|
رواية – هيكل هبوط القمر (15) الجزء الأخير
حمودي زيارة
الحوار المتمدن-العدد: 4940 - 2015 / 9 / 29 - 17:48
المحور:
الادب والفن
نعقت فرامل عربة عسكرية هائلة، بصوت حاد وصدأ، متوقفة كصخرة تجر غبارها الخانق المتطاير من خلفها. الوقت راح ينحدر بتثاقل نحو الغسق. قذفت بهيكلها عند رافعة بوابة المخيم المتكأة على سفح جبل الذي يحتضن عشبه الرطب، بشجن بسبب حفر القذائف التي تنهش جماله. وبحركة سريعة معتادة، أنسل ثلاثة عساكر من العربة بقسمات صارمة. تلقوا الأرض بأحذيتهم ذات الجلود الحمراء، بعدما قفزوا بخفة حاذقة. هرعوا كالمعتاد بنحو غريزي الى حنايا المعسكر الذي يفيض بخجل النساء وأقدار الموت، وتهاويل الثورة التي أحرقت كلماتها على جدران الطين، وصخور الجبل، دون أن ينشر الملاك رائحته. النساء في خوف وشفقة أخذن يلتفن حول نيركز، بعد أن وجدن أنفسهن، داخل مخيم يأوي اليه الحزن والخوف. في أغلب الوقت حينما أستجلبن بعد المناوشات التي حدثت مع أبناء قرية الملاك وقوات الدولة، يطاردن خطوات نيركز أينما فزعت. توغلت أفكار النساء في مخاض عاثر، يسألنها فيما أذا سيخرجن من هذه الملمة بسلام، دائماً كان جوابها بعد ثلاثة أيام. يضجن النساء بفرح صاخب. لكن نيركز تتحدث عن موتها سيكون بعد ثلاثة أيام، لأن الملاك أتى اليها في ثلاثة ليالي مع البقرة، ولم يأتي في ليلة أمس. راحت البنادق تتأرجح بأيديهم. المخيم بدا امام رحابة السماء كمقابر فرعونية والأرواح المعلبة فيه هامدة كالمومياء. عربدت احذية العساكر على امتار المسافة الممتدة الى خيمة نيركز وطفليها بلند وروخوش التوأم، إذ ولدا قبل اربعة أيام، بعد مخاض عنيد يكاد أن يكون الموت بعينه. بلند كان الأول، كما كان مع البقرة، إذ تناولت عشبة ليالي البدر الحمراء، لم تجرأ امرأة لمساعدتها، سوى أمها شلير الكاهلة التي أعياها التعب حتى أخذت تبكي وتستصرخ وكذلك أم بيمان. تهافت بعضهن لمد يد العون بعد أن كسرن أغلال الخوف. العقاب يكون صارم، أن بادرت أي أمراة لمساعدة أخرى، وسيكون العقاب، بوضعها في مكان القمامة لمدة ثلاثة ايام، بوجبة واحدة تقدم في بداية الصباح الباكر. قذف العساكر بأنفسهم بجنون الى المكان الذي يضم النساء، توجهوا الى حيث تتكور نيركز، صرخت تستغيث، عندما أرادوا أن يحملوها، نادت رجل الملاك أن يلتقطها من أحبولة خوفهم، كما يلتقط الصقر صيده بمخالبه. ولولت شلير بدموع حارقة، إذ راح بلند يصرخ بين يديها، تتوسل غضبهم أن لا يزعجوا روح الملاك الغائرة في أحشائها. ألقت بجسدها الذي مازال يكابد آلام المخاض على روخوش لصقتها على صدرها عاقدة على جلدهما الغض ذراعيها بشدة. حيث تركت بلند مع أمها، تعثر جسدها ببعض الحجر، عندما بدأوا يجروها على أنثيال التراب. قذفوا جسدها الواهن مع أبنتها التي أنخرطت بالبكاء والصراخ. تكورت كالقنفذ في وسط حلكة فضاء العربة الفاقدة المقاعد. حاشرة روخوش التي مابرحت تبكي بين صدرها وفخذيها. وفور دوران الأطارات نفثت العربة دخاناً اسود كثيف. وكأن زفرات الدخان تحاكي أنين نيركز. تمرغ الدخان على هامات المخيم، وتناهى الى الفراغ الممتلئ بالليل مارقاً من ثقوب الأسلاك التي ترزم شخير المخيم. المخيم كان يغط في نوم قلق لحظتما ولجوا خيمة نيركز. عويل وزعيق مزق السكون، وأفاق غيبوبة النوم، ضجت به عقيرة نيركز. أنسل الكل الى وسط المخيم وعلى حدود أضلاعه يتطلعون الى صوب الصراخ وزوبعة الغبار التي أخفت المركبة. تسمرن في أماكنهن لا يحرن فعل شئ. الخوف من بطش الحرس وقسوة العقاب، يحقن الأنفاس في دموع الأنكسار والخيبة. *** فمثل هذه النوائب المذلة باتت تتكرر تباعاً، كقربان يدفع الى الدولة، من أجل انقاذ ذكرى الجبل، المدافة في الصخور. سيق جميع نساء القرية، مشياً الى المخيم كرحلة البطاريق الشتوية، في أعقاب حملة عسكرية مروّعة قادتها الدولة ضد أهالي القرى التي يكتنفها الجبل. بعدما أمتدت التظاهرات التى أنفجرت فى مدار السوق، بأول طلقة لفظها مسدس طالب، وصرخات بيمان. هاجمت كتلة الثوار، الثكنة العسكرية التي كانت تحاذي القرية من الشرق، قتلوا من فيها، أستولوا على الأسلحة. الثوار أنتشروا في الطرقات وسفوح الجبل. أستمر غضبهم وقتالهم مع العسكر لفترة أمتدت الى قرابة الشهر. لم يستطع الثوار أن يصمدوا أمام تقدم القوات. لكن طالب لم يهرب الى الجبل، كما فعل الأخرين. فقد ضل صوابه، عندما لم يجد نيركز في البيت، فلهذا قرر أن يثبت أمام رعبهم. يجانبه بيمان، حيث إتخذا من جدران الطين متارس ترد عنهم القصف الكثيف. وبعد القصف المتواصل، لمدة يومين، تلاشى أزيز الطلقات. جثة طالب وجدت تعمد بحمرة دمه، في رقبته قلادة يتدلى منها عظمة مكعبة، تشبه قلائد العبيد. بيمان ردمت جثته تحت ركام الطين، وكان يحتضن زوجته نسرين التي أختارت أن تكون في عالمه دون أهلها. سامان وجدوا جثته في الهيكل دون أن تضرجها قطرة دم، أعتقد الأحياء من أهل القرية، بأن روح الملاك سكنت جوانحه، فغادرت جسده، دون أن تترك حكاية فيه للموت، أما البعض فأمنوا بأنه الملاك نفسه. *** الدولة قررت أن تنقل النساء الى معسكر وراء الجبل، والرجال الى السجون والى مدن بعيدة في الفلوات القريبة من الحدود الجنوبية، وفي مناطق مختلفة. وبعض الأطفال ضاعت أو أخذت من قبل الجنود، الغارات كانت مفزعة ومخيفة، ومنظر الجنود بمدرعاتهم، كأنه لحظات سكرات الموت . حملوا نيركز الى قرية وراء الجبل غير مأهولة. فارغة تماماً، لا يأوي لها سوى تهاويل الأشباح والصمت المرعب وظلمة الليل، فالوجوم الصارم يذهل الجدران فيحيلها الى مسلات حزينة. وفي هذه اللجة التي تكاد أن تنهار السماء فيها، يبدو كل شئ يختبأ خلف الصمت، رموا نيركز وأبنتها في بيت متداعٍ مال سقفه الى اليمين قليلاً بعد أن اخترقت قذيفة جدرانه من ناحية السهل الذي بدوره ايضاً بدا شاحباً دون غضارة للحياة. لا يوجد فيه، فقط اوعية للقذائف واعمدة الدخان. حتى الكلاب رحلته تنبح الليل في قرى أخرى. السهل تشاوف وكأنه حقل الغام يخشاه الجميع، ومن مسافة ليست ببعيدة تستطيع أن تشم رائحة الموت التي تجثم على أطرافه. الحياة ظهرت كشاهدة قبر. في لحظات مقتضبة تطفق نيركز بالحديث مع أبنتها روخوش التي لم تنضج بعد. تحدثها عن ابيها طالب الذي قتل على جدران القرية الطينية، كما كان يحلم أن يموت مع مسلات الطين، لينشر حياته على صفحات الطين الى أطفال الملاك الأتين من حدود المستقبل، الذين سينبشون مسلته، مثلما كان يفعل. وبهدوء صرخت في وجه روخوش: - تمنيت أن يمتد طولك على سنوات عمرك ، لتكوني ربيبة القمر مع أخيك بلند. *** وعلى مرارة الألم اطرق سمع نيركز، قفزات هامسة لسنجاب صغير متسلقاً شجرة الجوز الفارعة القائمة في جنب البيت، تكتظ اغصانها بثمار الجوز. بدت الشجرة كبيرة وهائلة تبعث رائحة مبهجة ما كانت نيركز وقتئذ تستطيع أن تتسلق او ترمي بحجارة من شدة التعب والحزن. فقد كانت تنتظر على ممض السنجاب كل يوم لعله، يسقط سهواً او أحياناً عبثاً بعض الثمار. فقد كانت تترقب السنجاب بعيون الأموات على ثمرة جوز طائشة. كان السنجاب يأتي مرة او مرتين في اليوم، تعرف نيركز تماماً متى اوقات قدومه. تآلفت مع السنجاب بقدر حميم فعيونها الدامعة أخذت تطارد خطواته. وتتألم بمقدار مافيها من جوع دقائق الأنتظار. وبتلهف يخفق قلبها عندما يبدأ بقضم الجوز. متأملة أسقاط شئ يقلل من بطش تضورها فقد كان هذا مآلها لمدة ثلاثة أيام. السنجاب أخذ يربط خطواته بنظرات نيركز، ينشب مخالبه الطرية في لحاء جذع الشجرة، يسرق من وقته ليدرك جوعها وابنتها. لم تدرك بأنه أخذ يأتي كثيراً. لأنها في أغماء متواصل نتيجة الجوع. أستمر يسقط الجوز عن عمد، حتى أنه عرض نفسه الى خطر القنص من قبل أحد الثعالب لأنه بدأ يتأخر عن وقت رجوعه الى مخبأه. كمن له في اليوم الثاني ثعلب كثيف الشعر، رمادي اللون، لمحه فبقى على أعالي الأغصان، منتظراً ذهابه، وبعدما أدرك الثعلب بأنه لن ينزل، عندها أراد أن يحتال عليه موحياً له بالمغادرة، لكنه أختفى وراء شجيرة. سارع السنجاب بالنزول، ولكن جلبة مزقت الصمت عندما صرخت نيركز بصوت عالٍ، تحذر به السنجاب، دعته بالتسلق الى الأعلى بقوة رمقه الى مكمنه. صدر نيركز أخذ يجف والطفلة بدت هزيلة وشاحبة. حتى ظهر ضابط في اليوم الثالث مع مجموعة من حمايته. وضع أحدهم صرة الطعام بجانب صخرة في مدخل البيت . وقال الضابط الأمرد الوجه في نبرة تميل الى المداعبة : - اتمنى أن تغفري لي، لم أهملك، عن قصد بل اعاقتني مهام كثيرة. ران على أسارير نيركز قدر مخيف، فقد هجست بالتياع ثمة أمرٌ مريب يكمن وراء كلماته . أردف الضابط قائلاً: - بالحقيقة سأذهب الآن وسأعود في بداية الظلمة لأطمئن عليك. أعتاد الضابط أن يترك ضحيته لعدة أيام، كيما تنهار، وبالتالي، تصبح سهلة المنال. يعول على لعبة الجوع، في الحصول على ما يريد. غارت العربة في خط الأفق بعد أن تركت على الدرب أثر لرفسات الأطارات. قفلت نيركز الى زاويتها التي ألفت أن تأوي أليها. ساهمة تفكر في كلمات الضابط، وماسوف يحدث لها. في العادة كانت نيركز تعرف بأنهم أدرجوا على خطف البنات من المخيم بين الفينة والأخرى، ولم تعد منهن واحدة على الأطلاق. ركضت نيركز في البيت تبحث عن أثر لهن. حينما أدركت حقيقة الأمر. أرتدت فزعة ما أن لاحت لها بقع الدم المبثوثة على الجدار، وعلى مرمى قريب خصلات شعر أشقر عرفتها أنها لديلان فقد أختطفوها قبل شهر. عندها زعقت جدران الخراب، بالألم، والفضيحة، تترشح بخطوط للوجع، ومناوب للدمع، وتباريح للصراخ. تعثرت نيركز، وأنصرفت بسرعة، نحو صرة الطعام نثرتها في درب السنجاب عادت الى روخوش ضامت أياها على صدرها حاولت أن ترضعها قبل قدوم الليل. هامت في مناجاة موجعة تبكي على روخوش، لفتها في عصابة رأسها بأحكام لئلا يقرصها البرد قطفتها من صدرها، واضعت أياها على التراب. الثعابين كانت تنتشر بشكل مروع في الخربة نتيجة الدم المراق من أجساد النساء. وبعد مرور دقائق على تحديقها في وجه روخوش سمعت هدير العربة، الليل كان يجر سواده بتكتم آنئذ، قبلتها على عجل، وهرعت الى حافة الجبل الذي يرقد في حوافه وادٍ عميق. وقفت تنظر الى جهة البيت رأت العربة تقف أمامه. ترجل الضابط مدلفاً الى الخربة. وبعد ثواني خرج زاعقاً : - لقد هربت لا يوجد سوى الطفلة . أذهبوا بسرعة. منادياً على حمايته: - فسوف تجدوها على حافة الجبل. وعندما سمعت نيركز الضابط فما لبثت أن ألقت بنفسها الى الوادي. وفي بدايات السقوط وهي في طريقها الى قاع الوداي سمعت بكاء روخوش حاولت أن ترجع فأرتطمت بقاع الهاوية فأخذت تتدحرج لوقت قصير ريثما أعترضت بجثث طرية لنساء أخريات.. أنتهى
#حمودي_زيارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية - هيكل هبوط القمر (14)
-
رواية - هيكل هبوط القمر (13)
-
رواية - هيكل هبوط القمر (12)
-
رواية - هيكل هبوط القمر (11)
-
رواية - هيكل هبوط القمر (10)
-
رواية - هيكل هبوط القمر (9)
-
رواية - هيكل هبوط القمر (8)
-
رواية - هيكل هبوط القمر (7)
-
هيكل هبوط القمر – رواية (6)
-
هيكل هبوط القمر – رواية (5)
-
هيكل هبوط القمر – رواية (4)
-
هيكل هبوط القمر – رواية (3)
-
هيكل هبوط القمر – رواية (2)
-
هيكل هبوط القمر – رواية (1)
-
رواية اقفاص الرمل (22) الجزء الأخير
-
رواية - اقفاص الرمل (21)
-
رواية – أقفاص الرمل (20)
-
رواية – أقفاص الرمل (19)
-
رواية – أقفاص الرمل (18)
-
رواية - اقفاص الرمل (17)
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|