|
طُرُقاتٌ مثقلةٌ .. خجِلة
حنان الزريعي
الحوار المتمدن-العدد: 1354 - 2005 / 10 / 21 - 07:51
المحور:
الادب والفن
تهرب خفقات قلبي حيث تورّدت الطرقات خجلة من لمس خطواتك .. هنـا مشيت حبيبي ، وهنا تسابقنا ذات مساء ربيعي ، كنت تحمل جِنين فوق كتفيك وتدور بها .. وتدور .. ضحكاتها ملأت الشارع الذي سرق خطونا صخباً ، وصرخات بيسان الغيورة من أختها في أن تحتل مكانها فوق كتفيك ، ونظرات المارة المتسهجنة لهونا . توقفت أمال أمام بقالية الحاج أبو أسعد ، وبيديها بحثت عن خصلات شعرها إن كانت هاربة من تحت منديلها لتحكم تثبيته على رأسها ، دخلت الدكان .. " السلام عليكم " . - وعليكم السلام .. تفضلي . - " أريد .. " جالت ببصرها حيث تكوّمت أكياس كبيرة بها عدة أنواع من الحبوب والبقوليات ، اتجهت قبل أن تكمل جملتها حيث كيس كبير .. قائلة : " أريد كيلو عدس " . نظر إليها الحاج أبو أسعد وحاجبيه الكثين اقترنا بقوة ؛ وكأن ألماً أصابه ، وبتثاقل نهض من كرسيه ليجرّ قدميه بشق الأنفس .. " لو طلبتُ أكثر من شيء مما يحتويه دكانه ؛ لنهض كشاب في أول ربيع عمره " حادثت أمال نفسها ، فهي لا تحتمل هذا الرجل ليس لسبب سوى فضوله المعيب لرجل في سنه ، تناولت نظراتها حركة شفتيه المترددة لقول شيء ما ، وعرفت مسبقاً ما الذي سيقوله ؛ فجاءت كلماته وهو يمدّ لها ما طلبته ؛ آخذاً منها ثمن ما اشترته .. " ألا توجد أية أخبار عن زوجكِ .. ؟ " . أمسكت بالكيس الممدود لها وهي تقول .. " الحمد الله هو بخير " ، واستأذنته .. لم تعتد معاملة الغير بهذا الجفاء ، لكنها تعبت تلك النظرات والوشوشات من المحيطين بها ، فما أن يراها أحد من جيرانها حتى يسألها عن زوجها ، فكانت تجيب بحرقة امرأة على مصير زوجها ؛ لتصلها تمتماتهم كسياط أدمت روحها وما زالت تدميها .. " سامح الله زوجكِ .. أعليه السير في ذاك الطريق .. " دخلت بخطواتها المسرعة تلتهم الشارع الذي يقع فيه منزلها ، لقد تأخرت على ابنتيها ، فلن تهتم بيسان جيداً بأختها الصغيرة .. ولولا أن جِنين كانت نائمة لما خرجت لشراء بعض الحاجيات ، سمعت صوتاً يناديها .. " أم بيسان .. أم بيسان .. " ، نظرت حيث الصوت .. إنه عبد الله .. عاجلها بسؤاله عن حالها وابنتيها ؛ ليطلب منها فيما بعد حمل ما بيديها ومساعدتها ، لكنها أبت بلطفٍ طيب تصرفه ، فلن ترحمها تلك العيون المتلصصة من خلف النوافذ والأبواب المواربة ، كم هي ممتنة له ، لن تنسى مساعدته لها وهي الغريبة في بلده ، فلقد وقف معها وقفة أخ منذ اعتقال زوجها قبل سنة ؛ فبحث عن مكان زوجها حتى وجده ؛ فناشد عدة مسؤولين أن يساعدوا في الإفراج عنه .. دون جدوى . ابتسمت له مودعة ، فلو كان ما يتعبها هو ما تحمله يداها الآن لهان الأمر ، لكن قلبها يحمل ثقل غربة ازدادت ببعد زوجها عنها .. قسراً . لا زالت تذكر ذلك اليوم .. تلك الطرَقات المجنونة والتي كادوا يكسروا الباب تحت وقعها ، والفزع الذي أصاب صغيرتيها لمرأى والدهما يُدفع بقوة ويكبل أمامهما كمجرم صنع جرماً .. هي مقالة كتبها زوجها .. أثارت حفيظتهم ؛ ليتهموه فيما بعد بانتمائه لإحدى التنظيمات التي صارت محظورة عندهم . هو أول شهر لرمضان وأنت غائب عنا رياض .. حتى ابنتنا بيسان استشعرت بقوة وحشة غيابك في هذا الشهر ، لتطلب مني أن أطبخ لها شوربة عدس ؛ وهي التي لا تحبه مطلقاً .. لولا قولها لي مساء البارحة بعد استغرابي طلبها .. " أنا أحب شوربة العدس مثل بابا " .. هذه الشقية الصغيرة غلبتني في حبي لك .. آه لو تراها حبيبي ، ليتك رأيتها وهي بزيها المدرسي والذي لبسته لأول مرة .. صحيح أنني بكيت عند شرائي لزيها ، وبكيت مرة أخرى عندما ألبستها إياه ؛ لأنك لست معي لتشاركني حلماً حلمناه سوية ، عندما وزعنا مهامنا ، أتذكُرْ رياض .. قلتَ لي بأنني سأربط جدائل شعرها بشريط أبيض ، وأنت تربط جديلتها الأخرى ، وبمشاكستــك التي أحــببتها فيك .. قلتَ لي .. " جديلتي لها ستكون أجمل من طريقة تضفيرك لجديلتها " ، هي أحلام صغيرة .. صغيرة .. حلمناها ونسينا أن الشمس سيكفنونها بكفن أسود .. لتلفنا معها بظلامه . استأذنت أمال همومها أن تتركها قليلاً ، فقد وصلتْ للبيت ولا تود لصغيرتيها أن تريا محاكاة عينيها لألوان الحزن . أغلقت الباب خلفها دون إحداث صوت ، حتى رأت صغيرتها جِنين تجري نحـوها فرحة ؛ لتدور حولها وعينيها الصغيرتين تبحثان عمّا جلبته والدتها لها ، اتجهت أمال إلى المطبخ ضاحكة ، والصغيرة ممسكة بثوبها لا تود تركه . وضعت ما كانت تحمله على طاولة المطبخ ؛ حتى لحقتهما بيسان ؛ لتتعاون وأختها في تفتيش الأكياس . صرخت جِنين فرحة ، فقد وجدت قطع الحلوى في إحدى الأكياس ، رفعت بصرها لوالدتها وكأنها تستأذنها ، ما أن رأت تلك الابتسامة من والدتها .. والتي تفننت في طرق سلبها لتلك الابتسامة .. حتى أخرجت قطعة حلوى لتكسرها بأسنانها الصغيرة وتقضمها مغمضة عينيها عند كل قضمة للحلوى ، وكأن إغماض عينيها يعطيها القوة لكسر الحلوى ، هربت جِنين بالكيس خارج المطبخ خوفاً من أن تأخذه بيسان منها .. متناسية أن أختها صائمة كوالدتها . - هيا بيسان .. الحقي بأختكِ ودعِ ماما تحضر طعام الإفطار ، لم يبق على آذان المغرب سوى أقل من ساعتين .. هيا .. - لن أخرج .. أريد مساعدتكِ . - " ماما بيسان .. اذهبي لدراستكِ أو نامي حبيبتي .. أظن الصيـام أتعبكِ " .. نظرت أمال لابنتها وقد أرهق الصيام بوضوح تورّد وجنتي صغيرتها ؛ فباتت شاحبة ، شعرت بالشفقة عليها ، فهذه أول مرة تصوم فيها ابنتها ، أرادت أن تغريها بتناول شطيرة جبن تحضّرها لها ، لكن خوفها من أن تفهمها ابنتها على أنها تُعامل كصغيرة هو ما منعها .. " إذن اذهبي حبيبتي الآن ، وإذا احتجتُ مساعدة سأناديكِ .. " ، تابعت قائلة بعد رؤية الاستياء في عيني ابنتها .. " لا تتركي جِنين بمفردها ، فهي مهمتكِ .. وهي مهمة صعبة لا توكل إلا للكبار .. " - ماذا سأفعل وجِنين ؟ .. تساءلت بيسان بنفاذ صبر . - اذهبا وشاهدا رسوم الأطفال في التلفاز .. - لا ماما .. احترتُ معها اليوم .. فعندما خرجتِ للسوق استيقظت جِنين ولمّا لم تجدكِ بدأت بالبكاء .. حاولت مراضاتها بجعلها تشاهد الرسوم .. وكانت أيضاً تبكي .. غيّرتُ المحطات أمامها .. وبكاؤها طبعاً مستمر ماما .. حتى توقفتْ عن البكاء ، بصراحة استغربت ْ .. " ، صمتت بيسان فجأة حيث شعرت بأنها أثارت انتباه والدتها بكلامها ، وهو ما تحب ممارسته دوماً .. أن تجعل الكبار ينصتون لها باهتمام . سألت أمال بلهفة .. " ها .. ماذا حدث .. ؟ " - كنت قد توقفتُ عند نشرة الأخبار .. أليس غريباً ماما .. ؟ - " وما الغريب .. ! " .. أجابت أمال وقد انشغلت بوضع ما أحضرته في الثلاجة لتتابع قائلة : " تعلمين أن أختك وُلدت أثناء أحداث مجزرة جِنين ، فأسماها والدكِ .. جٍنين ، ماما بيسان .. ربما لن تفهمي كلامي الآن بشكل أدق .. ففي الأسابيع الأخيرة لحملي بأختكِ لم أترك التلفاز لحظة واحدة .. أتنقل من نشرة إخبارية لأخرى .. يقولون أن الجَنين يشعر بالموسيقى وهو في بطن أمه .. فما بالكِ بصرخات ملأى بالفجيعة ، صادرة عن أب فقد ابنه وهو بين ذراعيه ، أو أم اغتسل ثوبها ووجها بدم ابنتها الصغيرة ..آه بنيتي .. شاهدتُ صوراً يشيب لها الوِلدان .. فقط عبر التلفاز .. وربما لهذا السبب تصمت جِنين كلما شاهدت نشرة أخبار ؛ لتسترجع .. أين سمعت تلك الأصوات ومتى ؟ .. ماذا سأقول بنيتي .. اذهبي حبيبتي حيث أختكِ " . خرجت بيسان مطرقة الرأس تتمتم بكلمات غاضبة كونها لم تغلب والدتها في أن تدعها تساعدها في المطبخ . هذه الصغيرة نبشت قبوراً لأحزان دفنتها ، أخذت أمال تبكي والشهقات تكاد تفضح صمت بكائها ، فتحت بسرعة صنبور الماء لتتدفق المياه ملامسة يديها ، فأخذت تبلل وجهها برشقات عشوائية لتغرق دموعها . دوماً تلامسين الجرح بيسان .. ليتك بجانبي رياض ، ليتك هنا بيننا .. أتذكُرْ عندما جاءتنا بيسان باكية قبل سنتين ، لمّا طلبت منّا تغيير اسمها ؛ كون الأطفال الذين تلعب معهم لم يفهموا معناه .. أذكُركَ حبيبي .. عندما حملتها بين ذراعيك متجهاً نحو خريطة فلسطين المعلقة في غرفة الجلوس ، وبإصبعكَ أشرت قائلاً : أنتِ هنا صغيرتي " ، بالأمس أيضاً جاءتني باكية لأن زميلاتها في المدرسة كن يغنين أغانيهن بلهجتهن ولم تفهمهن .. بدأت صغيرتنا بالتعرف على الغربة .. لو كنت بجانبنا الآن ؛ لكونّا وطناً يحتضن غربة صغيرتينا . اعتادت أمال محادثة رياض وكأنه حاضر أمامها ، فعندما تواجه مشكلة سواء كان في عملها أو مع ابنتيها ، كانت فقط تستحضر قسمات وجه زوجها لتبث له ألمها وحيرتها ، ولولا حوارها الصامت مع زوجها ؛ لما تحملت الظروف الصعبة بدونه . استيقظت أفكارها الهاربة حيث زوجها على وقع أقدام تجري .. حتى دخلت جِنين لاهثة لتقول لها .. " ماما .. صوت رجل يريدكِ على الهاتف " ، تركت أمال ما بيديها وخرجت مسرعة .. أمسكت بسماعة الهاتف .. ليصلها صوت عبد الله وهو يصرخ ضاحكاً : - أختي أم بيسان .. هاتِ البشارة .. سعادته وبهذا الشكل .. إلاّ .. هل أمنّي نفسي .. أم .. تلعثمت كلماتها المرتجفة من برد أمل بعيد .. " عندكَ أخبار عن زوجي .. أليس كذلك ؟ " - نعم .. زوجك سيكون بينكم غداً .. الساعة العاشرة صباحاً .. سيفرجون عنه بمناسبة شهر رمضان .. قاطعته أمال والفرح نثر دموعها كحبات أرز ، نُثرت من فوق شرفات منازل ؛ مرت كوكبة عرس من تحتها .. " منذ اقل من ساعة لم تقل لي ذلك .. أحقاً ما تقول .. ؟ " - اتصل بي الآن صديق لي هناك .. وسيخبرونكِ اليوم .. لي البشارة كـمـا قلت لكِ .. أستودعك الله الآن .. سأكون بانتظاره غـداً .. لا تقلقي أختي .. مع السلامة . - صرخت أمال منادية ابنتيها ، وكأنها تتحدى الألم .. " أن اتركنا نحيا بسلام " .. احتضنت طفلتيها تقبلهما وكلماتها اغتسلت للتو بندى الأمان .. " بابا سيكون غداً معنا .. غداً .. غداً .. " - سيوصلني إلي مدرستي كل يوم .. - سيحملني على كتفيه .. ويدور بي .. يااااه ماما .. سيكمل لي تلك القصة التي كان يحكيها لي قبل أن أنام . أخذت الطفلتين تقفزان فرحاً فلكل منهما أحلامها .. تداخلت كلماتهما كتداخل زقزقة العصافير مع حفيف أوراق الأشجار .
#حنان_الزريعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يمتشق الألم أملاً
-
تمرّد السكون
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|