|
قصص قصيرة جدا ً/ مستعمرة الديناصورات/ القسم الرابع والاخير
عادل كامل
الحوار المتمدن-العدد: 4947 - 2015 / 10 / 6 - 11:25
المحور:
الادب والفن
قصص قصيرة جدا ً مستعمرة الديناصورات
عادل كامل القسم الرابع والأخير
[151] اعتراف ـ تم إخلاء سبيلي...، بعد حجز دام سنوات طويلة، بكفالة! تمتم الغراب يخاطب حفيده: ـ فقد تأكد لهم بالبراهين والأدلة والشهود إنني لم أكن المحرض، ولم أكن طرفا ً، ولم أكن الجاني... فهز الحفيد رأسه: ـ لا تكترث...، يا جدي الحكيم، مادمت حصلت على البراءة! مشى الحفيد أمامه باتجاه العش، عش العائلة، فرد الجد: ـ ولكن ما فائدة البراءة، يا حفيدي، وكلانا سيمضي باقي حياته خلف قضبان هذا القفص، في هذه الحديقة، فإذا كنت سجنت، في المرة الأولى، بسبب الشك، والظن، والوشاية، ففي المرة الثانية، فانا اسجن باليقين، باليقين الذي لن يسمح لهم بإطلاق سراحنا، ومغادرة هذه الأقفاص، إلا بعد أن تكون حياتنا قد بلغت خاتمتها، إن كنا أبرياء أو أثمين!
[152] خوف مكث الفأر شارد الذهن، منشغلا ً بمراقبة الثيران تعبر النهر، تقفز، هائجة، مسرعة، وقد وقع احدها بين فكي تمساح كبير... تجمد الفأر تماما ً، من غير حركة، وكاد يغيب الوعي عنه، لولا ان زميله لكزه قال له: ـ لنرجع إلى جحرنا، فانا أخشى ان لا نفلت من مخالب الهررة وأنيابها. أجاب بصوت حزين: ـ انظر ماذا فعلت التماسيح بالثور ...، لقد مزقوه. ـ اعرف...،هذا ما يحدث في البراري، والمستنقعات، أما هنا...، فالهررة تؤدي الدور نفسه. كف عن متابعة الفلم، ونظر إلى البركة، فشاهد احد التماسيح يراقب غزالا ً تقترب من الماء...، فصاح بها: ـ ابتعدي! قال زميله له: ـ تماسيح الحديقة كفت عن الافتراس! ـ انظر..، لقد أمسكت بها، وها هو يجرجرها إلى الأعماق... ـ حتى في هذه الحديقة لا نعرف ماذا يحدث. وأضاف، متمتا ً مع نفسه بشرود: ـ إن خرجت من الجحر أما تبتلعك الأفاعي، وأما تفترسك القطط..، وإن لم تخرج، فستموت جوعا ً...، فماذا تفعل؟ رد الآخر: ـ لو كانت الغزال، اقل بلاهة، لما قتلها جمالها! ـ ونحن، ماذا فعلنا، كي يشن الجميع ضدنا حملات اجتثاث: الأفاعي، القطط، الكلاب، وحتى التماسيح أصبحت خطرا ً علينا! فقال الآخر محذرا ً: ـ دعنا نتوارى...، فهناك حملة إبادة منظمة ضدنا...، فبعد ان تركوا التماسيح طليقة، أصبحنا لا نأتمن أعمال هؤلاء البشر! عاد يتابع الفلم في شاشة الحديقة: ـ الثيران مازالت تعبر النهر ، والتماسيح مازالت تتربص. رد الآخر: ـ لو لم تفعل التماسيح ذلك، فان الثيران ستملأ الأرض، وتدوسنا! أجاب بعد تفكير: ـ ولولا الأفاعي، والقطط، والكلاب، والبشر....، لملأنا الأرض إذا ً! ـ آ .....، دار رأسي، دخت، ولم اعد أرى...، فان نجونا من الأعداء، فهل سننجو من الخوف؟
[153] حرية شاهد الذئب، بعد ان هرب من القفص، الأسد منتصبا ً أمامه: ـ ماذا تفعل هنا...، هل هربت أنت أيضا ً؟ لم يجب الأسد، فاقترب منه: ـ لماذا لا ترد علي ّ، أتراك تعلمت من الناس الغرور...؟ اقترب كثيرا ً منه، لمسه، فأدرك انه يخاطب حجرا ً: ـ حتى أنت لم تسلم منهم، فصنعوا منك دمية! فسمع الأسد المصنوع من الحجر يزأر: ـ لا تفسد علي ّ لعبتي، فانا الآن أصبحت طليقا ً!
[154] شكوى عندما حاول الأرنب ان يخلص جسده من كماشة المصيدة التي وقع فيها، وفشل في التخلص منها، نظر إلى قرص الشمس فسمع أنينها يرن داخل رأسه: ـ كنت أظن انك ِ معاقبة فتتألمين وما أشعتك إلا شكوى، والآن آن لك ان تشاركيني مصيبتي، وتنوحين علي ّ، فكلانا في المصيدة! سمع أشعة الشمس تهمس في آذنه: ـ لا احد يبكي على احد ...، فانا بألمي أنرت لك الدرب، لكن ماذا افعل وأنت كنت تمشي من غير بصر!
[155] حدود ـ لقد وقعت الكارثة، ولا مناص، إنها نهاية العالم! اقتربت اللبؤة من شبلها: ـ ماذا حصل...؟ ـ الدبة ولدت فأرا ً، والتمساح ولد نعامة، والكركدن ولد عصفورا ً، والزرافة ولدت حمارا ً...! ـ شبلي الغالي، هذه ليست هي الكارثة...، فالعالم لا ينتهي ويزول لأسباب واهية كالتي ذكرتها. فقال الشبل باستغراب: ـ كأن نهاية العالم لا تخيفك؟ ـ يا شبلي، وما الذي جنيناه، لو دام العالم إلى الأبد، إن ولدت الماعز ماعزا ً، ووحيدة القرن ولدت وحيدا، والثور عجلا ً، والنعجة حملا ً، العقرب ولدت عقارب...، فهل يفزعك ان ولدت أمك اللبؤة قردا ً، أو اختلطت ادوار الذكور بادوار الإناث، والإناث بادوار الذكور، وماذا سيحصل لو حبل، أو حبلت، البغل، وولدت حمامة؟ ـ الآن بدأت أفكر: هل أنا ابن أسد...؟ ـ وماذا لو عرفت...، إن كان العالم سيدوم إلى الأبد، أو سيغيب غدا ً، فانا وأنت لن نذهب ابعد من قضبان هذا القفص؟
[156] تحقيق جاءوا به عنوة، جرجروه من المزرعة، ملثما ً، وطلبوا منه ان لا يفتح فمه، بعد ان وضعوه في غرفة الانتظار، وسمحوا له بالنظر حسب. تجمد، منشغلا ً بمراقبة حركة الدخول، إلى سرداب التحقيق، والخروج منه...، فازداد ذهولا ً، وشرودا ً، وفزعا ً فقد لاحظ الاختلافات بين النمر قبل الدخول، وبعد خروجه وقد صار كلبا ً، والبعير غدا ً هرا ً متوحشا ً، ولا حظ، بشرود تام، ان وحيد القرن أصبح يزحف كسلحفاة، والأفعى خرجت من غير ذيل بعد ان انتزع جلدها عنها. فراح ينبش في رأسه بحثا ًعن ذنب، أو خطأ، أو هفوة ارتكبها، أو دناءة مارسها، فوجد انه لم يفعل شيئا ً منها: فانا لا أتذكر شيئا ً ما عن حياتي في البرية، وفي الغابات، وفي الوديان...، فحياتي كلها قضيتها هنا في هذه الحديقة، ولا أتذكر إنني تجرأت وقلت لا، أو رفعت رأسي، أو حتى سمحت لنفسي بحلم ما من الأحلام! وتابع يشاهد، فراى البغل يخرج حمارا ً، والدب ثورا ً، والديك خرج برأس خنزير، وابن أوى برقبة زرافة، والدلفين تحول إلى سحلية... فدار بخلده: ما الذي يجري في السرداب...، ثم ما الذي فعلوه كي يحدث لهم هذا كله؟ لم يجد جوابا ً، ليجد نفسه أمام المحقق وجها ً لوجه. قال المحقق: ـ لم نأت بك لارتكابك خطيئة، أو فرية، أو هفوة، أو ذنبا ً، أو معصية. تنفس الصعداء، لبرهة، مصغيا ً للآخر: ـ إنما جئنا بك كي لا ترتكب واحدة من تلك الأخطاء أو الشطحات أو الهفوات أو الزلات...، حتى آخر يوم من أيام حياتك في هذه الحديقة! ليجد انه لا يستطيع استنشاق الهواء، وعندما بحث عن كلمة للرد، وجد فمه قد غاب. بعد مليون عام، ومليون سنة مضاعفة، وملايين أخرى من السنين والأعوام، أفاق ذات يوم، ليجد جسده تحول إلى تمثال، من حجر، ينتصب في الحديقة ذاتها، وثمة آلاف الطيور تحوّم في السماء، من حوله، والأرض امتلأت بالغزلان، والضفادع، والنمور، والخنافس، وأنواع أخرى لم يرها أبدا ً في حياته، تجمعت متراصة تتهامس بلغة لم يفقه من كلماتها غير همهمات، فدار بخلده، ربما انه لم يرتكب، في حياته، غير الحكاية التي لا يتذكر انه حكاها لأحد، بل ولم تدر حتى بخلده.
[157] طرفة شاهد الحصان الأتان توشك ان تهلك من الضحك، فاقترب منها، وسألها: ـ هل خطر ببالك طرفة رويتها لك قبل عصر الطوفان! فالحمير، عادة، كما يقول الناس، تضحك بعد إسدال الستار على الطرائف، والنكات؟ ـ لا ....، بل سمعت طرفة ستروى بعد الطوفان! ـ أأصبحت ِتسمعين الكلمات التي لم ينطق بها احد؟ وتتحدثين عن أشياء ستقع قبل وجود من يفعلها ...؟ فسقطت أرضا ً من شدة الضحك: ـ لا أريد ان اروي ما سمعت، كي لا أفقدك! ـ آ .... فراح الحصان يضحك، حتى سقط فوق الأرض، فسألته الأتان: ـ هل سمعتها....؟ ـ نعم، وإلا سأفقدك حقا ً!
[158] وصية/ اثر
ـ ان تولد من غير ذنب، وتعيش بلا خطيئة، كأنك لم تعش! ـ ليس لدي ّ رأس يقدر على سبر أغوار هذا اللغز: فما أنا سوى حلقة في السلسلة التي مقدماتها مسبوقة بمقدمات، ونهاياتها متواصلة الامتداد. لكن عندما أكد وأشقى لمعرفة: هل عشت....، أجد ان غيابي وجد قبل حضوري، وقبري ليس سوى الباب الذي سأخرج منه. لكنني مع ذلك لم أجد عدالة تامة بين أسد يتلهى بغزال، أو تمساح يتلمظ وهو يبتلع بقرة، وبإنسان نشوان وهو يطلق النار على أطفال، وبين شمس تضيء، ومطر يسقي الزرع، وبإنسان يعاقب نفسه، لأنه بلا ذنب! فانا لا امتلك قدرة معرفة ما حدث ويحدث كي اعرف ما الذي سيحدث، وما هو أكثر استحالة على الفهم ان لا احد، كما قلت، ولد من غير ذنب، ولا احد عاش من غير خطيئة، فذاك تراه متبخترا ً، مزهوا ً، وكأن ارتكابه للآثام واجب، والذنب سلوى، والخطيئة عطر ورود! وأضاف الحصان العجوز يحدث ولده البغل: ـ ولأنك لست مسؤولا ً عن الأسباب التي تكتوي بنتائجها، فلا احد باستطاعته البت بما ستفعله، حتى لو أسرفت بالزهد، وتطهرت من النذالات! لأنك من غير ذنب لن تحصل على الغفران!
[159] تحقيق/1 سأل المحقق: ـ في خطابك الأخير، أيها الحمار العنيد، قلت: كل العناصر وجدت من غير نقص! فما معنى حديثك عن الفائض ...، فيها؟ بعد صمت وجيز، عثر الحمار العنيد على الرد: ـ سيدي، في حديقتنا هناك جدارية نقشت فوقها واحدة من أقوالك النادرة: العبقرية ان تجد حلا ً للقضية التي لا حل لها! ومعنى هذا تحديدا ً استحالة وجود حل إلا باستحالة وجود قضية..! ـ لا تخدعني بالسفسطة، وببلاغة التمويه، ومهارة خلط النهايات بمقدماتها، وديمومة توازنات الفراغات المشغولة بالفراغات...؟! ـ اقسم لك: العناصر وجدت تامة....؛ أي وجدت كأن النقص الحاصل فيها ما هو الا بمثابة زيادة! فكأن (الزيادة) تعني تحديدا ً، في هذا السياق، السابق واللاحق معا ً، نقصا ً تام النهايات! فأنت ـ هنا ـ بماضيك وقد عبر نحو مصيرك، لأن مصيرك ليس مؤجلا ً للحاق بما اندثر، بل لأن السلسة تامة بتحولاتها، فلا اضطراب ولا عشوائية ولا مصادفات إلا بتوازن تام بين الذي لا ينتهي وبين الذي مقدماته مسبوقة بالمقدمات. فالظلم هو احد أوجه العدل، لكن العدل لن يكون تاما ً إلا بالمرور من الظلم إلى ما بعده ...، وهذا يساوي بين الفائض ومكوناته! ـ كدت افهم ...، لولا الدوران! ـ سيدي، لو أصدرت امرأ ً بالقضاء علينا، ومحوتنا من الوجود، بحجة ما من الحجج، فلن يبقى لديك إلا ان تكتشف انك أصبحت فائضا ً!
[160] تحقيق/2 ـ أنت قلت، أيها الغراب الذي يدعي الحكمة ...؛ ان العبقرية ما هي إلا ان تجد حلا ً للمشكلة التي لا وجود لها! متابعا ً، سأل الثعلب الغراب: ـ فان لم تخبرني بالحل...، فهل هناك معنى لوجود هذا العدد الكبير من العباقرة، وبوجود ما يسمى بالعبقرية..؟ رد الغراب بسلاسة: ـ سيدي، واحدة بواحدة، أولا ً: ضع فاصلا ً بين العبقرية وبين العبقري. ثانيا ً: لا تسأل بحثا ً عن جواب. ثالثا ً: ولا تنتظر إجابة وأنت، في الأصل، لا تمتلك أسئلة! ـ كدت تساعدني على الفهم، ولكنني اعتقد انك ذهبت ابعد من المطلوب! ـ هذا، يا سيدي، هو مفتاحها...، لأنك ما ان تضع المفتاح في القفل، ليدور، حتى تدخل في المكان الذي لن تخرج منه، إلا والمكان برمته يكون خارجك! فمادمت أنت هو من يسأل، فلا تنتظر مني العثور على جواب...، وإذا أجبتك، فهذا يعني تحديدا ً انك لست بحاجة إلى السؤال! ـ حقا ً ....؛ العبقرية هي ان تجد الحل بعيدا ً عن المشكلة، ولا تتحدث عن المشكلة إلا بعد ان يكون حلها فائضا ً...! ـ آ ....، أيها الزعيم، هذه هي الحقيقة، ما ان تحصل عليها، حتى تدرك انك وجدت شيئا ً آخر، غيرها، آنذاك لا تأسف انك أضعت حياتك من اجلها!
[161] سر بعد ان أتمت النعامة سردها لحكاية النجاة من الغرق بعد الطوفان الأعظم، تابعت: ـ لكن هذا لا يعني ان الخطر زال...، لأنكم، يا من نجا من الغرق، تدركون استحالة فك ملغزات السر! ـ أي سر...، أيتها الأم الكبرى؟ ـ سر الماء! ـ وهل للماء سر...؟ تابعت تكمل خطابها: ـ قبل الطوفان كنا أعظم دولة على وجه البسيطة، لا احد سوانا له الأمر وله النهي...، وازدادت قواتنا حتى ملأنا الدنيا صخبا ً، وارتكبنا الآثام، فغضبت علينا السماء، فأرسلت الطوفان، فمات من مات...، ولم ينج منا إلا هذا الذي يستمع إلى حكايتي الآن...، وينتظر ان اخبره بالسر...؟ ـ أيتها الخالدة...، إننا بالانتظار. ـ إن الماء الذي غاب عنا، وحول أرضنا إلى صحراء، تمتد مساحتها بين غروب الشمس إلى مشرقها...، إن هذا الماء سيغرق أرضنا مرة أخرى. صفقوا لها طويلا ً، فقالت بحزن: ـ أتصفقون لي، أم للماء، أم للرمال...، فأنا لم أخبركم...، حتى الآن، بالسر! ولم تتوقف عن الكلام، حتى بعد غروب الشمس، لأن أحدا ً لم يدعها تعلن عن السر، وهي لم تبح به أيضا ً.
[162] الأرنب والذئاب الثلاثة وأخيرا ً وجدت الأرنب نفقا ً فتوارت فيه، لتجد نفسها، حالا ً، أمام ثلاثة ذئاب. فلم تستطع التراجع...، قال الأول: ـ أهلا ً.. وقال الثاني: ـ ما الذي جاء بك إلينا. وقال الثالث: ـ كأن السماء أرسلتك ِ! صعقت الأرنب، وشرد ذهنها. فسألها الأول: ـ والآن اخبرينا من أرسلك...؟ بصعوبة فتحت فمها: ـ لا احد. ـ إذا ً أنت اخترت الحضور بإرادتك...؟ ـ لا! ـ لا .... تقول لا، فما الذي حدث...؟ بعد ان استعادت قواها، تمتمت: ـ وأنا اخرج من مغارتي، حدقت في قرص الشمس، فسمعتها تنوح، وتبكي، وهي تتألم، فرأيت دموعها تملأ الفضاء..! صاح الذئب الثاني: ـ الشمس تتألم! ـ نعم، سيدي، فهي تتعذب في الجحيم، كأنها تعاقب عن ذنب عظيم! استفسر الثالث: ـ وتنوح..؟ ـ نعم، سيدي ..، أنا سمعتها، ورأيت أشعتها تستغيث كأنها تتضرع، وتطلب الغفران! خاطبها الذئب الأول: ـ أأنت ِ فيلسوفة أم أصابك ِالمس، أم ماذا ...؟ ـ أنا لست سوى ضحية...، وقد شعرت ان الشمس، مثلي، تبحث عن ملاذ آمن لها، فراحت ترسل أولادها بحثا ً عن وطن لا تشتعل فيه النيران! هز الذئب الثاني رأسه: ـ آ ....، منذ زمان بعيد لم نلتق بأرنب مثلك! ـ أقسم لكم، أيها الزعماء، أنا سمعت الشمس ثكلى تنوح وهي تفقد فلذات كبدها! ابتسم الثالث: ـ كلماتك مثيرة للشهية...! ـ كنت احسب إنها ستسد شهيتكم، وتثير روعكم، وتذكركم بالموت! أجاب الثالث: ـ لكننا كلما ازددنا ذعرا ً، فزعا ً، يتضاعف إحساسنا بالجوع، وتزداد شهيتنا للفرائس. قال الأول: ـ لن نفترسك الآن، لأننا نود ان نستمتع بخيالك ِ النادر! تجمدت الأرنب، ووجدت الكلمات تموت في رأسها، عندما اضاءات أشعة الشمس المغارة، ليصدم الذئاب، فجأة، وتتجمد أوصالهم، وهم في ذعر تام، فقد ابيضت وجوههم حتى تحولت إلى أثير..!
[163] عواء قرب الأسد رأسه من القفص الذي مازال الذئب يعوي فيه، طوال الليل، وانتظر ان يغلق فمه، ولم يفعل. فقال الأسد يخاطب نفسه: لن تبقى تعوي إلى الأبد، فطالما فعلت ذلك، في الغابة، وزأرت، حتى وهنت قواي، فأغلقت فمي. فخاطبه الذئب: ـ وأنا طالما عويت في البرية...، ولكننا الآن أصبحنا أسرى أقفاصنا، فماذا نفعل، إن لم نعو، وأنت لم تزأر، والكلاب لا تنبح...؟ ـ يا رفيق الغابات والبراري، أصبح هذا من الماضي، لأننا اليوم، حصلنا على رفاهيتنا، فلماذا الشكوى...؟ ـ آ ...، أيها الأسد، حتى أنت لم تعد تفهم كلماتي، ولم تعد منشغلا ً بفك مشفرات صوتي؟ ـ إن فهمت، أو لم افهم، هل للفهم وللمعرفة معنى، ونحن داخل هذه الأقفاص...؟ ـ هذا هو سر الترويض، فحتى الأشجار لم تعد تتكلم، ولا الصخور تستغيث، ولا الهواء يعلن عصيانه! قال الأسد: ـ عد بذاكرتك إلى البرية، والى الغابات...، يا رفيقي، ماذا جنينا منهما، سوى الشقاء، وأخيرا ً سوى الوقوع في الأسر، كي نعاقب بهذه الرفاهية! ـ آ ..، عندما تصبح الحرية قيدا ً، والحلم مرارة، والانعتاق وهما ً..، آنذاك تصبح العبودية سلوى، والأمر الواقع رفاهية! وأضاف: ـ فانا ليس لدي ّ إلا ان اعوي! ـ أنا فعلت ذلك، زأرت، وغضبت، وكدت افقد حياتي...، ثم انتهى الأمر بي إلى هذا الحال، فماذا افعل عندما لم تعد تقدر على فك مشفرات صمتي!
[164] حفلة جرت الحفلة التنكرية على النحو التالي: ارتدى النمر وجه الذئب، ووحيد القرن خرطوم الفيل، والتمساح استبدل وجهه بوجه البوم، والكبش بقناع الأرنب، والماعز بوجه النعامة، والثور بقناع حمار، والغزال بوجه أسد. وما ان بدأت الموسيقا تعزف، حتى لم يعد بالإمكان وضع حدود بين الأشكال، والهيئات، للعثور على اختلافات، أو التفرقة بينها. فأبدى المدير إعجابه بالفكرة، وطلب من مساعده ان يجعلها فعالية دورية، مادامت نالت رضا الجميع، وكسبت ودهم. ضحك الثعلب وقال مستدركا ً: ـ سيدي، لكننا كنا نفعل هذا منذ زمن بعيد! فسأله المدير: ـ وماذا عن العنف الذي كان يخرب مشاريعنا..؟ ـ تلك فترات استراحة، تستخدم للتحفيز! تابع المدير يراقب: البقرة خلعت قناعها فظهرت دبا ً، والديك راح يرقص بقناع الطاووس، والحوت الأسود صار يتلوى مثل الأفعى الرقطاء، فطلب من ضيفه كلمة يقولها بشأن الصفقة. قال الآخر: ـ لا مانع لدي ّ، فقد هذبتها بعناية، مع إنني سأعيدها إلى البرية، وأطلق سراحها، بحسب الاتفاق! قال المدير: ـ لا شأن لي بهذا الأمر، فانا روضتها لك، وهذبتها، حتى إنها أصبحت تحمل صفاتنا! ـ هذا يعني انك موهت علي ّ؟ ـ لا، بل حرصت على مراعاة الأصول والحفاظ على الأعراف! ـ أنا سأدعها تتحرر من أسرها. ـ وأنا سأعمل على إعادتها إلى حديقتنا! ضحك الآخر: ـ ملعون...، أيها الإنسان الماكر، فأنت لن تخسر شيئا ً، لا في البيع، ولا في استعادتها مرة ثانية! ـ اجل، يا سيدي، فكما فعلت الطبيعة، معها، عبر ملايين السنين، فتركتها تتناسل، وحرصت ان لا تدعها تنقرض، سأعمل على جذبها إلينا، لتشهد ـ سيدتك ـ حفلة تنكرية أبهى، وأكثر بذخا ً! ـ أخشى ان تستبدل وجهي بقناع؟ ـ وهل كان لك وجه؟
[165] نصيحة ــ أينما اذهب اسمع الهمس يدور من حولي: أهذا أسد أم جرذ..، فأقول لنفسي: حتى هذا الجرذ يأنف ان يبول علي ّ! هامسا ً تابع الأسد يحكي لحفيده الصغير: ـ الزمن الطويل الذي أمضاه أسلافك في الغابات والبراري لم ينته بهزيمتنا، ولم ينته بنصرهم! لقد تم أسرنا لأننا لم نعد نمتلك إلا ان نكمل مسيرتنا. قال الشبل: ـ أينتهي زمننا بالرقص مع الخنازير والقرود والأرانب...؟ هز الأسد رأسه من غير اكتراث: ـ وهل كان علينا ان نلقى حتفنا جميعا ً بدل الاستسلام...؟ ـ آ ..، يا جدي..، اخبرني: لماذا الخسارة موجعة؟ ارتج جسده، وبعد صمت، أجاب: ـ اعترف لك ان النصر اشد قسوة ووجعا ً، فعندما لا تعرف ماذا تفعل بنصرك، الذي حسرته، تصبح الخسارة دافئة مثل مضاجعة لبؤة تائهة! ـ غريب! ـ على من تنتصر..؟ أنا انتصرت على الغزلان، والثيران، والأرانب...، انتصرت على الحمير والزرافات والضباع...، فهل كان هذا نصرا ً أم كان هزيمة لتلك الكائنات الضعيفة ..؟ صاح الشبل: ـ هذه هي قواعد اللعبة! ـ يا ولد! هل ترفع صوتك علي ّ...؟ ـ آسف..، أيها الزعيم الخالد، لكن لو كنت مت بصمتك وما استسلمت. ـ وهذه هي المحنة ...، أقترب. اقترب حفيده منه: ـ أنا الآن استطيع ان امسح بك الأرض، بما امتلك من قوة، ولكنني لم افعل...! ـ لم اقصد أهانتك يا جدي، بل كان عليك ان تقول: ذهب زمني. وعندما يكون زمنك من الماضي، فما معنى ان تتشبث بالوهم؟ ـ طه...، كيف عرفت إنني أتشبث بالوهم.. ورفع الأسد صوته، لكن ليس زئيرا ً: ـ فبعد ان انتهى زمن الغابة، والبرية، انتهى زمني...، والآن أنت ترى زمنك، وتعيشه، وتعرفه...، ولكن حذار ان تبول على الجرذان، أو الثعالب!
[166] حكمة وهما تتأملان تمثال الفيل البرونزي في الحديقة، سألت النملة زميلتها: ـ لو مات هذا العملاق، فمن سيحمله، ويرسله إلى المحرقة...؟ ضحكت الأخرى: ـ سيشيدون محرقة بالقرب منه! فسمعهما فيل كان مارا ً بالقرب منهما، وقال: ـ الحديقة تتسع لنا جميعا ً!
[167] النشيد قرأ والدي وصية جدي، بالرغم من ان أحدا ً لا يعرف إن كان فارق الحياة، أم لا، قبل اتخاذ أي قرار بتنفيذ ما جاء فيها من فقرات، فطلب واحد من العائلة ان يعيد قرأتها بهدوء، كلمة كلمة، ومن غير عواطف زائدة، فبدأ: ـ فانا لا أريد جنازة تقام لي، ولا أريد خبرا ً يذاع، أو ينشر، فانا كنت انسحبت من الحياة برمتها، كما تعرفون، منذ زمن بعيد، فلا أريد ضجة، ومشاعر كاذبة، لا أريد عزاء ً، ولا تستقبلوا أحدا ً للتعزية، فكل ما اطلبه منكم، ببساطة، ان أعود إلى الرمال التي خرجت منها. والسلام. التوقيع: جدكم. فقال احد الذئاب: ـ ان جدنا أصابه الوهن، والإعياء، وربما فقد ذاكرته... فمن ذا سيوافق على تنفيذ ما جاء في وصيته...، ثم لمن وجدت المحرقة؟ قال والدي: ـ نوزعه علينا! صعقنا، فمنذ سنوات بعيدة لم نفعلها، والجميع يتذكر إننا اجتزنا سنوات المجاعات من غير أفعال مخلة، وشائنة. قال آخر: ـ لندعه يذهب مع الماء، أو ندفنه في حفرة، أو ندعه يجف تحت أشعة الشمس، أو نتركه للريح! ولم نصل إلى قرار. حتى جاء السيد المدير، ومعه مساعده الثعلب، ومستشارته الببغاء، وعدد غفير من قادة الأجنحة، والمؤسسات، والأقسام، والمنظمات، والأطياف، والأحزاب، فكلها نذر حرب، وخراب. فتجمدنا. قال المدير: ـ في اجتماعنا الأخير، بعد وصول أخبار غير سارة، عن قرب اجل جدنا الأعظم، قررنا المباشرة بإقامة صرح له، عند البوابة الكبرى، باستقبال الزائرين، والوافدين من جهة الصحراء...، عرفانا ً بالسنوات التي أمضاها وهو يعمل على صيانة المباديء الكبرى، وتعزيزها ...، ثم سنعلن يوم ميلاده عيدا ً لحديقتنا الأبدية، وسيكون يوم رحيله عزاء ً لنا ولأجيالنا حتى آخر يوم من أيام هذا الوجود...، كما أمرنا، بحسب الصلاحيات الدستورية، والأعراف السارية، والمعايير الراسخة، بحفر كلمات وصيته فوق السور الحجري، امتنانا ً لدوره في تعزيز وحدتنا، وبناء غدنا المشترك الحر السعيد والجميل. واصل السيد المدير إلقاء كلمته التي تحولت إلى خطاب، يوما ً بعد آخر، وأسبوعا ً بعد أسبوع، وشهرا ً امتد إلى عام هو الآخر عبر العقد نحو القرون....، من غير ان يقاطعه احد، لا من الذئاب ولا من الأنواع الأخرى، فالأجيال تعاقبت، وأنا مازلت أدوّن، كلمة كلمة وانقشها في سفر(ذئاب الرمال) كل شاردة، وواردة، حتى أفقنا في ذات يوم، لنشاهد جدي يقف أمام التمثال، متمتما ً بصوت مرح: ـ ولا احد بال عليك! ما ان أغلق فمه، حتى هطلت الأمطار، مدرارا ً، ليوم ولسبعة أيام ولأربعين عاما ً متعاقبة، ثم ظهرت اليابسة، بعد ذلك، لنشاهد جدي وقد تحول إلى حمامة، فرحنا، معها، نواصل إكمال النشيد.
[168] طفرات جينية تجرأ الشبل وسأل أمه اللبؤة: ـ نحن سبعة أخوة، وسبع أخوات...، لكن لا احد منا يشبه الآخر...، فهذا يبدو مثل دب، وذاك له ذيل تمساح، الآخر بلا مخالب، والرابع له خرطوم فيل، الخامس جلده مدرع، والسادس له رقبة زرافة، السابع مثل أختي، يزحف، والثانية تتلوى كأفعى، والثالثة لها أصابع قرد، والرابعة كغزال، والخامسة تكاد تتكلم مثل كلام الناس، والسادسة لها قرون، والسابعة ولدت وهي على وشك الولادة! شرد ذهنها برهة، وقالت بصوت خفيض: ـ حذار ان تخبر أحدا ً بالأمر! ـ أتقصدين لا احد رأى..، ولا احد سمع...، وان الجميع فقدوا حواسهم من الشم إلى التذوق مرورا ً باللمس؟ ـ اخرس، يا عاق، لا تفضحنا...، حتى يبدو لي إنني لم أحبل بك، ولم ألدك! فانا لا أتحدث عن الحواس، لأنها أصبحت من الماضي، عتيقة، بالية، خارج الاستخدام...، ولكن اخبرني من هذا الذي لقنك...؟ ـ يا سيدة الحديقة الأولى ...، لا احد...، انه عقلي! ـ آ ....، لا أتذكر إنني فعلتها مع واحد لديه عقل!
[169] كابوس ـ لا أسوار..، لا أقفاص، ولا حرس! وأضاف الضبع يقص الحلم الذي أفاق منه توا ً: ـ رأيت الرمال تمتد إلى ما لانهاية..، وفي السماء رأيت النجوم تتناثر رمادية، وثمة ريح تعصف بأسوار حديقتنا، فقلت: يا للمصيبة، نشبت الحرب مرة أخرى. سألها الدب: ـ والجبال...؟ ـ لم أر البحار، ولا الأنهار، ولا المدن، ولا الوديان...، فسألت نفسي: أين أنت يا ضبع..؟ لكن صوتي ضاع، فهرولت ابحث عنه، فتعثرت بالرمل، وسقطت، وما ان رفعت رأسي فلم أر إلا الصحراء تمتد إلى ما لا نهاية. سأله الأسد: ـ والأشجار...؟ ـ لم أر شجرة ولا وردة ولا دغلا ً عدا ومضات تصطدم بأخرى...، وكأن نهاية العالم قد حلت، فقلت: ما أسعدني! ساد الصمت...، فازدادت دهشة الضبع وهو يحدق في الوجوه الشاخصة نحوه: ـ لكنكم مازلتم على قيد الحياة....، غريب، يبدو ان العاصفة لم تقتلعنا بعد. ـ أيها الضبع ..، عد بذاكرتك إلى ما قبل زمن الطوافان الأعظم، وعد إلى ما بعد هذا الزمن...، ولا تغفل ما بينهما من نكبات، وكوارث، وإبادات، فلم يبق فوق البسيطة إلا مخلوقات هذه الحديقة! ـ غريب..، بالفعل، فانا لم أر، قبل ان استيقظ إلا دابات تدّب فوق الرمل، تقترب، لا يحصى عددها، وما ان أحاطت بي من الجهات الأربع، حتى أفقت، كي ترونني، وكي أراكم، وكل منا لا يعرف ماذا حدث بالضبط!
[170] استدعاء لم ينبس الذئب بكلمة، ففترة غيابه وعودته لم تستغرق أكثر من ليلة ظننا انه أمضاها في نزهة، لكنه ما ان سألنا: من أوشى بي...؟ حتى اجتمعت الذئاب من حوله، تحدق بعضها بالبعض الأخر. فالشك راح يحّوم متنقلا ً حتى لم تعد لدى أي ذئب رغبة بالدفاع عن نفسه. لم يكن الذئب يفكر بالهرب، ولا بتأسيس منظمة سرية، أو علنية، ولا حتى دعا إلى التمرد، أو الاحتجاج، أو إلى الاعتصام، بل ولا إلى الإصلاح، فكل الذي نعرفه انه لم يعد يعوي، أو يتذمر، أو يعاني من آثار الأسى أو الحزن، حتى انه شارك مرات ومرات في فعاليات السيرك، والاستعراضات الأسبوعية، والشهرية، والسنوية، وقد حاز على رضا المدير، ومساعده القائد الثعلب، وحاز إعجاب المستشارة سيدة الحديقة الأولى الببغاء، فلماذا تم استدعاءه، أو اختطافه إذا ً...؟ بعد ان انزوى في قفصه منشغلا ً بمداعبة أحفاده، وسماع طرائفهم. أنا أخبرته باستحالة وجود مخبر بيننا، رغم وجود شركاء لنا يسهمون بلقاءاتنا الجماعية، ويسهمون بالحفلات، والاحتفالات، ليس تزكية، أو دفاعا ً عن براءتنا، بل لوجود أجهزة بالغة الدقة تتنصت على عما يجري في أدمغة الجميع ، ولديها قدرة نبش المستور من ناحية، وتأشير ما سيحدث قبل وقوعه بدقائق من ناحية أخرى. أجهزة لا مرئية هي في الواقع شبيهة بجسور فوق حسية، تعمل عابرة للضفاف، والفواصل. صعق العجوز وحدق في وجهي: ـ كيف عرفت هذا كله...؟ ـ لن أخبرك، ما لم تفصح عما دار في السرداب؟ لا هو نطق، ولا أنا عدت إلى السؤال، فقد أكدت له ان العالم القديم برمته غدا ً مندرسا ً، وان حديقتنا تلفظ أنفساها الأخيرة. لم يبتسم، ولم يغضب، ولم يبد أسفه انه أصبح من الماضي، ولم يبد حتى رغبته بمعرفة كيف خرجت سالما ً...، لأنه لمّح لي، عبر صمته، بالذي غطس فيه. فرحت أعيد شرح استحالة وجود ومضة معزولة عن أخرى لا في نوعها ولا في اتساعها، فالجسور لا معنى لوجودها من غير قدرتها على أداء عملها على نحو تام. ترك رأسه يصعد إلى الأعلى، لأنه لم يعد يرى إلا ما لا يحصى من الموجات تنسج غزلا ً سمح له بالعودة إلي ّ: ـ تخيّل ...، تخيّل إن كل ما طلب مني ـ هو ـ تحديدا ً هذا الذي لا ضرورة لمعرفته!
[171] شفافية ـ سيدي، سيدي القائد، أعلنوا التمرد..! ـ من ...؟ ـ الجميع؛ البهائم، المفترسات، القوارض، البرمائيات، ومعها القمل والبعوض والذباب، وأحادية الخلية أيضا ً، ومعها التي تعيش في قاع المستنقع، وفي الظلمات... ـ غريب! أضاف المدير لمساعده الثعلب: ـ مع إننا، في حديقتنا، أعتقناهم من عبوديات البرية، وقسوة الغابات، فما هي أسباب التمرد...؟ ـ يقولون...، بحسب التقارير السرية، وقراءة الرأي، ان السماء لم ترسلك، وانك كنت توهمهم بذلك...؟ ـ كلاب! ـ لا، يا سيدي، هذا ليس من فعل الكلاب، ولا من فعل الطيور...، فانا اعتقد ان يدا ً غريبة دست السم في الرؤوس! وقد تتبعت مساراتها ووضعت يدي ّ على منافذها ..، لكن ...، للآسف، تحول التمرد إلى عصيان، وسيتحول العصيان إلى ثورة! ـ وحصل هذا بوجودك..؟ ضحك الثعلب: ـ سيدي، انتهى عصر الكلام...، والكتابة، كما أصبحت وسائل الاتصالات من الماضي...، فالبهائم جائعة! ـ آ ....، فهمت، الم تعد صياغة حكمة: إنهم سيحصلون على الطعام في العالم الآخر .. ـ نعم، لقد أعدت تفسيرها، وتأويلها، لكن البهائم مازالت جائعة! ـ ماذا افعل؟ التفت الثعلب وسأل الببغاء: ـ تدخل. ـ وهل سمحت لي بذلك...؟ ـ آ ...، إذا ً، سأعيد تشغيل المصانع، وأعيد البث للشاشات العاطلة، وسأوزع ما لدينا من ثروات مجمدّة. رد المدير: ـ افعل، افعل. قال الثعلب: ـ لن افعل، سيدي، فقد ترى البهائم في الأمر خدعة. ـ لا تفعل...! ولكن ماذا ستفعل؟ ـ سنضعهم أمام الأمر الواقع، ونجعلهم يختارون منزلة بين الموت جوعا ً وبين الموت تخمة! ـ جميل. قال الببغاء: ـ عدت إلى الحل الأول. ـ ليس لدينا إلا ان تغرقهم في الضوء، تغرقهم بالرفاهية..ّ تساءل المدير: ـ قد يبصرون المحجوب، والمخفي...؟ ـ سيدي القائد...، لم تعد هناك مخفيات يمكن التستر عليها...، من ناحية، كما ان شدة الضوء، تعيد للظلمات موقعها! ـ أحسنت! ثم بدأ الثعلب بتفقد أجنحة الحديقة، وحظائرها، وزار الزرائب، والمشاغل، والأقفاص، والبرك، والبحيرات، مؤكدا ـ للجميع ـ ان المدير اصدر عفوا ً عاما ً عن المحرضين على التمرد، والعصيان، خطوة للسير بدروب الحرية ... متابعا ً: ـ فما فائدة الثورة...، وماذا لو تحررتم من القيود، وعدتم إلى البرية، حيث الضواري بانتظاركم، مثلما البرد، والجفاف، والعواصف، والطاعون، والقمل، والأفاعي المتوحشة.... ساد الصمت. فعاد الثعلب يتكلم: ـ فلا أقوياء ولا ضعفاء، لا أغنياء ولا فقراء، لا موتى ولا إحياء، وإنما نحن جميعا ً في سفينة عابرة إن غرقت فحتى الطيور لن تجد يابسة تسكنها! سنعيد لكم الطاقة الكهربائية، ونضاعف وجبات الطعام، مع المزيد من الخدمات، والعناية ... لم يفتح احد فمه، ولم تصدر كلمة عن احد. فعاد متابعا ً لتلافي اللامبالاة: ـ وإلا ما الذي سيحصل....، سوى الموت سيعصف بهذه الأقفاص، وبباقي أجنحة الحديقة، وأنفاقها، وممراتها، وبركها، ومغاراتها...، حيث الأقوى ينهش لحم جارة نيا ً، وأمكركم سيمكر بأقلكم مكرا ً، ستتفشى البغضاء بينكم، وتنخر عظامكم، فلا تفيض القلوب إلا كراهية، وقسوة ...، يدب الوهن، والتراخي، وتنهار أجهزة المناعة، لا أسواق ولا تجارة، لا زراعة ولا صناعة، لا مدارس ولا مستشفيات، لا حدائق ولا متنزهات، لا خمارات ولا مؤانسات...! رفع الدب يده المرتجفة وطلب الكلام: ـ تكلم أيها الزعيم. قال الدب: ـ أعيدوني إلى الجبال، والى وديانها..، فانا لا استطيع محوها من ذاكرتي. قال الدولفين: ـ وأنا أرجعوني إلى البحر الذي ولدت فيه، وأمضيت زهرة شبابي فيه. وقال الكنغر: ـ وأنا، مثلهما، احن إلى الرمال، والبراري، والأنهار، والى الفضاء. ثم جاء دور البعير، فقال: ـ وأنا أين اذهب...، كلا، أنا سأمكث مع رفاقي! فبلادي تحولت إلى ساحة حرب، هجرها سكانها، وما عادت صالحة إلا لسكن الأشباح، والغرباء. زأر الأسد بصوت خفيض: ـ أيها البعير، انتبه، هذه ليست هي الشفافية، فاستيلاءك على الصحراء بمساحاتها الشاسعة يعد خطيئة، وإثما ً. خاطب الثعلب الأسد: ـ سنعيدك إلى غاباتك، هل جئت من أفريقيا..؟ اعترض الأسد: ـ لم اقصد ذلك، سيدي، بل قصدت ان لا تسلب حقوقنا السلسة، منا، كالتجول طلقاء مع شركائنا في هذه الحديقة الغناء! رد البعير: ـ عن أي حقوق تتحدث، يا فخامة الأسد، بعد ان أصبحت، لاعبا ً ماهرا ً على الحبال...، فلماذا لا ترجع إلى غابتك، حتى لو بالت عليك الثعالب، بدل ان تذهب إلى المحرقة، بعد قضاء حياتك في الأسر، داخل هذه الأقفاص؟ صاح النمر: ـ أنا أطالب بإنهاء هذا التمرد، لأننا، لو واصلنا العصيان، فلا احد سيضمن لنا البقاء على قيد الحياة. حتى القمل والبعوض والعقارب ستهرب، ثم ما مصير القنافذ، والنمل، والجاموس، والنعاج، والذئاب، والماعز، والتماسيح ...؟ زعق كبير التماسيح غاضبا ً: ـ لا ...، أنا وجدت فردوسي في هذا المستنقع. وامتد الحوار فترة طويلة تخللتها فترات استراحة، وهدوء، سنوات وعقود وقرون. قال الثعلب: ـ لن ندع أحدا ً يفر، أو يهرب...، أو يبحث عن ملاذ آخر غير البقاء معنا، في هذا الفردوس، بل على العكس، سنستقبل مخلوقات الدنيا بأسرها، في حديقتنا! ـ لا، لا، لا ، ! صرخ سكان الحديقة بصوت موحد. قال الثعلب: ـ والآن ...، تدركون إنكم أحرار، وطلقاء، فلكم الحق كاملا ً في اتخاذ القرارات الحكيمة. همس الدب في آذن الغراب: ـ هنا أو هناك...، هناك أو هنا، أنا سأبقى ابحث عن سمكة. فقال الغراب: ـ وأنا لن استبدل ريشي بريش الطاووس، ولا لوني بلون طيور الحب، ولا نعيقي بتغريد البلابل! صاح الثعلب: ـ أولادي ...، فلذات كبدي، أيها الجمع الطيب...،علينا ان نشيّد لزعيمنا صرحا ً يليق به في المساحة الواقعة بين غروب الشمس ومشرقها: لم يعترض احد. فقد تم تشييد الصرح في وسط الحديقة: شامخا ً أعلاه يلامس حافات السماء وأسفله يمتد بامتداد الأرض. قال التمساح: ـ لا بأس من وجود أجنحة للأسد، وخرطوم للنمر، وذيل طاووس للدب، لا بأس ان يحصل الذئب على وبر، والغزال على أنياب، والعصافير على مخالب صقر...، كي لا يشكوا أحدا ً من الغبن، ولا من الظلم! فقال المدير يسأل الثعلب: ـ كيف عالجت الأمر، أيها الماكر العنيد؟! ـ ها، ها، ببساطة، قلت لهم ان كل ما فوق هذه البسيطة هو، بمعنى من المعاني، يقع تحت السماء! وكل من ولد في القفص، هو في القفص وليس خارجه، وقلت لهم الكل لا يساوي مجموع أجزاءه إلا لأن الأجزاء لن تقدر ان تنفصل عن الكل الذي هو مجموع الأجزاء! وقلت: العبقرية لا تكمن في العثور على الدرب إلا إذا كان الدرب هو الحقيقة. وقلت: الثروات للجميع ما دام الجميع يعمل على مضاعفتها. فأخذت من كل ذي نفس نفسا ً وقلت لهم هذا هو البيان الذي لا بيان آخر إلا به، فكل بهيمة، وحيوان، وطائر، وبرمائي، ومفترس، وأحادي النوع، إن كان بحجم الحوت أو لا مرئيا ً كالفيروسات، يأمل ان يبقى يرقص فوق خشبة المسرح، وان سيادتكم ـ أيها المدير الخالد ـ أمرتم بذلك، فأدرك كل من لديه بصر ان الظلمات بلا ضوء ليست إلا ضوءا ً يتموج داخلها، فالمحيط بلا ساحل يوازي الساحل بلا محيط، وكل من يولد لن يموت، وكل من يموت سيبقى يولد، فلا مسافة بينهما، عندما لا تغادر حدودها بين الولادة والموت! ـ حقا ً، أيها الماكر، إنك هبة المجرات النائية إلى هذه الحديقة!
[172] دخان القائد هل كان غبارا ً أم غيوما ً ...، أكان دخانا ً أم عاصفة ...، ذلك الذي بدده أزيز مرور عربة نقل الموتى، في ذلك الصباح، الشديد البرودة، فقد توجهت الأنظار، والآذان، إلى ما خلفته من أصداء، هي الأخرى، سرعان ما تلاشت، فلا غبار، ولا عربة، ولا أصداء. فدار بخلد أكبرهم سنا ً: فقد ظننا إننا نستطيع محو ذكراه من رؤوسنا! متابعا ً: فهو لم يترك وكرا ً، ولا مغارة، ولا زريبة، ولا حظيرة، ولا جناحا ً، ولا جحرا ً، ولا كهفا ً إلا وحول ساكنيه إلى مجموعة أرامل وأيتام ومعاقين، والى خائفين حزانى والى هاربين ومهاجرين....، كان ذئبا ً استثنائيا ً بين مخلوقات الحديقة، اجتمعت فيه شراسات أشرس المفترسات، ومكر أمكرها، وسم أكثرها فتكا ً، وقسوة من ولد وقلبه خاليا ً من الرحمة...، وعقله من غير حكمة...، ولد كي يمحو سابقيه ليكون قدوتهم في الجور، والبطش، والمحو. مرت العربة التي حملت جثمانه نحو المحرقة. فقلت مع نفسي: ـ مرت العربة وهي لم تترك إلا أزيز عجلاتها الصدئة، تأز، كأنها لم تقدر على كتمان أساها، مثلما أصبحنا نجهل ان كانت السماء أمطرت دخانا ً أم رملا ً، مثلما تلاشت اشد الأيام هولا ً، فماذا انتظر...، وأنا استطيع ان الهرب ...؟ ـ يحق لك، يا سيدي، ان تفكر بالهرب...، ولكن ما هو مصيرنا، في هذه الزرائب، والمغارات، والأقفاص، والجحور، والأوكار المظلمة...؟ ـ أخي الكبش، وأنت أيها الحمار، وأنت ِ أيتها الغزالة، وانتم جميعا ً، بلا استثناء....، إن لم نهرب، فالنهاية أعدت لنا قبل مولدنا، وإن هربنا، فهناك أمل وحيد وهو ان نبقى نبحث عن أمل بالعثور على أمل بالملاذ....! اقترب الحصان منه: ـ اخبرني...، هل تستطيع ان تقول للسماء: لا تمطري غبارا ًبدل المطر...، هل تستطيع ان تسأل التمساح من طلب منك ان تنتهك حقوق الضعفاء...؟ وها هو جثمان القائد يذهب، حيث تصعد روحه دخانا ً رماديا ً إلى المجهول...! صاح الأرنب: ـ دعك من هربنا الآن...، دعونا نشهد نهاية زعيمنا، على أمل ان لا يأتي اخر يتفوق عليه! تساءلت الغزال: ـ من أتى بزعيمنا الجائر، سيأتي بآخر اشد جورا ً منه. عاد الثور إلى الكلام: ـ لن أتراجع...فانا أمضيت حياتي انتقل من متاهة إلى متاهة أخرى، على أمل ان أجد نهاية لهذه المتاهات..، ولكن من ذا يستبعد السكين عن رقبتي؟ صاح البلبل: ـ حولتم نهارنا إلى مأتم! فضحكت الغزال: ـ ومتى كنا في عرس، ومتى كان لنا عيد؟ ـ صحيح.. وأضافت الأرنب: ـ هيا، أيها الجمع الطيب، يا سكان هذه الحديقة، لنذهب إلى المحرقة ونرى ما يحدث. رفع الجميع رؤوسهم إلى الأعلى، حيث ثمة حلقات بيضاء تصعد إلى السماء، مندمجة بدوائر رمادية، وأخرى حمراء، وثالثة فسفورية شديدة التوهج، فوق الحديقة: ـ الم اقل لكم، أيها الضعفاء، لن تترك السنوات العجاف، حتى علامة لها، فلا شاخص يحمل ذكراها، ولا اثر...، سوى دخان الملعون يتلاشى في الهواء. فتساءل الكبش: ـ ولكن ماذا حصلنا عليه سوى انتظار الموت القادم....؟ قال الفأر: ـ سيدي، ألا تكون نهاية الطاغية درسا ً لنا... أجاب الثور: ـ ولكنها لن تكون درسا ً لسواه من القادمين...، فالسلطة هي السلطة، والكرسي هو الكرسي، فهل تستطيع السكين ان تقول لا ليد القصاب، وهل يستطيع القصاب ان يمتنع عن ذبحنا، ويمتنع عن تلبية طلبات الجائعين...؟ قالت الأرنب: ـ دعوني استمتع برؤية دخان زعيمنا يتلاشى مع الغبار...، لعلها تذكرة نافعة لنا. عاد الثور يتمتم مع نفسه: إن استسلمت فستموت آلاف المرات قبل الذبح، وإن لذت بالفرار فلا مناص... صرخ الثعلب: ـ إلى أقفاصكم، يا أبنائي، فهناك بشرى ....! عادوا جميعا ً إلى حظائرهم، وأقفاصهم، وأجنحتهم، وجحورهم، بانتظار البشرى. امتد الوقت، نهارات بلياليها، ونهارات بلياليها، عقود أعقبتها قرون، ومرت حقب تلتها دهور، ولم تفطن أصابع النقاش إنها كانت تمحو ما كانت تدونه، وتدوّن ما كانت تمحوه، بعد ان ضاع اسم الكاتب من الكتاب.
[173] رسالة وصلت الرسالة حالا ً، نقلها طائر السنونو، إلى جناح الطيور، اخبرهم ان جدهم مازال يعيش في الغابة التي لا حافات لها، تحيط بها البحار، وتتخللها الانهار، والشمس لا تغيب حتى عند حلول الليل، الماء وفير والطعام غزير والهواء عليل... فاعترضت إحدى الحمامات: ـ أيها السنونو، فما هي شكوى جدنا إذا ً...؟ ، انه يقول مادمت لا ترغبون بالهجرة إلى الفردوس، فنه عزم ان يكفر عن ذنوبه ويعود إليكم. ـ غريب. وتساءل الغراب: ـ جدنا يشبه بعض الناس لا يميزون بين الجنة والجحيم...، فما اغرب الدنيا، ان تجد فيها من يبذل أقصى الجهد للحصول على المزيد من الشقاء...؟ أجاب السنونو: ـ ها أنا أخبركم ان جدنا بلغ أرذل العمر، وأصبح وحيدا ً لا يعرف ماذا يفعل بسعادته...، فهو لا يأكل، ولا يشرب، ولا يتمتع بالضوء، ولا بالهواء ...، فقد اخبرني انه لا ينوي العودة إلى الجحيم، بل ان يلتقي بمن مكث فيه! ضحك الحمار: ـ يا لها من طرفة ...، كائن يعيش في الفردوس يرغب بالعودة إلى جهنم! ثم يقول: اشتقت للقاء ملائكتها الأبرياء! رد الحصان عليه: ـ تريث، يا ابن الأتان، اسأل شقيقك أيرغب بالسفر إلى جنّة جده؟ أجاب البغل: ـ لن استبدل وطني حتى بالفردوس! ضحكت النعامة: ـ اعتقد إننا اجتزنا حدود الحلم! كما كان جدنا قد اجتاز حافات الجنون! ـ ونحن...؟ تساءل الحمار: ـ نحن أصبحنا منزلة بين منزلتين الأولى اشد مرارة من الثانية؛ فلا احد اختار ولادته، ولا احد استطاع ان يختار نهايته! قال السنونو: ـ أرجوكم ...، أيها الأعزاء، فانا عشت هناك، وها أنا أعيش هنا...، مع إنني أمضيت حياتي كلها بين السفر بين هنا وهناك، وبين هناك وهنا، إلا ان جدكم كان قد لاذ بالفرار للنجاة بنفسه من الموت ... قالت الحمامة: ـ ولكننا لم نهرب، حتى عندما حصد الموت اعز أبنائنا.. فسألها الحصان: ـ كم كانت خسائركم..؟ ـ سيدي، لولا الخسائر، لكان الربح بلا معنى، إن لم يكن فائضا ً! وأنتكم تعرفون ماذا يحدث للأسماك في البحار...، فكم أعدادها الهالكة من اجل قليل من الحيتان؟ ـ مثال يكدر النفس! عاد السنونو إلى الكلام: ـ لا مشكلة، أيها الشركاء، لأن جدكم عزم العودة! صاح الأرنب: ـ كي يختتم حياته بأرقى درجات السعادة. قالت الأتان: ـ كلها أمور غريبة: يتخلى عن وطنه الذي وفر له كل سبل الحياة، ثم يتخلى عن فردوسه.. أجاب السنونو: ـ لا جدوى من هذا الاختلاف: فمن يرغب بالذهاب إلى جدنا، فانا ساداكم على الطريق... ـ كم المسافة...؟ وتساءل النورس: ـ التي تفصلنا عن الفردوس...؟ ـ ليست بعيدة، فالأبدية تبدأ بصرخة الوليد..! ضحك البغل: ـ وتنتهي بقطع الرأس! ـ هذه هي المصيبة: لا تسمحون بعودته إليكم، ولا تذهبون انتم إليه. اعترض احدهم: ـ لا ..، المشكلة ليست هنا، أيها السنونو، بل هل تضمن بهجرتنا جميعا ً، ونتخلى عن حديقتنا، مادمنا لم ننقرض طوال أزمنة الإبادة..، من ناحية، وهل لديك ضمانات ان تدوم سعادتنا هناك، في الفردوس، من ناحية ثانية...؟ ـ لا رد لدي ّ...، فانا نفسي أحيانا ً أجد سعادتي في الجحيم، مع أهلي، ومع كل من ولد هنا، وأحيانا ً أجد شقائي في الفردوس، هناك، مع الغرباء...، مع ان حديقتنا لا تبدو اكبر من حبة رمل في بيداء الأرض!
[174] هديل ـ غريب أمر تلك الحمامة. سأل الذئب الدب الواقف بجواره، فأجاب الآخر: ـ بل الأغرب انك لم تعد تعوي! ضحك الذئب: ـ تركوني اعوي حتى أصبحت لا احتمل سماع احد ينوح أو يولول أو يبكي! أما تلك الحمامة فانا لا اعرف متى تكف عن الهديل...؟ أجاب الدب: ـ لكنك لم تسألني لماذا لم أبح بكلمة طوال سنوات حجزي في هذه المغارة؟ ـ وما ... أدراني..، فأنت عشت وحيدا ً مع نفسك! ثم من قال لك إني اعمل بالسحر..؟ ـ لا ...، لأنني أمضيت حياتي احلم إنني أتجمد تحت الثلج، رغم ارتفاع درجات الحرارة، والغبار، والدخان، والضوضاء، في هذه الحديقة،؛حلمت إنني اغطس في البحر المتجمد تحت جبال من الجليد ...، وما ان استيقظ، حتى أعود استدرج ممرا ً يدلني إلى القارة البيضاء، حيث لا أجد ضرورة للبوح بالأمر! فقال الذئب: ـ ولكنك لم تخبرني لماذا لا تكف هذه الحمامة عن الهديل...؛ أتراها فقدت من تحب، أم خائفة على حبيب ستفقده، مع إنها طليقة، تحّوم في الفضاء..؟ ـ كيف عرفت...، وأنت نفسك تقول ما الذي يعذبها..؟ ـ آ ....، فهمت. ـ ما الذي فهمته أيها الذئب العجوز...؟ ـ إنها لا تقدر ان تذهب ابعد من سماء هذه الحديقة.. ـ جميل، وماذا أيضا ً...؟ ـ وإنها ترانا من موقعها كيف نولد ونعيش ونموت داخل أقفاصنا، وجحورنا، وأجنحتنا، وحظائرنا، ولا رغبة لدينا إلا بالبقاء فيها! ـ وبعد ...؟ نادى الذئب على الحمامة: ـ اقتربي. اقتربت منهما، فسألها الذئب: ـ ما الذي يجعلك لا تكفين عن النحيب؟ ـ أنا لا أنوح على ما فقدت ...، بل على الذي أراه يغيب. ـ ولكن هذه هي الحياة، أيتها الحمامة: منها نخرج واليها نعود! ـ حقا ً...، أنت بحت بسر صمتك، أما أنا فلم أجرأ بالبوح بسري، فلعلك، لو أصغيت، لن تكون بحاجة إلى هذه الأسئلة!
[175] لغط ـ ذهبت بنفسي وقلت لسعادته: صحيح إنكم وفرتكم لنا بعض الخدمات، كالعناية الصحية، والطعام، ووفرتم لنا مساحات كبيرة من الأرض، ومنعتم الآخرين من أهانتنا، وشتمنا، وكدتم ان تنهوا عصر العبودية، والكراهية، والبغضاء، فلا احد يستخدمنا للحرث، أو الموت في الحرب، أو في جر العربات، وفي نقل الأثقال... قاطعه الحمار الأبيض، ممثل الحمير، من غير إخفاء سخريته: ـ كأنك ذهبت لتمجد أعمالهم...؟ ـ تريثوا، يا أصدقائي الحمير، فالتسلسل في الحوار لم يكن مناورة، ولا زائفا ً...، لأنني لو أخبرته عن أسباب اللقاء، لطردني! وانتم تعرفون النتيجة. صمت. فاقتربت الحمير منه، بانتظار ان يكمل كلامه. لم يتكلم. كان يحدق في الوجوه، الواحد بعد الآخر، ثم بدأ يبكي: ـ أخبرته ان حقوقنا سلبت منا، وإننا تعرضنا للانتهاكات، عبر ملايين السنين، وفي مختلف الأزمنة، وصولا ً إلى عصر الديمقراطية، والشفافية، والعدالة الناعمة! قاطعه احدهم ليسأله: ـ هل أصغى لك حقا ً..؟ انسحب، وأغلق فمه. فقال آخر: ـ كان علينا ان نرسل من يخبر المدير، بالحقيقة، ونقول له مباشرة: إننا، بدل حمل الأثقال، وجر العربات، واستخدامنا في الأعمال الشاقة، قبل ان يتم أسرنا ...، ووضعنا رهن الإقامة، هنا، في هذا السجن الكبير، ان جنسنا يتعرض للانقراض...، والإبادة، والمحو! ساد الصمت فترة غير قصيرة، فعاد متابعا ً: ـ لقد صمدنا زمنا ً طويلا ً ضد الجور، والقسوة، والتمويهات، كي تصدر أخيرا ً لائحة حقوق الحمار...، فما هي الحصيلة، وما الذي حصلنا عليه...؟ لم يجد أحدا ً يتعاطف معه، فعاد يتكلم بصوت غاضب، موجها ً حديثه إلى الحمار الأول: ـ لماذا لم تخبره بما يحصل لأشقائنا في هذا العالم..، في الوقت الذي أصبحنا نعاني من السمنة، مثل الخراف، والنعاج، والأبقار، نسمن كي نصبح طعاما ً للمفترسات ...، لماذا لم بأننا نرغب بالعودة إلى وطننا ...! لمحت الحمير المدير يقترب، بصحبه مستشارته، الببغاء، ومعاونه، الثعلب، والأسد، كاتم أسراره. اقترب المدير...، وخاطب المتحدث: ـ أكمل، لطفا ً فانا استمع إليكم...! ـ أنا..؟ ، نعم، أنت.. ـ هل أذنبت ..؟ ـ لا! من قال انك أذنبت...، ولكن دعنا نستمع إلى ملاحظات مساعدنا الثعلب: ـ لقد عملنا لمنحكم حقوقكم كاملة، بعد ان كانت قد سلبت منكم خلال آلاف السنين... وسأل الثعلب الحمار الصامت: ـ اخبرهم بما قمنا به من أجلكم. أجابت الببغاء: ـ أنا أخبركم ماذا قال: لقد أتمنها بأننا ننسج مؤامرة مدبرة ضدكم! لصالح السادة النمور، والتماسيح، والأسود، والذئاب...، ولم نعاقبه، فالسيد المدير أكد أهمية حق التعبير، كالحق في العمل، وكتوفير أساسيات الحياة، لأنها جميعا ً نشترك في تعزيز الشرعية ...، فانتم أحرار أيها الزملاء في استئناف الحوار، بدل الهمس، وبدل الوقوع في الأخطاء... قال الحمار الأبيض: ـ دعونا نستمع إلى توجيهات سعادة المدير .. ـ قانونا الجديد، المشرع وفق العدل والعقل والحكمة، لا يسمح لي بإصدار القرارات الفردية...، فهناك لائحة العدالة، ولائحة الحقوق، ولائحة الاستئناف...، فهناك المصير الذي نتوخى ان يحقق التوازنات بينا كشركاء أحرار ... ساد الصمت، بانتظار ان يتكلم الثعلب، لكن الأسد قال: ـ بعد سنوات طويلة أمضيناها في البراري، والغابات، وذقنا فيها الويلات، والنكبات، حتى كدنا نلحق بأسلافنا التي انقرضت، والأخرى التي تتعرض للإبادة، والاجتثاث، فهل تدركون مغزى ان لا يكون لنا ـ أو لكم ـ وجود...؟ فأنت، أيها الحمار الأبيض الجميل، هل تعرضت للإساءة...، فإذا أجبت بنعم، فمن أساء لك، ومن أساء إلى أي موطن من موطنينا الأحرار، في هذه الحديقة...؟ أيده الثعلب، قائلا ً: ـ أما إذا كان اعتراضكم على القانون ..، فانا ـ والسيد الأسد ـ والسيد قدوتنا المدير، ومعنا انتم مادة الوجود، فكلنا سنتعرض للأذى، بل وللانقراض....، فهل تفضلون العودة للمطالبة بحقوقكم التي سلبت منكم...، ام الحفاظ على منجزاتنا والتقدم من غير عثرات نحو بناء مستقبلنا ...؟ اقترب الحمار الأول: ـ سيدي، أنا لم يسمح لي احد بالكلام! قال الأسد: ـ تكلم، مع تقديرنا لزميلك الحمار الأبيض الذي أفرط في سمنته: ـ كنت أريد ان أقول لهم ان المشكلة لا تتعلق بحقوقنا، ولا بالحمير في الحدائق الأخرى، بل بالعالم ذاته الذي يشرف عليه عدد من الأشرار! صاح الحمار الأبيض: ـ لا فائدة من الحوار! تدخل الأسد قائلا ً: ـ ها أنت تدعوا لإشعال نيران الحروب! ـ سيدي، ماذا لدينا غير كرامتنا، فنحن نفضل الموت دفاعا ً عنها، بدل العيش أذلاء، خانعين! خاطبت الببغاء الجميع: ـ حسنا ً..، سنعيدكم إلى البرية...، فالذئاب والضباع والكلاب بانتظاركم! صاح الحمار الأول: ـ أنا لن ابحث عن وطن آخر، فانا ولدت هنا، ولا أريد ان تفترسني الضواري هناك. اقترب زميله منه، وصفعه، وخاطب الجميع: ـ هل تتذكرون لماذا فضل سقراط الموت...؟ أنا ساحبكم: انه قرر اختيار الموت، مرة واحدة والى الأبد، كي يأتي اليوم الذي لا نجرجر فيه إلى الموت في كل يوم. صفق الثعلب: ـ لقد انتصرنا! ـ أتسخر مني...، أيها الماكر، من مكاسبك الشخصية، كما فعل زميلك الأسد، وغدا لاعبا ً جيدا ً على الحبال، ومثل السيدة المستشارة، وأصبحت تجيد المواعظ، تاركين مصائرنا في مهرب الريح. خاطب المدير الحمار المذعور: ـ حقا ً إن الحياة من غيرك، أيها المتمرد، تغدو خالية من الإثارة، وربما من المعنى!
[176] ممرات لم ينبس بكلمة، ولم يذرف دمعة واحدة، فلم يكن رحيل جده زعيم الفئران، صدمة، بل حدثا ً أصبح مألوفا ً، بعد موجة الجفاف، وتعرض الحديقة للإشعاعات، والعواصف الذرية، غير المرئية، وبعد فقدان الطعام، والهواء الصالح للاستخدام. لهذا لقي قراره بحمل جثمانه إلى النهر، استجابة من لدن الجميع، ليس لأن المحرقة، في الحديقة، بأبوابها الفولاذية، عاطلة عن العمل، وليس لأنه قد ينقل مع النفايات، أو تترك جثته في العراء، أو ترمى إلى المستنقع طعاما ً للتماسيح والضفادع والأسماك، بل لأنه قرر ان يعيده إلى المنبع، المصب، الذي طالما حدثه عنه حيث الأصل لا يرجع إلا إلى الأصل. لم تكن الممرات، والعمارات، والمؤسسات، والبنايات الحديثة، ولا الشوارع ولا مفارز الحرس والدرك والقوات السوداء، ولا حركة السابلة، والممرات الخاصة، قادرة على غلق المنافذ بين خلفية الحديقة، ومجرى النهر الكبير. فقد مكث، على مدى سنوات، وبعد انتصاف الليل، يذهب إلى النهر، مستدلا ً بعلامات درب صارت ملامحه واضحة لديه. فاختار زمرة عزمت على أداء المهمة، بلا تردد، ومهما كلفها الأمر، ومعها جرذان الغابات، والبراري، والمرتفعات، وفي ليلة شديدة البرودة، حالكة درجة الصفر، للقيام بتنفيذ المهمة، كما خطط لها، وبنجاح تام. وضع جثمانه عند حافة الماء، وطلب من الجميع، الصمت حدادا ً، وإجلالا ً، ووفاء ً. ولم ينبس بكلمة، وبعد الانتهاء من فترة الخشوع والإجلال والوقار، أومأ لهم بالانسحاب، والعودة، عبر الممرات ذاتها التي عبروها، بسلام، وسرية. ـ وأنت يا زعيمنا...؟ لم يجب. فانسحبت المفارز، تحت جنح الظلام، الواحد بعد الآخر. ـ الفارق بيني وبينك، أيها الجد العظيم ...، انك عشت حتى شبعت منها وحتى شيعت هي منك...، أنت أبصرتها في مخفياتها مثلما هي أبصرت في مخفياتك، ارتويت منها وارتوت منك، عذبتها فعذبتك، حتى أصبحت اجهل من أصبح فائضا ً عن الآخر، ومن فسخ العقد....؟! رفع الجد رأسه هامسا ً: ـ ليس باستطاعة احد منا، أيها الزعيم المبجل، ان يخبرك...، فكلانا، في الأخير، أكمل الدورة! ـ بالتأكيد لم تقصد ان تقول لي: بلغت ذروتها! ـ أحسنت...، فلو كان هناك من يخبرك بالسر، لتطلب ان تعرف سره، لأن الأسرار لا تغيب، ولا تستحدث! سرت عبر أصابعه النحيلة قشعريرة الماء عبر جسده. فدار بخلده، كم كانت غامضة وناعمة وملغزة، وثمة رائحة ما سرعان ما تحولت إلى ومضات لم تدعه يفكر أيهما كان قد تقدم على الآخر، كي لا يضطر لانتظار من ينشغل بوداعه، وفي الوقت ذاته، لا يجد ضرورة للانشغال بكتمان السر، أو إعلانه.
[177] موعظة ـ اصبر، اصبر....، كي تلقى حتفك بهدوء! فأجاب الخروف الثور بأسى عميق: ـ صبر جدي، وصبر ابنه، وها أنا أوصي أحفادي بالصبر....، لكن السكين، أيها الثور العزيز، عمياء! فاخبرني ماذا يدور براسك وأنت تعرف ان جلدك سيصبح أحذية...؟ أجاب بألم مكتوم، ساخرا :ً ـ أكاد اسمع أصداء أقدامهم فوق الأرض! فضحك الخروف: ـ وأنا أكاد اسمع أصوات قرع الطبول التي صنعوها من جلدي، واستنشق رائحة الصوف من ملابسهم! ـ الم ْ اقل لك اصبر...، فحتى السكين العمياء تجهل سر اليد التي تمسك بها...، لأن القصاب نفسه لا يعرف كم مرة يموت قبل ان يلقى حتفه. ـ هل نصحته بالصبر...؟ ـ أنا سمعت السكين تقول له: يا ظالم، أسرع، فرائحة الموت لا تحتمل. ضحك الخروف: ـ وأنت ماذا تقول...؟ ـ لولا الصمت، لكنا خدعنا الكلمات!
[178] أسرى ـ ما الذي جاء بكم إلى هنا...؟ سأل الأرنب الغزال، فرد الأخير ساخرا ً: ـ كما فعلت الأسود، والنمور، والتماسيح..، تخلت عن غاباتها، وبراريها، كي تنعم بالأمان! ـ كأنك تقصد إنها لم ْ ُتأسر، رغم انفها، لتمتع بهذا النعيم؟ ـ يا صديقي الأحمق...، وهل هناك احد يختار بإرادته الدخول إلى السجن، أو الذهاب إلى الجحيم...؟ ـ نعم! وأضاف الأرنب: ـ نحن عندما فقدنا برارينا وغاباتنا وودياننا...، باستيلاء البشر عليها، وبعد ان طردونا منها، ولم نجد ملاذا ً لنا...، التجأنا إلى هذه الحديقة. فقال الغزال: ـ هذا يعني إنكم اخترتم الجحيم بأنفسكم! ـ لا! نحن هربنا من بلادنا خشية الموت فيها، ولم نجد مكانا ً لنا، رغم اتساع الأرض وغاباتها وبراريها، فلذنا بهذه بأقفاص هذه الحديقة، زعيمنا قال: لننتظر نهاية حروب البشر، ونهاية سطوتهم على الأرض، واستيلائهم على ما فيها، كي نرجع إلى ارض أسلافنا. صحيح دمروا فينا الإرادة، ولكنهم لم ينتزعوا أحلام عودتنا أبدا ً! رد الغزال، مرة ثانية، ساخرا ً: ـ لا في المرة الأولى كسبتم شيئا ً، ولا في الثانية، فانتم أينما ذهبتم ترددون مع أنفسكم: لعل الجحيم وحده اقل قسوة منهما!
[179] العصر الناعم ـ لم نترك مكانا ً لم تصله .. وتابع الغراب قراءة الرسالة، مرة ثانية، بصوت متوتر: ـ أجسادنا...، فقد اعددنا ما يكفي للمهمة. أجاب الهدهد: ـ كانت لدينا معلومات مؤكدة عن تسلل عدد كبير من الفئران الانتحارية، وقد برمجت برمجة متقنة، وبمشاركة فصائل من الجرذان، والصراصير، والخنافس، وأبو جعل، وغيرها من المخلوقات الوضيعة. تساءل الببغاء: ـ إذا كان القضاء عليهم لا ينهي الفتنة، ولا يقلل الخسائر، فلماذا لم نمنحهم حقوقهم المشروعة، بدل هذه المناورات التي قد لا تقود إلى الحسم، والسلام...؟ خاطب الثعلب الغراب: ـ لطفا ً أكمل.. تابع الغراب: ـ وقد تضمنت مخططاتهم نسف الأسوار، وهدم الأقفاص، وتخريب الأجنحة، والمغارات، بغية إطلاق سراح الجميع. صاح الثعلب: ـ هذا بمثابة إعلان حرب! أجابت المستشارة: ـ كما قال خبير المعلومات، السيد الهدد، فان المؤامرة ستذهب ابعد من إثارة الفتنة، وابعد من إشعال الحرب، وابعد من الهدم، والقتل، والتخريب...، فالمؤامرة تستهدف محونا من الوجود! ارتبك الثعلب قليلا ً، وأجاب بغضب: ـ أغلق فمك...، فاليأس خيانة، والخوف تخاذل، والتردد جريمة! فكيف وأنت تبث كل ما يحبط العزائم، ويبث روح الهزيمة؟ قال الغراب: ـ سيدي، لقد تم هدم الجناح الغربي، وما جاوره، ففرت الحمير، والبغال، والجاموس، والإبل، والماعز، وحتى التماسيح تضررت من موجة التفجيرات، والأعمال التخريبية...، ومن القتل العشوائي، واستبدال النظام بالعشوائية! أجاب الثعلب بصوت بدت عليه الحيرة، والتردد، والأسى: ـ هل نتخلى عن مجدنا، وحديقتنا...، للجرذان، والضفادع، والفئران...؟ ـ سيدي، إنهم يزحفون، بمساندة الأفاعي، وبمشاركة فصائل من الضباع، والذئاب، وبنات أوى، ومجاميع من القطط المتوحشة، والكلاب السائبة. قالت الببغاء: ـ هذا ليس إعلان حرب، بل هو الخراب. فسأل الثعلب الهدهد: ـ أين كنت...؟ أجاب الهدهد: ـ أخبرناكم بأدق المعلومات، ومنها التي لم تقع، والتي مازالت تدور في العقول! فماذا كانت أجراءتكم، سوى التراخي، وعدم التصديق، والشك، وهي التي مهدت للتمرد الذي تحول إلى عصيان، والأخير أصبح ثورة! صرخ الثعلب مرددا ً: ـ ثورة، ثورة، لا أريد ان اسمع هذه الكلمة, متابعا ً أضاف: ـ أيها الأسد، وأنت أيها النمر، وأنت أيها الفيل ...، لنعقد جلسة طارئة واتخاذ ما يلزم. ضحك الحمار: ـ سيدي، انظر...؛ الفئران ارتدت أحزمة ناسفة، والجرذان تحولت إلى ألغام موقوتة، والضباع جاءت بالعربات المفخخة، وفصائل أخرى عزمت على نسف الحديقة ومحو علاماتها، من اجل استبدالكم او قتلكم! تمتم الثعلب مع نفسه بصوت مسموع: ـ أنا لا اعرف من اجل من يموتون، الحمقى، لم يفطنوا حتى للمناورة! أجابت الغزال: ـ من اجل الكرامة. وأضاف الثور: ـ والحرية. وقال الكبش: ـ والرفاهية! سأل الثعلب مساعده باستغراب: ـ من منع عنهم الكرامة والحرية والرفاهية...؟ لم يجب عليه احد من الحضور. فتساءل مرة ثانية: ـ من حرمهم من الهواء والماء والضوء والأمن والرخاء ....اخبروني...؟ لم يتفوه احد بكلمة. فصرخ الثعلب في وجه الأسد: ـ أيها الخائن! جرجروه عنوة حتى توارى. قال الثعلب: ـ أعطوهم الرفاهية، ثم وزعوا الكرامة، وانثروا لهم الحرية! صاح التمساح: ـ أيها الزعيم، لم يتركوا حجرا ً فوق حجر، ولا بيتا، ولا مؤسسة، ولا مغارة، ولا جناحا ً، ولا قفصا ً...، إلا وأشعلوا النيران فيها، ونسفوها، وخربوها شر تخريب، بعد نهبها، وسرقتها! وما نحن الآن سوى زمرة أشباح ضالة كأنها جذوع خاوية محشوة بالهواء! دوى انفجار، تبعه آخر، فقال الثعلب بصوت عال ٍ: ـ أيها البواسل، أيها الفرسان، أيها الأبطال....، إلى الحرب! ضحك البغل يخاطب الماعز: ـ مع من يتكلم زعيمنا الخالد...؟ ودوى انفجار ثالث، ورابع، ثم انهالت القذائف فوق الساحة الكبرى، بعد ان اخترقت الجرذان الممرات المحصنة، حيث بدأت تدوي انفجارات في الأجنحة، والإسطبلات، والمغارات، والزرائب، وقد تم احتلال مركز الحديقة، بعد ان خربت التماثيل، ومزقت الصور، ونسفت شاشة الحديقة، وبعد اقتلاع الأشجار، وتخريب المرافق الأخرى. في الملجأ المحصن، قال الثعلب لمساعديه، بصوت مرح، رزين: ـ محض سحابة، هواء في شبك، زوبعة في فنجان...، فما ان تنتهي هذه اللعاب، وما ان تخمد حرب الجميع ضد الجميع، حتى يبدأ عصر الأنوار: عصر المصالحة! دخل قائد الحمايات مضطربا ً وقال: ـ، سيدي..، امسكوا بالقائد، ومزقوه شر ممزق، وسحلوه، ومسحوه بتراب الأرض، وهو صار ممحوا ً محوا ً...، والقصة بدأت هكذا ـ سيدي الكبير دام زمنك إلى ابد الآبدين ـ أراد السيد القائد ان يتباهى بمجد حديقتنا، وقوانينها، وقوتها التي لا تقهر، إلا ان الموجات الانتحارية راحت تزحف من الجهات كافة، من الحفر، ومن الشقوق، وتخرج من الأنهار، ومن الآبار، ومن المستنقعات، وتهبط من السماء، تتساقط مثل اسماك تنفجر حال ملامستها الأرض....، فلم يبق شيئا ً في حديقتنا إلا وتحول إلى رماد، وركام، وأنقاض، وغبار! ابتسم المدير، وسأل الأسد الذي لا يعرف كيف دخل: ـ ماذا تفعل هنا..؟ ـ سيدي...، طالما أخبرتك ان الحرب لا تجري فوق الأرض..، بل داخل العقول! كاد المدير ان يفطس من الضحك، حتى لم يقدر على الوقوف، فسقط أرضا ً، ثم لوّح بأصابعه ساخرا ً: ـ إن كانت الحرب تجري فوق الأرض، أو في العقول، فالبركان انفجر، والأرض زلزلت، والطوفان وقع...، مادمنا نحتمي داخل هذه الملاجئ المحصنة، فليس علينا إلا ان تكتمل دورة الغضب.... ساد صمت، بدده الخنزير بسؤال: ـ إذا تحولت حديقتنا إلى رماد، وغبار، فعلى من تحكم، أيها الزعيم الخالد؟ نهض المدير، واقترب منه: ـ وهل صدقت، في يوم من الأيام، ان حديقة كانت هناك...؟! ـ آ ...، طالما قلت ذلك لنفسي! أومأ المدير لحمايته باستبعاده. فصرخ: ـ انتظر ...سيدي الأبدي، دعني أكمل، فانا قصدت شيئا ً آخر غير الذي دار ببالك! قال المدير: ـ انتبه، أتعلب علينا، أم أصبحت تجديد المناورة، والتمويه؟ ـ أنا لا العب، ولا أناور، ولا أموه...، فانأ لا ارقص، ولا اعوي، ولا اشتكي...، فانا طالما استنتجت ان زعامتك شبيهة بالجواهر الخالصة، ولا علاقة لها بما حدث، وما فعله الرعاء، وما ارتكبه القطيع من شناعات، وخساسات، ونذلات، وسفك دماء، والآن ...، بعد ان تخمد النار، لن يعد للثعابين، ولا الفئران، ولا الأرانب، ولا العقارب، ولا القمل، ولا الكلاب من وجود، ولا حضور، ولا حتى بقايا أطياف! ذلك لأن زمنك الذي انتظرناه طويلا ً، يكون قد بدأ ...، فبعد ان تختفي هذه الزعانف، والزوائد، والدهماء، والرعاع، والفتات، وبعد ان نجمع رمادها ونذره في الريح...، يبدأ زمنك الجميل، زمن نهاية الجور، والطغيان، فتسود المودة، ويعم الرخاء. ـ آ ..، آسف...، يا لك من عقل! فتابع الآخر: ـ ثم سيولد الجنس الناعم، فانا، مع الدب، والسيدة الببغاء، ومع فصائل النمور الشفافة، فكرنا بعصر ما بعد الرماد، والحرائق، والفوضى. سيدي، فالحقول ستورق، والسماء توزع حلوها، والآبار تتدفق، مثل الينابيع، بالماء الزلال، الخالي من بقايا الجثث، والمواد المشعة، ومن بيوض الضفادع، وبقايا المياه الثقيلة، والضوء سيوزع من غير حساب، بدءا ً بزمن الرفاهية، ونهاية الظلمات! ـ اقترب. اقترب الخنزير: ـ لم يحن الأوان بعد....، أيها العقل العبقري، لأنني انتظر ان تكمل مهمتك. ـ أمرك سيدي. ـ لأن عليك ان تغذي الحرب، فلا تدع يوما ً يمضي من غير مذابح، فلا تدع أحدا لأحد، فالخراب لم يبلغ غايته بعد! ـ أمرك سيدي. ثم استدرك الخنزير: ـ لكن ماذا لو ...، لم نتمكن من إبادتهم...، ومن محوهم...، وماذا لو لم يبقوا لنا سوى هذا الجحر...؟
ـ آ ...! ثم أضاف المدير: ـ لا تجزع...، سنغادر إلى كوكب بعيد! ـ حقا ً، هكذا نجونا...! فبعد ان انقرضت الماموثات، والديناصورات، والوحوش العملاقة، وهكذا ـ يا زعيمنا الخالد ـ سيبدأ عصرك الزاهي المجيد. فبعد ان يكون العالم القديم غير صالح ليس للسلام، بل للحروب، ستكون وحدك الجدير بالزعامة، حيث الشعب الناعم، تأمره فلا يعصي، تنهاه فلا يعترض، ليشيد حديقة لا خراتيت فيها، لا رعاع ولا حرباوات، لا قمل، ولا خفافيش، لا عميان ولا مثلثات ولا مكعبات ولا أوبئة ولا سرطانات، لا إشعاعات تهددنا بالموت اليومي، ولا طوفونات، ولا براكين، ولا أساطير ولا خرافات، آنذاك تهدم الحدود، ولا تردم الفجوات، وتمحى الحافات، فتعود الريح تنشد نشيدك الأبدي: لا أضداد ولا خلافات ولا مخالفات، لا عصيان ولا جنح ولا شطحات، لا شيخوخة ولا علل ولا هذيانات، يا مديرنا الكبير، فأنت قفل الباب، وأنت مفتاحها، يا مديرنا يا مديرنا، العدم عند أسوارك يأتيك بالهدايا، والشموس تهديك الأنوار، وبهائمك الناعمة تمجدك ليل نهار.
[180] اعتراف بعد ان نتفوا شعرها، شعرة اثر أخرى، وبعد ان سلخوا جلدها، وبرزت عظامها، أعادوا السؤال عليها: ـ من افترس الذئب...؟ لم تقو الأرنب على فتح فمها، فقد بحثت عنه فلم تجده، فأومأت برأسها إنها هي التي فعلت ذلك، ولديها ما يكفي من الأدلة على فعلتها. بعد سنوات....، شاهدوا الأرنب تتنزه مع الذئب، في ساحة الحديقة. فسأل المحقق نفسه، وهو يراقب المشهد: الآن لا اعرف من كذّب على الآخر...؛ الذئب الذي اتهم الأرنب بارتكاب الجريمة، أم الأرنب التي لم تنف التهمة...، فمن افترى على الآخر...، أم في الأمر لغز...؟ اقتربت الأرنب من المحقق، هامسة بصوت شفاف: ـ لو لم افعل ذلك...، ربما تكون أنت، يا سيدي المحقق، الجاني الوحيد!
[181] أسئلة سأل الفار الأرنب بحضور الغراب: ـ ما معنى ضرورة اعترافي بقوة الأسد، وببسالة النمر، وما هي ضرورة اعترافي بذكاء الثعلب ومكره، وشراسة الدب وعناده، وقسوة التمساح وجوره...؟ أهي دلالة عظمتهم التي ليست بحاجة لمثل هذا الاعتراف، أم هي دلالة ضعفي غير المبرر....؟ ضحك الأرنب قائلا ً: ـ بالأمس سمعت النملة تخاطب الفيل: أرجوك لا تسد الدرب علي ّ...، فقال لها الفيل معتذرا ً: ومتى فعلت ذلك؟ انفجر الغراب ضاحكا ً، فسأله الأرنب: ـ أتسخر مني...؟ ـ آ ..، لا، لا أبدا ً، ولكنني تذكرت ان جدي عندما علم القاتل كيف يدفن ضحيته، ان الأخير مكث يتوعده بالانتقام والثار!
[182] الحمار والأسد اقترب الحمار من الأسد، هز رأسه يسارا ً ويمينا ً، ولم يتكلم. فرفع الأسد رأسه وسأله: ـ لا تتردد...، بح بما دار بخلدك، فقد استطيع مساعدتك! فقال الحمار بصوت مرح: ـ لا أنا استطيع مساعدتك ولا أنت تستطيع إيذائي! اعترض الأسد: ـ لم يكن هذا هو ما دار برأسك أيها الحمار المسكين! ـ للحق كنت أود ان أقول لك: لا القفص الذي تقبع داخله يليق بمقامك...، ولا الحرية التي حصلت عليها أنا نافعة! ـ ولكن ـ تمهل ـ دعنا نبحث عن حل...، لنفترض أنا تحررت وعدت إلى الغابة..، وأنت وضعت خلف القضبان...، فما هي النتيجة..؟ ـ ها، ها. ـ ما الذي جعلك تضحك...؟ ـ أضحكني انك قلت كلاما ً لا يليق بمقامك، أيها الأسد ...، من ناحية، وان كلامك آذاني اشد الأذى، من ناحية ثانية! ـ لم انوي، أو اقصد ان أؤذيك. أجاب الحمار: ـ ماذا لو كنت قلت: ان لم تحرر الأسود الحمير من العبودية، وحمل الأثقال، وان لا يكون مصيرها طعاما ً للضواري، فما هو عملها...، أم انك ستقول: ماذا باستطاعة الأسد ان يفعل وهو خلف القضبان...، أو تطلب من الحمير ان تعتقكم...؟ ابتعد الحمار، متمتما ً مع نفسه: لو كان الأسد طليقا ً فهل كان قد تركني على قيد الحياة؟ غضب الأسد بعد ان سمع أصداء كلمات الحمار، ترن داخل رأسه، فتكلم بصوت خفيض، بعد ان فقد الأمل في الزئير: ـ لو كان ذلك حكما ً صائبا ً، أيها المسكين، لكانت عظامك ترقد مع هياكل الديناصورات! عاد الحمار وقال للأسد: ـ كنت أمل ان اسمع زئيرك! كاد الأسد ان يزأر، ولكنه تمتم بصوت مخنوق: ـ الغريب ان الذي قيدني تركك طليقا ً، ومن سلبني صوتي منحك النهيق، لكن الأغرب، يا شريكي، ان حريتك لا معنى لها إلا بحدود وهم قوتي!
[183] دار فناء ـ قرب رأسك مني: أتعرف لماذا لم استطع اتخاذ قرارات حاسمة وذات معنى طوال المائة عام التي عشتها... صمت الحصان قليلا ً، وأضاف يحدث حفيده المهر بصوت مرتجف، خفيض: ـ لأنني لم أجد في الأسود، ومن على شاكلتها، ما يصح ان يصبح قدوة، ومثالا ً...، فهي شرسة، مخادعة، ماكرة، وجائرة في ظلمها...، وفي الجانب الآخر، يا حفيدي، لم أجد في الغزلان ومثيلاتها، إلا نزعة الفرار، والاختباء، والهزيمة! تساءل المهر: ـ انك يا جدي تقتل الأمل الذي كنت انتظر ان أتعلمه منك! ـ لا ..، أنا لا اقتل الأمل، بل أنا ابذر...! ـ آ ....، وهذا يعني علي ّ انتظار ان ينبت ...؟ صمت الحصان برهة، ثم قال متابعا ً: ـ هناك مثل جاءنا من البلاد البعيدة، يقول: إذا أردت ان تعيش يومك، فازرع العشب والخضار، وإذا أردت ان تعيش سنوات أطول، فازرع الأشجار ...، أما اذا أردت ان تعيش طويلا ً فازرع الإنسان! ـ لم افهم؟ ـ يا حفيدي الحبيب، وأنا احتضر، لم افقد الأمل، مثلما لم اعش على الأوهام...، لأن الحكمة لا تعني ان تولد بانتظار ان تموت! ـ ما هي إذا ً....، إن تكن هي حكمة الحياة ذاتها؟ ـ أحسنت...، ها أنت بدأت تبصر...، لكن عليك ان لا تصدق انك رأيت! ـ هذا كلام صعب؟ ـ بل لا أسهل منه، يا مهري، لأن حياتنا لا علاقة لها بالولادة ولا بالموت! بل هي بحدود المسافة ما بينهما، وهذا اختلاف كبير! اعترض المهر: ـ إنها المسافة التي تماثل قولك لي قبل سنوات: مسافة كل ما هو بحكم الزائل؟ ـ أحسنت...، مرة ثانية، لأن ما يزول، يخصك، ولا يخص الزوال! فقال المهر بصوت من تلقى الدرس: ـ كأنك بذرت بذرتك في ّ...؟ هز الحصان الهرم رأسه: ـ لأن هذه المسافة تمتد، وتمتد، وتمتد، من جيل إلى جيل...، ولكن عندما تتقلص هذه المسافة، فان الحياة تصبح دار فناء، أو لا معنى لوجودها!
[184] وصايا ـ لا تلفت نظر احد... وراح القرد يعلم ولده ان لا يبدو شاطرا ً، ولا يفصح عن مهاراته، ولا ذكائه، قائلا ً ألا يتحدث عن عملية خزن حرارة الشمس، في البذور، ولا الاستعانة بماء المطر، نقيا ً، في القشور، بدل استخدام ماء البركة الملوث، وان لا يتحدث عن باقي المخترعات، ومنها تعلم لغة الطيور، ولغة الريح، ولغة الأنوار...؛ فالإنسان نفسه يجهلها! لكن الابن سأل والده: ـ وان لا اخبرهم بأننا سرقنا الأسلحة، من المسلحين الخارجين على القانون، ومن فرق القتل، استعدادا ً للدفاع عن النفس! صاح الأب فزعا ً: ـ أيها المجنون ...، متى فعلتم ذلك؟ قال الابن بصوت هاديء: ـ عندما كنت تفاوضهم حول المصالحة، وحماية أمن حديقتنا!
[185] ذكاء ـ مادمت نجوت من مخالبه...، فأنت، أيها الديك، أذكى منه؟ ضحك الديك: ـ لو كان ابن أوى ذكيا ً لفكر كيف ينجو، بجلده، من الكلاب، في هذه الحديقة! ـ إذا ً أنت أذكى منه...؟ ـ مرة ثانية أقول لك، يا شريكي في القفص، لو لم يكن أغبى مني، لما نجوت. ولكن تمهل، وانظر جيدا ً، فهل دامت الحديقة لأحد، كي تدوم للثعالب؟
[186] مخاوف سألت البعوضة الدولفين: ـ يقولون انك أذكى من السيد المدير...؟ لم يعترض رغم حذره من المخبرين، فقال: ـ لأننا أصبحنا نرقص مثله! قالت البعوضة: ـ أتسخر مني...؟ فقال الدولفين غاضبا ً: ـ أنا هو من سيخبر السيد المدير، وأقول له: ما مصير الحديقة التي تستعين بالبعوض، والقمل، والذباب، لحماية مديرها، غير الأمراض، والوجع، ثم الهلاك!
[187] غضب ـ ماذا لديك ..؟ وسأل المدير الببغاء الغاضبة، فقالت: ـ الكلب الذي فر، قبل سنوات، يتهمنا بالتجسس، لسيادتكم..! وهي تحدث نفسها من غير صوت، مع أن نظامكم لم يترك عقوبة لم ينزلها بنا، عدا الموت! أجاب المدير: ـ أتودين ان نقطع رقبته، حتى لو كان في زحل؟ صرخت الببغاء: ـ إذا قلت نعم، فهذا يعني كم أنا خسيسة حد التشفي بكلب ضال، كهذا الكلب، آنذاك ما الفارق بيننا...؟
[188] عصر الحرير بعد ان تحول الهمس إلى لغط، والأخير إلى قصص تسندها الشواهد، وبعد ان تحولت الإشاعات إلى أدلة، والشك إلى وقائع ملموسة، والظن إلى ثوابت، آنذاك اتسعت مساحة الفوضى، والجدل، فشملت أقسام الحديقة برمتها، من غير استثناء. لقد بدأ ذلك كله على نحو غامض، فقد تناقلوا ـ قالت الحمامة للغراب ـ أخبار مبهمة، ضبابية، وقيل هوائية، عن ولادات غريبة....؛ فاللبؤة وضعت غزالا ً، والدبة ولدت نعجة، والخنزير ولد فقمة، وابن أوى وضع تمساحا ً، والأسد ولد مهرا ً، والأتان وضعت كومة من الكرات الصغيرة، والكركدن ولد نعامة، والنمر ولد سمكة.... ـ غير سارة هذه الأخبار. قالت الحمامة فرد الغراب: ـ لم تعد أخبارا ً، ولا أوهاما ً، ولا ظنونا ً، فانا بنفسي رأيت الفصائل الجديدة تزحف نحو الساحة الكبرى... ـ لإعلان التمرد أم لإعلان العصيان؟ ـ لا اعرف. ـ ما الذي وجدته بالضبط، مادمت كنت رأيت المشهد ببصرك؟ ـ ربما هي نهاية عصر حديقتنا! ضحكت الحمامة ساخرة: ـ دعنا من النهايات...، فأنت تعرف ان نهاية العالم وضعت عند فاتحته...، فانا لا تفزعني الحقائق، مادامت نهاية عالمنا مقترنة بمقدماته..، لكن ـ أرجوك ـ اخبرني ما الذي جرى بالضبط، من غير وشوشة، أو تهويل.. راح الغراب يفكر، ولم يجب. فسألته الحمامة: ـ دعني اسمع صوتك. ذهل، وأجاب بخوف: ـ لا امتلك قدرة على النطق...، فانا أفكر! لكن كيف حصل ووضع التيس قنفذا ً، والثور حبل وأنجب مخلوقات آلية، والبعوض راح يلد حبيبات تتحول إلى عصافير، والى ديدان طائرة، وكيف ولدت الحوت مخلوقات لا هي برمائية ولا هي مفترسةً... ـ غريب. ـ والأغرب ان هذه المخلوقات المستحدثة كانت تطالب باسترداد حقوقها التي سلبت منها...، فانا سمعت زعيمهم يفكر! أي لا ينطق، لا يعوي، لا ينبح، لا يستغيث، ولا يستنجد! صعقت الحمامة: ـ أرجوك اشرح لي...، فانا انتمي إلى عصر الثدييات، وأسلافي من الزواحف...، فدمائي خليط من الشوائب والبذور والأضواء والظلمات. ضحك الغراب، متسائلا ً: ـ وهل انتمي إلى غير هذه العصور الـ ...؟ ـ دعك من المزاح، ومن الغزل، وقل لي ما الذي جرى في حديقتنا الخالدة؟ ـ عجيب...، فها أنا أدرك ان وجودنا غدا ًعتيقا ً، باليا ً، مندثرا ً...، بالأحرى لا وجود لنا بالمرة! هز الغراب رأسه، وعبر بالذبذبات. ففهمت الحمامة انه قال لها ان التمرد ليس إلا الشرارة. فطلبت الحمامة منه: ـ لا تتعجل، لا تسرع .. أرجوك.. فقال الغرب: ـ هذه الكائنات، يا عزيزتي، ليست وهمية، ولا افتراضية، ولا من صنع الذهن، أو الخيال...، بل ولا من صنع المباديء، ولا من صنع الأيديولوجيات! تساءلت بشرود: ـ أن يلد الأسد سحلية، والدب فأرا ً، والحية تلد أرنبا ً برأس كوسج، والنمر يلد قردا ً...وتطلب مني ان لا أتعجب ..؟ تمايلت الحمامة، وكادت تفقد توازنها، فسألته: ـ ماذا يريدون...؟ ـ لا يريدون شيئا ً! لأنهم أدركوا ان إعادة حقوقهم لا معنى له، ليس لأن ذلك بحكم المستحيل، بل لأنه غدا ً لا يمتلك ضرورة. ـ ولكنك لم تخبرني من هم، أصلهم، جذورهم، وكيف امتلكوا إرادة الحضور ...؟ ـ هم، هم، هم الضحايا ....، قلت لك، هم الطرائد، والمظلومين، والمغدور بهم، المذبوحين، المحروقين، والممزقين شر ممزق، وهم أجزاء أجزاء الأصل الأول الذي استحال إلى طعام، والى براز، والى تراب! ـ آ ...، فهمت، ولكن لماذا لا تعاد لهم حقوقهم...؟ أجاب بصوت متوتر: ـ الم ْ أخبرك بان زمنك ولى...، وبرمجتك عفى عليها الدهر، وانك أصبحت عتيقة، غير صالة للاستخدام، ولا حتى للكلام! ـ أتضرع إليك، اشرح لي، فقد أتعلم وأنا ـ كما تعلم ـ شغوفة بالمعرفة، فانا لا أريد ان أموت ضحية عقلي المفقود، ولا ضحية إرادتي المستلبة، ولا أحلامي الغائبة. ـ حسنا ً، يا حمامتي، فبعد ان استبدلت الأدوار، اقصد ادوار الإنجاب والإخصاب والتناسل، وصارت الذكور تحمل بدل الإناث، طهرت الفجيعة! وبدأ العصر الذهبي للظلمات! ـ ماذا قلت؟ ـ قلت لا نهاية لفعل الغوايات، ولا خاتمة للولادات. فالكل يغتصب الكل كي يمتد المحكوم بالزوال...! ـ حتى من غير معاشرة شرعية، ومن غير اتصال مباشر..؟ ـ لا حاجة لها بعد اليوم، فهؤلاء هم ضحايا البراري والغابات والمستنقعات والكهوف والثقوب والشقوق والخرائب ...، هم الطرائد التي تم اقتناصها، وافتراسها، واغتصابها، أصبحت تتشبث بدفاعات استثنائية، فسكنت أجساد جلاديها، ومغتصبيها...، كي تتكون مرة ثانية، وثالثة، وعاشرة، والى ما لا نهاية...، لتطالب بالعدالة! ـ فهمت! فانا للمرة الأولى أفكر! ولكن ماذا بعد ذلك..؟ ـ لم يطالبوا بإنزال العقاب، أو بالثار، أو بالانتقام ...، فلو حصل ذلك فستكون النهاية قد بلغت ذروتها، فقد أكدوا ان مطاليبهم تستدعي استحداث فصائل لا تعوي، لا تولول، لا تنوح، لا تزأر، لا نهق، ولا تنبح ...، أي الانتقال من عصر الحواس والعقل إلى عصر .. ـ لا تغلق فمك، تكلم، يا غرابي السعيد! ـ إلى ...، إلى ...، إلى ... وسكت، معترفا ً بأنه لا يمتلك أداة للتعبير، والإيصال، والتوضيح. ـ فالأصوات التي تحولت إلى كلمات أصبحت أدواة متحجرة، بالية، حجرية، لقى، آثار، ونفايات، مثل أكوام من المزابل والخردوات والمخلفات. ـ ها أنت تؤكد انه آن أوان زوال عهد حديقتنا الغناء؟ ـ اسمعي، يا حمامتي الجميلة.. ـ أنا مصغية لك يا غرابي العاشق! ـ هناك، في خلايانا، يحدث ما اجهله، فانا أصبحت أفكر في الذي لا أفكر فيه! فسألته بصوت فزع: ـ وأنت من ولدك؟ ـ آ ....، بدأت أتلمس وجودا ً آخر غير وجودي. ـ ماذا تقول...؟ مسترسلا ً: ـ دعيني انظم إلى رفاقي...، وأشاركهم المطالبة بحقوقنا. ـ وأنا ؟ فسألها بشرود: ـ أكان جدك حمامة؟ لم يفزعها سؤاله، ولم يصدمها، بل بدأت ترفرف، كأنها فقدت ثقلها، وراحت تحّوم، وتدور، ثم اقتربت منه: ـ طالما أحسست ان في ّ أضواء، وفي ومضات كائنات أخرى، إشعاعات، ملامس حريرية، ذبذبات ناعمة، غزل ابيض...! ـ ها، أيتها المسكينة، أنت أيضا ً سلبت حقوقك منك...، فكم مرة اغتصبك اللقلق، والنسر، والبوم، والصقر...، ومن يعلم ربما هناك ... ـ تقصد افترسني! ـ لا فارق، ولا اختلاف إلا بحدود أخطاء التعبير، واللسان، فالاغتصاب مفهوم بلغ ذروته! لم تجب. كانت تفكر. فراح الغراب يتتبع ذبذباتها الصادرة عن دماغها، حتى لكزها: ـ أفيقي...، حبيبتي، آن لنا ان لا نعوي، لا ننبح، لا نولول، ولا نغرد أيضا ً. فسألته بعد لحظة صمت: ـ أأنت من هذا الجنس المستحدث...، يا ابن الضبع...؟ ـ لا اعرف ...، فالحقائق تؤكد ان السيد المدير لم تلده عنزة، ولم تحبل به خنزيرة، لا أبوه فيل ولا أمه بغي، فقد شاهدوه يغطس في البركة ولم يخرج منها إلا برأس سلحفاة، وذيل طاووس، وأصابعه تحولت إلى مجسات، فمه ثقب، وانفه تحول إلى بندول...، وقالوا انه اخذ يمشي فوق الحبال، مثل بطة، ثم تحول إلى حرباء، بعدها باض بيضة سوداء...، فصفقوا له طويلا ً، وهتفت له الحناجر بحرارة..! قربت الحمامة رأسها من الغراب: ـ قلت لي ان والدك كان تمساحا ً، وان أمك كانت غزالا ً ...؟ ـ آ ...، متى تحدث الصدمة، متى تدركين ان الكلمات دفنت مع الديناصورات. ـ ماذا افعل..؟ ـ دعيني أخبرك بما رأيت...؟ ـ ألا يكفي هذا كي أحبل بكلماتك؟ ـ كم أنت خجولة! كأن أمك من الجن، وجدك من الريح! فانا رأيت التمساح عند البركة يلد من فمه، ومن باقي الثقوب، وقد انشق ظهره أيضا ً، آلاف الثيران ..، الغزلان، والضفادع...، بل وولد كائنات شبيهة بالبشر الأسوياء، فانا سمعت صدمات الولادة، وسمعت نهاياتها. لأن التمساح عاد يسترجع فرائسه، فراح يبتلع، من غير مضغ، كل ما تقيأه. ـ يفترس أولاده؟ ـ هذه نظرية عتيقة، يا جميلتي، فالأب لا يفترس، ولا يغتصب، ولا يعتدي...، بل يدخر! ـ آ ....، هذه إذا ً نهاية عصرنا يا سيدي؟ ـ لا ...، فالذئاب، مثل الليوث، والنمور، والفهود، والصقور...، راحت تخرج أثقالها...، فتدب فوق البسيطة، حتى امتلأت، وفاضت، فنشبت الحرب، فراح الجميع يشترك في ذبح الجميع، وراح الكل يغتصب الكل، وراح الضعيف يأكل القوي، والنحيل يقطع رقبة البدين، حتى صارت النساء طعاما ً للضواري، والأطفال حرقوا أحياء، وانتشرت بدعة السحل، وشطر الأجساد، وبقر البطون، وقطع الأعضاء التناسلية ... عدا بتر الآذان، وجدع الأنوف، وقطع اللسان، وخلع الأسنان، وحشوا المؤخرات بالقنافذ،، فازدهر فرية المخبر، والتنكيل بكل عالم، وفاهم، وحكيم، لأن الجميع صار يعمل على إبادة الجميع، واجتثاثه، ومحوه من الوجود...، حتى بزغ فجر الاستنارة، وهو ما يسمى بعصر الحرير، قيل انه ارق من شفافية المال الزلال. فبدأت الأسود تستعيد، مثل شقيقاتها المفترسات، الحملان، الأرانب، الطيور، والأسماك...، حتى ظهر المدير، فجأة، برأس نحلة، وأقدام ماموث، له ألف جناح، وخمسة آلاف عين، ومائة ألف قضيب....؛ هائجا ً، لم يترك ذكرا ً، ولم يترك حجرا ً، ولم يترك عذراء، إلا واغتصبهم. وكان هذا هو عصر التراب، ثم أعقبه عصر النحاس...، ليمتد وينصهر بعصر الشفافية. لكزته: ـ الم ْ تتعب..، الم تصب بالوهن...، الم ترتو..، الم تشبع...، الم ْ تكتف؟ ـ هو ...، هو...، لم يرتو ولم يشبع ولم يكتف، بل قال انه مثل النار كلما توهجت قالت هل من مزيد، هل من مزيد من الأولاد، ومن البنات، من الحجارة ومن الشجر، حتى كاد عصر الشفافية ان يبلغ نهايته، لولا ان السيد المدير عاد ورشح للزعامة...، فحصل على ألف بالمائة، ومليار أخرى هبطت وخرجت ووفدت من كل فج غريب تؤكد طهارته، صفاءه، وانتمائه إلى الخالدين. فلا احد تجرأ أو لمّح بامرأة أو غزال أو لبؤة حبلت به، فهو لم يأت من الهواء، ولم يخرج من الماء، لا شوائب اختلطت بومضات تعاليمه، حجته انه من غير حجة، وبرهانه ليس بحاجة إلى براهين! ولكنه لم يدع الإلوهية، أو النبوة، وإنما عملت الدعاية طوال ساعات النهار والليل بوصفه لا يقل شأنا ً عنهما. تركت الحمامة رأٍسها يتمايل، بين جناحيه: ـ أكمل..، أرجوك، فانا أكاد أدمن عليك! فسألها: ـ أكان جدك ثورا ً وحشيا ً، أم سمسارا ً ناعما ً، أم تاجرا ً رقيقا ً، أم مدير شركة عابرة للحدود، وعابرة للعبور، عبورية الأصل وعبورية الاستحداث، أم كان أميرا ً للرمال، والدخان ..؟ ـ آه...، وهل أبقيت لي قدرة على الرد؟ خرجت الحروف من غير صوت، تومض، بموجات قصيرة، وأخرى لا مرئية، مثل إشعاعات فوق ضوئية تداخلت بالمرور والعبور من الأسفل إلى اليسار، ومن اليمين إلى القاع، مكورة، ومقعرة، تدور مع المغزل، فيتضاعف النسج، ويمتد في سواحل المجهول. ـ كفى، فأنت مثلي ...، لم تلدك الكلمات! وسمعها تولول: ـ بل أنا ضحيتها. مسرعا ً أضاف: ـ لقد أصبحت، يا وردتي، بعد هذا العرس، من الماضي...، فقد انحدرت إلى الفناء! متابعا ً، قال قبل ان يغيب، يوصيها: ـ لا تتركي حديقتك، لا تتخلي عن قفصك، لا تخربي عشك، ولا تتعاوني مع الغرباء! فصاحت بحزن بالغ: ـ أين ستذهب، أين تهاجر، ولماذا تهجرني، وتتركني للظلمات؟ ـ سأبحث عن كوكب لا أجد فيه من يصغي إلي ّ، ولا أجد أحدا ً أتكلم معه، لعلي اعثر على ركن لا أجد فيه من يفترسني، ولا أفكر في افتراسه، لا يشي بي ولا ابغضه، لعلي لا أجد من لا يؤذيني، من غير سبب، وان لا أؤذيه مهما كان السبب! قالت تنوح: ـ لن تجد ..، يا حبيبي، لن تجد! عندما غاب، بحثت الحمامة عن منقارها، فلم تجده.
[189] إجراء اللازم ـ منذ ساعات، بعد ان أفقت من النوم، وأنت صامت...، تحدق في وجوهنا، كأن الكارثة وقعت. وأضافت الجدة تخاطب حفيدها الأرنب، وهي تقترب منه: ـ أم إنها ستقع؟ جمع قواه متمتما ً بفزع: ـ وأنا اعبر الضفة الثانية من جناحنا، سمعت الطبيب يقول لمساعديه: أرجوكم اكتموا السر...! فاقتربت ـ ليس بدافع التجسس أو عدم احترام حرمات المكان، بل بدافع الفضول، ليس إلا ـ كي اسمعه يخبرهم، بان جميع المواليد.... صاحت الجدة: ـ لا تغلق فمك، أرجوك أكمل. فقال: ـ ولدت كفيفة! ضحكت الجدة: ـ وما الغريب في الأمر...، إن كان لها بصر أو ولدت عمياء؟ اعترض بصوت رقيق: ـ لا...، يا جدتي الغالية، في الأقل: نحن رأينا الذي لا يرى..، ورأينا ما لا يراه احد! أما لو كنا ولدنا عميانا ً فهذا يعني إننا أدرنا ظهورنا للشمس! ـ غريب...، وما علاقة الشمس بنا لو كنا رأينا الذي لا يرى، أو لم نر ْ ...؟! سكت الحفيد، فقالت: ـ هل تقصدنا نحن ...؟ ، نعم! وإلا لماذا مكثنا لم نحرك ساكنا ً..، في هذه الظلمات....؟ ـ أسس...، ألا تخشى المخبرين...؟ ـ جدتي، بالأحرى كان عليك ان تحذريني من آلاف أجهزة التنصت التي تتبع ذبذبات رؤوسنا ...، وتتحكم بمصائرنا، لكن هذا الزمن غدا عتيقا ً، باليا ً، وانتهى، وإلا لكان الطبيب أخفى السر، ولم يعلن عنه، وإلا لكنت أنا، بدوري، كتمته! ـ يا حفيدي ...، الآن فهمت لغز صمتك، ولكني لم اعد افهم سر بوحك به؟ ـ وهل باستطاعة أرنب، مثلي، ان يجد الجواب؟ فعاد الحفيد إلى الصمت، يحاور نفسه، من غير ذبذبات: ربما تكون الشمس هي الأم العمياء، وإنها لم تلد إلا عميانا ً، ثم من قال إننا رأينا ...، ومن يقول: إننا سنرى...؟ ـ ها أنت عدت إلى صمتك، مرة ثانية؟ فزّ ، فقال لها: ـ أنا توا ً بدأت استنتج أمرا ً مغايرا ً..، فانا اعتقد ان الطبيب قصد، وهو يحدث مساعديه، ان يموه علينا! ـ لم أفهمك! ـ لأنني رايته، مع مساعديه، يلوذون بالفرار! قالت الجدة: ـ أصبحت تتحدث عن رواية! ـ لأنني ..، يا جدتي، ذهبت إلى جناح المواليد الحديثة...، وما ان رأوني حتى راحوا يهتفون: جاء الأعمى..، جاء الأعمى! فما معنى هذا ...؟ ـ آ ...، لا تصمت، تابع، أرجوك. ـ فسألتهم، بدوري: من الأعمى ومن المبصر...؟ فقالوا: يا أحمق، المبصر الذي لا يعمل شيئا ً هو كالأعمى الذي يقول: رأيت! فسألتهم: لماذا هرب كبير الأطباء ومساعديه إذا ً...؟ فقالوا: لم يهربوا، يا أحمق، بل ذهبوا واعترفوا بما حصل! وإنهم، أيها المسكين، سيعودون، بعد قليل، لإجراء اللازم!
[190] البلبل والفيل سأل البلبل الفيل: ـ ما الذي جاء بك إلى حديقتنا..؟ هز الفيل خرطومه وقال: ـ كنت أظن انك تقول شيئا ً ما وأنت تغرد..، أما الآن...، فقل لي: ما الذي تخفيه في صوتك؟ ـ آ .....، لو كنت اعرف...، لعرفت كيف أعلمك الطيران! ضحك الفيل: ـ أيها البلبل الطريف، لو كانت لدي ّ أجنحة، فهل كنت وقعت في الأسر؟ فقال البلبل: ـ وما فائدة أجنحتي إذا ً...، وها أنت تراني داخل القفص؟ أجاب الفيل: ـ انتم...، سكان هذه الحديقة، لديكم أسباب السعادة كاملة، إلا السعادة! رد البلبل بصوت حزين: ـ آ ...، لو كانت السعادة وحدها كافية...، لما غردت، وأنا أنوح على هذه الوفرة التي صرنا بها نبني هذه السجون!
[191] انساب كانوا تسعة دببة، الأول جاء من القطب الشمالي، والآخر، من الجبال، الثالث من أفريقيا، والآخر من أطراف الصحراء، الخامس جاء من القطب الجنوبي، والآخر من السهول، السابع جاء من الأدغال، والآخر من الهضاب...، أما الدب التاسع فقد كان ولد في الحديقة...،عندما انشغلوا بالحديث عن الأنساب، والأصول، وخرائط الأسلاف... فقال الدب الأخير، من غير سخرية أو الم: ـ ربما أنا الوحيد الذي ينتسب إلى هذه القارات، ولكن من غير حنين لأي منها، فأية إرادة هي هذه التي جمعتنا، هنا، داخل هذه الحديقة، وصاغت...، في الأخير: كائنا ً لا يشبه حتى نفسه...؟ قال الدب الأول: ـ لا تأسف...، فقد كان أسلافي ينحدرون من البوادي. ضحك الآخر: ـ والغريب إنني طالما شعرت إنني استنشق عطر زهور الوديان. قال الدب الثالث: ـ كثيرا ً ما كنا نجد لذّة غامضة باستذكار اللون المكون من الألوان كلها: الأبيض. أضاف الدب الآخر: ـ كنا عند اشتداد حرارة الظهيرة، نرتجف بردا ً. قال الدب الخامس: ـ طالما توهجت النيران عند تراكم الثلوج..، فكانت تكوينا. فأضاف الدب الآخر: ـ على خلاف هذا كله...، كثيرا ً ما شعرنا بأننا نتسلق المرتفعات..، ونقيم فيها أعيادنا. قال الدب السابع: ـ لم تستطع الأدغال ان تحجب عنا أشعة الشمس، ولا تنسينا لذائذ المياه المتجمدة، ولا رذاذ الأمطار. أضاف الدب الآخر: ـ بل كنا نحتفل بالصيد الوفير عند الينابيع، تارة، ونقنط بحلول المجاعة بسبب الجفاف...، تارة ثانية. ضحك الدب الذي ولد في الحديقة: ـ أيها الرفاق ...، ها انتم تبرهنون ان الأرض، كلما اتسعت، ضاقت! لكن من ذا يقدر ان يرفع عنا هذه الحواجز، ليعيد لنا، في هذه الحديقة، سفينتنا التي أصبحت تتجه إلى المجهول...؟
[192] تسلية! قالت البقرة للسكين: ـ تعجلي...، أنا أتعذب؟ فقالت السكين: ـ اقسم لك ِ...، عذابي أشقى من عذابك. ـ آ .....، بقرة تائهة تذبح بسكين عمياء! ـ لا ..، لا ...، لست أنا هي التي لا تبصر، ولا اليد التي في جسد القصاب، ولا القصاب الذي يعمل في المجزرة، ولا المجزرة ..... صرخت البقرة تتضرع: ـ إذا كنا جميعا ً نتسلى بهذا العذاب....، فمن ذا يتعذب بتسليتنا؟
[193] البعوضة والفيل سألت البعوضة الفيل: ـ من يزن أكثر من الآخر...؟ ضحك الفيل وسألها: ـ تقصدين من هو أثقل من الآخر...؟ ـ ملعون ...، أتريد ان تورطني بزلة لسان؟ أنا سألتك: من هو اخف من الآخر...؟ ـ في هذه الحديقة...، الكل لا يزن جناح ذبابة! كادت تفطس من الضحك، وهي تتمتم: ـ حتى الفيل صار يخشى كلمات بعوضة لا تزن أكثر من فيل...؟ عندما بحث عنها، ووجدها غابت، ردد مع نفسه: ـ كيف يصبح الفيل فيلا ً إن لم يحسب للبعوضة ألف حساب...؟ وهو يلوذ بالفرار، ردد مع نفسه: ـ وبعد ان أصبحت أسئلتها من غير إجابات؟!
[194] الحمامة وابن أوى عندما فلتت الحمامة من مخالبه، وحطت فوق غصن مرتفع في أعلى الشجرة، سألت الحمامة ابن أوى: ـ أتعرف من هم أسلافك؟ رفع رأسه قليلا ً: ـ اعرفهم، فهم سادة هذه البرية، وهضابها! قهقهة الحمامة ...، فسألها: ـ ومن هم إسلافك...؟ ـ اسمع ...، يا من لا يشبه الكلب في وفائه، ولا يشبه الذئب في جسارته، ولا يشبه الفأر في حكمته...، إذا كنت لا تسمع، ولا تريد ان تسمع، فأصغ إلى ّ وأنا أنوح، فأنا أيضا ً حزينة على أسلافي! استرسل ابن أوى: ـ في كل فجر أصغي إلى هديلك فأقول لنفسي: ما بها، هذه الحمامة، من آذاها..، من احزن قلبها...، حتى قررت ان أشاركك مصيبتك، وأحزانك! ـ لا ...، يا ابن أوى ..، كلامك غير صحيح، مثل نواياك، فقبل لحظات كدت تفترسني، وتتلذذ بلحمي..؟ ـ اخبريني...، ماذا افعل ...؟ بعد ان يشتد الجوع بي...؟ هل التهم التراب، أو اكتفي بأكل العشب، وأتسلى بالهواء...؟ ـ قبل قليل سألتني: ما الذي يؤلمك..؟ فأخبرك: الذي يوجعني لا داء له، لأن موتي سبق ولادتي في هذا الوجود! ـ وما ذنبي أنا...؟ ـ ذنبك انك مرغم على ارتكاب الذنب..! ـ هذه شهادة براءة القصد منها إدانتي، وإرسالي إلى جهنم! ـ آه ...، أرجوك اغرب عن وجهي ...، فانا لست سجانتك كي أعتقك، فما أنا سوى حمامة اذا غادرت عشها حامت فوقها الصقور والجوارح، وما ان تحط فوق الأرض حتى تفترسها أنياب الضواري والمفترسات...، فدعني شاردة الذهن لعلي استقبل موتي في أوانه من غير كلام!
[195] قرار استدعى السيد المدير بعوضة اشتركت مع البرغوث والقمل والذباب وباقي الحشرات في مسيرة وصفت بأنها ستفضي إلى إعلان العصيان. جاءوا بها مكبلة بالسلاسل والقيود، فتأملها المدير من قمة رأسها إلى القدمين، بغضب، ثم سألها: ـ لا اصدق انك، أيتها البعوضة، تحرضين الآخرين على التمرد...، وتتهميني بالجبروت، والجور، والطغيان...؟! تساءلت مذعورة: ـ أنا..؟ أأنا هي التي تمس مقامكم الكريم، أأنا يصدر عني هذا ...؟ ذهل المدير، وتمتم مع نفسه بصوت مسموع: ـ وهذا ما دار ببالي أيضا ً! أومأ لها بالكلام: ـ تكلمي، فحق الدفاع عن النفس، في حديقتنا، من ثوابت والمقدسات! فسألته: ـ أولا ً أود ان اعرف: من اخبر سيادتكم ...؟ أشار لها ان تنظر إلى الملفات، والتقارير، والوثائق... فضحكت: ـ أنا حقا ً قلت ان مديرنا أعلى من ان يكون عاليا ً، وأنزه من ان يكون نزيها ً، وأشجع من ان يكون شجاعا ً...، أفلا يوجد عمل في هذه الحديقة سوى ما تتفوه به بعوضة، أو عصفور، أو غزال...؟ وأضافت مسترسلة: ـ صحيح...، أنا لدي ّ فم لم افلح بلجمه! لكني طالما قلت ان سيدنا المدير هو أعلى من ان يمس بالكلمات، لأن من هو في الأعالي لا يمكن للكلمات الصماء العمياء ان تمس نوره...، فالكلمات، يا سيدي، محض حجاب، وهل لمن في القاع إلا ان يذهب ابعد منه...؟ ناداها: ـ غريب...، غريب أمر هذه المخلوقات...، فانا لم اسمع مديحا ً لي كهذا المديح! فقالت بحزن: ـ لا تكترث...، فما أتاك من كلام، وتقارير، ووشايات، سوى هواء، فدعه يذهب مع الهواء...! أمر السيد المدير مساعديه، بنزع الأغلال عنها، وفك قيودها، وإطلاق سراحها من غير كفالة، وشروط، ومنحها حق اختيار أي نبع من الينابيع، وأية بركة من البرك، بدل حجزها في إحدى المستنقعات، أو الزرائب مع البهائم والثيران. ولم يبق للزيارة إلا ان تتكلل بالثناء. فخرجت البعوضة تتمتم مع نفسها من غير صوت: ـ قسما ً بالوحل، والرمل، والرماد، أنا قلت ان من هو هناك أعلى من ان يكون عاليا ً، لا تراه أعين العميان ولا تسمعه آذان الطرشان، وان لا علاقة له بما يجري في هذه المستنقعات! فهو أعلى من يكون عاليا ً، ونحن لا مدى لنا ان نغطس فيه غير هذه الظلمات! عند تحليل ما دار بدماغها، أوصى الحاسوب ذاتي الرهافة، ان كلماتها لا تفضي إلى التمرد، ولا إلى العصيان حسب، بل إلى الثورة.
[196] الأفعى والفأر لم تجد منفذا ً لها تدخل منه وهي تدور حول القفص. فعادت تفكر بوسيلة كي تداري إخفاقها في اصطياد الفأر. دارت للمرة الألف وهي تراقب نظراته شاردة وفمه مغلق، وما ان شعرت إنها لا تقوى على الحركة حتى رأت الفأر يقترب منها، هامسا ً: ـ لكن هذا لا يمثل هزيمة لك ِ، أيتها الأفعى الجبارة، ولا يمثل نصرا ً لي أيضا ً. أدركت الأفعى استحالة إحداث ثغرة في المشبك الحديدي، بعد ان تحولت كلمات الفأر إلى جمرات راحت تتأجج داخلها، فترنحت واهنة لا تقوى على التراجع. عاد الفأر يقول لها: ـ حتى لو لم استنجد بهذا القفص، وافلت منك ِ، لكنت تسلقت شجرة، أو اختبأت داخل ثقوب الأرض، فمنذ لو الدهر، أيتها الأفعى، لا أنت أفلحت بالقضاء علينا، ولا نحن الضعفاء وجدنا وسيلة للتخلص من شركم! هزت الأفعى رأسها، وقالت له: ـ الآن أدركت ان الانتصار عليك يتطلب زمنا ً طويلا ً. ضحك الفأر وأجاب: ـ وأنا أدركت ان هزيمتنا تتطلب زمنا ً أطول!
[197] الذئب والغزال خاطب الذئب الغزال التي وقعت في أسره: ـ أما ان تفترسيني وأما ان افترسك؟! ردت مذعورة: ـ ليس لدي ّ ما أقول...! ـ طلبت منك آخر حق لك في الحياة. فقالت: ـ اهرب...، ودعني الحق بك، فان وقعت في الأسر...، فسأخبرك بالجواب! اقترب منها وسألها: ـ لماذا يدعون إلى المصالحة إذا ً...، وأنا لو لم اصطادك فسأفترس الحجر؟ ـ سيدي الذئب، أنا أيضا ً كنت أكلت العشب غير المذنب، فانا آثمة بالضرورة! ـ لكن العشب لم يقدر من الهرب منك...؟ فقالت ساخرة: ـ بالأحرى أنا لم استطع مقاومة غواية الاعتداء عليه، فانا لم اقدر على الهرب منه، وليس هو الذي من لم يهرب مني! ـ لم افهم! ـ لو لم تكن الغواية قد وجدت فينا، ما كنت بحثت عني...، فانا هي السبب، ولست أنت المذنب! ضحك الذئب حتى راح يتمرغ بالتراب: ـ سؤال آخر خطر ببالي توا ً: ماذا يوجد في الجحيم وقد غدا قبلة للغالبية منا..؟ قالت معترضة: ـ باستثناء الذين قهروا الغوايات! ـ اكرر...، على نحو آخر: أليست الجنة أفضل من الجحيم...؟ ـ هكذا يقولون..! ـ غريب! ـ لا غرابة...، فأنت أكدت ان الجحيم غدا قبلة الغالبية...، فأين يكمن السر...؟ ـ كل هذا الكلام نطقت به كي تجد عذرا ً لافتراسي؟ ـ لا! بل لأنه لا اختيار آخر لدي بإمكانه ان يمنعني من فعل الشر؟ ـ تقصد ...، ان الذاهبين إلى الجحيم ليس لديهم إلا خيار الذهاب، واستحالة قهره...، في الوقت ذاته لا احد يجهل ما في الجنة من إغراءات، ومتع، ونعيم، لا قدرة لنا على تصوره...؟ ـ أكاد اجن...، أيتها الغزال...، فكيف يُسمح لذئب متوحش، فاقد للرحمة، ان يرتكب إساءة ضد هذا الجمال...؟ ـ وأنا أتساءل، مثلك، كيف للكائنات البريئة لا تقدر إلا ان ترتكب الشر، والآثام، والخطيئة، ولا تختار النعيم..؟!
[198] احتفالية قال الحمار لجاره الثور: ـ هل تتذكر يوم المجزرة...، عندما قرر صاحب الإسطبل، ذبح اعز رفاقنا، وليمة للأسود والنمور والذئاب.. ـ كيف لا أتذكر..؟ ـ أتعرف انه فعل ذلك احتفالا ً بعرس ولده الغالي! ثم دعاني للمشركة في أفراحهم! ـ وماذا فعلت؟ ـ قلت لنفسي: إن ذهبت فانا أكون شاركت فيها، وإن لم اذهب فانا سأكون شاهدا ً عليها. ـ وما الذي يزعجك في الأمر...؟ ـ الذي يزعجني إنني لا اعرف متى أذبح لأنني لم أشاركهم مباهجهم بإقامة المجزرة...، ولكنني مازلت اتالم كثيرا ً لأنني لا استطيع ان أقيم مأتما ً على أرواح الضحايا!
[199]أسباب اقترب الحمار من قفص الذئاب، وخاطب الذئب الذي ما انفك يعوي، على مدار ساعات الليل والنهار: ـ لا أحد يسمعك، وإذا سمعوك لا يفهمون مقاصدك، وإذا فهمومها فلا يحركون ساكنا ً، وإذا حركوا ساكنا ً فلا شيء يحدث! لم يجبه. فخاطب الحمار نفسه: ـ أنا سألته لماذا تعوي، أما أنا فلا احد سألني لماذا تنهق؟ فقال له الذئب: ـ ربما عندما تنهق تسمعك الحمير، فتأتي لنجدتك، ومواساتك، ومشاركتك الألم! ـ وأنت ألا تسمعك الذئاب؟ ـ لم تعد تسمعني لأنها كلّت من العواء وأصابها الوهن! أما أنا فكلما بلغت الذروة اسأل نفسي: لماذا لا تكف عن العواء ...، فأجد سببا ما آخر لا يدعني أغلق فمي، فاعوي لعلي في يوم ما لا أجد سببا ً لهذا العواء! فقال الحمار بحزن: ـ الآن عرفت لماذا تنوح الشمس ولا احد يسمعها، ولا احد يواسيها، ولا احد يقيم مأتما ً لها! فقال الذئب بصوت أعلى بلغ حافات السماء: ـ بل أصبحت باعثا ً لمباهجهم وأفراحهم واحتفالاتهم! ـ أنت يا شريكي الحزين أصبحت تسمع عويل الشمس، وتبصر في حزن الماء، وتشاهد فزع النار ...، أما أنا فكلما حدقت في الأرض اسأل نفسي: كم ناحت هذه الأرض، تعّذبت، وبكت حتى بلغت درجة السكينة؟
[200] حزن وهم ينقلون جثمانها، كان الذئب ـ زوجها ـ يحدق بلا مبالاة، فسأله احدهم: ـ غريب...، انك لا تشاركنا الحزن برحيلها...؟ لم يجب إلا جوابا ً واحدا ً: ـ إنها لم تشاركني أحزان الحياة، فلِم َ أثقل عليها بأحزان إضافية؟
[201] حمامة جلست الحمامة عند قبر ولدها الذي رحل قبل أيام قليلة، تنوح: ـ لِم َ سبقتني...، الم ْ اطلب منك ان تشرف على وداعي ودفني والدعاء لي بالذهاب إلى مكان يخلو من الأشرار... فجاء صوته خفيضا ً يخاطبها: ـ أماه أنتِ تأخرتي.....! وأنا اجهل كيف حصل ذلك....، فانا لم أسرع، هم أسرعوا في إعادتي إلى المكان الذي خرجت منه! ـ أنت أسرعت أما أنا فتأخرت فلم يعد للعتاب معنى، فلا أنت سبقتني ولا أنا تأخرت. قال بصوت أعلى: ـ لا تدعيني أغادر ...، وأشاطرك أساك، بل شاركيني أحلامي...، فانا، في الأقل، لن أجد يدا ً شريرة تحطم رأسي مرة ثانية!
[202] اجتماع/1 ـ ما الذي يوحدنا..؟ اعترض الضفدع البدين، بضرورة استبدال الكلمة بـ " يجمعنا: فعدلها الثعلب، متابعا ً: ـ ما الذي يجمعنا في هذا المكان...، هذا هو محور اجتماعنا، أيها السادة الحضور...؟ أجاب الفهد: ـ المكان نفسه، بالدرجة الأولى، هو الذي فرض علينا. فقتال الضبع: ـ أي إننا لم نعد طلقاء، فما معنى الحديث عن المكان؟ اعترض الأرنب: ـ آسف، علينا ان نتوقف عند العدالة، وعدم العدوان، الذي نعاني منه، قبل البحث عن إجابات حول سؤالكم! ضحك الضفدع البدين: ـ إذا كنتم تواجهون الخطر اليومي، فإننا، معشر الضفادع، نتعرض للإبادة، والانقراض. عاد الثعلب للحديث معقبا ً: ـ بعد ان لم تعد البرية، ولا الغابات، ولا الوديان، ولا حتى المستنقعات، صالحة لسكننا، اصطحبنا الناس .... هز الثور رأسه معترضا ً: ـ أرجو العودة إلى أساس اجتماعنا، هذا....، بدل الحديث عن التفاصيل. قال الثعلب: ـ دعوني أعيد السؤال على النحو التالي: ما الذي لا يجمعنا، كي لا يسمح لهم المضي بعيدا ً في السيطرة علينا، واستغلالنا، حد وضعنا فوق بركان! أجاب الضفدع البدين: ـ ما دام الأمر يرجع إلى ملايين السنين، فهل باستطاعتنا إجراء ثورة، أو حتى القبول بمبدأ الإصلاحات! أيد الفهد زميله الضفدع البدين، قائلا ً: ـ لكن الإشراف العام، كالغذاء، والصحة، والنظافة، والتربية، والسيرك، وغيرها، كلها مستحدثات لم يكن لها وجود لا في البرية ولا في الغابات... ضحك الضبع: ـ ها أنت تستحسن الأسر، وتستبدله بالرفاهية، وتستبدل القيود بالحرية! صاح الذئب: ـ هذه ثرثرة! فإذا كان الخطر السابق قد حفزنا على مواجهة الأعداء، والديمومة، فان الرفاهية، والترف، والنعيم، ستصبح خطرا ً حقيقيا ً يجعل مصيرنا مهددا ً بالزوال! أيد الدب كلمات الذئب: ـ ليس علينا إلا إعلان التمرد، من ثم العصيان. صرخ الأرنب: ـ هم الأقوى، والأشرس...، مما سيقود إلى إبادتنا، وتقسيمنا، وتشتيتنا.. تكلم الدب غاضبا ً: ـ بالأمس كان الديناصور سيد الأرض، ثم هزم شر هزيمة، لتحل محلها الزواحف ، التي بدورها تعرض للإبادة، تمهيدا ً لظهور الطيور، والثدييات! تقدم الأسد خطوة متمتما ً: ـ آسف، أنا أعلن انسحابي، أيها الرفاق! صرخ الثعلب: ـ ما هذا القرار الغريب،، وأنت احكمنا، وأعقلنا، ومازلت تتمتع بالهيبة، والوقار...؟ أجاب الأسد: ـ أرجوك لا تتحدث عن الماضي، فالحال تغير، ومادمت هذه الحديقة، بأقفاصها، تجمعنا، فأحلامنا باطلة! بصوت حزين تمتمت الحمامة: ـ حتى القضبان لم تعد توحدنا، وكأن وقوعنا في الأسر غدا قدرنا في الأخير....، فما الذي يجمعنا؟ أجاب الأسد: ـ وهذا تحديدا ً هو ما دعني للانسحاب، وحفظ ماء الوجه، او بانتظار الاجتماع القادم، بعناوين صحيحة! رد الثعلب: ـ سيدي، منذ قرون ونحن لم نجد أملا ً بالخروج من المأزق! أضاف الضبع: ـ أنا أرى ان الحل الأمثل ... جذبت كلماته الحضور بإصغاء تام: ـ آن لنا ان نحطم قيودنا، ونهتف عاليا ً: الحرية أو الموت! كادت الضفدعة البدينة ان تفطس من الضحك: ـ الم نشبع من الهزائم؟ قال النمر: ـ أود ان أخبركم إنني حلمت ليلة أمس حلما ً رأيت فيه عاصفة سوداء تضرب حديقتنا، وشاهدت رمالها تتكوم فوقنا، ونختفي من الوجود! ـ آ ...، أنا رأيت الحلم أيضا ً. وأضاف البلبل بشرود: ـ حيث شاهدت الأرض بأسرها وقد تحولت إلى غمامة رمادية اتسعت حتى اختفت الشمس، وغاب الفضاء! كاد الثعلب ان يفقد سيطرته في الحديث، فرفع صوته، وراح يصرخ: ـ إن لم توحدنا الأقفاص، ولم يجمعنا الأسر، ولا العبودية تلملم شملنا... قاطعه الأسد: ـ سيدي الثعلب القائد، هذه هي الأسس التي لا تسمح للحرية إلا ان تبقى لعبة يلعبها الأقوياء، ولا يخسرها إلا ....، من ليس لديه ما يفعله! عاد الضفدع إلى الضحك: ـ الم تكن، أيها الزعيم، الأقوى في الغابة؟ ـ سيدي الضفدع الموقر، وهل هناك غابة كي أكون سيدها؟ همس احدهم في آذن الآخر: ـ جاء المدير.. قال الثعلب بصوت مرحب: ـ جاء من يمسك بالمفاتيح! فهو وحده يقدر على فك أقفال أقفاصنا!
[203] اجتماع/2 تابع الثعلب: ـ ليس لدينا إلا ثلاثة احتمالات: إما إعلان التمرد، وإما الانسحاب، وإما لا تمرد هناك ولا انسحاب! ساد الصمت، بعد كلام الثعلب، فقال الضفدع البدين، ساخرا ً: ـ والاحتمال الرابع؟ أدرك الثعلب ما قصده الضفدع، فقال: ـ تعني اختيار الاحتمال المناسب في الظرف المناسب...؟ ـ لا، بل اعني إننا لم نعد نمتلك المزيد من الاحتمالات! خاطب الأسد الثعلب: ـ أنا لا يعنيني موقفك الأخير، عندما صرحت: من يمسك بالمفتاح يمسك بالقفل! لهذا علينا العودة إلى الأصل، بدل المتاهة بين اليقين والاحتمالات! فانا لا أجد المنزلة بين المنزلتين إلا منزلة واحدة! قال النمر: ـ لا تراجع، لا انتكاسات، بالأحرى ترشدنا الحتميات إلى: الثبات وليس إلا الثبات، فلا تراجع ولا ارتداد، كي لا نغفل أبدا ً ان المستقبل رايتنا! وما دمنا لا نمتلك إرادة مغادرة ما نحن فيه، فليس فقدان الأمل، ولا غلق مدرج الحلم. فمن لا يمتلك قدرة التقدم نطلب منه ان لا يبذر بذرة الإحباط، والكسل! ضحك الدب: ـ كلماتك تذكرني بانتفاضة الفئران ضد الهر. أجاب الثعلب: ـ يصعب دفع الأبرياء إلى ما هو أقسى من القبول بالهزيمة، أو بالوضع الراهن...، فالموت ليس حلا ً للمشكلة، لأن المشكلة، في الأصل، كامنة في الشرعية التي لم تكتسب شرعيتها بعد! وكل حديث للخروج من المآزق يستثني الإرادة يغدو بحثا ً في الظلمات عن حفنة نور! صمت بعض الوقت وأضاف: ـ اخبرني المدير: جميع مطالبكم شرعية: حق الحياة، وحق العمل، وحق الحرية! صاح النورس: ـ نموت ويحيا المدير. رفع النمر رأسه، وحدجه شزرا ً، ولم يتكلم. الضفدع قال: ـ المشكلة فينا نحن أيها الرفاق! فنحن لا نمتلك تصورا ً خارج حدود مصائرنا. نحن ولدنا في المستنقع، ولا نموت إلا فيه! ـ آ ... صاح البلبل: ـ كأنك أغفلت حتمية ان الظالم سيدوم إلى الأبد. ـ تلك هي المشكلة...، بالأمس حاورت النار حول القضية ذاتها فقالت لي: إذا لم تكن غايتي الحرق فلماذا وجدت...؟ فقلت لها: تهذبي، يا نار، وكوني ضوءا ً! فسألتني بصوت مذعور: هل تعرف ان الظلمات بلا حدود؟ فقلت لها: إنها أمنا الكبرى، ومنها خرجنا، واليها نعود...، فهل ندعها تشقى...؟ وأضاف الثعلب: ـ أنا أخبرت المدير ان العدالة لا تقع في الماضي، كما إنها لن تأتي بعد هلاكنا، فسألني: هل هناك ضمانات تحافظ على امن هذه الحديقة، وعلى سبيل المثال: ان لا يعتدي الذئب على الحمل، والأفعى تبقى خالدة من غير ابتلاع الفئران والأرانب والطيور، والأسد يصبح قائدا ً للسيرك من غير ندم، وضغينة؟ رفع الفهد يده: ـ اجب، يا فخامة القائد، هل تقدر ان تستبدل نزعتك الأبدية؟ ـ عدنا إلى الجذر، عدنا إلى الأصل! انسحبت السلحفاة وغطست في ماء البركة، تبعتها السحالي، والبرمائيات، ثم انسحب التمساح أيضا ً. قال الغراب: ـ عندما شاهدت المعركة اشتدت بين الأخوين، قلت مع نفسي: لا فائدة من التدخل، فلا احد يصغي إلى غراب، لأنني كنت أدرك تماما ً: ان الحق لا يخرج إلا من الباطل! لتمتد أيامه، وما ان يرتوي ويشبع حتى يهن ويشيخ ويموت. لكن لا احد ذهب ولم يرجع، فالكل يخرج بعد الدخول! على خلاف ما كان يقال: كل من دخلها لم يخرج! ذلك: لأن النور يخرج من الظلمات، كما تخرج الوردة من الدمن، وكما خرجنا من عفن سواحل المستنقعات! فسأله الثعلب: ـ وما ـ هو ـ دورك في الجريمة؟ ـ لا دور لي عدا إنني علمت المنتصر كيف يخفي جثمان ضحيته في التراب! ـ ها أنت تتحدث عن الدورة...؟ ـ أحسنت! انسحبت الزرافة، تبعتها باقي الثدييات. فقال الضبع: ـ البشر أنفسهم أدركوا استحالة وضع نهاية إلا بدفها إلى الأمام حتى لو مكثت راسخة في مكانها إلى ابد الآبدين. فإذا كانت النهاية تنتهي بنهاية فهل ثمة قدرات لعقولنا ان تضع مقدمات من غير مقدمات سابقة عليها؟ صاح الثعلب: ـ ها أنت تلمّح بالاحتمال الرابع! أجاب الضبع: ـ لن يدوم الظلم حتى لو كانت مقدماته ظالمة كنهاياته! ضحك البلبل بشفافية: ـ ومن قال ان الحديقة ستدوم إلى الأبد؟ رد الثعلب: ـ هكذا سكنت النار في الماء، وسكنت البذرة في الأرض، وهكذا الجمر يختبأ في الرماد...، فلكل لغز مفتاح، مثلما لكل كهف باب، ولكل قاصة ثقب، ولكل أنثى فتحة، ولكل أحمق شطحات! أجاب الأسد في محاولة لحسم الأمر: ـ هذه ـ أيها السادة ـ هي حدودنا، حدود عقولنا وحدود حديقتنا! لم يبق إلا الثعلب والغراب والنمر والأسد. قالت الضفدعة قبل ان تنسحب: ـ لا توحدنا إلا خلافاتنا، فانا لا اعرف هل أخذناها من البشر، أم هم أخذوها منا! وما دمنا لا نمتلك مكر بني ادم، ولا قسوته، ولا أحلامه بالسيطرة على السماء بعد ان فرضوا سيادتهم على الأرض وانتزعوها منا نحن سكانها الشرعيين، فلم يبق لدينا إلا ان نغطس في مستنقعنا، ففيه ولدنا، وفيه ترعرعنا، وفيه نموت! ـ كان سكان الصين القدماء يقولون: ولدنا في الحزن، وفي الحزن نعيش، وفيه نموت! ـ دعك من أمثلة الأزمنة السحيقة، فنحن نعيش في الربع الأول بعد الطوفان الثالث. سأل الثعلب الغراب: ـ هل ستشاركنا، أم تبحث عن وطن آخر، تهرب إليه، كي تشتمنا، وتتهمنا بالفسق والفجور، وإننا نحن من صنع الزعيم الخالد، والطاغية الأوحد، والحاكم الظريف ...؟ ـ في السيرك؟ ـ نعم. هز الأسد رأسه: ـ أنا، يا سيدي القائد، سأعمل على إعادة الضفادع، والنوارس، والأفاعي، وكل من له نفس، إلى الحظيرة ...، فعندما لا نمتلك قدرة على قهر الأعداء، سنرقص لهم، فالبرقص نقهر الشر! وبالأناشيد نلوي عنق الزمن، وبالشفافية نذل المستحيلات! فانا للحق لا ارغب ان أرى الثعالب تبول علي ّ، عند الهرم، ولا ارغب ان تضرب الأمثال بي فيقال: الكلب الحي خير من الأسد الميت! راح الثعلب يرقص: ـ سأخبر المدير بقرارنا الأخير . هز الأسد رأسه بمرح: ـ الحياة، السيرك، الحرية! قبل ان يحلق الغراب عاليا ً، نعق: ـ أنا سأدرب وحيد القرن على الطيران! ومع كل من يؤيد هذا القرار، قبل ان يتم إرساله إلى المحرقة. فكما قال أسد بابل: حتى لو مت فظلي لن يزول إلى ابد الآبدين! توارى النمر. قال الثعلب للأسد: ـ لم يبق إلا أنا وأنت. قال الأسد بصوت حزين: ـ حتى لو فروا جميعا ً، وتفرقوا، وهجروا، وانهزموا، وحتى لو تمت تصفيتهم، وإذلالهم، فالحرية ستولد حتى بغياب الجميع. فقال الثعلب بعد صمت قصير: ـ كنت اعرف...، منذ البدء: من يولد في الحديقة، لن يقدر على مغادرتها، إن كان أجاد الرقص أو لم يجده، وإن كان أجاد اللعب أو لم يجده، لأنني اسمع صرير مفاتيح الحديقة يدور في أقفاصها! قال الأسد: ـ إن كان الغراب قد لاذ بالفرار، فانه، أينما ولى، فالمسافة وحدها غزلت بمغزل هذه الحديقة.
[204] اجتماع/ 3 انزوى الأسد في ركن بعيد بجوار قفص الثعلب، فخاطبه: ـ أنا شخصيا ً لم اعد اعرف هل أصبحت عتيقا ً، باليا ً، غير صالح للاستخدام، وغير نافع، وان دوري انتهى، وعفي عليه الزمن، وإنني أصبحت مخلوقا ً فائضا ً، بل وتحولت حياتي إلى عقبة وأصبحت عثرة أمام تقدم الزاحفين ...؟ اعترض الثعلب: ـ أرجوك لا تسمح للماضي، ولا لمخفياته، ان تشوش على عاطفتك، وأفكارك، ورشدك! فلو كنا خلقنا كي نزول، فلماذا خلقنا..، وأنت احكم من ان اعلمه حكمة العلي القدير...؟ أجاب الأسد: ـ دعنا من أوهامك، يا سيدي...، فحتى الضفادع لم تعد معنا، ولا الأبقار، ولا الطيور. وأضاف بصوت حزين: ـ أنا هرمت..، لا أميز بين النهار والليل، والحديث عن الأمجاد، والبطولات، والصولات...، كلها ذهبت مع الريح. وها أنت تراني أصبحت امثل دور الأسد، بعد ان تم تدريبنا على الرقص! فلا علاقة للحاضر بماضيه، كما ان المستقبل، كما ذكرت لك، لا يمتلك إلا ان ينحدر إلى المجهول.. ـ أحزانك تولد الأحزان..، كأنك تستخف بجهودنا في إنقاذ ما يجب ان ننقذه. ـ يا صديقي، أرجوك، استبعد العاطفة، ولا أقول العدالة، كي لا نصبح أضحوكة، وهزأة حتى من بنات أوى، والفئران، والخنازير، والقمل، والقنافذ! ـ ها أنت تحبط عزيمتي، وكأنك تفند نظريتنا القديمة: ما من تقدم يحدث إلا بالقوة، والمكر، ورأس مال السيد المدير! ـ لا أنا، ولا أنت، ولا الفصائل الأخرى تستطيع تفنيد هذا الثالوث: اللا شرعية في تحديها للعدالة! فرأس المال، أو كل ما هو مغتصب، مع القوة، مع كل ما يحاك، ويدوّن، ويحكى...، لا يمشي هذا الثالوث الموحد، المتداخل حد الانصهار، في درب معد، ومعبد، يمكن تلمس مساراته، ونهاياته...، بل هو متقلب، ومتعرج، ولكنه عنيد...، ويعرف ما لا نعرفه، كما ورد ذلك على لسان بعض حكماء الأمس...، أو من سبقهم أيضا ً؟ ـ كأنك لا تتحدث إلا عن مؤامرة نسجت بإحكام، وسرية، رغم علانيتها؟ ـ بل أنا أتحدث عن واقع الحال...، لأن الصراع أكثر قسوة من محاولات تشذيبه، فهناك قوى تعرف ماذا تعمل في مواجهة قوى تتخبط بأدوات عفى عليها الزمن، قوى مضت، وتحولت إلى ركام، ولقى، ودمى، ومنقرضات...، وهي لا تمتلك إلا العواء، والاستجداء، والتضرع، ذليلة، بل وذليلة حد استجداء الخيانة، والاستمتاع بالموبقات! ـ ها أنت تفصح عما حدث لنا؟ ـ أجل ...، فنحن لا نرى ابعد من حدود هذه الأقفاص، ولا من حدود أسوار الحديقة، والمدير الذي يمسك بالمفاتيح، في الواقع، هو القفل! هو الدرب المغلق. وقد فهمت البرمائيات الحقيقة فتخلت عنها، بعد المعارك التي خسرنا فيها كل الطاقات التي كان علينا ان نربحها! ملايين الحشرات ذهبت الى المعارك، مع ملايين الطيور، وملايين المخلوقات البريئة ... ـ تجلد، يا سيدي، تجلد، لم نخسر الحرب بعد!
ـ تقاتل ضد من...؟ ضد الزمن...، أم من اجل ديمومة الوهم؟ ـ أنا أذكى من ان اذهب ضحية الهزائم. قال الأسد: ـ ها أنت تراني هرمت، داخل هذه الجدران، وليس لدي ّ إلا انتظار ان تبول علي ّ بنات أوى أو الفئران؟ صاح الثعلب: ـ لا اقدر ان استبدل جلدي بجلدك! ـ فعلنا ذلك ...، قرون طويلة...، حتى إنني تخليت عن منصبي ومكانتي وموقعي لصالح السيد المدير، وعيناه زعيما ً...، فماذا كانت النتيجة: حديقة خربة، معزولة، قذرة، أموالها ضائعة، وحيواناتها ممزقة، خالية من الأمن، والقانون، حتى لم نعد نعرف من يمد بعمرنا، وكيف تدوم الحدائق...؟ قرب الثعلب رأسه وهمس بصوت رقيق: ـ يا سيدي، لم نخسر، حتى الآن، إلا ما يستحق الخسارة! فتساءل الأسد باستغراب: ـ وهل تبيض الدجاجة غير البيض؟ وهل تلد الضفدعة غير الضفادع، وهل يلد الجربوع غير الجرابيع....؟ أيها العزيز...، نحن لا نلد إلا ما نخسره...، فإذا كنت لا ترى، فانا أصبحت أعمى من شدة حفري في المعرفة! فانا لم أر إلا الظلمات تمتد، وبمباركة منا! ـ يا للكارثة...، عندما تغدو المعرفة أداة مضادة للمعرفة! ـ لم اقل هذا..، ولم اقصده...، بل قلت: لا مقارنة بين من تعلم كيف يتعلم وبين من تعلم كيف لا يتعلم! وإلا ماذا قدمنا، أيها الواعظ المحنك، غير استبدال اشد الحقائق وضوحا ً بالسراب؟ أخبرني هل لدينا براعة اختراع واحدة...، غير عوائنا، ونباحنا، وخداعنا، وأوهامنا؟ ـ تكاد كلماتك تجهز علي ّ. ـ ماذا تطلب من مخلوق لم يبق منه غير الجلد؟ وماذا تطلب من رأس أصبح طبلا ً...؟ أم ستعلم القردة كيف يحلقون في الفضاء؟! ـ دعنا نستدعي الثعبان...، الذي حصل على وردة الخلود، لعله ينجدنا! ضحك الأسد: ـ عدت تستخدم الأدوات التي انتهى عملها، فتستخدم الكلمات في مواجهة تراكمات جعلت منا خامات لعملها، فما الذي يمكن ان تستخرجه من المدافن غير الأصداء، والجيفة، والنتانة، ليتداولها موتى يترنحون في الظلمات! تم استدعاء الأفعى، وطلب منها ان تقول كلمته. فنظرت الأفعى في عيني الأسد، وسأله: ـ أراك حزينا ً، مهموما ً، فمن أحزنك وكدر مزاجك، أيها الحكيم؟ ـ أيتها الأفعى الذكية، إن الحرية التي منحونا إياها أصبحت قيدا ً...، فانا امضي أيامي وحيدا ً...، بعد ان مرضت لبؤتي ورحلت... ـ تذكرتها، كم كانت فاتنة! ـ ولم تعد لدي ّ ذاكرة تعينني على التذكر. ـ احلم. ـ والأحلام، هي الأخرى، هربت مني..، لهذا وجدنا انضمامنا إلى السيرك بمثابة سلوى، لهم ولنا، فقد تعلمنا الرقص، والمشي فوق الحبال، والوثبات البهلوانية، والاشتراك مع باقي الرفاق بإقامة المهرجانات، والاحتفالات...، من اجل .... ـ أما أنا أيها الأسد، فقد رأيت حلما ً مفزعا ً! قال الثعلب: ـ آن لك ان تروي لنا هذا الحلم، وتفسرينه لنا، بخبرة من قرأ أسرار الأزمنة، ومخفياتها..؟ لكن كبير الجرذان جاء مسرعا ً، فنظر إلى الأسد، والى الأفعى، والى الثعلب، وقال للأخير: ـ أيها القائد، لا استطيع غلق فمي، فدعني اعترف... ـ قل ما لديك، رغم عدم دعوتنا لك بالحضور، و تجاوزك الآداب العامة! ـ دعني اعترف: إننا كلما أنجبنا ذرية، لتأسيس طائفتنا، هجمت علينا الأفاعي، واختطفت فلذات أكبادنا، للمساومة على مصائرنا! ضحك الأسد، وقال لكبير الجرذان: ـ هل هذه هي حكمة الخلود؟! هز الجرذ رأسه المدبب، ساخرا ً، وأجاب: ـ أصبحت الشائعات تعمل كما تعمل الحقائق...، فالخلود الذي حصلنا عليه، ليس أكثر من خدعة امتدت عبر الزمن.قالت الأفعى: ـ وهذا هو ما رايته في الحلم! قال الجرذ: ـ لا فئران ولا قوارض ولا ضحايا .. ـ بل رأيت عاصفة بيضاء تأتي من البعيد، فقلنا جاء المطر...، لكنها ظهرت إنها عاصفة سوداء، فأظلمت الدنيا، وتوحدت السماء بالأرض. كانت ثمة حجارة حمراء تتساقط، مثل الشهب، علينا، وقد اشتد البرد... فعّم الخراب. قال الثعلب: ـ أكملي، رجاء ً.. قالت: ـ ثم فجأة بزغت الشمس، فخرجت الأنعام، وخرجت الدابات، وخرج كل ذي نفس مرحبا ً بها، فرحنا نقدم الهدايا، والاضحيات، والتبريكات، لها ...، لكن سرعان ما ارتفعت درجات الحرارة، فجفت الأرض، وهلك الزرع، فهرب من هرب، ومات من مات، ولم يبق ـ في البرية ـ احد، باستثناء ذئاب تعوي، وهياكل بهائم متناثرة على امتداد الصحراء ...، رفعت يدي وقلت للشمس: كفى! فقالت: وهل تركتم إثما ً لم يقترف، وهل تركتم ذنبا ً لم يرتكب، وهل تركتم براءة لم تدنس...؟ قال الأسد: ـ أنا أيضا ً رأيت الحلم ذاته...، لكن السيد المدير وجد الحل، فقد لوّح لنا بالمفاتيح! صاح كبير الجرذان: ـ غريب...، نحن أيضا ً رأينا الحلم نفسه. صاح الثعلب: ـ دعونا نرى النهاية. قالت الأفعى: ـ رأيت المدير يتجول، برفقتكم، أيها القائد...، بعد ان أطلق سراحنا من الأسر، ومنحنا الحرية! صاح الجرذ: ـ ماذا تفعل بها...، وقد اجتمعت المفترسات ذات الأنياب والمخالب وأحاطت بنا من الجهات كلها! ـ في الحلم؟ ـ لا ....، لم يكن حلما ً، كما لم يكن خلودنا، نحن الأفاعي، إلا وهما ً...، فقد بدأت الحرب! الأسد افترس أولاده، وخرجت التماسيح من المستنقعات، الذئاب لم تبق حملا ً، والدببة راحت تصطاد السمك بلا رحمة، النسور انقضت على الطيور، والفهود أمسكت بالغزلان، حتى السلاحف راحت تقرض الأشجار، والفيلة بدأت تحوّم باحثة عن ماء السماء، القطط السوداء مع المرقطة شكلت جبهة، والكلاب السمان لم تترك أرنبا ً، فهربت الغربان وتركت الأشلاء متناثرة على مدى البصر...، فولدت أجيال يافعة من الضفادع، والخنافس، والعقارب، كما انتشر الجذام، والزهري، والبلهارزيا، والايبولا، والطاعون ...، فعم القحط، وسرى الوهن، وخارت القوى، وانهارت أعمدة المدينة ... اقترب الثعلب من الأفعى وسألها: ـ وماذا بعد...؟ ـ لم تعد هناك حديقة، ولا أرضا ً، ولا سماء ً! ـ كيف اختفت؟ ـ توارينا جميعا ً من الوجود! ـ ووردة الخلود؟ ـ سرقها المدير! ـ وأين ذهب بها؟ ـ لم يذهب ..،عاد يمسك بالمفاتيح1 ويلوّح بالعقوبات. ـ ونحن؟ ـ عاد كل منا إلى قفصه! فلا حرية من غير ثمن، ولا خلاص من غير شروط، ولا خلود من غير فناء! ـ وأنا؟ ـ لم أرك...، رأيت طيفك، وطيف سيدنا الأسد يتستر به المدير. ـ أصبحنا خرقا ً! ـ وعندما نظرت إلى الأرض، رأيت الحرس يلبسون بساطيل صنعت من جلودنا. ـ يا للكارثة. قالت الأفعى بمرح: ـ قلت لك أنا لم اعد أميز أكان ذلك حلما ً أم حقيقة إلا عندما استدعيتني، قبل قليل، فأدركت ان الكارثة لم تبلغ ذروتها...، لأن القردة، كما شاهدنا ذلك بأبصارنا، سرقوا سر خلودنا، وانتزعوا السلطة منا، ولكن بتدمير كل أداة جارحة، فقد هدموا مصانع الأسلحة، وخربوا المؤسسات السرية، وبالوا فوق معامل الإشعاعات النووية، وأقاموا صرحا ً للوحدة، فعاد السلام، والوئام، والمودة..! كاد الأسد يفطس من الضحك: ـ لم اعد أميز هل انتهى زمننا، أم مازال يدب نحو نهايته، أم علينا ان ننتظر ...؟ صاح الجرذ: ـ يا فخامة الأسد، ابعد عني هذه الأفعى...، فما ان تستعيد قواها، حتى ستبتلعني! فقال الثعلب للأسد: ـ لدي ّ عقار يساعدك على النوم، كي تحلم، وترى لبؤتك الغائبة، فيذهب عنك الحزن! أجاب الأسد بمرح: مع إنني لا أريد ان أراها، ولا أرى السيد المدير، ولا أراك...! إلا إنني أخشى ان يأتي اليوم الذي لا نلتقي فيه! ضحك الجرذ: ـ عندما تغيب يا فخامة القائد! لم يدعه يكمل ما أراد قوله: ـ لا يجوز مخاطبتي بلقب ذهب مع الريح، ثم ان القائد، مازال يتمتع بالشرعية، حتى لو كانت مغتصبة! صفق الثعلب: ـ والآن على كل منكم ان يستدعي أبناء نوعه، وجميع سكان هذه الحديقة، في هذه المحمية، للاحتفال بالنصر! قال الجرذ: ـ مع ان الجميع لاذوا بالفرار، وتفرقوا، وتشتتوا...، وهاجروا ...، فوق سطح هذا الكوكب الأزرق، الصغير، إلا إنني سأستدعي أطيافهم، وما تبقى من أشباحهم، وآثارهم، ورمادهم، وأصداء عويلهم، ونباحهم، وعواءهم، ونحيبهم، لإعادة تأسيس حديقتنا الجديدة! لوّح الغراب بمنقاره قائلا ً: ـ المشكلة...، المشكلة لا احد يمتلك قدرة ان يتعلم، أولا ً، من ثم لا احد يريد ان يتعلم ثانيا ً! فحياتنا شبيهة بالمدفع الذي ينقصه البارود، لكن ليس هذا فحسب، بل ، لأن هناك مئات الأسباب التي تجعله معطلا ً عن العمل! لوح الثعلب بما يمتلكه من مكر: ـ وأنت ماذا تعلمت؟ ـ لم تبقوا لي شيئا ً أتعلمه! عدا ان اشهد نهاية عصر لم يبلغ ذروته بعد...! فبعد ان تخمد نيران هذه الفتن، وحرائق هذه الحروب، وتهدأ مشاعر الكراهية، وبعد ان نستعيد عقولنا، ويسود السلام، لن أكون بحاجة إلى المعرفة، لأنها عندما تكتمل، لا توجد ثمة أسباب لسردها، وروايتها، أو تدوّينها!
[205] كلمات قالت الكلمة لجارتها الكلمة: ـ الغريب ان هذا الكاتب، مازال يكد ويشقى في صناعتنا، وهو يجهل، انه ينتج سلعا ً عفى عليها الزمن! فخاطب الكاتب الكلمات: ـ هذا صحيح....، ولكن ماذا افعل وزمني أصبح فائضا ً! 6/10/2015 [email protected]
#عادل_كامل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في التشكيل العراقي المعار/ عبلة العزاوي رحلة مع رائدة الخزف
...
-
قصص قصيرة جدا ً/ مستعمرة الديناصورات القسم الثالث
-
قصص قصيرة جدا ً/ مستعمرة الديناصورات / القسم الثاني
-
قصص قصيرة جدا ً/ مستعمرة الديناصورات
-
قصة قصيرة/ ممرات
-
في التشكيل العراقي/ غالب المسعودي
-
قصة/ شجرة من غبار
-
قصة قصيرة/ اعترافات كبش
-
قراءة في رواية وجع المدينة لعماد العبدلي
-
قصة قصيرة/ تتمات
-
في النحت العراقي الحديث/ منعم فرات
-
قصة قصيرة / لا احد سوى الجميع
-
قصة قصيرة/ في الطريق الى المنصة
-
قصة قصيرة/ كآبة بيضاء
-
قصة قصيرة/ غبار وكلمات
-
قصة قصيرة/ الوباء
-
قصة قصيرة/ المستنقع
-
قصة قصيرة/ الغائب معنا
-
قصة قصيرة/ اقتضى حضوركم!
-
المصيدة
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|