|
العصافير لا تموت من الجليد القسم الثاني الفصل الأول
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 4952 - 2015 / 10 / 11 - 11:19
المحور:
الادب والفن
باريس في الربيع حديقة: أزهار تتفتق في الشمس، وأشجار باسقة، أشجار تتوله في الشمس، وأزهار ناضرة. يجتاح الأريج كل حي، وعلى الاستسلام لإرادة العطر يرغم أرواحنا، نحن الذين لا نمنح أي معنى لباريس دون نهر السين، أو أي معنى لنهر السين دون مدينة "السوار دو باري". أنفاسه أنفاس الفقراء الذين هم نحن المنتشرون في الرُّدُوبِ والأزقة، في الصباح الباكر، كل يوم. نهر السين صبرنا، وأملنا، وأمانينا التي سنحققها يومًا. كل هذا يتحقق فجأة مع عاصفة الربيع! والربيع ها هنا: أخضر حيث نخطو، وأينما نفتح أعيننا على الأمل والعمل، الانفعال والاعتدال، الحب والهيام... أليسها حقيقتنا التي تحبل دومًا بالتضحية، تحبل دومًا بالعطاء؟ الربيع عطاء، العمل عطاء، الغد عطاء. هذه هي شهوتنا، متعتنا، عناؤنا، وكل حياتنا التي تضيق بنا لتفيض، تفيض لتضيق، وتفيض على الشاطئ الداكن الخضرة لنهر السين العظيم. باريس في الربيع عاشقة: ألوان طريئة، فساتين بسيطة، أصوات رخيمة، تنانير قصيرة. أنا عاشق في الربيع، مارتين حبي، باريس حبنا اليافع أبدًا، الرائع، الطافح بالحيوية، المتفجر بالحنو وبالجنون، المتسربل بالسحر وبالذهول، بالتأثر وبالشعور، المتدفق كالسيول، حب لا ينضب، كالمَعين. هكذا نحن نحب بعضنا، أنا ومارتين، نحب باريس: في الربيع والصيف، في الشتاء والخريف، في المطر والوحل، في المطر والدم. نحب باريس مثلما نحب شجرة زيتون تتشبث بكشح جبل عيبال المقدس العظيم، قريبة من السماء والأرض، من العقل والقلب، من الحقيقة والحُلم. شجرة زيتون تفتتن بزمن جبل عيبال المقدس القديم الذي يشرب من نهر السين المدنس الجديد لتعطي الحُلم، والحُلمَ للحُلم، لتعطي الحُلمَ والحياة. قفزتُ بطربي، وطرب مارتين، وأنا أرى الحمام في حديقة قناة سان-مارتن. كان فرحي كبيرًا، وفرح مارتين، وقلبُنا يتيمًا، عندما رأينا الحمام الأبيض، وهو يقترب من بعضه البعض، في حديقة قناة سان-مارتن، ويجمع جناحيه بكل اطمئنان، فتمتلئ الحديقة بالإبهام. متيمًا كان قلبُنا، عندما أضاء قوس الأجنحة، وطارت في الأرجاء عصافير الرجاء. في الأرض والسماء، في القلب والجسد. وعندما اصطدم الأخضر بالأزرق، صفق للربيع النهار. كانت القناة جديدة بأجنحة الحب، رغم سدودها المهدمة. أغْمَضَ الكَلَفُ الوضوح، وَنَقَرَ الذهبُ العشب.
* * *
جاء رونيه بعائلته ليقيم بعض الوقت عندنا بعد أن حجزوا على متاعه، وطردوه من بيته، لعجزه عن دفع الكهرباء. وعدته مدام ريمون بسكنى البرتغالي، لما يتم ترميمها، فالسقف قد هوى عندما أنزلوه، ومن المحتمل أن تأخذ الترميمات وقتًا. لم تكن أهمية لذلك ما دام أفراد العائلة يشغلون غرفتي عند مارتا، وأنا ورونيه ننام في المصنع المحتل. لم نكن نتركه قبل أن نتأكد من حراسته جيدًا و، فقط، لأمر عاجل، كنقل طفل مريض عند طبيب، معالجة أم كهلة، حماية أسرة مهددة بإلقائها في عُرض الطريق، والبحث عند الاقتضاء عن مأوى إغاثة. تناوبنا حراسة المصنع ليل نهار، لأننا كنا ننتظر، في كل لحظة، هجومًا تشنه الإدارة، وكنا مستعدين للدفاع عن مصنع الأحاسيس دفاعنا عن الوطن. لم يعد جورج الأشقر ينام، وهو يرصد البوابة الموصدة. قال لنا إنه لم يفكر أبدًا أن يجد نفسه في مثل هذه الحالة: يصغي إلى الخطوات، في الشارع، كثائر، من خلف المتاريس. وأية خطوات! وفي أي مكان! كان يشعر بالفعل أن العدو في بيته، يتربص به، ولهذا، كستيفان المجنون، كان يرغب في البقاء يقظًا. أعد المارتينيكي لنا القهوة، في المساء، وقال بنكهة من التباهي: - قهوة، يا رجال، كما لم تشربوا مثلها أبدًا! ثم: - يا مومس الغائط، يا مومس العَيْش، يا مومس الرب، يا مومس الرب، يا ماخور الماخور، الماخور، الماخور، الماخور! كان يرغي ويزبد مفكرًا إلى أية درجة أصبحت القهوة رديئة الطعم في المقاهي الصغيرة، وكم ارتفع سعرها. قلت له عندما حللت في باريس، للمرة الأولى، كان ثمن القهوة لا أكثر من فرنك واحد على المشرب، فصاح الأشقر: - اخرسوا، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم! تتكلمون عن القهوة! عن القهوة! تتكلمون عن القهوة! - ماذا جرى لك، يا مومس الغائط؟ احتج المارتينيكي. - هناك من يحوّم حول المصنع. نهضنا كلنا، متسائلين: - من يحوّم حول المصنع؟ تابع جورج، بعصبية: - من يريد مفاجأتنا. اطمأننا بسرعة، فكل شيء هادئ. - ترون جيدًا أن الأشقر لم يشعر بخوف كهذا طوال حياته! تهكم المارتينيكي. قفز جورج الأشقر: - اقفل فمك، يا المارتينيكي! تريد حقًا ألا أخاف من أن يفاجئونا؟ توقع أن يهجموا بين لحظة وأخرى، يا بطلي الهمام! إلا إذا كنت تفضل أن يذهبوا عند أمك ليتركوا لك خبرًا؟ تدخل بيير: - لن يهجموا، على الأقل، ليس الآن، لأنهم يريدون أن يتفاوضوا، والمفاوضات جارية، وطالما أنها تدور طالما أنهم لن يهاجموا. - ما أدراك أنهم لم يقبلوا بالتفاوض إلا لإلهائنا، وهوب، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم، ضربونا على مؤخراتنا! - لن يمكنهم ذلك، لأن كل العمال معنا في الوقت الحاضر، كل فرنسا، وإلا دارت الأمور في غير صالحهم. هم أخبث من ذلك بكثير. اطمئن، يا الأشقر! على أي حال، كلنا يدرك هذا، وسنكون إلى جانيك. اطمأن جورج الأشقر قليلاً، وقال: - الحديث عن القهوة في لحظة كهذه، يزعجني. كما لو... فسأل المارتينيكي: - وفيم يزعجك؟ - كما لو... - فيم يزعجك، يا رجل؟ - ...يتكلم غريق عن السمك. - فيم يزعجك، يا مومس الغائط؟! - كما لو يتكلم مشنوق عن الأكسجين. - فيم يزعجك، فيم يزعجك؟! كما لو يتكلم مخصي عن الهوى. فيم يزعجك، فيم يزعجك، فيم يزعجك؟!... لا يجيب، يا مومس المومس! لا يجيب. يجيب باستعارات كمثقفي الغائط! - يزعجني. - فيم يزعجك، يا رجل؟ فيم يزعجك؟ - ينغص عيشتي، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم! - فيم ينغص عيشة غائطك، يا رجل؟ - ينغص عيشتي، يقلقني. - يقلقك، يا رجل، يقلقك؟ - اخرسا، نبر بيير. - يقلقني. - يقلقك، هاه، يقلقك! - يقلقني، نعم، يقلقني! وعندما يقلقني، على الجميع الإذعان الوقت الذي فيه يمضي. - أفهم من هذا أنك أنت صاحب الكلمة الأخيرة! - ليس هذا. - هذا ماذا إذن، يا رجل؟ - أنا مصنوع هكذا، تَبًا للعالم وأبي العالم وأبي أبي العالم! - تريد أن تعلم من أي شيء أنت مصنوع، يا رجل؟ - لا أريد أن أعلم. أنا مصنوع... - أنت مصنوع من كومة غائط! - ...هكذا. - أنت مصنوع من كومة غائط! - اقفلا فمكما! عاد بيير إلى الصياح. - ليس هذا ما أعني، تلعثم جورج الأشقر. ثم، هناك ما هو أهم من الحديث عن القهوة في هذا الوقت! - أنت مصنوع من كومة غائط، من كومة غائط! - اقفلا فمكما، اقفلا فمكما! - لا تبالغ، يا الأشقر، قلت لجورج. - أنت مصنوع من كومة غائط! تردد جورج الأشقر. وقبل أن ينسحب: - أجهل لماذا أنا قلق هذا المساء. - لأنك مصنوع من كومة غائط! صاح المارتينيكي من ورائه. لم يطل جورج كثيرًا، جاء بصحبة ستيفان المجنون، وأخبرنا أن هناك من يريد اجتياز الساحة إلى الورشات. ذهب البعض ليرى، وعاد في الحال برفقة ألبير ومارتين وبعض الأصدقاء والصديقات وبعض زوجات العمال وأولادهم. ابتسمت لنا مارتين، قبلتني، وأعطتني رسالة من أخي عبد السلام، أرسلها قبل شن الحرب. قدمت لي أبراهام. قالت إن أبراهام يدرس العربية معها، في السوربون، إنه جزائري من قسنطينة، إن أهله من بين النادرين من اليهود الذين لم يزالوا يقيمون فيها. عندما كان يعيش معهم، لم يكن يرافقهم إلى الكنيس، يوم الجمعة، ربما الأيام الأخرى، لأنه كان يحب مسلمة! مما جعل أبراهام يضحك بطلاقة. طلب منا ألبير أن نأخذ حذرنا، لأن رجال الدرك يطوقون المصنع، والمفاوضات التي لم تصل إلى نتيجة، تم تأجيلها إلى الغد. سألتُ مارتين عن أخبار مارتا والأصدقاء، فقالت لي إن مارتا قلقة عليّ، وإن الأصدقاء يتابعون المعارك الدائرة في بيروت لحظة بلحظة. في رسالته، لم يتكلم عبد السلام عن برناديت، التي اختطفها مسيحيون مثلها، لأنها تحبه، لأنه يحبها، ولأنه، وهي بعيدة عنه الآن، يحبها أكثر من أي وقت مضى. أخذ بعض العمال يغنون، وأغنيتهم تتكلم عن معجزة الحب، وفي المصنع ألف نغم. عزف رونيه على الجيتار، و ضرب أبراهام على الطبلة، ونحن كلنا نغني. وضعت مارتين رأسها على كتفي، ابتسمتْ، وغنتْ. نظرتْ إلى ألبير في عينيه، ابتسمَ، وغنى. "وبييرو هذا، وبييرو ذاك"، لم يكف المارتينيكي عن الترداد بعد أن هدأ. أراد أن يكون صاحب الكلمة الأخيرة، ابتسمتُ، وغنيتُ. نظرتُ إلى بيير في عينيه، ابتسمَ، وغنى. نظرتُ إلى وجه شارل، بينما هو يغني. هذا الرجل الذي قاوم النازيين، وانتصر، ها هو يغني معجزة الحب، لأن عالم الغد، الذي تكلم بيير عنه، يوجب ذلك. غنى عالم الغد، غنى الأماني، ووصَلَنا غناء جورج الأشقر من الممر، وهو يراقب مداخل المصنع. أضاءت العيون بالأمل، أمل البسطاء، وصاحت الحناجر بالنشيد، فتصادى النشيد مع بنادق بيروت. كانت مارتين ومادلين ووردة وفرانسواز هنا معنا، والرقة والحنان والحنو والرَّحِم هنا معنا.
يتبع القسم الثاني الفصل الثاني
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل السادس عشر والأ
...
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الخامس عشر
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الرابع عشر
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثالث عشر
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثاني عشر
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الحادي عشر
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل العاشر
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل التاسع
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثامن
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل السابع
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل السادس
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الخامس
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الرابع
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثالث
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الثاني
-
العصافير لا تموت من الجليد القسم الأول الفصل الأول
-
الغِربان2: واقع المهاجرة
-
الغِربان1: واقع الهجرة
-
المرأة العربية5 وأخير: حركة تحرير المرأة العربية
-
المرأة العربية4: المتعة
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|