|
-التَّوْلَه- الجماعية .. فى قضايا مصيرية!
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 1356 - 2005 / 10 / 23 - 10:25
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
تذكرت كلمة الأديب العبقري يوسف إدريس التي استخدمها ذات يوم في سبعينيات القرن الماضي للتعبير عن الغيبوبة الجماعية التي أصابت المجتمع وجعلته يقف مشلولاً ومسلوب الإرادة بينما تهدده مخاطر فادحة وتفتك به بلاوى مروعة. وكانت "التَّوْلَه" هى الكلمة التي شاء الدكتور يوسف إدريس أن ينتقيها بالذات من القاموس المصري ليصف بها هذه الحالة المزرية. واليوم .. وجدت كلمة "التَّوْلَه" – بتشديد التاء وتسكين الواو – تقفز إلى ذهني وأنا أتابع حالنا ونحن "نتفرج" على تلك السخافات التي شهدتها الإسكندرية هذا الأسبوع، حينما قام خطيب وإمام أحد المساجد في محرم بك بشحن وإثارة المواطنين البسطاء، وغير البسطاء، الذين ذهبوا إلى الجامع لأداء صلاة التراويح في شهر رمضان الكريم. فاستغل هذه المناسبة الدينية التي تقترن بكل القيم الروحية السامية لتحريض المصلين على كنيسة مار جرجس المجاورة بزعم أن هذه الكنيسة تعرض مسرحية تتضمن إساءة إلى الإسلام والمسلمين. هذا الخطيب الهمام الذي لم نسمع أنه نجح من قبل في حض المصلين الذين يتدفقون على مسجده على القيام بآي عمل جماعي مفيد مثل محاربة الأمية أو التصدي للفساد أو مكافحة الفقر الكافر أو مناهضة إسرائيل وأمريكا وسياساتهما المفترية، نجح نجاحاً باهراً في تحريض المصلين للخروج من المسجد مباشرة في مظاهرة حاشدة وغاضبة ضمت اكثر من خمسة آلاف شخص قامت بمحاصرة الكنيسة والطرق على أبوابها وترديد شعارات معادية. ولولا تدخل قوات الأمن وقيامها بـ "تحرير" المواطنين الموجودين داخل جدران الكنيسة – ومعظمهم من الشبان والشابات الصغار – وتوصيلهم إلى منازلهم تحت حماية الشرطة، لوقعت كارثة أكبر. وبالطبع .. لم يكن الأمر يحتاج سوى بضعة دقائق حتى تكون أخبار هذه الحادثة الغبية على كل لسان، أو بالأحرى على كل مواقع شبكات الإنترنت، التي تتناقل وقائعها وتضيف إليها وتقوم بالنفخ فيها وتضخيمها كل ثانية. وكان من الممكن أن نعتبر هذا الحادث مجرد مسألة عابرة وتافهة لولا أن التدقيق في التفاصيل يعيدنا إلى مواجهة "التَّوْلَه" الجماعية". فقد تبين أن خطيب المسجد – غير المسئول والذي لا يتحلى بالحد الأدنى من الإحساس بمتطلبات الوحدة الوطنية – استند في التحريض الذي قام به إلى رواية نشرتها إحدى الصحف. ثم تبين أن هذه الصحيفة استندت إلى رواية سبقت إلى نشرها صحيفة "مستقلة" ثانية. ثم تبين أن ما نشرته الصحيفة الأولى، وما نقلته الصحيفة الثانية، وما نقله عنهما خطيب مسجد محرم بك، رواية تفتقر إلى الدقة بصورة فاضحة. فالمسرحية التي هي الأصل في هذه الرواية قد تم عرضها في الكنيسة فعلا، لكن منذ عامين، وكان هذا العرض لليلة واحدة ، وأصبحت في خبر كان. أي أن "التَّوْلَه" هي القاسم المشترك بين الجميع .. الصحيفة الأولى ، والصحيفة الثانية ، وخطيب المسجد ، وآلاف المصلين الذين ابتلعوا الطعم وصدقوا هذه الرواية التعسة. وفي سياق هذه "التَّوْلَه" نسى خطيب الجامع وآلاف المصلين أبسط واجباتهم "الدينية" التي تفرض عليهم أن "يتبينوا" وأن يتحروا الدقة ولا يتسرعوا إلى إصدار الأحكام "إذا جاءهم فاسق بنبأ". وهى نفس "التَّوْلَه" التي أصابت الصحيفة الأولى والصحيفة الثانية وجعلتهما ينسيان أبسط واجباتهم "المهنية" التي تفرض عليهما – وعلى كل صحفي – أن يتحقق من صحة الخبر المرشح للنشر، ولو أنهما فعلا ذلك لوجدا أن الخبر قد سقط بالتقادم ولم يعد صالحا للنشر بهذه الصورة على الأقل. وهى نفس "التَّوْلَه" التي أصابت الأحزاب السياسية – وفي مقدمتها الحزب الوطني – ومنظمات المجتمع المدني، فهي كلها قد قرأت ما نشر في الصحيفتين قبل أن ينقض خطيب الجامع على الخبر المنشور. ومع ذلك لم يحرك أحد منها ساكنا لقطع الطريق على الفتنة وتوضيح المسألة للرأي العام. وهى نفس "التَّوْلَه" التي هبطت على رأس أجهزة الأمن التي يفترض فيها أن تعرف "دبة النملة". وكان واجبها تصحيح المسألة منذ اللحظة الأولى التي نشرت فيها الجريدة الأولى أول خبر. وهى أيضا نفس "التَّوْلَه" التي جعلت المسئولين عن كنيسة مار جرجس بمحرم بك يلوذون بالصمت وكأن الأمر لا يعنيهم . في حين أن أبسط قواعد المنطق تقول أنه كان واجبا عليهم أن يستخدموا حقهم القانوني في الرد على الجريدتين، وأن يلجأوا إلى نقابة الصحفيين ،ثم القضاء، إذا لم تقم الجريدتين بنشر التكذيب. وليست الحكومة – بجلال قدرها – بعيدة عن هذه "التَّوْلَه" الوطنية الشاملة. بل لعلها غارقة فيها لأذنيها بدرجة أكبر. فلماذا لم يتحرك الوزراء المسئولين منذ اللحظة الأولى، أي منذ تم نشر أول فصل من هذه المسرحية المسمومة، خاصة وأنه من المفترض ان الحكومة تعلم – قبل غيرها – خطورة اللعب بهذه النار، وتعلم أن النار في هذه المنطقة الملتهبة تأتى من مستصغر الشرر، وتعلم أن هناك أطرافاً خارجية تقف على أطراف أصابعها متلمظة لوقوع أى حبة حتى تصنع منها قبة، وتتحين أي ثغرة لتدخل منها وتضرب على الأعصاب الحية للوحدة الوطنية، وتعلم أن هناك من يعملون في هذا الوقت بالذات على عقد مؤتمر في الكونجرس الأمريكي لعرض مظالم الأقباط، وأن هناك من بين هؤلاء أفراد لا يهمهم الأقباط ولا المصريين المسلمين وإنما يهمهم فقط الصيد في الماء العكر ورفع شعارات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. و"التَّوْلَه" الحكومية سابقة على حادث الإسكندرية السخيف، فهناك الكثير من الأمور غير المنطقية والتي كان يجب إنهاؤها منذ سنوات طويلة لكن حكومات الحزب الوطنى المتعاقبة تجاهلتها وتكاسلت عن التعامل الجدي معها وأبقت عليها لتكون خميرة عكننة مستمرة للوحدة الوطنية. منها على سبيل المثال الخط الهمايونى الذي ينظم بعض أمور الأقباط استنادا إلى فرمانات عثمانلية! والتمسك بوضع الديانة في البطاقة الشخصية، بل حتى في عقود تسجيل بيع وشراء بعض السلع مثل السيارات! إن العلاقة بين المسلمين والأقباط في هذا البلد خط أحمر لا ينبغي العبث به، والوحدة الوطنية مسألة أمن وطني .. لا ينبغي أن نتعامل معها بمثل هذه "التَّوْلَه" بل هي تقتضي أعلى درجات اليقظة و"الفوقان" خاصة مع اقتراب الانتخابات البرلمانية وما يمكن أن يكتنفها من ملاعيب ومناورات ومؤامرات، ولن يكون ذلك بترديد الشعارات والكلمات المعسولة، أو بتبويس اللحى، وكنس الخلافات تحت السجادة، وإنما بالحوار الديموقراطي وإلغاء كافة المظالم الموجودة واجتثاث كل صور التمييز سواء في مناهج التعليم أو وسائل الإعلام أو تولى المناصب العمومية من أقلها إلى أعلاها شأنا، واستعادة هيبة الدولة، ورد الاعتبار إلى القانون. والأساس في كل هذا ، وغيره ، هو الاحتكام إلى "المواطنة" باعتبارها المبدأ الأوحد، بصرف النظر عن الانتماء الديني أو المذهبي. ومن العار أن نكون مضطرين إلى الحديث عن ذلك بينما كان أسلافنا هم الذين صكوا المبدأ الملهم للبشرية بأسرها الذي يؤكد أن "الدين لله والوطن للجميع".
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سور شرم الشيخ .. غير العظيم
-
أول قصيدة الحزب الوطنى .. تسد النَّفْس
-
هل يطلب المصريون حق اللجوء -البيئى-؟
-
لغز الكويز ينافس فوازير رمضان
-
تاريخ صلاحية صرخة يوسف إدريس مازال سارياً -2
-
الانتقال من »الملّة« إلي »الأمة« .. مقتل الطائفية
-
نصف جائزة.. ونصف فرحة
-
تاريخ صلاحية صرخة يوسف إدريس مازال ساريا
-
دمج البنوك.. وتفكيك الأحزاب!
-
هل المطالبة بتعديل المادة الثانية من الدستور .. حرام؟
-
إطلاق سراح السياسة فى المؤسسة الجامعية .. متى؟
-
مثقفون.. ملكيون اكثر من الملك فاروق -الثانى-
-
كرامات الوزير المعجزة: 9 و10 يونيه في عز سبتمبر!
-
لا مكان للمعارضة.. في الدولة الدينية
-
!هيا بنا نلعب .. ونتعلم
-
انتبهوا أيها السادة : النار مازالت تحت الرماد
-
توابع هولوكوست بنى سويف
-
بلاط صاحبة الجلالة فى انتظار الفارس الجديد
-
! البقية في حياتكم
-
لغز وزير الثقافة وأنصاره
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|