|
بوح في جدليات – 14 – مامون.
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4933 - 2015 / 9 / 22 - 14:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بوح في جدليات – 14 – مامون.
"مامون" اسم ٌ لشيطان ٍ يُعتبر ُ أحد َ أمراء ِ جُهـنَّـم َ السبعة بحسب ِ بعض ِ الاجتهادات الثيولوجية المسيحية. تعمل ُ روح ُ هذا الشيطان من خلال ِ المال و الثروة لتدفع َ الإنسان نحو تكديسها بشراهة ٍ و شراسة، مُفرغَـة ً للنفس من كلِّ عاطفة ٍ جميلة ٍ و نبيلة، بزخم ٍ لا يمكن ُ إرضاؤه.
للاسم أصل ٌ آرامي و يظهر في إنجيلي العهد الجديد لمتى و لوقا، و لا يوجد ُ في كُتب ِ العهد القديم العبرية.
- نقرأ ُ في متى: "... لا تقدرون َ أن تخدموا الله و المال" (الفصل 6 نهاية الآية 24). المال هنا هو الترجمة العربية لكلمة مامون.
- نقرأ ُ في لوقا: "و أنا أقول لكم: اصنعوا لكم أصدقاء ً بمال الظلم، حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية" (الفصل 16 الآية 9). تُترجم مامون في هذا النص على أنها "مال الظلم" و يرد المُصطلح ُ نفسُه في الآية 11 من نفس الفصل، ثم يُترجم في الآية 13 على أنه "المال" مع نفس تحذير متى بالضبط.
يُعتقد ُ أن مامون عُبد َ كإله، لكنَّي لم أتمكن من إيجاد مادَّة موثوقة عن هذه العبادة، على الرغم من إشارة ِ بعض المصادر أن مامون هو شكل ٌ من أشكال الإله بعل.
أنا مُطمئنٌّ أكثرَ، إلى الاعتقاد بـ "مامون" كتجسيد ٍ للطمع البشري المريض أكثر َ منهُ تجسيدا ً لكيان ٍ روحي شيطاني، و يؤسِّسُ لهذا الاطمئنان ِ عندي لوحة ُ الفنانة: إيفلن دو مورجان التي تحمل العنوان "عبادة مامون".
يمكنكم الاضطلاع ُ عليها من خلال الرابط التالي: http://www.demorgan.org.uk/worship-mammon
أُترجمُ لكم من الإنجليزية وصف َ اللوحة ِ كما ورد َ في الموقع : (بداية ُ الترجمة) "بصفتها شخصا ً روحانيا ً، كانت إيفلن مُنشغلة ً (مهوسة ً، كثيرة َ الاهتمام) بالمفهومين المُتضادَّين ِ للمادية مقابل َ الصِّحة (السلامة) الروحية، و يتمثَّل هذا كموضوع ٍ رئيسي في لوحات ٍ عديدة ٍ لها. إن أوضح َ (أبرزَ) تمثيل ٍ لانشغالها السابق يظهرُ في لوحتها:عبادة ُ مامون، و التي رسمتها في العام 1909.
مامون هو إله الأمور الأرضية. و تعني الكلمة باللهجة السورية القديمة (أي الآرامية الغربية المحكية في سوريا) الثروات، كما و يرد ذكرها في إنجيل متى: لا تقدرون أن تخدموا سيدين... لا تقدرون أن تخدموا الإله و مامون.
في اللوحة ِ نشاهد ُ المرأة َ تتشبَّث ُ (تتعلق) بشدَّة ٍ بركبة ِ التمثال، و هي ترنو بتوق ٍ إلى وجهه، بينما يرمُقها ببرودٍ و لا مبالاة. يحمل ُ التمثال ُ في يدِه ِ كيسا ً من الذهب، لكنَّ المرأة َ تتجاهلُ الكيس (تبدو غير مُهتمَّة ٍ بالكيس)، فلقد تحوَّلَ اهتمامُها من الذهب إلى حبِّ مامون نفسِه، و بذلك َ قطعت َ نفسها من حبِّ الله لتحكم َ على نفسِها بالموت" (نهاية الترجمة).
يشغل ُ حبُّ المال ِ و تكديس ِ الثروات بال أصحاب ِ المنظومة ِ الدينية بشكل ٍ كبير:
فعلى الجانب ِ الأيمن من المنظومة: نقرأ ُ في المسيحية ِ أن إحدى الخطايا السبعة ِ المُميتة - أي التي لو مات َ الإنسان و هو غير َ تائب ٍ عنها ستؤدي به إلى جُهنَّم َ محروما ً من رحمة ِ الإله – هي: الطمع.
كما و نقرأ ُ في صلاة ِ طرد الأرواح الشريرة بحسب الطقس الكاثوليكي توبيخا ً شديدا ً للشيطان و تخزِيَة ٍ لهُ بذِكرِ كل ِّ صفاتِه ِ الخبيثة أثناء َ طرده، و التي منها كونُهُ: المُحرِّض َ على الحسد، ووعاء ً للطمع.
تعتبر ُ المسيحية ُ - مُحقَّة ً كما أرى - أن حسد َ الآخرين على ما لديهم من خير سبب ٌ رئيسي للبغضاء و التشاحُن و التنافُس ِ غير الشريف. و حين يلتقي بالطمع ِ و الشره ِ المادي يتحوُّل ُ إلى أداة ٍ تدميرية ٍ هائلة للفرد و العائلة ِ و المُجتمع، و للدُّول ِ أيضا ً (الاستعمار مثالاً).
أما على الجانب ِ الأيسر: فهناك َ فلسفة ُ الليفيانية ِ السطنائيلية (أو الشيطانية الإلحادية) و هي فلسفة دينية تتجه ُ نحو استخدام ِ اسم سطنائيل أو Satan كتجسيد ٍ للمادية و حبِّ الذات و تأليهِها و الانغماس في المحسوسات و اعتناق اللذَّة ِ و الانشغال بالواقع و بالتأسيس ِ على الداروينية الإجتماعية دون أي عبادة للشيطان ككيان روحي، حيث أنَّ هذه الفلسفة َ دينية ُ الجوهر لكن بدون ِ إيمان ٍ بكائنات ٍ ما ورائية مثل الشيطان أو الإله.
نقرأ ُ في هذه الفلسفة إحدى عشرة َ عبارة ً تمثِّل ُ جوهر الإيمان، أُولاها هي: "يمثِّل ُ سطنائيل مبدأ َ الانغماس (المُتعة) بدلا ً عن مبدأ ِ التعفُّف (الامتناع)"، و عاشرَتها هي "يمثِّل ُ سطنائيل كل ما يُطلق ُ عليه اسم ُ خطيئة، و جميُعها تقود ُ للاشباع ِ الجسدي، العقلي و العاطفي (النفسي)"
للمنظومة ُ اللادينية ُ أيضا ً منهجُها من مامونية ِ المال ِ و الثروة ِ، فعلى جانبها الأيمن داروينيون اجتماعيون يرون أن البقاء َ للأقوى و الأذكى و الأكثر فتكا ً و لا يجدون َ بأسا ً في استعباد ِ الأفراد ِ و الشعوب تحقيقا ً لمزيد ٍ من الثروة ِ و المال ِ و القوَّةِ. و على جانبها الأيسر من يحلمون َ بعالم ٍ خال ٍ من الطمع.
رأي ِ: ينطلق ُ الفهم الصحيح ُ للسلوك البشري من دراسة الطبيعة البيولوجية و الوعي العقلي و تجلياتهما النفسية، و تُبنى الحقائِق ُ من مُشاهدات ٍ و اختبارات ٍ و قياس ٍ و تجارب َ واقعية، لا من افتراضات ٍ منفصلة ٍ عن الواقع، و بالتالي نرى بوضوح أن الإنسان َ ينزع ُ بطبعِه ِ نحو التَّملُّك ِ و التكديس، و هي استجابة ُ لغزيرة ِ البقاء بالدرجة ِ الأولى، و للحاجة ِ النفسية بتحقيق ِ الأمان، ثم الاعتراف ِ به من المجموعة ثم تحقيق ِ الذات، مُجتمعة ً.
فإذا ً من ناحية المبدأ لا أجد ُ مُشلكة ً في الجمع ِ و التكديس،،،
،،، و إنني إذ أمضي لفحص ٍ أكثر َ تعمُّقا ً أقول ُ أن الجمع و التكديس ينبغي أن لا يُصبحا الأولوية َ القُصوى للفرد بحيث ُ يشغلان ِ كامل َ وقتِه ِ و تفكيرِهِ فيُهمل َ احتياجاتِه الاجتماعية و العاطفية، أو يُقصِّر َ في حقِّ عائلتِه فيغيب َ عن الأحداث ِ اليومية ِ لبيتِه ِ و للمقربين منه. إن خطر التكديس هو في الانعزال الداخلي لتحقيق ِ شراكَة ٍ مع الذات و الذات ِ فقط، و بقطيعَة ٍ تامَّة ٍ مع المحيطين بالدرجة ِ الأولى و مع المجتمع ِ بالدرجة ِ الثانية.
ثم َّ و بغوص ٍ أعمق َ نحو الجذور أقول ُ أنْ ينبغي أن نُدرك َ أننا نعيش ُ في عالم ٍ مادِّي يقوم ُ على مبادئ اقتصاد ٍ مُعولمة في مُجتمعات ٍ استهلاكيَّة ٍ يُحقِّق ُ الفرد ُ فيها الاكتفاء من خلال ِ مُقايضة ِ المال ِ بالبضائع، الأمر ُ الذي يُجبرُه ُ على الجمع ِ و التكديس، فلا يعود ُ الحديث ُ عن الطمع ِ أو التعفُّف ِ ذا صلة ٍ بهذه المنظومة، و لا وصفا ً صحيحا ً لشكلها و خصائصها و طبيعة ِ العلاقات ِ فيها.
لا يوجد في منظومة ِ الواقع: مامون، لا بشكلِه ِ الميثولوجي و لا باعتبارِه تجسيدا ً لمفهوم ِ شرٍّ مُطلق مُفارق ٍ في أسبابِه للواقع، لكنَّه ُ موجود ٌ بشكلِه ِ المَرضي كغياب ٍ للتوازُن ِ النفسي و محاولة ِ تعويِضِه بواسطة ِ الامتلاك. إنَّـه ُ الإحساس ُ بالـ "لا قيمة" ثم َّ السعي ُ لشرائِها بامتلاك ٍ خارجي يملأ ُ الخواء َ الداخلي.
أتوصَّل ُ في نهاية ِ مقالي هذا إلى خُلاصَة ٍ و إنذار ٍ يُفضي إلى ضرورة.
أما الخُلاصة فهي أن ْ: لا بأس َ في التكديس ِ و الجمع ِ و الاستمتاع ِ بالحياة ِ و الانغماس ِ في الملذَّات ِ ما دام َ أنها في علاقة ٍ تفاعُليَّة ٍ بين داخلية ِ الإنسان و خارجيتِه.
و أما الإنذار فهو أنْ: بين مامون و بعل و سطنائيل و لوسيفر و الإله، يضيع ُ الإنسان، و تضيعُ مُعاناتُه اليومية بين يديِّ العمل و المدرسة و الجامعة و البنك و الأقساط و المجتمع، و يتضاءَل ُ مع جميِعها الحُلُم ُ و الاكتفاء و النشوة ُ و السعادة ُ و الرَّاحة،،،
،،، و بالتالي فإن الضرورة َ تقتضي أن نعترف َ أن العقل َ البشري عليه ِ أن يستنهِض َ الإرادة لفحص ِ الموروث و المُسَـلـّــَـمات حتى يُحطِّم َ المفاهيم َ البالية و يخلق َ منظومته القيمويَّـة َ الواقعية و بواسطتها يتعامل ُ مع المجتمع ِ و الاقتصاد، ليعيش َ كيانَه ُ المتوازن.
بقي َ أن أقول َ أنني لم أُرد لهذا المقال أن يتَّجِه َ نحو الفلسفة أبداً، و أنَّه ُ بدأ في ذهني كمُشاكسة ميثولوجية مُثيرة بأدوات ِ مامون بعل سطنائيل لوسيفر، لكنَّه ُ جرَّني غصبا ً نحو الأصل ِ الإنساني للأيقونة ِ الميثولوجية، و حتَّم َ عليَّ أن أغسل َ وجهها ليظهر َ هوَ!
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن اقتحام ِ المسجد ِ الأقصى المُستمر.
-
قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 4 – الماهيَّة و الجذر – ج3.
-
مع صديقي المسلم على نفس أرجيلة.
-
قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 3 – الماهيَّة و الجذر – ج 2.
-
قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 2 – الماهيَّة و الجذر – ج 1.
-
قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – مُقدِّمة للسلسلة.
-
بوح في جدليات – 13 – لوسيفر.
-
قراءة من سفر التطور – 6 – من ال 1 إلى ال 3.
-
بوح في جدليات – 12 – عصفور ماريَّا.
-
قراءة في الوجود – 5 - الوعي كوعاء للعقل و الإحساس و ما دونه.
-
قراءة في الوجود – 4 – بين وعي المادة و هدفها.
-
بوح في جدليات – 11 – في مديح ِ عشتار - نحن ُ الإنسان!ّ
-
قراءة في اللادينية – 6 – مقدِّمة في مظاهر ما قبل الدين عند ا
...
-
بوح في جدليات – 10 – ثلاثة ُ أيام ٍ بعد.
-
قراءة في اللادينية – 5 – جذورُ: الإحيائية، الطوطم و التابو ف
...
-
قراءة من سفر التطور – 5 – من ال 24 إلى ال 23
-
قراءة من سفر التطور – 4 – من ال SIV إلى ال HIV
-
المرأة الفلسطينية – بين الأمومة و السياسة.
-
بوح في جدليات - 9 - ديك أسكليبيوس.
-
عشتار - 4 – انبثاقُ الحياة.
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|