|
أرجوحةُ الخَدَر ودولةُ الحاجة
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 4944 - 2015 / 10 / 3 - 01:52
المحور:
الادب والفن
""تسقطُ نافذتي عند الصبحْ/ أرفعُها في المساءْ/ وأنتَ لا تأتي/ صوتُكَ وحدَه/ يأتي/ لا يقولُ تعاليْ/ بل: راقبي النجومَ في السماء/ كلما انطفأ واحدٌ/ قطعتُ ميلا/ نحوك.ِ ” [من قصيدة: "أسدلُ الشرفةَ كي تأتي" | من ديوان: “اسمي ليس صعبًا" | فاطمة ناعوت ] دار الدار 2009
***
"انجرفَ مع المياه الزرقاء/ تحت القمر الصافي/ يلتقط الزنابقَ البيضاء من البحيرة الجنوبية/ كلُّ زهرة لوتس/ كانت تنطق بالحب/ حتى انكسر قلبُه." بالنسبة إلى شاعر القرن الثامن الصيني "لي بو"، كان الحبُّ موجعًا. الشعورُ بالحب يحلّق عاليًا ثم يهبط من حالق. إذا غمر المحبوبُ عاشقَه بالاهتمام، إذا هاتفه بانتظام، أو أرسل إليه إيميلات عاطفية، أو شاركه وجبة طعام أو لحظة مرح ذات أصيل أو ذات مساء، إذن سيُشرق العالمُ بالحبور. أما لو بدا المعشوق غير مبال، كأن يأتي متأخرًا دائمًا، أو لا يأتي أبدًا، لو أخفق في الرد على الإيميلات، أو الهاتف، أو الخطابات، أو إن أرسل أية إشارات سلبية، يبدأ العاشق في الشعور بالإحباط. مثل هذا العاشق الكسول الخامل، المحبط، يظل مكتئبًا إلى أن ينجح في اجتذاب انتباه محبوبه، فيهدأ القلب الواجفُ المضطرب، وتتجدد الحيوية. العشق الرومانتيكي بوسعه أن يُنتج مزاجًا متأرجحًا يتغير من النقيض للنقيض. من حال الابتهاج القصوى حينما يكون الحب في ذروته، إلى الإحباط أو حتى الغضب والهياج حينما يتم تجاهل المشاعر أو رفضها. كما وصفه الكاتب السويسري هنري فريدريك إميل: "كلما أحب الرجلُ أكثر، عانى أكثر." أهالي "التاميل" في جنوب الهند وضعوا تسميةً لهذه الحال المضطربة. سمّوا تلك الحال من الاضطراب العاطفي: ماياكام، بما يعني حال الخَدَر، الدوار، الخداع والوهم. "تعال إليّ في أحلامي/ ووقتها/ عند النهار/ سوف أعود من جديد في حال أفضل./ لأنه هكذا/ سيقضي على كل الحنين اليائس/ الذي يسكن نهاري." العشاق يتوقون بلهفة إلى الوحدة العاطفية مع أحبّتهم، كما كان يعلم الشاعر "ماثيو آرنولد”. من دون هذا التواصل مع المحبوب، يشعر العشاق بأنهم غير مكتملين أو كأنما هم مُفرّغون، كأن جزءًا أساسيًّا من تكوينهم مفقود. الحاجة الهائلة للوحدة العاطفية بوصفها إحدى خصائص العاشق التي عُبِّر عنها بخلود في السمبوزيوم، حفل الغداء، المقام في أثينا على شرف أفلاطون عام 416 ق م. في هذه الأمسية الاحتفالية اجتمع رسميًّا بعضٌ من أعظم العقول الإغريقية الكلاسيكية على مأدبة الغداء في منزل أغاثون. وفيما كانوا متكئين على آرائكهم، اقترح أحدُ الضيوف أن يقوموا بتسلية أنفسهم بمناقشة موضوعات لها علاقة بالعشق: كل ضيف من الحضور يأخذ دوره ليصف إلهَ الحبويمجّده. وافق الجميع. وتوقفت عازفة الفلوت. ثم راح واحدٌ إثر واحد يأخذ دوره في تمجيد ربّ الحب. بعضهم وصف ذلك الكائن الفائق بأنه الأكثر "قِدمًا" والأعلى "شرفًا" أو الأقل "حصافة" بين جميع الآلهة. وأقرّ آخرون بأن إله الحب "شابٌّ"، أو"حساس"، أو "قوي"، أو "طيب". إلا سقراط. بدأ سقراط مداخلته بأن سرد الحوار الذي دار بينه وبين ديوتيما، المرأة الحكيمة من مانتنيا. حينما كانت تتحدث عن إله الحب، أخبرت سقراط بأنه: "يسكن دائمًا في دولة الحاجة." "دولة الحاجة". ربما ليس من عبارة في كل تاريخ الأدب قد قبضت على جوهر الحب الرومانتيكي العاطفي مثل تلك: "الحاجة". تلك الرغبة العارمة في الذوبان والتوحّد مع المحبوب، تحلل وتفنّد مجمل الأدب العالمي. كتب الشاعر الروماني ابن القرن السادس باولو سيلنتياروس: "هكذا يرقدُ العاشقان/ مُغلقي الشفاه/ محموميْن/ أبديي الظمأ/ كلٌّ منهما يتوق أن يدخل بكامله في عمق الآخر." يوفور وينترز، الشاعر الأمريكي ابن القرن الثاني عشر كتب يقول: "علّ ورثتنا يضعوننا بعد موتنا في جرّة واحدة محكمة الإغلاق/ لأن الروح الواحدة لا تعود أبدًا." وعبّر ميلتون ببراعة عن ذلك في "الفردوس المفقود" حينما قال آدم لحواء: "نحن واحدٌ/ لحمٌ واحدٌ/ أفقدكِ حين أفقدُ نفسي." يؤمن الفيلسوف روبرت سولومون أن تلك الرغبة الملحّة هي السبب الأوليّ الذي يجعل العاشق يقول: "أنا أحبك". ليست هي جملة من أجل إخبار حقيقة، بقدر ما هي طلب للتأكيد. يتوق العاشق لسماع تلك الكلمات السحرية: "أحبك أيضًا". عميقة هي الحاجة للتوحد العاطفي مع المحبوب لدرجة جعلت خبراء النفس يؤمنون أن شعور العاشق بالنفس يصير مشوشًا وضبابيًّا. وكما قال فرويد: "كلما زاد الحبُّ وطأةً، هدّد بطمس الحدود بين الذات وبين المحبوب." قبض الروائي جويس كارول أوتس بحيوية على حالة الانصهار المبهج تلك قائلا: "إذا ما التفت الناس إلينا فجأة سوف نرتجف ونرتد للوراء/ الجِلد المبتلّ سوف يرتعد/ وأخيرًا/ سوف يتمزق عن شخصين؟"
*** * من كتاب "لماذا نحب؟ طبيعة الحب وكمياؤه" | هيلين فيشر | المركز القومي للترجمة 2015 | ترجمة: فاطمة ناعوت - أيمن حامد.
فاطمة ناعوت مجلة نصف الدنيا
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأوغاد لا يسمعون الموسيقى
-
حوار شامل مع الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت حول التيارات المتطر
...
-
صباحُ الخير يا زينب
-
الكارت الخائب
-
أنا أغنى امرأة في العالم
-
مسيحيو حزب النور
-
بيان إلى السلفي ناجح إبراهيم من فاطمة ناعوت
-
إحنا آسفين يا خروف!
-
مرة واحد فكّر، طق مات ( حوار تليفزيوني مع كاتب)
-
شهداءُ من أبناءِ زايد
-
موت أمي
-
طفلُ البحر... لا أحدَ يريده!
-
دموع مريم، قضية أمن قومي
-
لماذا يكرهون هذا الرجل؟
-
هل تعرف طاعن نجيب محفوظ؟
-
صفر مريم النبيل
-
حزب النور، حاوي الحواة
-
طاووس حزين
-
هندوسٌ في الإمارات وأقباطٌ في مصر
-
مَن يذكر -فرج فودة-؟
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|