|
قصة قصيرة بعنوان : صحوة العواطف
نهاد عبد الستار رشيد
الحوار المتمدن-العدد: 4937 - 2015 / 9 / 26 - 23:09
المحور:
الادب والفن
صحوة العواطف
بقلم : القاص نهاد عبد الستار رشيد
لم تكن الساعة السادسة قد حانت بعد ، كما تظهرها خيوط الأصيل الدابر ، عندما نزلت من الترام باتجاه مقصف بافونا . وما ان أقتربت من بوابته حتى انبعثت في ذاكرتي الآصال والأماسي الطوال المفعمة بالعاطفة الملتهبة التي امضيتها مع ( باولا) . هنا بدأ حبنا ، وشرعنا في بناء صرح سعادتنا سوية منذ ما يربو على السنة ... ها أنا ذا أعود ، بعد انقطاع طويل ، مرت علاقتنا خلالها بمرحلة فتور . أعود وقد ثارت كوامن شوقي اليها ، وهاج بقلبي الحنين ، وفي أعماقي رغبة لاتقاوم لأطوق جيدها الناصع البياض بالعقد الماسي ، واثقل خنصرها بخاتم الزواج الذهبي . سأثبت لها ان علاقتي ب (ريتا ) النادلة في المقصف ، علاقة عابرة . حالما دخلت المقصف شرعت صور السهرات التي تحمل اسرار حبنا تتوالى على ذاكرتي . ولم يعد بوسعي السيطرة على جيشان رغبتي في الألتقاء بها وضمها الى صدري . لم يدر في خلدي انني احبها الى هذا الحد . كان المقصف غاصّا بالزبائن ، وشرعت اقلب عيني في الوجوه ، وأتلفت في شيء من اليقظة بحثا عنها . وهتف بي هاتف في قرارة نفسي قائلا : " انها تجلس هناك ، لوحدها ، تصارع الأنتظار القاتل ، وتذرف دموعا سخية على حطام حبنا المنهار ، وتنحي باللائمة على نفسها لأنها كانت تتطلع الى محبّ جديد بعد اتهامي بخيانتها ... وبينما كنت مستغرقا في التفكير في انتحال عذر من الأعذار المقبولة يبرر سبب ابتعادي المفاجىء عنها ، قطعت خيط تفكيري ضحكة انثوية لعلعت من أحد الأركان ، فلبثت لحظة أتطلع الى ذلك الوجه الناعم الذي انطلقت منه تلك الضحكة البريئة ، كبراءة عينيها الغارقتين في الزرقة ، واصلت البحث في وجوه الجالسين عن حبيبتي ( باولا ) ، وفيما كنت متجها الى الركن المنفرد الذي طالما كنا نجلس فيه ، دون أمل في وجودها . تهالكت على كرسي هناك قامت امامه منضدة رخامية مستديرة ، واتتصب عليها اناء من الكرستال يضم باقة منوّعة من الأزهار الفاغمة ، على مقربة من نافذة تظهر من خلال زجاجها الشفاف محطة قطار روما الطرفية . عندما كنت اتطلع بلهفة شديدة ، وأرقب وصول ( باولا ) ، بعد ان وطنت العزم على الأصطبار ، فاذا بالنادلة ( ريتا ) تتجه نحوي ، حاملة كأسا من الجعة ، وانضمت الى مائدتي فشعرت بشيء من الأمتعاض خشية ان تراني حبيبتي باولا ، فقالت ، كابحة في عسر ضحكة لا ارادية توشك ان تنطلق : اطمئن ... لا تأتي باولا اليوم . فقلت مستدركا : لا أخشى من شيء . أهلا بك . فانا أجد فيك ما يريح أفكاري المضطربة . وندت عنها ضحكة مترعة بالعافية ، ثم نترت خصلة شعر ذهبية لتزيحها عن عينيها الواسعتين اللتين قد ترك فيهما حجر الزمرد الشفاف الشديد الخضرة صبغته الأبدية . وعندما سألتها عن باولا ، أجابت بنبرة مهموسة وكأنها تهمس لي بسر : انها تمضي شهر العسل مع حبيبها الجديد . كانت الصدمة أعنف من ان تطاق ، وقالت بلهجة اعتذار : عفوا ، لم أكن سببا في انفصالكما لكن الغيرة أخذت تعضها بانيابها في عنف شديد . ألتزمت صمتا مكتئبا من شدة الغيظ وخيبة الأمل ، واغرورقت عيناي بالدموع , مثل كأسين اترعتا حتى الشفة ... أشحت بوجهي بعيدا عنها ، لكنها جلست بجانبي وقالت فيما يشبه المواساة : الفراق أمر حتمي ، ولا بد ان تروض نفسك عليه . فأجبتها بصبر نافد : " وكيف يتعين علي بعد كل ما حصل أن أشعر بما في الحياة من لذة ؟ وهل بمقدوري أن أتأمل شيئا من السعادة بعد الآن ؟ توقفت عن الكلام بعد ان اخنقتني العبرات التي بدأت اكفكفها خجلا ، فأراحت رأسي المضطرب على صدرها الممتليء ، وراحت أطراف أصابعها الناعمة تداعب صدغي ، فاستسلمت لدافع غريزي ، وشعرت برجفة تسري في جسدي وأنا اتلمس جسدها الطري . تألقت شفتاها بابتسامة عريضة ، وابتهج وجهها ، بعد ان تلاشت امارات الأنكسار التي كانت بادية في حركاتها وصوتها ، ثم أردفت تقول بصراحة : لقد انتهى ما كان بينكما ، لكن الحياة باقية . وليس من المنطق ان تسبح في بحر قاتم من الهموم بينما هي الآن تستمتع باجمل لحظات حياتها . ما كادت صورة زفاف باولا ترتسم في ذهني حتى بدأ شيء من الحقد الصامت عليها يتغلغل في اعماقي ، وسرعان ما انبثقت في داخلي الرغبة الملحة في الأنتقام . وبينما كنت احاول ان أخمد نوبة الأنفعال في عجلة بالغة ، نازعتني نفسي لأستعادة حب ( ريتا ) وثقتها بي . انها لما تزل في عنفوان العمر وغضاضة الصبا ... شعرت بان حزني قد بدأ يفقد حدته رويدا رويدا ، ورحت أتطلع بشغف الى وجه ( ريتا ) الذي ضحكت أساريره ، وابتسمت ابتسامة عريضة تطفح بالبشر عندما أحطت رقبتها بذراعي ، وكانت قد عقصت الى شعرها ، الذي كان في نعومة الحرير ، وشاحا شفافا ذا لون ازرق ضارب الى الحمرة . استعرت نار حبنا في أحشائنا من جديد ، وظل كل منا مدى لحظات ينظر في حدقة الآخر ، وكنت اتحسس جسدها الطري يهتز طربا وجذلا على أنغام قيثارة ترامى الينا صوتها من الركن البعيد للمقصف ، فوجدت فيها ألمرأة المشتهاة التي تستحق ان أمحضها الود ما امتد الأجل بي وبها .
روما –ايطاليا
#نهاد_عبد_الستار_رشيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مأزق الفرد في فنلندة كما يبدو في قصة ( ألبرج ) بقلم : يوها س
...
-
مريم التيجي ومجموعتها القصصية الأولى
-
قصة قصيرة بعنوان ( بطاقة عودة الى بغداد )
-
( في الأرض متسع للعيش ) قصة قصيرة بقلم نهاد عبد الستار رشيد
-
قصة قصيرة بعنوان ( مفاهيم خاطئة ) بقلم : نهاد عبد الستار رش
...
-
في دار السفير الفنلندي في بغداد
-
ماذا قالت لي رفيقة ( البرتو مورافيا )
-
قصة قصيرة بعنوان : من رحم الآلام تولد الآمال
-
قصة قصيرة / التحدي
-
ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الر
...
-
هكذا عرفت الروائية ابتسام عبد الله
-
في لقاء لي مع ( فيو ميري )
-
واخيرا التقيت بها
المزيد.....
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|