وهي تمارس حيلها للإشباع رغباتها المختلفة كالجنس والطعام لا تشك لحظة واحدة بأنها مخلوقات عاقلة، لكن الملفت في حالة الإنسان ليس التفكير نفسه بل هو كيف طور قدرته على التفكير؟ ولماذا لم يتطور مثلا مجتمع الأسود أو القطط ... الخ؟ فالحيوانات تحقق دورة حياة ثابتة، إنك لو راقبت عشرين جيلا من الأسود فلن تجد أي تغيير في حياتها، إن الفارق الجذري بين مجتمع الأسود ومجتمع الإنسان هو أن مجتمع الإنسان يتطور. قد تبدو الملاحظة جانبية أو غير هامة، لكن هذا ليس صحيحا لو أمعنا النظر قليلا؛ فتطور هذا الإنسان في وعيه وتفكيره ومعتقداته وانظمته ... الخ، تأتي تماما جراء تطويره لأسلوب معيشته وتغذيته لنفسه .
مجتمع الأسود لديه طريقة واحدة في الحصول على غذائه، أنه يصيد الفرائس بأسلوب ثابت منذ ملاين السنين، هل تحصل أنت اليوم على غذاءك من مطاردة الفرائس البرية، مستخدما قدميك ويديك في الجري خلفها والإمساك بها واستعمال مخالبك وأنيابك لتمزيق لحمها؟ كيف أصبحت تحصل على طعامك من خلال برمجة الكمبيوتر مثلا؟! فأنت بحاجة إلى العمل لتكسب غذاءك ، لكن ألا تلاحظ ان عملك هذا يصبح له أثر في الوجود ؟ إن عملك هذا يصنع الآخرين كما أن عمل الآخرين يصنعك. عمل الإنسان منذ كنا نحن البشر من أجل تحصيل احتياجات حياة الإنسان هو الذي طور وجود النوع البشري، الآن يمكن ان نقول اتضحت الفكرة التي يريد ماركس ان يوصلها بشكل أفضل إذن:" ليس وعي البشر هو ما يقرر وجودهم ، بل عكس ذلك ؛ وجود البشر الاجتماعي هو الذي يقرر وعيهم"37.
إن للإنسان تاريخ، هذا التطور الذي يقوم جذره الابتدائي على أن الانسان مخلوق عامل وبالتالي متطور تحت ضغط وإلحاح حاجاته اللامتناهية، هذا التاريخ المؤلم في كثير من مفاصله جوهر تطوره وحركته هو سعي الإنسان المحموم نحو المزيد والمزيد من الانتاج، إن تاريخ الإنسان في حقيقته هو تاريخ تطور إنتاجية عمل هذا الإنسان.
تطور إنتاجية عمل الإنسان هذه تخضع هي الأخرى لقوانين الديالكتيك المادي. نحن نميز في تاريخنا البشري بين أنماط إنتاج، ولدينا المعلومات الكافية لنعرف عبر العصور كيف كان الإنسان ينتج غذاءه وكساءه ومسكنه، وكيف ينتج حاجاته. ولدينا القدرة على ان نتصور معا مراحل تاريخية محددة تبعا لنمط الانتاج السائد. نعرف أن هناك انماط نستطيع تميزها: أي نمط الانتاج المهيمن على المجتمع، حيث ينتظم المجتمع كله بناء على هذا النمط، لأننا ونحن نقرأ ظروف المجتمع في تلك الفترة نلاحظ أن له سمات محددة تجعله مختلف جذريا عن مجتمع آخر له نمط إنتاج مختلف قبلا أو بعدا.
بما أن التاريخ هو حركة تطور إنتاجية الإنسان، ويتميز بأنه قابل للتميز كمراحل لكل منها، فنمط الانتاج هو ما يميزها. ويتضمن نمط الإنتاج هذا علاقات إنتاج تحدد دور الجماعات داخل هذا النمط. وبمعنى آخر فإن المجتمع ينقسم بناء على نمط الإنتاج إلى جماعات لكل منها دورها في نمط الإنتاج هذا، ويتحدد دور كل منها داخله وبناء على ذلك النمط، وتسمى كل جماعة من هذه الجماعات طبقة.
فنحن هنا إذن إزاء نظرية كارل ماركس التاريخية، المادية التاريخية، والتي نستوعبها من خلال المادية الجدلية ومن خلال انماط الانتاج المختلفة التي تعتمد عليها المجتمعات الانسانية والتي تقوم على وحدة وصراع قوى الانتاج وعلاقات الانتاج في سيرورة متطورة متصاعدة من خلال نفي النفي على شاكلة نظرية التطور البيولوجية عند داروين، حيث لا يمكن لمرحلة لاحقة ان تسبق مرحلة سابقة.
2 - مفهوم التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية:
إن المشكلة الرئيسة تكمن في تحديد كل حلقة من حلقات سلسلة التطور، كما أن التداخل بين حلقات سلاسل التطور، يجعل رؤية كل واحدة على حدة مسألة غير بسيطة، لتحديد ماهيتها وتركيبتها وخصائصها بشكل مستقل عن سواها .لان الكل لا يساوي مجموع الأجزاء منفصلة. فالإنسان الحي المتحرك لا يساوي نفس الانسان إذا ما تم تفصيله الى اطراف عضوية جامدة مفككة.
أحد اهم العوائق في دراسة التاريخ ممرحلا يتمثل في هذه الإشكالية بالذات، فعملية تحديد كل من هذه المراحل يعتبر عملية غير بسيطة، لأن المسألة في دراسة المادية التاريخية تكمن ابتداء في تعريف محدد للمرحلة في ارتباطاتها في الزمان والمكان، وفي درجة تطورها . قبل المادية الديالكتيكية كانت عملية التأريخ في جلها تعتمد على ضابط تمرحل إسمي، بمعنى تحديد سمة ثقافية معينة من خصائص المرحلة التاريخية لتعميمها على المرحلة ككل؛ مثل ذلك ما يذهب له بعض المؤرخين في دراسة التاريخ العربي : الدولة الراشدية ثم الدولة الاموية ثم الدولة العباسية ...الخ.
نفس الشيء بالنسبة لدراسة عصور ذات سمات ثقافية معينة؛ مثل العصور الوسطى ثم عصر النهضة ثم عصر التنوير... الخ
الحقيقة أن هذه المراحل تقيس سمات تاريخية في واقع الأمر، مظاهر للمراحل، وقد تشترك مرحلتين بمظاهر واحدة جزئيا او كليا. فبين المرحلة الاموية والعباسية لا نكاد نلمس تغيرا جذريا عاما في طريقة معاش الناس وانتاجهم وقيمهم وعاداتهم ومعتقداتهم وقوانينهم . كذلك الأمر بالنسبة للتمرحل على أساس الإنتاج الثقافي، فليست القضية نوعية الإنتاج نفسه بل القضية سبب هذا الإنتاج، إن المسألة مسألة الولوج من المظهر الخارجي نحو الجوهر، باختصار فإن السؤال المهم هنا هو كيف يحدث التطور التاريخي؟ قبل ماركس كانت هناك أيضا بعض الدراسات التاريخية التي عملت على رفض أن يكون التاريخ عشوائي، بل هو عندهم حركة منظمة سببية. وأقدم نموذج معروف لدينا هو نظرية ابن خلدون في العمران الانساني، والذي يشمل بين ثناياه أول فهم ديالكتيكي مادي للتاريخ كحركة، فابن خلدون يلامس في تصوره لنظرية العمران ملاحظة في منتهى الأهمية، وهي الترابط العضوي بين صفات الناس وطبائعهم وافكارهم وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم من ناحية، وبين طريقة معاشهم واسلوب انتاجهم لغذائهم من الناحية الأخرى. إلا أن ابن خلدون في فهمه للتاريخ كحركة تطور لا يتجاوز حدود التحليل الثابت في مستوى ما عرفه من تبدل في حال القبيلة من تكوين العصبية البدوية إلى السلطة إلى الرفاه والدعة إلى الهزيمة وعودة الكرة. هيجل الفيلسوف الألماني المثالي، تصور بدوره التاريخ كحركة تطور ديالكتيكي، واعتمد على الفكرة الكلية الكونية كمحرك، فعند دراسته للتاريخ الفرنسي مثلا اعتبر
1 - النظام القديم (الوضع). 2 - الثورة الفرنسية (النفي). 3 - الإمبراطورية (التركيب أو نفي النفي)38.
لكن هذا لا يحل التناقض الداخلي لمثالية هيجل ، إذ لماذا كان النظام القديم؟ ولماذا قامت الثورة؟ ولماذا جاءت الإمبراطورية؟
إن القول بأن الفكرة تتطور لوحدها يبدو ضربا من التفكير العبثي، فالحاجة تخلق اختراعا، وليس العكس.
لقد زودت المادية الديالكتيكية ماركس وانجلز بالمفتاح ، بالأساس الذي ينطلق منه ، في هذا الخليط التاريخي إذن كان السؤال، أين هو المحرك ؟
لقد أدرك ماركس الخلل الذي يعتور هذا التصور المثالي لهيغل ولذلك كتب :
إن هيجل يريد من البشرية أن تسير على رأسها، بينما يجب ان تسير على رجليها. المشكلة الحقيقية إذن لم تكن ديالكتيكية التاريخ بل كانت محرك هذه الديالكتيكية من أين تبدأ ؟ يقول انجلز، يجب ان نبحث عن الاسباب النهائية لكل التطورات الاجتماعية، ولكل الثورات السياسية، لا في رؤوس الناس، ولا في المعرفة الانسانية الاكثر وعيا للحقيقة الخالدة وللعدالة، ولكن في تغير طرق الانتاج والتداول . يجب أن نبحث عن ذلك لا في الفلسفة، بل في الاقتصاد الخاص بكل عصر39.
لقد كشف ماركس وانجلز عن المحرك المادي، ووفق ذلك هداهما نهج الديالكتيك المادي الاساسي في حركة الوجود إلى أن الاقتصاد هو الميزة المتغيرة والتي تحرك معها كل شيء وتغيره. وبتحديد أكبر إنه نمط الإنتاج. إن تاريخ تطور الانسان هو تاريخ تطور طريقته في تحقيق انتاجه، فكل حركة التطور الانسانية تدور بالأساس حول محور واحد هو كيف يتم الانتاج في المجتمع؟
إن الإجابة على هذا السؤال هو مفتاح الولوج لتحديد كل شيء في قراءتنا لأي جماعة بشرية، لقد لاحظ ابن خلدون ان الانسان يتبع في طبائعه وسلوكه وقيمه...الخ، طريقة معاشه كيف يعيش وماهي مصادر عيشه، إننا اليوم نعي تماما طبيعة الشخصية التي نتعامل معها بمقدار أساسي وجذري عندما نعرف ما هو عمله بالضبط وكيف ينتج؟ فطبيعة العمل الذي نمارسه نحن لإنتاج دخولنا ينعكس بشكل أساسي حتى على شكلنا البدني وعلى جلودنا ولباسنا....الخ. فالواضح أن هذه قاعدة تقبل التعميم، أي أن قاعدة نمط الانتاج هذه تصلح سمة تميز المجتمع في فترة تاريخية من فتراته وانه يتغير .
إن نمط الانتاج يتم من خلال صراع ووحدة قوى الانتاج وعلاقات الانتاج. فقوى الانتاج او عناصر الانتاج هي المكونات المادية لعملية الانتاج كل ما يدخل في عملية الانتاج سواء كان مستمد من الأرض والطبيعة، أو مستمدا من آلات أو معدات أو تكنولوجيا استخدام (رأس مال) ، أو من عمل انساني عضلي أو ذهني عقلي ، أو إداري تنظيمي ، كل هذا معا يشكل قوى الانتاج.
أما علاقات الانتاج فهي التعبير الماركسي عن علاقات الملكية والتناقض الذي تحدثه مع من لا يملك والصراع الطبقي الناتج عنهما، بالتحديد تملك وسائل الانتاج أو رأس مال، والمقصود ماهية وملكية رأس المال المنتج . إن علاقات الانتاج هذه تمثل البنيان التحتي للمجتمع الأساس المادي الذي عليه يبنى المجتمع على اساس تناقض تناحري، ومن هنا تحديدا يبدأ تغير المجتمعات، إن شكل رأس مال وملكيته بالتحديد هي التي تحدد شكل الصراع الطبقي داخل المجتمع ومن ثم بناءه الفوقي .
أما البناء الفوقي، فهو المنظومة القيمية للمجتمع والتي تمثل ايديولوجية الطبقة المهيمنة، فالبناء الفوقي الايديولوجي، هو جملة القوانين والعادات والأعراف والمعتقدات الدينية والأخلاق والفلسفة والقيم والنظام السياسي ...الخ، التي تحافظ من خلالها الطبقة الحاكمة على هيمنتها الاجتماعية.
إذن، لدينا قاعدة مادية للمجتمع يمثلها نمط الإنتاج والذي بدوره مكون من قطبين متناقضين موحدين هما قوى الإنتاج من جهة والبنية التحتية للنمط وهي علاقات الإنتاج من جهة أخرى. ثم لدينا بنية فوقية ايديولوجية، تحافظ على وحدة التناقض في نمط الانتاج، بما فيها من نظم ضابطة للمجتمع دينيا واخلاقيا وسياسيا وقانونيا ووسائل الاكراه...الخ. هذا البناء كله هو ما أطلق عليه ماركس مصطلح التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية.
ويمكننا ان نلاحظ هذه التشكيلة في دراستنا للمجتمعات تاريخيا ، بل وان نلاحظ أن دراستنا للتطور التاريخي لأي مجتمع ممكنة بتحديده كتاريخ تطور تشكيلات اجتماعية اقتصادية، محركها الأساسي وجوهر تغيرها وتطورها هو بالذات البناء التحتي : قوى الانتاج وعلاقات الإنتاج. لقد لاحظ ماركس بشكل أساسي أن التاريخ البشري يمر بمراحل متمايزة في تطوره، كل مرحلة منها تتميز بتشكيلة اجتماعية واقتصادية قائمة بذاتها انطلاقا من المشاعية البدائية40، الى نظام الرق، الى النظام الاقطاعي، الى النظام الرأسمالي، الى مجتمع المستقبل الذي تنبأ به كارل ماركس وانجلز وهو النظام الاشتراكي الشيوعي.
فسيرورة التاريخ عند ماركس تقوم أولا على طبيعة البنيات التحتية والفوقية لنمط الانتاج القائم، ثم ثانيا على أشكال الصراع الطبقي ين الطبقات المهيمنة والطبقات المحكومة المستغلة، ثم ثالثا، ارتقاء المجتمعات الطبقية من نمط انتاجي متخلف نحو نمط انتاجي اكثر تقدما. من خلال آليات التحليل الماركسية، أي المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية التي حاولنا بإيجاز شديد تقديم خطوطها العريضة، سنحاول توظيفها من خلال مقتربين اثنين أولا للاطلاع على نظرية انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي حسب كتابات كارل ماركس نفسها وحسب تراث الماركسيين. ثم ثانيا تراكمات الصراع الطبقي التي قد تؤهل حدوث نقلة نوعية من المجتمع الرأسمالي الحالي نحو مجتمع اشتراكي شيوعي آخر أكثر انسانية.
المقترب الأول: المادية التاريخية ونظرية انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي
ان نمط الانتاج الرأسمالي الذي يمكننا ان نؤرخ لميلاده انطلاقا من أواخر القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، عرف مرحلة صعود وازدهار هائلة اقتصادية واجتماعية وسياسية رغم كل التناقضات التي يحتويها في جوفه، وذلك الى غاية بداية القرن العشرين، ومنذ ذلك الحين، وحسب كل المؤشرات المادية الملموسة نجده يشهد مرحلة هبوط وانحطاط على كافة المستويات رغم مظاهر الحضارة الباهرة التي بلغها، ورغم النمو غير المتكافئ بين الدول والجهات، بل والقارات.
فتعميم نمط الانتاج الرأسمالي على كامل الكوكب اكتمل مع بداية القرن العشرين حينما أصبحت جميع القارات مقسمة فيما بين الامبرياليات، وهي المرحلة التي عبر عنها لينين بان الامبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية، وكلمة أعلى تعني هنا اقصى نقطة تقدم أمكن للرأسمالية الوصول اليها، فعند هذه النقطة الامبريالية، ابتدأ عصر انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي، لان هذا النمط لا يمكنه ان يتطور ويتوسع بدون أن يمارس استغلال مفرط مع تراجع إمكانية إيجاد اسواق جديدة غير رأسمالية لتحقيق ارباح أعلى للإنتاج الرأسمالي. إذن فأمام استحالة امكانية البرجوازية المهيمنة سياسيا بدون شريك، التوسع نحو آفاق غير رأسمالية جديدة، أصبحت أزمة نمط الانتاج هيكلية لا يمكن علاجها الا بواسطة التدمير العنيف لوسائل الانتاج القائمة.
فقد أصبحت البرجوازية مجبرة على تدمير وسائل الانتاج لجعلها تتلاءم مع قوى الانتاج، حتى تتمكن من تحقيق ارباح جديدة. وحيث يمكن تشبيه وحشية البرجوازية اليوم للمحافظة على نمط الانتاج الرأسمالي بالأسطورة الاغريقية حول حكاية قاطع الطريق بروكست (سرير بروكست)، الذي كان يأتي بضيوفه الى بيته لكي ينيمهم على أحد السريرين يكون اما صغير الحجم أو كبير الحجم، فاذا كان الضيف طويل القامة فيجعله ينام على السرير القصير، وبالتالي يعمل على قطع رجليه حتى يتلاءم مع السرير، أما الضيف القصير القامة فيجعله ينام على السرير الطويل، فيعمد الى تمطيطه الى ان تتقطع اطرافه لكي يتلاءم مع السرير.
لذلك شهدنا كيف لجأت البرجوازية مباشرة عقب ازمة 1913 – 1914 الى اشعال الحرب العالمية الأولى فيما بين الامبرياليات من أجل تحقيق أكبر تدمير لوسائل الانتاج والتي ذهبت بأرواح حوالي 24 مليون نسمة من الطبقة العاملة على الخصوص. لكن هذه الحرب لم تكن كافية من حيث تدمير وسائل الانتاج، اذ سرعان ما انفجرت ازمة كونية جديدة لنمط الانتاج الرأسمالي سنة 1929 دفعت اساليب تدبيرها جميع البلدان الرأسمالية الى الدخول في حرب امبريالية ثانية ما بين 1939 و1945 والتي ذهب ضحيتها حوالي 60 مليون نسمة غالبيتها من الطبقة العاملة أيضا. فقد تمكنت البرجوازية من خلال الحربين العالميتين الاولى والثانية من اخراج حوالي 84 مليون نسمة من الكادحين من نمط الانتاج الرأسمالي القائم، كما تم تدمير كامل لقوى الانتاج التي كانت في تطور متسارع منذ بداية القرن التاسع عشر. بينما عرفت الولايات المتحدة الامريكية توسعا رأسماليا سريعا بفضل الاقتصاد الصناعي الحربي الممول الرئيسي لهذين الحربين العالميتين.
أما خلال الفترة اللاحقة للحرب العالمية الثانية والتي دامت ثلاثين سنة (الثلاثينيات المجيدة) فتميزت بنمو وازدهار اقتصادي مصطنع لنمط الانتاج الرأسمالي بفضل اشتغال الآلة الرأسمالية على اعادة بناء ما حطمته الحرب العالمية الثانية. لكن هذه الفترة سرعان ما ستنتهي أواخر عقد الستينات لتبدأ مرحلة طويلة من الازمة العامة لنمط الانتاج الرأسمالي لا زالت مستمرة الى اليوم، وتتسم بانتشار الكساد والتضخم مع بحث دائم عن خلق بؤر مصطنعة من الحروب هنا وهناك وتغذية ما يسمى بالإرهاب الدولي لضمان استمرار انتاج الاسلحة والمعدات الامنية واشعال فتيل الحروب واعادة البناء.
إن اساليب تدبير ازمة نمط الانتاج الرأسمالي تشابهت في كافة الدول. وتتلخص هذه الأساليب كما كان الشأن بالنسبة لسرير بروكست، في الضغط على الاجور، وتفكيك الخدمات العمومية، وتدمير نظام الاعانات الاجتماعية، ورفع سن التقاعد وتقليص رواتب التقاعد، ودفع الطبقات الشعبية لسداد فاتورة الازمة عبر رفع الاسعار وتفكيك المرافق العمومية وخوصصتها. وقد أدت هذه الاساليب في تدبير الازمة الى اغتصاب تعسفي لهامش كبير من الارباح لكن دون تراكم رأسمالي حقيقي، مع استمرار حالة كساد الاسواق والانتاج الزائد غير القابل للتصريف. كما عرفت نفس الفترة تحولا راديكاليا نحو تمييل الاقتصاد العالمي وهيمنة المضاربات المالية على الانتاج الفعلي.
وان انفجار الحلقة الاخيرة من ازمة نمط الانتاج الرأسمالي سنة 2008، كان نتيجة هذا التناقض الهائل بين من جهة القدرة الهائلة على الانتاج ومن جهة أخرى التراجع الهائل في القدرة على التسويق، وبالتالي تحويل هذه المنتجات الى ارباح، بسبب الضيق المتزايد للأسواق، بين عملية انتاجية تقوم على سداد أجور زهيدة للمنتجين الحقيقيين المتناقصين نتيجة البطالة الواسعة، نتيجة ادخال الآلة، واسواق تفيض بالمنتجات الزائدة ولا تجد لها مشترون قادرون على تحويل تلك السلع الى ارباح رأسمالية حقيقية. لا يختلف شكل انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي عن أشكال انحطاط باقي انماط الانتاج السابقة. وقد سبق لكل من كارل ماركس وفردريك انجلز أن درسا في اطار المادية التاريخية شكل تطور مختلف انماط الانتاج السابقة على نمط الانتاج الرأسمالي، واستخلصا أن كل نمط انتاج اقتصادي اعتمدته البشرية بدون وعي للحفاض على بقائها، عرف مراحل الولادة ثم مرحلة الشباب والكهولة ثم مرحلة الشيخوخة والانحطاط.
وكما هو الشأن بالنسبة لولادة نمط الانتاج الاقتصادي والتي تعرف مخاضا عسيرا، حيث يقضي نمط الانتاج قرونا في الولادة والتطور والازدهار، فإن نفس نمط الانتاج عند بلوغه الى نقطة معينة، تبدأ معها مرحلة جديدة طويلة نسبيا، قد تمتد قرونا من التدهور والانحطاط. وقبل أن ينتهي نمط الانتاج القائم الى التلاشي بشكل كامل، يظهر نمط انتاج جديد يقوم على أنقاض نمط الانتاج القديم بل يساهم في محاربته واقباره.
من خلال خلاصات كارل ماركس وفردريك انجلز تعرفنا الى درجة جد متقدمة من الدقة على القوس الذي قطعه نمط الانتاج البدائي ثم على القوس الذي قطعه نمط الانتاج الآسيوي ثم على القوس الذي قطعه نمط الانتاج العبودي وعلى القوس الذي قطعه نمط الانتاج الاقطاعي واخيرا على القوس الذي يقطعه نمط الانتاج الرأسمالي الحالي والذي يوجد في مرحلة انحطاط متقدمة.
1 - نظرية انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي توجد في قلب الفكر الماركسي:
في سنة 1859 وبعد قضاء كارل ماركس حوالي 20 سنة من الدراسة والبحث الفلسفي والتاريخي والسوسيولوجي والاقتصادي، اضافة الى ما راكمه من تجارب، في خضم الصراع الطبقي الذي كانت تخوضه الحركة العمالية العالمية، والتي ساهما في نشأتها: كعصبة الشيوعيين التي ولدت سنة 1842 فمن خلال كل ذلك اصدر ماركس مؤلفه حول نقد الاقتصاد السياسي سنة 1859 والذي أشار في مقدمته لأهم نظرياته حول القوس الذي يقطعه كل نمط انتاجي على حدة. وقد عمل كارل ماركس على تضمين مختلف كتاباته الأخرى لخلاصات هذه النظرية، والتي تظهر واضحة من خلال هذه المقدمة. وفيما يلي محتوى ما قاله ماركس:
"الخلاصة العامة التي توصلت اليها، والتي، حالما استوعبتها، أفادتني كخيط قائد في دراساتي، يمكن صياغتها باختصار على الشكل التالي: في اطار انتاجهم الاجتماعي لوجودهم، يرتبط الناس فيما بينهم بعلاقات محددة، ضرورية، مستقلة عن ارادتهم؛ وتتطابق علاقات الانتاج هذه مع درجة معينة من تطور قوى الانتاج المادية لديهم. تشكل مجموع هذه العلاقات البنية الاقتصادية للمجتمع، وهي القاعدة الملموسة التي يرتفع على أساسها، البناء القانوني والسياسي، الذي يتطابق مع أشكال محددة من الوعي الاجتماعي. نمط انتاج الحياة المادية يكيف سيرورة الحياة الاجتماعية، السياسية والثقافية بشكل عام. فليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم، بل على العكس من ذلك وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم.
عند درجة معينة من تطورها، تدخل قوى الانتاج المادية للمجتمع في تناقض مع علاقات الانتاج الموجودة، أو مع علاقات الملكية التي تطورت في اطارها الى ذلك الحين، والتي ليست سوى تعبيرها القانوني. وعلى أساس أشكال تطور قوى الانتاج، فإن هذه العلاقات تضع العراقيل أمامها. وهنا تنفتح حقبة من الثورة الاجتماعية.
فالتغير الذي يحدث في القاعدة الاقتصادية تحدث انقلابات، قد تزيد سرعتها أو تنقص، في كامل ذلك الصرح العلوي.
وعندما نتمعن في هذه الانقلابات، فيجب أن نميز دائما بين الانقلاب المادي – والذي يمكن أن نكتشفه بشكل علمي صارمة – الذي يطال شروط الانتاج الاقتصادي، والأشكال القانونية والسياسية والدينية والفنية أو الفلسفية، وباختصار الأشكال الايديولوجية، والتي يستوعب الناس في اطارها هذا النزاع ويدفعونه حتى نهايته.
وكما لا يمكن أن نحكم على شخص انطلاقا من الفكرة التي يكونها عن نفسه، لا يمكن أن نحكم على مثل هذه الحقبة من الثورة الاجتماعية انطلاقا من الوعي الذي تكونه عن نفسها. بل يجب على العكس من ذلك، أن نفسر هذا الوعي من خلال التناقضات المادية، ومن خلال النزاع الموجود بين قوى الانتاج الاجتماعي وعلاقات الانتاج.
ولا ينتهي أبدا أي مجتمع قبل أن تتطور جميع قوى الانتاج وتصبح واسعة بشكل كافي لاحتوائه؛ وأبدا لا تستبدل علاقات انتاج جديدة ومتقدمة العلاقات القديمة قبل أن تتبلور الشروط المادية لوجودها في صلب المجتمع القديم نفسه. لذلك السبب لا تطرح الانسانية أبدا سوى المشاكل التي يمكنها معالجتها، ذلك لأنه عندما ننظر إليها عن قرب، فلا توجد دائما سوى المشكلة نفسها والتي لا تبرز سوى في المكان الذي تتواجد فيه مسبقا الشروط المادية لمعالجتها، أو أنها على الأقل في طريقها لأن تصبح كذلك.
وكخطوط كبرى، فإن أنماط الانتاج الآسيوية، والقديمة، والاقطاعية والبرجوازية الحديثة يمكن وصفها على أنها حقب قد تطورت تدريجيا في تشكيلها الاقتصادي للمجتمع. وتعتبر علاقات الانتاج البرجوازية آخر الأشكال المتناقضة في السيرورة الاجتماعية للإنتاج، التناقض ليس بمفهوم التناقض الفردي، وانما تناقض ناشئ عن الشروط الاجتماعية لوجود الأفراد؛ ومع ذلك فإن قوى الانتاج التي تتطور في قلب المجتمع البرجوازي تخلق في نفس الوقت الشروط المادية الخاصة لمعالجة هذا التناقض. ومع انتهاء هذا النظام الاجتماعي، ينتهي إذن عصر ما قبل التاريخ للمجتمع الانساني".
الشكل رقم 1 تطور نمط الانتاج من مرحلة الصعود الى مرحلة الانحطاط المصدر: تركيب شخصي انطلاقا من خلاصات كارل ماركس في مقدمة كتابه نقد الاقتصاد السياسي لسنة 1859.
الشكل السابق مستمد من وصف كارل ماركس لمسار أنماط الانتاج الطبقية أي بعد انصرام مرحلة الشيوٌعية البدائية، انطلاقا من نمط الانتاج الآسيوي، ثم نمط الانتاج العبودي، فنمط الانتاج الاقطاعي، ووصولا الى نمط الانتاج الرأسمال .ً فقانون سيرورة نمط الانتاج الذي توصل اليه كارل ماركس لا علاقة له بأي شكل من أشكال الحتمية الميتافيزيقية، بل يقوم على العكس من ذلك على ديالكتيك المادية التاريخية والصراع الطبقي.
فالإنتاج الاقتصادي هو بالضرورة انتاج اجتماعي وهو الذي تتشكل على أساسه البنيات الاقتصادية التحتية أي عبارة عن تركيب يقٌوم على علاقات معينة بين الأشخاص ووسائل العمل المستخلصة من الطبيعة مصدر كل الثروات. ونمط الانتاج الاجتماعي الذي ينشأ على أساس هذه التركيبة الاجتماعية، يؤسس لعلاقات انتاج معينة، وتعكس علاقات الانتاج السائدة وضعا طبقيا معينا يقسم بالضرورة المجتمع إلى طبقتين أساسيتين، طبقة حاكمة وطبقة محكومة، تتسم الأولى بالضرورة بالغنى والثانية بالفقر. وتتحكم الطبقة الحاكمة في الطبقة المحكومة بواسطة ما يسمى بالبنيات الفوقية أي مجموعة من القيود الايديولوجية والسياسية والقانونية والثقافية وتصل إلى احتكار القوتين العسكرية والبوليسية.
ورغم النجاح الذي تحققه عادة الطبقة الحاكمة في مرحلة تأسيسها وصعودها، من حيث تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياس عبر هيمنتها الايديولوجية وتحكمها العسكري والبوليسي، وهو ما يمكن هذه الطبقة من تطوير قوى الانتاج التي تزيد من هيمنتها، إلا أن قوى الانتاج سرعان ما تتوقف عن النمو نتيجة التناقض والتفاوت الحادين والذي حٌدث بينها وبين علاقات الانتاج أي بين الحاكمين والمحكومين، فالطبقة الحاكمة التي تريد باستمرار انتزاع أكبر قدر ممكن من ساعات العمل ومن فوائض القيمة ومن الارباح، مقابل منح عائدات أو مداخيل زهيدة يتم رميها الى الطبقة المحكومة التي ما تفتأ تغرق في بؤسها، فحينذاك يكون نمط الانتاج السائد قد بلغ نقطة اللاعودة أي مرحلة الانحطاط وانطلاق مرحلة الثورة الاجتماعية أو ما يمكن تسميته بمرحلة الأزمة الثورية.
الشكل رقم 2 مقارنة تطور أنماط الانتاج المتعاقبة بحسب تطور سكان العالم
يعطي الرسم البياني صورة تقريبية للتطور التاريخي لأنماط الانتاج المتعاقبة وتراوحها ما بين الازدهار والانحطاط، ولم نعتمد في الرسم البياني مرحلة الإنسان البدائي أو ما يسمى بالشيوعية البدائية والتي دامت لآلاف السنين في غياب تام للانقسام الطبقي، وهي مرحلة ساد فيها الصيد وقطف الثمار كوسيلة للعيش مع صنع بعض الأدوات البدائية وحيث كان الانسان البدائي يعيش في تجمعات صغيرة. ولا شك أن هذه المرحلة عرفت أيضا مرحلة ازدهارها ثم مرحلة أفولها لينتج عنها نمط الانتاج العبودي.
فالرسم البياني يحاول رصد تطور انماط الانتاج الطبقية انطلاقا من نمط الإنتاج الآسيوي ثم العبودي القديم فالإقطاعي فالرأسمالي. مع اعطاء تواريخ تقريبية حول مرحلة الصعود وحول مرحلة الانحطاط.
ويؤكد كارل ماركس هذه الخلاصات بصدد دراسته لنمط الانتاج الرأسمالي في كتابه رأس المال عندما يتطرق إلى السوق العالمي ونظام الحاجات:
"العالمية التي يتوجه نحوها رأس المال دون توقف تعترضها حدود متلازمة مع طبيعته، تجعله، عند درجة معينة من تطوره، يظهر معها كأكبر معرقل لهذا الاتجاه وتدفعه الى الدخول في مرحلة تدميره الذاتي41". كما يؤكد فردريك انجلز على نفس الخلاصة في كتابه ضد دوهرينغ حينما يؤكد على أن "نمط الانتاج الرأسمالي (...) في اطار تطوره الخاص، يتجه نحو نقطة يصبح معها هو نفسه مستحيلا"42.
إن مرحلة التناقض الحاد التي وصلت اليها الرأسمالية التاريخية، مع بداية القرن العشرين ستجد في لينين أكبر معبر عن المرحلة الجديدة التي دخلتها الرأسمالية وهي مرحلة الامبريالية. ورغم أن لينين لم يستعمل مصطلحات من قبيل صعود وانحطاط الرأسمالية، فانه استعمل مصطلحات وتعبيرات مشابهة مثل "حقبة الرأسمالية التقدمية"، و"العامل القديم للتقدم" و"حقبة البرجوازية التقدمية" وذلك لتمييز مرحلة صعود الرأسمالية، ثم "حقبة الرأسمالية الرجعية"، "وأن الرأسمالية أصبحت رجعية" و"الرأسمالية المحتضرة" و"حقبة الرأسمالية التي أدركت نضجها" وذلك لتمييز مرحلة انحطاط الرأسمالية. فلينين استعمل نظرية ماركس حول مرحلة انحطاط الرأسمالية بكاملها ووصف انعكاساتها الاساسية، خصوصا من أجل وضع تحليل صحيح لطبيعة الحرب العالمية الأولى.
2 - حتمية انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي تقابلها حتمية الثورة البروليتارية:
إن قانون اتجاه معدل الربح نحو الانخفاض، الذي اكتشفه كارل ماركس (أنظر الفصل الثالث من الكتاب الثالث من رأس المال)، يترجم التناقض بين واقعة كون البرجوازية لا تستطيع ان تحقق أرباحها سوى من خلال عمل العامل، أي من العمل "الحي" (الرأسمال المتغير)، بينما تتقلص حصة هذا العمل الحي في دورة الانتاج، مع تطور الرأسمالية بشكل منهجي، لفائدة حصة "العمل الميت"(الرأسمال الثابت)، أي الآلات والمواد الأولية. ويشكل هذا التناقض مكونا عضويا أساسيا كامنا في الرأسمالية، لكن هذه النظرية ليست هي النظرية الماركسية الوحيدة للازمات، فهناك أيضا نظرية انسداد الأسواق أمام تصريف المنتجات الرأسمالية بسبب اختفاء مناطق جغرافية غير رأسمالية مما ينتج عنه نقص هائل في مستوى استهلاك الانتاج الزائد، وهو ما سماه ماركس "بالسبب النهائي لكافة الأزمات" والمتمثل في الفقر والقدرة المحدودة لدى الجماهير للاستهلاك43. فنظرية اتجاه معدل الربح نحو الانخفاض، لا تتناقض مع نظرية عدم قدرة البرجوازية على خلق أسواقها الذاتية لتصريف منتجاتها، بل تشكلان نظريتان متكاملتان: - فمن جهة أولى، لان المنافسة بين البرجوازيين حول الأسواق يجبرهم بشكل حتمي على الاستمرار في الزيادة في انتاجيتهم، وهو ما يؤدي حتما الى قلب حتمي للتكوين العضوي لرأس المال، بمعنى ذلك أرجحية حصة العمل الميت (الرأسمال الثابت) مقارنة مع حصة رأس المال الحي (الرأسمال المتغير).
- ومن جهة ثانية، تتمكن البرجوازية من خلال تمديد مستوى الانتاج عالميا وغزو أسواق جديدة التي تبقى مع ذلك محدودة من:
1) - تعويض انخفاض معدل الربح عن طريق تعظيم كتلة الأرباح؛
2) - احتواء هذا الانخفاض عن طريق الزيادة في الاستغلال، الذي يتحقق عن طريق اقتطاع أكبر فائض قيمة نسبي (فمن خلال تمديد مستوى الانتاج، يتحقق تقليص تكاليف انتاج السلع الضرورية لحياة العامل وإذن القيمة الحقيقية لأجره). كخلاصة لما سبق نؤكد من جديد على أن نظرية انحطاط الرأسمالية توجد في قلب النظرية الماركسية اللينينية، وعلى أن تطبيق هذه النظرية على المرحلة الامبريالية الحالية تحدد شكل وطبيعة التنظيم الحزبي العمالي الثوري المنشود بناؤه، كما تحدد استراتيجيته وبرامجه، وتقطع في المقابل مع أي برنامج حد أدنى اصلاحي، ببساطة لاستحالة ادخال أي شكل من أشكال الاصلاح على الرأسمالية المنحطة، وتحول كافة الكيانات السياسية المراهنة على اصلاح نمط الانتاج الرأسمالي الى مجرد كيانات انتهازية مضادة للثورة. 3 - بعض مؤشرات انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي:
يمكن تلخيص جميع مؤشرات انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي، من الازمة العامة التي أصابت جميع المجالات وجميع قطاعات الحياة الاجتماعية.
1 - فعلى المستوى الاقتصادي (أي البنيات التحتية للمجتمع) يصطدم الانتاج بشكل متزايد بتناقضات هيكلية والتي ليست شيئا آخر سوى علاقات الانتاج الاجتماعية نفسها. فوتيرة تطور قوى الانتاج تصبح بطيئة، ان لم تتوقف تماما. كما يتعرض المجتمع باستمرار لأزمات اقتصادية تتضاعف خطورتها وامتداداتها عند كل أزمة جديدة، حيث تعمل كافة الحكومات باستمرار على اعتماد سياسات التقشف.
2 - على مستوى البنيات الفوقية: أصبحت شروط المعيشة المادية تشكل في جميع المجتمعات الى غاية اليوم المشكل الاجتماعي الأول، وينتج عن ذلك ان علاقات الانتاج تبقى هي المحدد النهائي لشكل ومضمون مختلف البنيات الاجتماعية. وعندما تنهار هذه العلاقات، نتيجة التدهور المتواصل للحياة المادية للمجتمع، فإنها تجر معها في حركة انحطاط كامل الصرح القائم فوقها من فلسفة وايديولوجية وثقافة ومؤسسات ...الخ. وعندما تتطور مثل هذه الحالة من الأزمة على المستوى الاقتصادي، فإن جميع مجالات الحياة الاجتماعية تتأثر بالضرورة سلبا. وانطلاقا من هنا علينا أن نبحث عن الجذور الحقيقية لما يسمى بأزمة الحضارة. فالتحليل المثالي يتيه وراء البحث في أسباب الانهيار الاخلاقي، وحول التأثيرات السلبية للوفرة، وحول التأثير السلبي أو الايجابي لهذه الفلسفة أو ذلك الدين أو العقيدة (أطروحة صراع الحضارات عند هنتنغتن)، باختصار، فإنها تبحث في مجال الأفكار، والفكر السائد، عن سبب حدوث هذه الأزمات مع اهمال الشروط المادية التي أحدثتها. ودون تجاهل تأثير بعض هذه الأفكار على سياق الاحداث ، فمن الأكيد مع ذلك، كما قال ماركس:
"لا نحكم على الفرد انطلاقا من الأفكار التي يحملها عن نفسه. ولا نحكم على حقبة ثورية انطلاقا من الوعي الذي تكونها حول حركتها. فهذا الوعي يفسر بدلا من ذلك باكراهات الحياة المادية، وبالتنازع الذي تتواجه فيه قوى الانتاج الاجتماعي وعلاقات الانتاج"(مقدمة كارل ماركس لكتابه نقد الاقتصاد السياسي).
في المجال الايديولوجي: تسعى البرجوازية الى المحافظة على نمط انتاج رأسمالي أصبح غير منطقي بشكل متزايد وأمام انهيار يومي متواصل للإيديولوجية التي تبرره. فالإيديولوجية البرجوازية في تفكك مستمر، كما أن القيم القديمة تتهاوى، وأن الابداع الفني يصاب بالجمود أو يتخذ أشكالا احتجاجية، في ظل تطور الفلسفات الظلامية والتشاؤمية.
في مجال العلاقات الاجتماعية، يتمظهر الانحطاط من خلال:
1 - تطور الصراع بين مختلف فصائل الطبقة البرجوازية المهيمنة. صعوبة الحفاظ على شروط تحقيق الارباح وكميتها؛ سعي الفقراء لضمان معيشهم (عندما يتخلون عن امكانية تعاونهم) الى القيام بذلك على حساب باقي مكوناتهم أو فصائل طبقتهم، مما يؤدي الى التفكك وانهيار جماعي.
2 - تطور الصراع بين الطبقات المتناحرة:
- صراع الطبقات المضطهدة، التي تشعر بأن الطبقة المستغلة قد عمقت بؤسها ووصلت به الى مستوى لا يحتمل.
- صراع الطبقة البروليتاريا الحاملة للمجتمع الشيوعي الجديد، مع كامل الفصائل السياسية القديمة الانتهازية والتحريفية والظلامية والشوفينية التي تتحول الى أدوات عدوانية اتجاهها وتشكل ادوات طيعة بيد البرجوازية المهيمنة التي تسعى الى تأبيد هيمنتها على الوضع المنحط القائم.
في المجال السياسي: وفي مواجهة تعمق ازمة انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي، لا تتمكن الطبقة المهيمنة من ضمان مستمر لسلطتها السياسية، الا بواسطة التخدير الايديولوجي والديني وبواسطة القمع الوحشي والاختطاف والتعذيب والتصفيات الجسدية، كما كان الشأن دائما في ظل انحطاط انماط الانتاج السابقة، مع تقوية مفرطة لأجهزة النظام، التي تعمل اساسا على المحافظة على مصالح الطبقة المهيمنة على حساب باقي الطبقات، حيث يترجم ذلك بشكل واضح في السياسات الاقتصادية والمالية كضرب المكتسبات الاجتماعية للطبقات الشعبية ومحاولة تفريغ الازمة على كاهلها، ويؤذي ذلك الى تعزيز سيطرة الدولة الطبقية وتمديد هيمنتها على مختلف مجالات الحياة الاجتماعية. المقترب الثاني: تراكمات الانتقال نحو الاشتراكية:
من خلال ما سبق نستخلص أن الأزمة العميقة لنمط الانتاج الرأسمالي جعلته في مفترق الطرق بين الانتقال نحو الاشتراكية أو السقوط في البربرية، غير أن الامر لا يحدث بتلك السهولة التي قد نعتقدها أو نختارها، فالصراع الطبقي هو المحرك الفعلي للتاريخ كما قال كارل ماركس، ثم ان البرجوازية المهيمنة لن تتخلى بسهولة عن سلطتها ونمط انتاجها، بل ستلجأ الى كافة الوسائل الممكنة لتصفية أعدائها. لذلك نجدها تتبع استراتيجيات معينة منذ مطلع القرن العشرين للحفاض على استمرارية هيمنتها. بينما تخضع القوى البروليتارية لنوع من التذبذب بين الاصلاحية والثورية، حيث تحاول عدد من القوى اليسارية البرجوازية الصغرى دفع الطبقة العاملة الى نوع من التوافق مع البرجوازية المهيمنة عبر العديد من الآليات الايديولوجية التخديرية، وهي من خلال ذلك تعمل أكثر على تثبيت ذاتها أكثر مما تعمل على قيادة الثورة السياسية والاجتماعية على نمط الانتاج الرأسمالي، بينما تحاول العديد من القوى الثورية على تعميق نضالاتها الميدانية لفضح مستوى انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي.
1 - استراتيجية الرأسمالية من أجل ضمان استمراريتها
من بين العناصر الاستراتيجية التي تلجأ اليها البرجوازية المهيمنة عالميا للحفاض على استمرارية نمط الانتاج الرأسمالي هناك الحروب والتسلح والمديونية والتخدير الايديولوجي:
أ – الحروب:
لقد بات من المؤكد أن نمط الانتاج الرأسمالي في مرحلة انحطاطه أصبح يعيش بفضل دورة مصطنعة، تتمثل في أزمة ثم حرب ثم اعادة البناء ثم الأزمة فالحرب فإعادة البناء ومع انتهاء كل مرحلة اعادة البناء تنفجر الازمة من جديد وهكذا دواليك. فالحروب أصبحت تشكل بديلا عن المستعمرات غير الرأسمالية القديمة والتي اصبحت منعدمة. فالرأسمالية تلجأ الى الحروب لتدمير هائل لقوى الانتاج من أجل الشروع بعد انتهاء هذه الحروب في عملية اعادة البناء، (لنتذكر سرير بروكست الوحشي) وبذلك تضمن البرجوازية عودة الروح مؤقتا لنمط الانتاج الرأسمالي خلال هذه المرحلة الاخيرة.
ب – التسلح:
منذ بداية القرن العشرين أصبحت صناعة الاسلحة تشكل مكونا هيكليا في استمرارية نمط الانتاج الرأسمالي، حيث تنفق الملايير من الدولارات المتأتية خاصة من الضرائب لإنتاج الاسلحة في جو مشحون بالتهديد بالحرب. ونظرا لان انتاج الاسلحة التي تعتبر منتجات، عديمة الانتاجية، ويتم تخزينها وبيعها، لا يمكن ان تتجاوز سقفا معينا، فان أي توقف في انتاج الاسلحة الا ويهدد نمط الانتاج الرأسمالي من جديد، مما يدفع البرجوازية الى التسبب في الحروب من أجل تدمير هذه الاسلحة واعادة انتاجها من جديد.
ج – المديونية:
شكلت المديونية منذ الحرب العالمية الثانية احدى وسائل اختلاق اسواق افتراضية لامتصاص الانتاج الزائد، وبالتالي التخفيف من الازمة الهيكلية لنمط الانتاج الرأسمالي. لكن المديونية بطبيعتها تعمق أزمة نمط الانتاج الرأسمالي ولا تخففها، فمختلف القروض الممنوحة لبلدان العالم الثالث خلال عقدي الستينات والسبعينات جعلت هذه الدول عاجزة تماما أواخر عقد السبعينات ومن بينها المغرب على سداد مستحقات المديونية بل وجعلتها غير قابلة لامتصاص الانتاج الزائد المتراكم باستمرار، وبالتالي الدخول في ازمة اقتصادية عالمية من الكساد والتضخم.
د – التخدير الايديولوجي:
ضلت البرجوازية المهيمنة منذ بداية القرن العشرين تعمل على ممارسة التخدير الايديولوجي في مواجهة الطبقة العاملة، للحفاض على خنوعها سواء من خلال اعتماد الدولة البرجوازية على هيمنتها للتدخل في تشكيل الاحزاب السياسية اليمينية واليسراوية والاسلاموية، كما يحدث في بلادنا، أو عن طريق فرض بيروقراطياتها داخل المركزيات النقابية، التي تعمل على جر الطبقة العاملة دائما الى نوع من التوافق والتعاون الطبقي في انكار تام لمصالحها. وعبر هذا التخدير الايديولوجي تتمكن البرجوازية من جر البروليتارية الى حروبها الاجرامية والى دفعها للقبول بمختلف الاجراءات التي يتم عبرها نقل تكاليف الازمة الاقتصادية والاجتماعية على كاهلها.
2 - استراتيجيات كل من القوى الاصلاحية والقوى الثورية في مواجهة الازمة
كما اشرنا اعلاه تتمكن الدولة البرجوازية من الهيمنة عبر عدة آليات على الاحزاب السياسية بمختلف اتجاهاتها، عن طريق الاغراء والتمويل والاكراه، ومن بين هذه القوى التي أصبحت تشكل آلية برجوازية بامتياز عددا من الاحزاب المسماة باليسارية أو بالشيوعية أو بالماركسية حتى، حيث تستعمل الخطاب اليساري والاشتراكي بل والشيوعي لإغراء الطبقة العاملة بأنها تعمل على خدمتها وليس على استخدامها، لكنها في الواقع تصبح اداة في يد التحالف البرجوازي الحاكم لخداع الطبقة العاملة، وجرها الى نوع من التعاون الطبقي والحفاض على استمرارية نمط الانتاج الرأسمالي.
أما بالنسبة للقوى اليسارية الماركسية اللينينية الثورية، فغالبا ما يتم محاربتها من طرف مختلف الفصائل البرجوازية بما فيها اليسارية. ورغم كون الخطاب اليساري الثوري له جاذبيته وسط الطبقة العاملة الا ان ضعف البنيات التحتية لهذه القوى، وصعوبة تواصلها الدائم مع الطبقة العاملة، اضافة الى تعرضها في الغالب الى قمع النظام البرجوازي القائم، فيتعذر عليها تبليغ رسالتها، والمساهمة في رفع مستوى الوعي الطبقي في افق المواجهة الطبقية الحاسمة.
ومن خلال دراسة الخطوط العريضة لبرامج عدد من القوى الماركسية اللينينية الثورية يتبين توافقها على تحديد نقاط مركزية تميزها عن أحزاب المعسكر البرجوازي:
1 - الاعتراف بالانحطاط الكلي لنمط الانتاج الرأسمالي؛
2 - الاعتراف بضرورة بناء الحزب البروليتاري، ذو البعد المحلي والعالمي؛
3 - الاعتراف بالطبقة العاملة كأداة وموضوع للثورة؛
4 - الاعتراف بان النظام السياسي الانتقالي نحو المجتمع الشيوعي الخالي من الطبقات سيتم على أساس دكتاتورية البروليتارية؛
5 - رفض النقابات البرجوازية بشكلها الحالي كواجهات للصراع السياسي (والعمل على تثويرها أو النضال من خارجها)؛
6 - رفض البرلمانية البرجوازية وكل معارضة انتخابوية، لأنها وسيلة لإسباغ الشرعية على دكتاتورية البرجوازية فقط وبالتالي ضمان استمرار النظام القائم؛
7 - رفض كل نوع من التحالف مع أي فصيل برجوازي أو اصلاحي أو تحريفي؛
8 - رفض ما يسمى بالجبهات الشعبية، وبحركات التحرر الوطني البرجوازية؛
9 - الاعتراف بأن الثورة الشيوعية سيكون لها طابع محلي وعالمي في نفس الوقت، مما يتطلب التنسيق الاممي مع القوى الماركسية اللينينية في مختلف الدول؛
10 - العمل على نشر الوعي الطبقي وسط الطبقة العاملة محليا وعالميا، لكسب الاغلبية الحاسمة لقيادة الثورة البروليتاريا؛
11 - الاعتراف بأن الاشتراكية لن تنجح الا بإلغاء العلاقات الرأسمالية لنمط الانتاج الرأسمالي (الانتاج، الملكية الخاصة، العمل المأجور، قانون القيمة الرأسمالي).
بدلا من الخاتمة
من الصعب جدا على أي باحث لا يحمل خلفية سياسية أو ايديولوجية ان يصدر حكما على مكانة كارل ماركس والماركسية في التاريخ. وكل الأحكام التي تتناهى الى أسماعنا يوميا ويقف وراءها اشخاصا من مختلف الانتماءات، لن توفي مكانة كارل ماركس حقها، لذلك فإن أفضل وسيلة للاقتراب من منجزات المفكر والفيلسوف والعالم والسياسي كارل ماركس، هو الانكباب على قراءة أعماله وتجاربه وما أفرزته لاحقا.
ان ما تم تقديمه من خلال هذه الصفحات هو مجرد تحليق عابر فوق اهم منعرجات فكر كارل ماركس وأطروحاته الاساسية، التي لا زالت تشكل شبحا متواصلا مهددا للبرجوازية العالمية المهيمنة بدون شريك، حيث بلغ نمط الانتاج الرأسمالي نهايته التاريخية، لذلك نلمس ان هناك حرب ضروس تخوضها كافة الحكومات البرجوازية على هذا الفكر، بحيث تمنعه او تحاول افراغ محتوى فلسفته في جامعاتها. كما تسلط مثقفيها المثاليين او اللاهوتيين أو شيوعيها المزورين، لمحاولة تفنيد المادية الديالكتيكية على الخصوص أو فصل الفكر الماركسي الاقتصادي عن فكره السياسي والفلسفي والسوسيولوجي.
ورغم هذه الحرب الضروس على الفكر الماركسي، وبمناسبة حلول الالفية الثالثة نظم راديو 4 الاخباري ل بي بي سي خلال شهر شتنبر 1999، استطلاعا للرأي عن طريق طرح السؤال عن من هو أعظم مفكر خلال الألف سنة الماضية، فكانت النتيجة هي اختيار كارل ماركس المفكر الثوري الألماني كأعظم مفكر خلال الألف سنة الماضية متقدما بكثير عن البيرت انشتاين الذي احتل الصف الثاني وعن نيوتن الذي احتل الصف الثالث وعن داروين الذي احتل الصف الرابع. أنظر الرابط التالي:
http://news.bbc.co.uk/2/hi/461545.stm
وفي سنة 2005، نظمت نفس الجهة استطلاعا مشابها للرأي شمل 30,000 مصوت حول تحديد من هو أعظم مفكر في كافة العصور، فجاءت النتيجة مرة أخرى لصالح كارل ماركس ب 28 % بعيدا عن محتل الصف الثاني وهو الفيلسوف المثالي دافيد هيوم 12,67 % . أنظر الرابط:
http://www.bbc.co.uk/pressoffice/pressreleases/stories/2005/07_july/13/radio4.shtml
لكن الاقتصار على وصف كارل ماركس بالمفكر وبالفيلسوف فقط قد لا يكون منصفا للرجل، فقد سبق لكارل ماركس أن قرر في أطروحته الحادية عشرة حول نقد فيورباخ سنة 1845، "أن كل ما فعله الفلاسفة هو تفسير العالم، بينما الأهم هو تغييره"، وقد طبع هذا القرار حياة كارل ماركس الفكرية والعملية اللاحقة والتي شملت ميادين التاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد السياسي والممارسة الثورية الميدانية من أجل تغيير البنية الطبقية القائمة وقد تعرض بسبب ذلك الى الطرد من المانيا ومن فرنسا ومن بلجيكا قبل ان يستقر ببريطانيا التي ظل بها الى أن مات في 14 مارس 1883، لذلك يمكن اعتبار كارل ماركس أكثر من مفكر ومن فيلسوف ومن عالم.
للاطلاع على الصور والأشكال البيانية للورقة، الرجاء تنزيل الورقة الاصلية من الرابط التالي:
http://www.mediafire.com/view/hbv6sfcyo3hs3h1/%D8%B9%D8%A8%D8%AF%20%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%20%D8%A3%D8%AF%D9%8A%D8%A8%20-%20%D9%83%D8%A7%D8%B1%D9%84%20%D9%85%D8%A7%D8%B1%D9%83%D8%B3.pdf
المراجع: 1 Mehring, Franz, Karl Marx, Histoir de sa vie, 1ère édition 1983, Edition Social, Page : 22-23. 2 ميخائيل باكونين (1814-1876 : كان ثوريا روسيا معروفا ومنظرا للاسلطوية الجمعوية. ولد في الامبراطورية الروسية لعائلة روسية من طبقة النبلاء وأمضى شبابه كضابط صغير في الجيش الإمبراطوري الروسي ثم انسحب من الخدمة العسكرية في 1835. ارتاد مدرسة في موسكو لدراسة الفلسفة وبدأ يرتاد حلقات راديكالية فتأثر كثيرا بألكسندر هيرزن. غادر باكونين روسيا في 1842 لدريسدن وفيما بعد باريس حيث التقى جورج ساند وبيير جوزيف برودون وكارل ماركس. نقل من فرنسا بسبب انتقاداته اللاذعة ضد هيمنة روسيا على بولندا. في 1849 قبض عليه في ديرسدن بسبب مشاركته في التمرد التشيكي في 1848. أرسل إلى روسيا فسجن في قلعة بيتر وباول في سانت بطرسبرغ. بقي هناك حتى 1857 حين تم نفيه إلى معسكر عمل في سيبيريا. هرب عبر اليابان والولايات المتحدة الأمريكية ليتوقف في لندن لوقت قصير حيث عمل مع هيرزن في الصحيفة الراديكالية كولوكول (الجرس). في 1863 تركها لينضم إلى التمرد في بولندا لكنه فشل وبقي في سويسرا وإيطاليا لبعض الوقت. رغم سوابقه الإجرامية لاقى باكونين نجاحا وشهرة ضمن الشباب الراديكالي الروسي والأوروبي أيضا. في 1870 تورط في التمرد في ليون وتنبأ بكومونة باريس. في 1868 انضم باكونين الجمعية العمالية الدولية وهي فيدرالية راديكالية لاتحاد نقابة العمال بفروع في أغلب أرجاء أوروبا. سيطر على مؤتمر 1872 نزاع بين فريق ماركس الذي أيد الدخول في الانتخابات البرلمانية وفريق باكونين المعارض لذلك. خسر فريق باكونين التصويت وعند انتهاء المؤتمر طرد باكونين وعدة أعضاء من فريقه بعد اتهامهم بتأسيس منظمة سرية داخل المنظمة الرئيسية. أصر اللاسلطويون على أن المؤتمر مزور وقاموا بإنشاء مؤتمر خاص بهم في سانت ايمير بسويسرا في 1872. بقي باكونين نشيطا جدا في المؤتمر اللاسلطوي والحركة الأوروبية الاشتراكية. من 1870 حتى 1876 كتب عدة مؤلفات مشهورة كالسلطوية واللاسطوية والله والدولة. رغم صحته المتدهورة حاول المشاركة بالتمرد ببلونيا لكنه أجبر علىالعودة إلى سويسرا متنكرا واستقر في لوغانو. بقي نشيطا في التيار الراديكالي الأوروبي حتى عانى من مشاكل صحية تسببت له في النقل إلى المستشفى في بيرن حيث مات في 1876. يذكر باكونين كشخصية رئيسية في تاريخ اللاسلطوية ومعارضا للماركسية وخصوصا فكرة ماركس حول ديكتاتورية البروليتاريا. أثر في عدة مفكرين في العصر الحديث كنعوم تشومسكي. 3 Lénine, Biographie de Karl Marx, page 3 4 Mehring, Franz, Karl Marx, Histoir de sa vie, 1ère édition 1983, Edition Social, Page : 224 et suivant. 5 Marx et Engels, L Idéologie Allemande, Edition Social, 1968, page 63 et suivant. 6 KARL MARX, CONTRIBUTION À-;- LA CRITIQUE DE L É-;-CONOMIE POLITIQUE. Traduit de l allemand par Maurice Husson et Gilbert Badia. Paris : É-;-ditions sociales, 1972, page : 18 et suivant 7 Karl Marx et Friedrich Engels (1845), La sainte famille ou Critique de la critique critique. page : 154 لقد شكل اعدام الفيلسوف اليوناني سقراط بالسم بتهمة افساد الشباب أبرز مثال على عدم تساهل الطبقات الحاكمة مع الفلسفات المتحررة. 8 POLITZER, Georges, Principes élémentaires de philosophie, Editions Sociales, 1936, page : 15. 9 POLITZER, Georges, Principes élémentaires de philosophie, Editions Sociales, 1936, page : 15 et suivant. 10 Friedrich Engels : Ludwig Feuerbach, p. 18. 11 Idem, p. 18. 12 Friedrich Engels : Ludwig Feuerbach, p. 15. 13 Lénine : Matérialisme et empiriocriticisme, p. 250 14 (Friedrich Engels : Anti-Dühring, Editions sociales, 1956, P. 84. 15 Lénine : ouvrage cité, p. 52. 6 Friedrich Engels : Anti-Dühring, p. 92 7 Lénine : ouvrage cité, p. 14. 18 مصطلح المادية الديالكتيكية dialectical materialism لم يستخدم من قبل ماركس أول من استعمل المصطلح هو جوزيف ديتزغن dialectical materialism الذي كان على اتصال بكارل ماركس ونقله إلى الاشتراكية الروسية جورجي بليخانوف Georgi Plekhanov بينما استخدم انجلز مصطلح materialist dialectic أي الديالكتيك المادي وليس المادية الديالكتيكية في كتابه : ديالكتيك الطبيعة Dialectics of Nature الذي اصدره بعد وفاة ماركس عام 1888 . للمزيد راجع كتابات بليخانوف 19 Homo sapiens 20 انجلز، فردريك ، ديالكتيك الطبيعة، ترجمة د. توفيق سلوم، دار الفرابي، ص: 82. 21 ماوتسيتونغ، في التناقض، المختارات، المجلد الأول، دار النشر باللغات الاجنبية، بيكين 1968، الصفحة 495 - 496 22 انجلز، فردريك ، ديالكتيك الطبيعة، ترجمة د. توفيق سلوم، دار الفرابي، ص 79. 23 انجلز، فردريك ، ضد دوهرينغ. ترجمة محمد الجندي، دار التقدم، 1984، الصفحة: 146. 24 Staline(J), Le matérialisme dialectique et le matérialisme historique - 1938 , É-;-ditions de l’É-;-vidence — 2007 page : 3. 25 Politzer (G), Principes fondamentaux de philosophie, Edition Sociale, 1954, page : 42 26 Staline (J), Anarchisme ou socialisme ?, Œuvres, t. I, Editions Sociales en 1953, page : 251 et 252. 27 Staline (J), Histoire du Parti Communiste Bolchevik de l URSS, 1938, page : 132 et suivant 28 Engels (F), Dialectique de la nature, 1883, Paris : É-;-ditions sociales, 1968, page -;- 29 29 Staline(J), Le matérialisme dialectique et le matérialisme historique - 1938 , É-;-ditions de l’É-;-vidence — 2007 page : 5 30 Ibid 31 Ibid 32 Sewell, Rob, 2002, What is dialectical materialism? - A study guide with questions, extracts and suggested reading. 33 Friedrich Engels, Anti-Duhring , (1878), Edition Social, 1971 , page : 78 34 KARL MARX, CONTRIBUTION À-;- LA CRITIQUE DE L É-;-CONOMIE POLITIQUE. Traduit de l allemand par Maurice Husson et Gilbert Badia. Paris : É-;-ditions sociales, 1972, page : 18. 35 Hegel, Frédérique, La Phénoménologie de l’Esprit, 1807, Traduction de JEAN HYPPOLITE, page 184 36 Friedrich Engels, DIALECTIQUE DE LA NATURE, 1883, Paris : É-;-ditions sociales, Traduit de l’Allemand par É-;-mile Bottigelli, 1968, page : 134 et suivant. 37 G. W. F. HEGEL, La philosophie de l’histoire, Traduction française de Myriam Bienenstock, Paris PUF, Page : 559. 38 Friedrich Engels, Ludwig Feuerbach et la fin de la philosophie classique allemande, Editions du Progrès, Moscou, 1970, page : 35 39 Marx et Engels, Contribution à la critique de l’économie politique, op cité, page : 153 40 Marx, Grundrisse, “Le capital : marché mondial et système des besoins 41 Engels, Anti-Dühring, partie II, “Objet et méthode 42 « la raison ultime de toutes les crises réelles est toujours la pauvreté et la consommation restreinte des masses ». Le Capital, Volume III, chapitre 30, Ed. La Pléiade, Tome 2, chapitre XVII, page 1206.
#عبد_السلام_أديب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التنديد بمسؤولية المملكة العربية السعودية عن عدد من الانتهاك
...
-
في ذكرى تأسيس الرابطة الدولية للعمال 28 شتنبر 1864
-
2016 سنة الاحتقان أم سنة تنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي
-
رسالة بنكيران التقشفية لميزانية 2016
-
الميلودي موخاريق الامين العام للاتحاد المغربي للشغل يسيئ لمب
...
-
الشباب والاشتراكية
-
ازمة الامبريالية وتفكك الدولة الوطنية
-
الحصيلة الحكومية
-
المسألة النقابية في المغرب والنضال العمالي
-
اشكالية مطلب الزيادة في أجور العمال
-
انذار بالكارثة ما العمل في مواجهة التدمير الارادي لوحدة الان
...
-
الارهاب كمؤشر على انحطاط نمط الانتاج الرأسمالي
-
ذكرى مرور مائة سنة على جريمة ابادة العنصر البشري في حق الشعب
...
-
ماذا بعد اضراب 29 اكتوبر؟
-
دلالات التناقض السياسي في المغرب في مواجهة منظومة حقوق الانس
...
-
معضلة البطالة و السياسة التشغيلية للحكومة
-
البطالة افراز مباشر للسياسات الحكومية البرجوازية
-
حصيلة سنة 2014 بالمغرب اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا
-
سياسة الميزانية في ظل القانون المالي لسنة 2015
-
مأزق الأداء الحكومي في المغرب سنة 2014
المزيد.....
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
-
عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و
...
-
في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در
...
-
حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
-
تركيا تعزل عمدة مدينتين مواليتين للأكراد بتهمة صلتهما بحزب ا
...
-
تيسير خالد : سلطات الاحتلال لم تمارس الاعتقال الإداري بحق ال
...
-
الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|