|
إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 2
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 4958 - 2015 / 10 / 17 - 14:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مناقشات: أولا: بناء على ما تشير إليه دلالة الإصلاح الديني، فإن المتبادر إلى الذهن في درك ظاهر الألفاظ، هو إصلاح الدين بالدين، لا الإصلاح بالدين. وكأن الأول باق على أصل خلقته، والثاني طرأت عليه تغييرات، وتعديلات، فصيرته قابلا للفساد المستوجب للإصلاح. فهل هذا صحيح في الاعتبار.؟ لو قلنا بأن الدين الذي هو مفهوم كلي، يتضمن المراتب التي ذكرناها في المقال الأول قابل للتغير، والتبدل، فإنه لن يكون بقيمة تلك الصورة الفطرية للعلاقة الروحية القائمة فيما بين العبد، وربه، لأنه لا يمكن لشيء يقبل الفساد في عينه، أن يكون صلة إلى ما ذاته غاية في الجمال، والكمال. إذ لو كان الدين يقبل في ذاته هذا التغير الذي نزعم حدوثه، لما كان الدين كله من الله. ومن هنا، فإن المُشكَل في القضية، هو أن نقول: إصلاح الدين بالدين، لما يقتضيه ذلك من التجزئة لذات الشيء الذي لا يقبل الأجزاء، وهي متنافية مع كمال الكل وتمامه. وهذا أولا، وثانيا، لأن ما يطرأ عليه التغيير فيه، قد ينفصل عما لم يطرأ عليه ذلك، فيكون الأول ناقصا في بنيته، والثاني تابعا له في صفته. وهذا متعذر في شيء وضع كاملا في ذاته، ووافيا في تمامه. لأنه لا يمكن لناقص أن يكون علاجا في ناقص، ولا لقابل للنقص أن يوصف بكمال ذاته. وإلا، اضطررنا إلى مسوغات تسوغ لنا ما ندعيه من إصلاح الدين بالدين. وحينئذ سنتيه بين الآراء التي لا يمكن لها أن تكون شفاء لعقدة السؤال عندنا، ولا وقاء يحمينا من سبة اتهام الأديان بعلل النقص، وضروريات النقض. لأن الإصلاح لا ينطلق فعله إلا من موصوف بالصلاح، ولا يقوم به إلا المصلح القادر على الترميم، والاستعادة، والإحياء. وربما قد نسمي هذا المصلح بالمجدد للدين كما سيأتي معنا، أو ربما نسميه بغير ذلك من الأسماء التي تدل على فعل الإصلاح فيما تضمن الفساد بإرادة المفسدين. لكن كيف تتم عملية التحول من الفاسد إلى الصالح، لكي نعيد تشكله مرة أخرى في الصفة الحقيقية له.؟ إننا إذا نظرنا إلى الدين بهذا الفهم القابل لنقصه، ونقضه، فإننا سنجعله متقلبا مع ما يعتري الإنسان من قوة، وضعف، وجمود، وحركة، وبقاء، وفناء. وذلك مما يجوز لنا قبوله في الماديات التي تتغير بحركة الزمان، والمكان. لكن ما صفته مأخوذة من الروح الخالدة، فلا يمكن فيه ذلك التغير، لأن جوهره لا تخالطه أحوال الزوال، والفناء. وكل ما انتسب إليه في علو مرتبته، فهو غير قابل للتبدل في ذاته، ولا للتحول من عينه. لأن الأشياء المتحركة بالحركات، هي التي تحتوي على قابلية التحولات. والدين ليس مصدره من ذلك، فهو من عالم البقاء الذي لا يخشى الفناء. وكل ما كان حقيقة أزلية في العلاقة مع الله، لا يعتريه التغير في جوهر ذاته، وإنما فيما له علاقة بالحدوث الذي هو محل السعي والكد نحو الكمال. ومن هنا، جاز لنا أن نتساءل: إذا كان للدين مقام في هندسة العقيدة، وهي الرابطة الأفقية فيما بيننا وبين الله، وفي صور العبادة، وهي تصور كلي مبني على توحيد الله في العلاقة مع الذات المكلفة. وفي رسوم المعاملات، والسلوكيات، وهي معايير كلية مرتبطة في الأصل بمدبر الأكوان، وفي الفرع بالإنسان المتحول بين مداري الزمان، والمكان، والمتغير بما يطرأ عليه من طوارئ تحدد علاقته مع الغير سلبا، أو إيجابا، فما الذي نعنيه بمفهوم الإصلاح الديني.؟ هل نعني به إصلاح الدين بالدين، وهو المعنى المراد في قصدية كثير من الخطابات المنادية بالإصلاح الديني اجترارا، أو اغترارا، أو إعراضا.؟ (لأن قليلا من الفئات، هي التي استعملت هذه الألفاظ، وقصدت بها معنى إصلاح ما يطرأ على المكلفين في علاقتهم بكليات الدين، وقواعده، ومقاصده.) أم نريد به معنى آخر.؟ إن المنطلق الذي نتحرك بمفاهيمه، يمنعنا من اعتقاد طرو الفساد على الدين في حقيقته، لأن صفة الصلاح له ذاتية، وكل ما كانت صفته منه، فلا تتقوم ذاتها إلا بوجودها فيه، لكن ما يمكن أن يطرأ عليه الفساد في طبيعته، هو ما اتصل به في جانب علاقته بالبشري، لا بأصله اللاهوتي الذي يربطه بالروح الأزلية. لعلنا نقصد بهذا الاستثناء، ما نراه فيه قابلا لإصلاح أمره، أو شأنه، لاسيما ما ارتبطت منه مشخصاته بعالم الحدوث المتغير الصلات. وذلك ما درج عليه بعض المتمرسين في علم الاصطلاح. ولذا قالوا: إصلاح الشأن الديني، أو إصلاح الحقل الديني. وكانوا بذلك أدق من غيرهم في الملاحظة، وأوسع في الدلالة على المراد المقصود بالحقيقة. لأن المعنى الذي يوحي إليه غموض المفهوم، أي الإصلاح الديني، لا يستقيم مع ما يقوم به المُصلح من دور في إعادة صياغة المفاهيم بين حطام العقول العليلة، وتشكيل السلوك البشري في إطار منظومة أخلاقية، لا يتنافى فيها ما هو إلهي بما هو بشري، وما هو ذاتي بما هو عرضي، وما هو مضمون بما هو شكلي، وما هو طبعي بما هو مكتسب. وحقا، فإن استمرار طبيعة البشر في الكون، لا يتحقق إلا في ظل صراع قائم بين الرغبات المتنازعة حول البقاء، والمتناهية إلى الفناء. وهو في الغالب غير متكافئ الاستعدادات، ولا متناظر الاتجاهات. وذلك ما يقتضي أن يستحوذ ذا على ذاك، ويستبد ذا بذاك، لكي يؤسس لسيطرة مفاهيمه، وقيمه، وأخلاقه، ويبني كون عالم حياته بما تقتضيه انفعالاته، وغرائزه، وعواطفه. ومن هنا، فإننا قصدنا إصلاح الشأن الديني، فقد أدرجنا لفظا آخر ضمن تركيب المعنى، فيكون مفهوم الشأن هو الرابط الذي يصل بين الدين الذي نعني به صورته الحقيقية بجميع أبعادها الميتافيزيقية، والواقعية، وبين الإصلاح الذي نعني به ما يقوم به المصلح من رد الصفات إلى الموصوف بها في الجبلة، وإعادة الإنسان إلى حقه الروحي والطبعي والكوني الذي يضمن له حريته، وكرامته، وبشريته. فيكون على هذا الفهم معنى الإصلاح الديني: إصلاح الشأن الديني، أي إصلاح شأن ما يرتبط بمفاهيم الإنسان في علاقته مع الله، والوجود، والكون، والطبيعة، والحياة. أو إصلاح شأن حياته في امتداد علاقتها إلى مكونات ذاته الروحية، وإلى مركبات غيره في كينونته الاجتماعية. وقد يقابل معنى الإصلاح لفظ التجديد، وإن اختلفا من حيث الدلالة الوضعية. إلا أنه ضُمن معناه، وحل محله، وأعطي صفاته. فكان التجديد بذلك إصلاحا لما فسدت علاقته مع الروح، والمادة، أو لما اختلت مفاهيمه وموازينه وممارساته في سيرة الإنسان المحصور تدينه ضمن قاعدة عقدية معينة. لأن التجديد للفهم والممارسة قائم بما يقوم عليه من كشف للجوانب المضيئة في تاريخ إلهية البشرية، وبشرية الإلهية. إلا أننا وإن قبلنا ذلك التقارب المعنوي بين الإصلاح، والتجديد، فإن تضمين لفظ التجديد لمعنى الإصلاح، تعترضه مشكلات أخرى، سنذكرها في مقامها. وعلى الرغم مما تثيره كلمة الشأن من مشكلات معرفية، فإن دلالته تدل على معنى له مصاديق في الحقيقة المثالية، والواقعية. لأننا نعني بالشأن الديني، كل ما يقوم عليه الدين من جوهر، وعرض. لكن ما هو قائم به في الجوهر، لا يطرأ عليه الفساد. لكوننا نعتبر الدين مشتملا بالأصالة على تلك الصلة الروحية التي تربط الإنسان بالله، وبعالم الروح، والغيب. وهي موجودة بالجبلة في الذات البشرية. وأما ما هو قائم به في العرض سببا، أو علة، وتابع له في متعلقه بالتكليف المقتضي للتسليم، والخضوع، فهو تلك العلاقة التي تربطه بالآخر في سائر مكونات أحواله المتغيرة بما يطرأ عليها من ضعف، أو قوة. وهنا يحصل التغير في بعض المفاهيم الموجهة للعقيدة، أو العبادة، أو المعاملة، أو الأخلاق، أو السلوك، فيحدث بذلك الفساد في أسباب نتائجها المقيدة بقيود تحقق الالتزام بالنفع الدنيوي، أو الأخروي. وحينئذ يتطلب الحكم الإصلاح لشأنها، والعودة بها إلى حقيقتها، والرجوع بها إلى مقتضياتها في الفرد، والجماعة. ثانيا: إن مفهوم الإصلاح الديني يضعها أمام تصورات مختلفة، وتصديقات متعددة، ويدفع بنا إلى تأويلات تتنوع مشاربها، وتخريجات تتعاند مسالكها. ولكن يمكن لنا أن نلخص نتائجها في سبيلين: الأول: إن الإصلاح الديني، يعني أن نتصور أولا كون الدين صالحا للتطبيق بما في عمقه من مفاهيم، ومبادئ، وأخلاق. وذلك ما يقتضيه كلام من يقول في الرد على متهمي تجربة الدين: الدين صالح لكل زمان، ومكان، ويعني به جهوزيته للتنزيل على كل حادث، وواقع. وهذا الملحظ على ما فيه من ردة فعل عند من قارن بين الدين في ماضيه، وفي حاضره، فخلص إلى وجود خلل في سياقات تجربته. فانحاز إما إلى الدفاع، وإما إلى الهدم، فإنه لا يستقل بالقول به توجه دون توجه. ومن هنا، نتصور الدين في المرحلة الثانية، وقد طرأ عليه تغيير وتحوير بدل صفته المرتبطة بمركب علاقاته الذاتية، والعرضية، فجعله فاسدا في ذاته، وذلك ما يعنيه كثير من التنويريين الذين يتشدقون بالدعوة إلى الإصلاح الديني، وهم ينظرون بعين غير حادة النظر إلى ما طرأ على ما هو متحرك في علاقاته مع مكونات الحياة البشرية، فحكموا بحكم الفساد على ماهية كليته، من غير أن يميزوا بين ما هو ثابت فيه، وما هو متغير. أو قابلا للفساد في علاقاته الخارجية، والعرضية، وذلك ما يعنيه كثير ممن تحدث عن الإصلاح بمفهوم العودة إلى سابق تجربته، سواء في ذلك من قال بالعودة إلى حرفية نصه، أو بالعودة إلى سياقه. وفي هذه المرحلة يستدعينا الموقف إلى نتصور مرحلة ثالثة، وهي مرحلة الإصلاح التي يعنيها المتحدثون عن فتح باب الاجتهاد من غير تحديد لمداره، ومداه، أو المتحدثون عن عودة الإمبراطورية الإسلامية. (أي الدولة الدينية.) أو المتحدثون عن أنسنة الدين، وحداثته. وهذه المراحل الثلاث، هي مقامات الإصلاح عند هذه الفئة المختلفة المقدمات، والنتائج، لأنها انطلقت من الدين الصالح إلى رؤية الدين الفاسد، ثم خلصت إلى ضرورة الإصلاح. وهذه الفئة نظرت إلى الإصلاح بعين الضرورة، فحاولت أن تستجلي معالمه، وتستظهر ملامحه. فكان منها من دافع عن الدين، وكان منها من رفضه. ويقابل هذه النوع فئة أخرى، ترى أولى المراحل في صلاح الدين بماهيته الجاهزة للبقاء على صفتها بين كل مراحل وجوده التكويني، والتشريعي. لأن نقاء مورده، وصفاء مصدره، لا يحدث في أصالة ماهيته طارئ يؤدي إلى التبديل، أو التحويل. وإن اختلفت التجربة، وتعدد السياق. وثاني هذه المراحل، هي الإنسان الصالح، لأنهم اعتبروا الإنسان في جوهر ذاتيته الروحية معنى صالحا، وخلقا سويا، ولكنه في ارتباطه بمادية جسده قابل للتأثر بما يحدث له من عوامل تضعفه، أو تقويه. ولذا لم يتعارض عندهم أنه مخلوق في صورة الجمال، والكمال، لكونه وجد على صورة الإله، ولكنه في الوقت نفسه يتضمن في خصائصه البشرية ما يصيره ضعيفا، وعجولا، وهلوعا، ومنوعا... وثالث هذه المراحل، هي كونه فاسدا بما وقع عليه من مؤثرات بدلت آثار حركته التكليفية في ذاته، وفي خارجه. ولهذا لم تجعل هذه الفئة الفساد أصلا فيه، ولا ملازما له، بل نظرت إلى ما امتزج في عمقه من دليل الروح، ودليل المادة، وحين وجدت لسلطان ماديته سيطرة على هوية روحيته، حكمت عليه بالفساد من هذه الحيثية. ومن هنا، جاءت المرحلة الرابعة، وهو مرحلة الإصلاح، وهي تعني إصلاح الخلل الحاصل في مكونات الإدراك لحقيقة الأشياء لدى الإنسان، والعودة به إلى سابق عهده من الاستواء الخَلقي، والاعتدال الخُلقي. فأي التصورين أولى بالقبول.؟ مناقشة التصورين إن التصور الأول في بعض مظاهره يعني إلحاق الفساد بجوهر الدين. وعلى هذا يكون الإصلاح لحقيقة الدين. بينما التصور الثاني يعود بالفساد إلى صيرورة الإنسان. وعلى هذا يكون الإصلاح لطبيعة الإنسان. ومن هنا، فإننا إذا عنينا بالإصلاح المعنى الأول، فلا محالة سنقع في بؤرة مُشكَلات تؤدي بنا إلى الخلل في فهم معنى الدين الذي نقصده بالإصلاح، وما المراد بإصلاحه.؟ وما هي وسائل وغايات إصلاحه.؟ لأن الإصلاح الذي ينطلق من الدين إلى الدين، إما أن يكون حاجة إنسانية فرضتها طبيعة الحاضر في صياغة السياقات التاريخية الحالية، وألزمتها بعض العوائق التي أفسدت صورة العلاقة بين المؤسسة الدينية، وعموم العلاقات الاجتماعية. وذلك ما نجد مقدماته في رسائل لوثر التي سُميت ثورتها على الكنيسة بالحركة الإصلاحية. وإما أن يكون مجاراة للسياق الذي فرضته العلاقة المتشنجة فيما بين الشرق، والغرب. لاسيما في لحظة استقوى الغرب بين مخاضها بنظمه الديمقراطية، والعلمانية، وكان من لازم الحدث أن ننفض الغبار عن كراريس التاريخ، لكي نستجلي تلك الصورة الناصعة للدين. وهذا مما لن يتم إلا بإصلاح ما كسد وسكن في العقول من تراكم التجارب المنحطة، والمتخلفة، من أجل تنمية مواهب الابتكار، والإبداع، وإحياء الرغبة في الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة، والمعرفة. وذلك ما قام به جمال الدين الأفغاني، ومن سار على دربه من تلامذته. وإما أن يكون هدما ونسفا للدين، والتراث، والتاريخ، والحضارة، من أجل بناء سياق مغترب لا علاقة له بأوطاننا العربية، ولا رابطة له تربطه بمحركات ذواتنا نحو التقدم، والازدهار. وذلك ما قام به دعاة التغريب في عالمنا الإسلامي. ومن هنا، فإن الإصلاح المنطلق من الدين. إما أن يكون رزينا في خطابه، وثقيلا في بنائه، وإما أن يكون هزيلا في طرحه، ورديئا في غايته. لأن الإصلاح عند من رأى جهوزية الدين للتطبيق في الزمان، والمكان، لا يقصد به إلا التجديد للعلاقة البشرية مع تعاليم الأديان، لا هدم الأنموذج الإلهي المثالي للدين، أو نسف تلك العلاقة المنظومة لدى المعتقد بعقيدة من الدين، والتراث، والتاريخ. فالإصلاح أو التجديد عند الأول، لا يقصد به تجديد ذات الدين، وإنما يعني تجديد صلة الناس به، وتحريرها من القيود المادية التي أثقلت كاهل الإنسان، وأتعبته، وجعلته فاقدا لروحيته بين سعار الفراغ، والضياع. ولكنه في دعوى الثاني لا يقصد إلا هدم كل القواعد والكليات والأصول والمبادئ التي تعتمد عليها التجربة الدينية، إما لفسادها في واقع متغير، وإما لعدم قدرتها على مسايرة الحاضر المستحر الانفعالات، والنزاعات. ولذا، فإن إصلاح الدين، إذا قصد به تجديد مفاهيمه في علاقة الإنسان بعقيدته، وقيم دينه، فإن ذلك مقبول في الصورة، وإن كنا نرى هذا النوع غير محدود الأفق، والمدى. لأن التجديد إذا كان لصورة القديم الذي خالطته علل عطلت مجاله عن غرس قيم الحاضر، فما هو القديم الذي يجب أن يرد.؟ وما هو الجديد الذي يجوز لنا أن نضيفه.؟ وإذا كان لصورة الحديث الذي شابته فلسفات حددت مصير الإنسان في الحاجة، والمنفعة، فما الذي يجب أن نقبله.؟ وما الذي يجب علينا أن نرفضه.؟ إن الشكل الهندسي الذي نريد أن نضع في قالبه مفهوم الإصلاح، أو التجديد، تعتريه مجموعة من الأسئلة التي يلزمنا في لحظتنا الراهنة أن نجيب عنها، لكي نستظهر معنى الإرادة التي تدفعنا إلى البحث في عملية التجديد عن تقوية مجموعة من الأشياء التي لها علاقة بعنفوان عصرنا، ورابطة بحيوية تاريخنا. فما الذي نقصده بالتجديد.؟ هل نعني رفض القديم، وقبول الحديث بلا اعتبار لهويتنا، وخصوصيتنا.؟ أم نعني الوثوقية بالقديم، ورفض البدع التي طرأت على الدين، ولو لم تكن مندرجة فيه، وإنما ساوقت الإنسان في تجربة حياته المترعة بعاداته، وتقاليده.؟ أم ماذا نعني بالتجديد.؟ إن التجديد شيء مبهم في الدلالة كلفظ الإصلاح، لأن تجديد الدين شبيه بالإصلاح الديني، لكن ما يبدو لنا أنه يراد به تجديد مفاهيمه، وقناعاته، وسلوكياته. وذلك ما درجت عليه الكتب التي تحدثت عن تجديد الدين في سياقات معينة. ككتب القرضاوي التي كانت تؤسس لمفهوم غامض يقبل كونه المجدد، أو كون جماعته التي ينتمي إليها هي المجددة. لكن ما يشكل هنا، أن الدين صورة روحية، لا مادية، وقدرة ذاتية تتعالى بضرورتها على مفهوم الحاجة، والمصلحة. ولذا لن يكون التجديد مقبولا إلا إذا جددنا صورة المادي بالروحي، لا بالمادي، لعدم تقابل المرتبتين، ولكون التجربة الروحية أوثق رباطا من التجربة المادية، وحررنا صلة الإنسان بمفاهيم عقيدته من ديكتاتورية الوساطة الغاشمة، ورسخنا معايير أخلاقه في صناعة الحياة البشرية، وصياغة كونية المبادئ الإنسانية. ولكن ذلك يستوجب منا درك حقيقة هذا الدين المفعم بإرادة تتجاوز الانفعالات، والغرائز، والحسابات الضيقة، ووعي معنى تجربته في قوة بناء الحياة الفردية، والجماعية. وإلا، وقعنا في التأويلات التي لا تحتملها رسالته، وعالميته. بعد أن أوردنا بعض ما يتعلق بالتصور الأول، فإن التصور الثاني، قد احتفظ للدين على مكانته، واعتباره، وسواء فيه ما كان صورة إلهية متوجهة بين مدار الروح التي منها مكونات الذات، أو ما كان ما له ارتباط بمادية الإنسان، وعلاقاتها بالكون، والطبيعة، والحياة. ومن هنا، لم تجعل للمطلق لحظةً يدنو فيها عن سموه، ولا ينحط فيها عن علوه، بل اعتبرته كيانا كاملا، واعتبرت الإنسان معه كائنا كاملا في أصل خلقته، وطبيعته الوجودية. وهو في ذلك مزود الذات بطاقات واستعدادات لقبول الخير أصالة، والشر تبعا. ولذا كان هذا التصور جماليا، لأنه نظر بعين الجمال إلى الدين، وإلى الإنسان. لكن ما حدث من تغير في قصدية الخير لدى الإنسان، لم يكن إلا طارئا عليه، لأن وجوده بين وازعين، يتدافعان حياته، يفرض عليه وجوده بين خضم تجربة تمتحن بها إرادته، وتختبر فيها طاقته. لئلا يقع الثواب والعقاب على فراغ. بل لا بد له من سير بين مراحل الزمان، والمكان. وهو فيه يخب بين أمواج هادرة بأصوات الملائكية، وصراخ الشيطانية. ومن هنا، فإن الإنسان كما هو مخلوق من مجموعة مركبات، فإنه قد خلقت إلى جنبه خلائق أخرى، لا يستقيم نظام الكون إلا بها. فكما خلقت الملائكة، وهي مظهر الجمال للخير، فإنه قد خلقت معها الشياطين، وهي المظهر القبيح للشر. ولكل واحد دوره في استمرار الكون، واستقراره. لكن الإنسان بحكم تكليفه الإلهي بالخلافة، والعمارة، هو المؤهل لمعرفة كل ما يعيش إلى جنبه، وهو المزود بطاقة الاستيعاب، والتأثير، والتأثر. وهكذا، تجتال الإنسان موجات الشر في حال ضعفه، أو موجات الخير في حال قوته. وضعفه وقوته منه، لا من غيره. لأن الضعف الطبعي غير مأخوذ به الإنسانُ في كده، وكذلك القوة إذا لم تخرج عن حدود إرادة الخير، والنفع. لكن ما هو في حدود إرادته، واختياره، فهو متابَع فيه بما يقع عليه فعله، سواء في الخير، أو الشر. لأن الإنسان في حالة قوته، فيه ضعفه، وفي حالة خيره، فيه شره. وهكذا دواليك. ومن هنا، فإن تصور الإنسان بلا غيره من الكائنات، أو تصوره في فرادته بلا غيره من البشر، لن يستقيم النظر إليه، إلا إذا اعتبرنا الفرد أصلا، والجماعة فرعا. وحقا، إن تصور الإصلاح للإنسان مقبول، لأنه نسبي، وقابل للتأثر، والتغير، والتبدل. لكن تصور ذلك في الدين، يحتاج إلى دليل يفضي بنا إلى الإيقان بأنه قابل للفساد، وللإفساد به. ومن هنا، ماذا نعني بالإصلاح الديني.؟ أو بإصلاح الشأن الديني.؟
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 1
-
تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 8
-
تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 7
-
تجديد المسار... أي دور للمنبر 6
-
تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 5
-
تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ رقم 4
-
تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 3
-
كارثة مشعر منى... أي خيار في تفسير النكبة.؟
-
تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 1-2
-
جذور المعرفة الصوفية
-
حين تلتبس المفاهيم
-
ناسك في دير الحرف 1
-
ناسك في دير الحرف 2
-
مقالات في التصوف
-
حقيقة المجرم
-
مفهوم الحقيقة
-
إزالة الإبلاس عن معاني الإرجاس
-
أفكار مسوقة (الجزء السادس)
-
أفكار مسروقة (الجزء الخامس)
-
أفكار مسروقة الجزء الرابع
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|