|
الروائي العراقي محمود سعيد ل -الحوار المتمدن -:الرواية الجيدة تلقيك في محيط عميق من استمتاع لا مثيل له
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1356 - 2005 / 10 / 23 - 10:59
المحور:
مقابلات و حوارات
( الجزء الثاني ) *هل أن الأمكنة في " أنا الذي رأى " افتراضية أم حقيقية، وهل هذه التجربة فيها طابع شخصي يقربها من السيرة الذاتية أم أنها نص متخيل يخضع لشروط فنية محددة؟ ولماذا تميل إلى بناء رواية تعتمد على شخصية محورية أو شخصيتين كما في " الضالان " ألا تميل إلى البطولة الجماعية التي تستجيب إلى وضع العراقيين في ظل سنوات القمع الوحشي؟
-تبقى نقطة واحدة في السؤال وهي الأمكنة في " أنا الذي رأى " أ هي افتراضية أم حقيقية! لست أدري ماذا أقول لك! هل تظن أن كل ما يوصف في أي رواية حقيقي حتى لو كان تفصيلياً، لماذا لا ندعي أن ما يمكن حدوثه في الحياة ووصفه هو الحقيقة لا ما نصوره فوتغرافياً؟ سجلت الكثير من الحقائق في الرواية كما هي، لكن ربما يرى بعض القراء أنني أصور مكاناً آخر. معظم السجون كما قلت لك متشابهة. وهذا يعني أن ما كتبته حقيقي أو هو أقرب إلى الحقيقة. يحيرني سؤالك: لماذا تميل إلى بناء رواية تعتمد على شخصية محورية أو شخصيتين كما في " الضالان " ألا تميل إلى البطولة الجماعية التي تستجيب إلى وضع العراقيين في ظل سنوات القمع الوحشي؟ هل تعتقد أن الكتابة عن البطولة الجماعية لون يجب أن يفرض على كافة الروائيين؟ حاول الكثير من الكتاب تقليد ماركيز في مئة عام من العزلة وخريف البطريرك، أو رواية العمى لسمراكو لكنهم لم يبلغوا شأو الكاتب، فالمقلٍّد دون المقلًّد دائماً، ولكل طريقته، واختيار البطولة الجماعية كلون روائي قليل جداً، والناجح منها أقل، والمهم في نظري الصدق في التعبير. يبدو أنك لم تقرأ "زنقة بن بركة" أو "الإيقاع والهاجس" أو "قبل الحب بعد الحب" أو أي من رواياتي الأخر، ربما لو قرأتها لغيرت رأيك. ولعل استطرادك بعيد جداً. *"في رواية " الضالان " سحبتَ كاثي وعمر إلى الغابة أو البراءة أو العزلة أو الرحم الأول، بينما دفعت ببطل " أنا الذي رأى " إلى عزلة السجون والمحاجر الانفرادية، هل أن عالم الغابة المجازي يعادل عالم السجون الإنفرادية التي يواجه فيها السجين مصيره المجهول، كما يواجه عزلته، ووحدته، وقطيعته القسرية للعالم؟ -أنا لا أستطيع أن أفهم أن الغابة أو السجن مكان معزول! الغابة هنا ليست معزولة كغابة"روبنسن كروزو"، فقد اضطر البطل إليها كإقامة مؤقتة، وبالرغم من كونه فيها إلا أنه غير منعزل عن المجتمع قط، بل هو والآخرون "بطل أنا الذي رأى"، متواصلون معه، يتفاعلون كأي عضو في المجتمع، ولم تكن الوحدة بثقلها الوجودي واردة قط، فالغابة كأي مهجع ليلي، يقضي المرء فيه الليل ثم ليعود مرة أخرى إلى العمل من جديد. وعندما جاءت كاثي لم يبقي التواصل نفسه، لا بل تعمّق، ولكل من عمر وكاثي اهتماماته، كاثي تعشق الطبيعة والطيور والحيوانات وتقلدها وتذوب فيها بالرغم من الضيم الذي لحق بها، وعمر في حالة نشاط وتفاعل مع الآخرين عميقين، فهناك من يثق فيه ويعطيه شاحنته للعمل فيها، وهناك من يطلب منه كتابة قصة ليرسلها إلى الخليج، وهناك من يحترمه ويرى فيه شخصية مهمة تستحق الاهتمام، وكلاهما لم يقطعا حبالهما بشكل قسري مع العالم، ولا ينويان قطعها، بل يؤثران في المجتمع ويتأثران به. وإن ركزنا على بطل رواية أنا الذي رأى فسنراه متفاعلاً مع أعداد لا تحصى من الناس، في وقت بات السجن في العراق عالماً آخر يكاد أن يكون مجتمعاً معكوساً في مرآة مقعرة تصور المجتمع مقلوباً في وضع غير طبيعي، لكنه مألوف وشائع. إن أحد أهم الأحكام غير الطبيعية التي تلحق بالرواية رغبة القارئ تحقيق ما يصبو إليه هو في عمل غيره، وهذا مستحيل، فما يجري في الرواية حوادث دائرية تبني في تشيؤها تشكيلا متفرداً أشبه ببصمات الإصبع تميزاً، فتبدو مختلفة في دوراتها الفلكية عند شخص ما عن غيرها لدى شخص آخر، أو كاتب آخر، والرواية المتقنة بشكل عام تشبه جرماً سماوياً مستقلاً تدور حوله باستمرار، ولا يمكن أن تتطابق مقاييس الأجرام كلها تطابقاً كاملاً. * أغلب شخصيات روايتاك مُطارَدة، ومهزومة، ومحاصَرة، ومسحوقة، وهاربة، ومعزولة، بعضها مُطارد بسبب القمع والدكتاتورية، وبعضها هارب من العولمة، والمافيات، والعصابات، هل تتقصد خلق هذه الشخصيات أم أنها تأتي هكذا عفو الخاطر ومن دون حسابات مسبقة؟ فمصطفى في " أنا الذي رأى " يحلم بالهروب من العراق، وعمر يهرب بالسفر إلى السويد بحثاً عن بلد يحترم حقوق الإنسان وإنسانيته. ما هو المكان المثالي للكاتب إذاً؟ -لا يمكن أن يتخلى الإنسان عن أحلامه، ولكل منا حلمه الذي يرافقه حتى الموت، أنت أديب عراقي يعيش في المنفى، وغيرك كثير، وربما ناف عدد الأدباء الموجودين خارج العراق "مثلك ومثلي" على الموجودين في الداخل، فهل ينطبق علينا كلينا هذا الوصف؟: "مُطارَدة، ومهزومة، ومحاصَرة، ومسحوقة، وهاربة، ومعزولة، بعضها مُطارد بسبب القمع والدكتاتورية، وبعضها هارب من العولمة، والمافيات، والعصابات" لا، لا أعتقد أن من هو موجود في الخارج مهزوم أو مسحوق، أو هارب. وإن نظرنا بتعمق فسنرى شيئاً في واقعنا ربما لا نقره الآن أو نقره ونستبعده، لقد أنشأ محمد مشروعنا العربي وأقام حكماً تطور ودام نحو ألف وأربعمئة سنة، حكماً امتدت مساحة ظله عشرات آلاف الكيلومترات. وكان مما يميز سكان ذلك الوطن الكبير شعور أخوة عميق، فكان بمقدور ساكن البصرة أن يسافر إلى المغرب أو الأندلس غرباً أو الهند وأندنوسيا شرقاً، من دون أن يسأله أحد عن جواز سفر، وكذلك يفعل الصنعاني، والباكستاني والحلبي والهندي والتطواني، فأمام مواطني ذلك المشروع عالماً واسعاً يبدأ في أندنوسيا وينتهي في الأطلسي، يسافرون، يتجرون، يعملون، يقيمون، يتجولون. في ذلك العالم نشأ أعظم رحالات التاريخ: ابن بطوطة، ابن جبير، المسعودي، ابن فضلان، وغيرهم الكثير، ولقد ورثنا ذلك التراث وتلك الرغبة في الهجرة، وحب الاطلاع على المجتمعات كلها، لكن الغرب كان لنا بالمرصاد. خطط منذ مئات السنين للقضاء علينا، وعلى وجودنا، ولقد ساعدناه بتسرعنا وغبائنا، وجهلنا كثيراً في مهمته، فحل بنا سخط وغضب وبؤس لا مثيل له، وها نحن في أوطاننا أو زوايا الأرض كلها، مقيمين أو مواطنين، منفيين شئنا أو أبينا، وهذا يشمل العرب جميعاً، وليس العراقيين حسب. قلت قبل قليل أن لكل منا حلمه، وأضيف الآن إلى ذلك كلمة ومنفاه، أي أن لكل إنسان حلمه ومنفاه معاً، وكثير من الناس يعيشون في مكان ما لكنهم يحلمون بجنة أخرى ينفون أنفسهم إليها حتى ولو بالأحلام، لكني لم اكتب عن أي مهزوم، فبطلا الروايتين السالفتين اللتين تحدثت "أنت" عنهما لم يكونا مهزومين، ربما هما منتصران في بعض الأوجه. دعنا نمارس لعبة الكلمات! أليس كل مهزوم منتصر في وقت ما، أنظر إلى المسيح على سبيل المثال. لو وجد شخص مثل المسيح بمثل هذه التوليفة الغريبة التي تحدثنا عنها الكتب "المقدسة" ألا تراه منتصراً ومهزوماً في وقت واحد؟ إذاً فلماذا نستعمل مثل هذه المفردات المخادعة والمنافقة معاً! ربما تكون تلك الألفاظ من أدوات المؤرخ، مقصورة عليه، لكنها لن تكون بالتأكيد من أدوات الأديب، ولا من بنات تخيلاته، وعلينا أن نضيف إليه مفردات أخرى ك: مطارد، مهزوم، محاصر.. الخ. * طالما أننا لم نقرأ كتابك الموسوم " مدينة صدام " والذي صدر باللغة الإنكليزية، هل لك أن تقدّم لنا مختصراً لمضمون هذا الكتاب الجديد؟ - "مدينة صدام " ليس كتاباً جديداً، بل هو تغيير لعنوان قديم، وإن أردت الحقيقة فهو مسخ لعنوان قديم. لقد غيروا "أنا الذي رأى" بـ: "مدينة صدام" فأساؤا إلى العنوان ومسخوه. ولحسن الحظ كان ذلك في الطبعة الإنكليزية فقط، وقد اتصل بالمترجم من يريد ترجمته إلى الفارسية فأصررت على بقاء العنوان القديم، وإلا فالأفضل أن لا يترجم، وأخبرت المترجم أن يفعل نفس الشيء مع من أراد ترجمته إلى الإيطالية. ولست أدري ما سيأتي به المستقبل. أما عن الاختصار فلا أعتقد أن هناك اختصار ينجح في سرد رواية، حتى جزء من رواية، موقف من رواية، في نظري يستحيل اختصار رواية كاملة من دون تشويهها، الاختصار للأفكار، والرواية ليست بفكر مجرد إنها مزيج من الوصف والوعي والفكر والواقع والخيال، وهي إضافة إلى كل ذلك أسلوب متميز عن غيره، وسرد لا يشبهه سرد آخر. دعني أوضح لك وجهة نظري فيما ورد في القرآن الكريم، على سبيل المثال: في "سورة يوسف" هناك أية وصفية عظيمة: "وهمّت به وهمّ بها". تلك الآية تصور موقفاً غرامياً بين يوسف وزليخة، فيها إغواء، وإثارة، وهيام، ورغبة، وانفعال عميق، وتجاذب يستغرق تحليلاً في مئات الكلمات، لكن عبقرية السارد وعظمته اختصرت كل ذلك في أربع كلمات، والآية المذكورة جزء من قصة طويلة، ولا يستطيع أي كان أن يلخص القصة وإلا فقدت رونقها وعمقها، ومن يلخص قصة يوسف ولا يذكر هذه الآية وغيرها "على سبيل المثال" يجني على عظمة السرد، ومن يذكرها ويذكر غيرها من الآيات لا يمارس التلخيص، إذن فنحن في دائرة مغلقة. الرواية الجيدة تلقيك في محيط عميق من استمتاع لا مثيل له، تمنحك لذة قصوى، والاختصار يفقدك ذلك الاستمتاع، ويجردك مشاعرك من اللذة، لتبقى حسيراً مغلوباً.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الروائي محمود سعيد ل - الحوار المتمدن -: المقلٍّد دون المقلّ
...
-
اعتقال سبعة أشخاص بتهمة التخطيط لتنفيذ عمليات إرهابية في هول
...
-
لا بد للديمقراطية أن تنبع من الوطن ذاته، لأنها ليست حبة نبتل
...
-
البرلمان الهولندي يدرس اقتراح منع ارتداء الحجاب الكلي في الد
...
-
وزيرة الهجرة والاندماج الهولندية تقترح منع ارتداء البرقع
-
مسجد الحسن الثاني تحفة الدار البيضاء
-
الشاعر والروائي فاضل العزاوي: المنفيون ذخيرة احتياطية كبيرة
...
-
المخرج الأرميني أتوم إيغويان، الباحث عن المساحات المحجوبة في
...
-
الفنان - التعبيري التجريدي - آرشيل غوركي وتقنية الرسم الآلي
-
المخرج سيرغي باراجدانوف: ساحر السينما الروسية الذي أثار المش
...
-
تركيا والطريق الطويلة إلى الاتحاد الأوروبي أو الجنة المفقودة
-
قراءة نقدية للملحمة المُضادة - هكذا شطح الكائن مستقبلئذ - لل
...
-
الناقد السينمائي عدنان حسين أحمد ل - الحوار المتمدن -: من غي
...
-
هل أن المثقف العراقي مُطالب بأن يذهب إلى حتفه بقديمه؟
-
المخرج باز شمعون ل - الحوار المتمدن -: أعشق سينما الحقيقة، و
...
-
المخرج السينمائي قاسم حول لمجلة - العربي -: السينمائي يحتاج
...
-
مسرحية - سنغافورة - للمخرج البرتغالي باولو كاسترو: كل المُتل
...
-
- الدودة الصغيرة - المسرحية الراقصة للمخرجة الفنلندية إيفا م
...
-
شرودر يرفض الإقرار بالهزيمة، وأنجيلا تطمح أن تكون أول مستشار
...
-
مسرحية -موت في حجرة التمريض - لمارك فورتل: الخطاب البصري في
...
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|