|
قصص قصيرة جدا ً/ مستعمرة الديناصورات / القسم الثاني
عادل كامل
الحوار المتمدن-العدد: 4924 - 2015 / 9 / 14 - 10:57
المحور:
الادب والفن
قصص قصيرة جدا ً مستعمرة الديناصورات
عادل كامل القسم الثاني
[51] خلود سأل ابن أوى الذئب، وهو يتأمل الأفعى غارقة في الحزن، خلف القضبان: ـ هل حقا ً هذه هي التي سرقت وردة الخلود...؟ ضحك الذئب: ـ كنت أظن انك أذكى مما يقال.. ـ هكذا قرأنا، وسمعنا، أيها الذئب الحكيم. ـ في الأساطير، وفي الحكايات، وفي الكتب..؟ صمت ابن أوى لحظة متابعا ً يسأله: ـ إذا كنت تزعم انك أكثر ذكاء ً مما أنت عليه، ومما يقال عنك، فهل لديك قدرة على تفنيد هذه الأساطير، وهذه الحكايات، وهذه الكتب...؟ ـ آ .....، اثبت أنت العكس، كي أخبرك بالجواب! ـ ها أنت، مثل الأفعى، تظن انك سرقت وردة الخلود أيضا ً! بعد صمت، سأل الذئب ابن أوى: ـ لو كانت الأفعى قد حصلت على الخلود، كما جاء في أساطير الأولين وكتبهم، فما الذي دعاها للبقاء وراء هذه الأصفاد؟ ـ كنت أظن انك اذكي من أن تسأل هذا السؤال! وأضاف: ـ والآن عليك أن تسأل القفص: أأنت طليق؟ ـ تقصد أن اسأل من صنع هذه الأقفاص، وهذه القيود؟ ـ لا...، فالإنسان عرف الإجابة، منذ زمان بعيد، لكن اسأل هذا المعدن الصلب...، كم سيدوم؟ [52] سقراط ـ طالما سألت نفسي... ودار بخلد البلبل مخاطبا ً الثعلب: ـ ماذا لو لم يتجرع سقراط كأس السم؟ لم يجب الثعلب. فقال البلبل: ـ لمكث، مثلك، أسير هذه القضبان. قال الثعلب بصوت غاضب: ـ آ .....، لو لم تحتم بقفصك، بعيدا ً عني، لعرفت ماذا افعل؟ ـ أيها الثعلب الشاطر، أولا ً عليك أن تغادر قفصك، وأنت تحلم أن تنال مني، وثانيا ً، فان سقراط ارتوى بالسم كي لا يشتغل بصناعة القيود! لقد اخذ المفتاح معه وتركنا بانتظار أن يبلغ السم ذروته، ونموت! [53] سؤال بعد أن أصبح وحيدا ً، في أرذل العمر، سأل الأسد باب القفص المصنوع من الفولاذ: ـ مع إنني اعرف انك جماد، لا تسمع ولا تنطق، لكنني اقدر كم تتعذب في صمتك، فاخبرني من منا أكثر عزلة؟ [54] الثور وأنثى الفيل ـ بالأمس رأيت الحصان يهمس في آذن الأتان وهو يسفدها: عساك أن تلدي مهرا ً عداء ً ، مثلي، فلا تجعليه كالحمار الذي ينوء بحمل الأثقال!* وأضاف الثور يخاطب أنثى الفيل، مبتسما ً: ـ هل يروق لك ان نجرب؟ ضحكت أنثى الفيل: ـ حتى لو أنجبنا أسدا ً، فهل باستطاعتنا أن ننجبه خارج حدود أسوار هذه الحديقة. أرجوك، أيها الثور الجميل، أغلق فمك، واغرب عن وجهي، فقد اججت في ّ الرغبات التي حسبتها وضيعة!
* من الأمثال السومرية.
[55] رصاصة سأل الغزال الرصاصة التي استقرت في ساقها، ومنعتها من الهرب: ـ ماذا فعلت لك ِ، حتى كدت أموت بسببك؟ قالت الرصاصة: ـ وأنا ما هو ذنبي، كي أجد نفسي في جسد غريب! [56] إثم قال البغل لرفيقه في الحقل: ـ أنا لن ارتكب الإثم ذاته الذي ارتكبه والدي الحصان، ولا التي ارتكبته أمي الأتون! فأجاب الآخر: ـ مادمنا لا نمتلك قدرة على منعهم من ارتكاب هذا الإثم...، فما الجدوى من عدم قدرتنا على ارتكابه، وما الفائدة من براءتنا، في نهاية المطاف؟ [57] عار اقتربت الحمامة من الهدهد، وسألته: ـ يقولون انك عملت مخبرا ً سريا ً، ألا تشعر بالخجل؟ ـ وماذا ستفعلين؟ ـ سأوشي بك، لدي المدير! ـ وماذا ستكسبين؟ ـ اخبرني ماذا كسبت أنت؟ ـ العار! [58] خسارة بعد أن اضرب العصور عن تناول طعامه، اجتمعت الطيور، لتثنيه عن قراره، وهو يوشك على الهلاك. فسأله اللقلق: ـ ما الذي تريد ان تقوله لنا....؟ رفع العصفور رأسه بصعوبة، متمتما ً: ـ كنت استطيع ان ارمي بجسدي في فم الثعلب، أو في فم أي حيوان مفترس، أو اغطس في الماء، أو حتى اسلم مصيري إلى أي قط مشرد...، وأموت، لكنني قررت الامتناع عن تناول الطعام، وهو وفير، كي أبرهن لكم، إنني لست عاطفيا ً، وإنني صاحب إرادة! أجاب اللقلق باستغراب: ـ لمن تبرهن ..؟ ـ لنفسي..! ـ ومن تكون أنت أيها العصفور الصغير؟ ـ هذا هو الفارق بيننا، فرغم حجمك الكبير أيها اللقلق، لكن قراراتك مازالت صغيرة! ـ ولكن ماذا لو اضربنا جميعا ً عن الطعام ومتنا...، ماذا سنكسب؟ ـ آنذاك لن نخسر شيئا ً! ـ عصفور صغير يعلم الآخرين كراهية الحياة، وبغضها؟ ـ لا...، أنا اعلم الآخرين احترام الحياة عندما تكون جديرة بذلك! [59] شقاء سألت الضفدعة الصقر: ـ لماذا، هؤلاء البشر، في كل مكان، ومنذ أول الزمن، يحلمون بالعدالة، ولا احد يعمل على تحقيقها؟! أجاب الصقر: ـ مع انك ِ تعرفين الإجابة....، لكنني أقول: ماذا يعمل القاتل إن لم يجد من يقتله..، ماذا يعمل الطبيب بغياب المرضى، ماذا يعمل الجلاد من غير ضحية، وماذا يعمل السجان عندما لا يوجد لصوص، وفاسدين، وآثمين، ماذا تعمل النار إن لم تجد حطبا ً، ماذا يفعل الدجال إن لم يجد أحدا ً يصدقه، ماذا يعمل الكاتب لو لم تكن هناك كلمات، ماذا يفعل الأعمى لو لم يجد من يمشي خلفه، وماذا يفعل الأعرج إن لم يجد من يعلمهم الرقص، ماذا تفعل جهنم لو ذهب الجميع إلى الفردوس، ماذا يفعل الحكيم لو سمع الناس صوت الله، ماذا يفعل المرابي لو كانت أرزاق الناس متساوية، والقاضي ماذا يعمل لو ساد العدل...؟ ـ آ ......، أيها الصقر، أرجوك لا تختتم حكمتك وتجعل مني وليمك لك في هذا الصباح الجميل! ـ الآن، أيتها الضفدعة، لست جائعا ً، لهذا اغربي عني، حالا ً...، فلونك جذاب، مثل رائحة لحمك تحت جلدتك الناعم! ـ آ ...، الآن عرفت لماذا لا احد يعمل على إقامة دولة العدل!! [60] رغبات باستغراب همست الغزال في آذن الذئب: ـ انظر ....، تعّلم النمر الرقص، والدب أجاد القفز، والفيل التبختر، والثعلب اللعب على الحبال، والأسد اجتياز حلقات النار....، وأنت مازلت تحلم بافتراسي؟ أجاب بصوت وقور: ـ سألحق بهم، أيتها الغزال، بعد ان نهبوا بريتنا، واستولوا عليها! ولكن أنت أيضا ً ستتعلمين الباليه، والوثبات الذكية، كما يفعل البشر! ـ هل هذه موعظة أم حكمة؟ ـ لا، لا ليست حكمة، وليست موعظة، بل هذا هو واقع الحال...، فالناس عندما اخترعوا الحلبة راحوا يعلموننا الرقص، وعندما كونوا مدينتهم فأنهم راحوا يتباهوا بتفوقهم علينا! ـ أنا لا اصدق كم أنت تتمتع بمثل هذا الذكاء؟ ـ أنا لست أذكى من هؤلاء الذين أدركوا ان مصائرهم لن تذهب ابعد من هذا الغباء! ـ كأنك تلعن القدر الذي جمعنا معا ً؟ ـ من أكون كي العن القدر، وقد جعلوني أتلقى تدريباتي معك يا أيتها الغزال! [61] أمنيات سألت الحمامة البلبل: ـ أراك تغرد وكأنك حصلت على الحرية؟ أجاب بصوت ارق أعذب وأكثر نشوة: ـ وماذا افعل بالحرية عندما أكون فيها هدفا ً للصيادين، والكواسر، والمفترسات؟ ـ آ ....، الآن أدركت لماذا يرغب بعض البشر قضاء حياتهم في السجون! فقل البلبل معترضا ً: ـ بل كان عليك ان تقولي: ما أحلى الحياة عندما لا تجدين أحدا ً يعتدي عليك! [62] مفارقة ـ لماذا أراك، أيها الذئب، تنظر إلى الخراف، في القفص المقابل لقفصنا، بحزن..؟ أجاب جاره القرد: ـ لأنني أصبحت ارثي لحالها! فهي لا تعرف ماذا تفعل بلحمها الفائض، وأنا لم اعد مكترثا ً لنحول جسدي! [63] نصر كانت الحديقة تسمع قهقهات الأرنب، وهو يقفز، ويرقص، ويلهو ....، داخل قفصه. اقترب المدير منه وسأله: ـ ماذا جرى لك أيها الأرنب وكأننا في عيد؟ ـ تذكرت النملة التي ركبت فوق ظهر الفيل فاعتذرت له ان تكون أثقلت عليه، فقال لها: من أنت ِ؟ ـ لكن هذا لا يثير الضحك! ـ لا ...، فانا عندما عرفت ان أعدائي قد تم أسرهم، وزجهم وراء القضبان، قلت لنفسي: الم اقل ان الحرب ستنتهي، وإننا سننتصر!
[64] كفاية ـ لماذا عدت ِ، أيتها الحمامة، بعد أن بذلنا جهدا ً كبيرا ً بفرارك من القفص؟ ـ لا اقدر إلا أن أقول: أنا هي التي رأت ما لا يرى ...، فالناس يقتلون بعضهم البعض الآخر، بشراسة، وقسوة، حتى ان جثثهم تناثرت في طرقات المدينة، وأزقتها، وتكومت فوق المزابل، مثل النفايات...، وإنها صارت جيفا ً تنهشها أنياب الضواري، والكلاب...، والقطط، بل وحتى الجرذان! فأينما ذهبت، لا أرى إلا الكل يطارد الكل، والكل يهرب من الكل، والجميع يذبح الجميع ...، فقلت لنفسي: ما الذي افقدهم صوابهم، ولم يعد احدهم يحب مدينته، ولا وطنه ...، لكن لا احد سمع صوتي، ولا احد فكر ان يعرف، إننا، هنا، وبقليل من الفطنة، وبقليل من المودة، حصلنا على ما يكفي من الحياة! [65] الأفعى خرجت الأفعى تسعى بحثا ً عن طعام لصغارها، فلم تجد. كانت تنظر إلى الأسود، ثم النمور، ثم الفيلة، ثم نظرت إلى البقرات السمان، والخرفان البدينة، والطيور تغرد وتزقزق ...، ولم تجد فأرا ً واحدا ً غادر قفصه! فعادت إلى بيتها حزينة...، لكن صغارها استقبلوها بفرح ومسرة: ـ ماما عادت....، ماما رجعت بسلام! فسألتهم: ـ ماذا جرى، وماذا يجري...؟ فقالوا بصوت واحد: ـ زارنا المشرف، وقال لنا: هذه هي حصتكم من الحليب....، وقولوا لامكم أن غادرت جحرها، مرة ثانية، فسنعيدها إلى البرية! ـ نعم، لن افعلها، فماذا افعل في البرية، وأعدائي طلقاء!
[66] شكوى تقدم الحمار بشكوى الى المدير متضمنة مطالبته ببعض الحقوق، بحسب القوانين الدولية، فكاد المدير ـ بعد الاطلاع على شكواه ـ ان يفطس من الضحك. فسأله الحمار: ـ هل تضمنت عريضتي ما يضحك؟ ـ لا! لكنني فكرت ماذا لو استبدلنا مواقعنا، كي تحصل على حقوقك كاملة! صمت الحمار قليلا ً وقال: ـ فهمت، فهمت .. لكن يؤسفني إنني ذكرتك انك تشاركنا المصير ذاته! قال المدير بصوت غاضب: ـ أتعزيني أم تسخر مني؟ ـ كلاهما، أيها السيد المدير! فانا كنت احلم بالحصول على ما حصلتم عليه...، وها أنا اكتشف استحالة ان تحصوا على ما حصلنا عليه! ولكن ...، أقول الحق: لا احد منا حصل إلا على ما أصبح ليس بحاجة له!
[67] بحر ـ ما المضحك، وقد تجمهر الخلق من حولنا، ونحن داخل هذا القفص، وأنت تكاد تفقد رشدك؟ لكن الثعلب لم يكف عن الضحك: ـ تذكرت قصة جدنا الأكبر، الذي كان عاش في الزمن القديم، ففي ذات مرة بال في البحر، وعندما نظر قال متعجبا ً ومتباهيا ً: أكل هذا البحر من بولي؟ فخاطبه جاره الثعلب بأسى: ـ بدل ان تنوح، وتبكي، أراك تسرف في قلة الحياء! ـ ألا ينبغي ان تسألني لماذا الضحك، قبل ان تتصرف كما يتصرف غالبية الناس! ـ تفضل، جد لي عذرا ً... ـ كيف لا امرح، وأقهقه، وقد أوقعنا جميع الناس في هذا الكمين! ففي الماضي كنا نهرب منهم، ومن بطشهم، ونبالهم، وسيوفهم، وحجارتهم، أما الآن، إلا ترى إننا أصبحنا نراهم عن قرب، ولا يفصلنا عنهم إلا هذا المشبك الحديدي، ولا احد يستطيع الاعتداء علينا! ـ وهذا ما جعلك تضحك؟ ـ أجل، فبدل ان يصطادونا، ويسلخون جلودنا، نجحنا بجرجرتهم نحونا، كي نتسلى برؤيتهم، والسخرية منهم! فسأله بشرود: ـ أنا نفسي لم اعد اعرف: من هم الأحرار...، ومن هم العبيد؟ ـ آ ......، دعونا من النظريات، والشعارات، والكلمات....، لأننا جميعا ً داخل أسوار حديقة لا مناص إنها ملاذنا الوحيد! [68] مفارقة قال الثعلب لجرائه حديثي الولادة: ـ حتى في البرية، كانت هناك حدود فاصلة بيننا وبين جيراننا، فلا احد يعتدي على احد، كالفواصل التي تعزلنا الآن عن الآخرين، وتضع مسافات بيننا. فسأله احدهم: ـ وما هي ضرورة وجود هذه الفواصل الحديدية بيننا، في هذه الحديقة... ؟ تأوه الأب، وقالت بحزن: ـ في البرية كنا نستطيع تجاوز هذه الحدود، والعبور إلى المناطق المجاورة، بل والأبعد ...، حتى أن جدكم اضطر للهجرة إلى بلاد بعيدة ولم يعد منها ...، أما هنا، يا أولادي، فالجميع يولدون، ويعيشون، ويموتون في أقفاصهم، حتى لا احد يعرف ماذا يجري بجواره! ـ إذا ً....، لماذا لا نعود إلى وطننا القديم؟ ـ آ ...، في وطننا القديم كنا لا نشعر إننا اخترنا سجوننا، أما هنا، فلا نستطيع الهرب منها! في الماضي لم نكن نحصل على الحرية إلا بشق الأنفس، أما هنا، فهم يفرضون علينا الحرية ولا نقدر إلا على قبولها! [69] سرقة ـ النذل، المسؤول عن هذا الجناح، يسرق نصف حصتنا من اللحم! قال الذئب يخبر صغاره، فأجابه احدهم: ـ ربما لديه صغار يتضرعون جوعا ً يا أبتاه! ـ اسمع، واجبه أن لا يسرق! فهمس مع نفسه بصوت خفيض: يبدو انه لا يريد ان يتذكر كم حملا ً افترس؟ فقال له بعد أن قرأت ما دار بخلده: ـ أنا لم اعتد عليهم، كلابهم لم تحرسهم! بعد صمت، تشجع الصغير ورفع صوته: ـ هكذا تشّرع الوصايا، وتدوّن القوانين، وهكذا يجتهد الجميع بالعمل على دحضها! [70] لعبة نظر السنجاب إلى قفص الأرانب، ثم رفع رأسه وحدق في عيني الصقر، ضاحكا ً بسخرية: ـ لا احد هزم الآخر! فقال الصقر للسنجاب: ـ مثلما حصلت الأفعى على الخلود، لم يخسر الفأر هذا المجد! فقال السنجاب للصقر: ـ الآن عرفت لماذا من المستحيل القضاء على الشر! ـ آ ....، أصبحت تتحدث كأصحاب الرؤوس الجوفاء! ـ في هذه الحديقة، ما الذي يمكن ان نعمله، ولا شغل لنا سوى ان نتسلى بالناس، وسوى ان يتسلى الناس بنا! ـ يا لها من محنة.. ـ لكن الدولة هي التي تجني الثمن! لأنها تأخذ الحصة الأكبر، ولا تمنحنا سوى الفتاة لديمومة هذه اللعبة! ـ وماذا تفعل الدولة بالمال الأكبر! ـ كي يدوم الشر! [71] حلقات ـ بعد ان سلبوا منا البحار، والغابات، والجبال، والصحارى، وحتى المستنقعات...، لم يبق لدينا إلا هذه البقة من الأرض، نلوذ بأقفاصنا في هذه الحديقة. فقال الأيل لرفيقه: ـ ماذا جنينا من الماضي، كي نأمل أن يكون المستقبل مختلفا ً! [72] نظر الكركدن في المرآة، مخاطبا ً نفسه: ـ ها أنا لا اختلف عن القرد الكثيف الشعر. أجاب القرد الذي كان يقف خلفه: ـ بل قل...، ها أنا من أصبح يشبه الكركدن! فخاطبه الكركدن: ـ قبل آلاف السنين قالوا...، الكلب الحي، خير من الأسد الميت! [73] البغل والأسد سأل الأسد البغل الذي كان يتجول طليقا ً في ممرات الحديقة: ـ عجيب أمرك ...، لديك فرصة للهرب، لكنك مازالت تتشبث بالبقاء معنا؟ نظر البغل إلى الجهات المختلفة بحثا ً عن الطائر الحر، فوجده يقف فوق غصن شجرة، فقال البغل للأسد كي يسمع الآخر: ـ اسأل الطائر الحر لماذا لم يفر، وهو طليق؟ فدار بخلد الأسد: ـ أنا نفسي لو خيرت بين الهرب وبين البقاء لاخترت قفصي! فسأل البغل الطائر: ـ وأنت لماذا لم تهرب وتعود إلى الصحراء؟ ضحك الطائر، وسأله: ـ اجبني أنت أولا ً. قال البغل: ـ شقيقي، بعد ان ُمست كرامته، ألقى بجسده في الوادي، ومات. وأنا اعرف قصتك أيضا ً، فما ان وقعتم في الشباك، حتى انتحر رفاقك أنفسهم حالا ً، إلا أنت! ـ ها، كالذي حدث لك...، أنت لم ترم بجسدك في الوادي، وأنا لم اختر الموت! قال الأسد: ـ الآن فهمت تماما ً لماذا تحتم علينا الإصغاء إلى هذه القصص! فقال البغل للأسد: ـ بل تحتم علينا ان نهلك من اجل صياغتها! [74] الفيل يتكلم ثم نطق الفيل العجوز، بعد ان جمع قواه، يخاطب أحفاده: ـ ظنوا ...، بعد ان هجرونا، وشتتونا في بقاع المعمورة، إننا سننقرض، ونزول...، ولكن، يا أحفادي، ها نحن نؤسس إمبراطوريتنا، هنا، كما يفعل رفاقنا في مختلف بقاع الأرض. اقترب احد أحفاده منه، وسأله: ـ وهل هذا القانون ينطبق على النمل، والبعوض، والقمل، والخنافس، والصراصير...؟ ـ بل حتى على الناس! ـ على الناس أيضا ً؟ ـ اجل ...، فأنت لو ذهبت إلى المدينة، لعرفت انك لا ترى إلا خليطا ً من الأجناس، والألوان، والأشكال، والمذاقات، والاختلافات. ـ آ ...، ولكن كيف لا يفترس احدهم الآخر؟ ـ لو فعلو ذلك فأنهم سيلقون حتفهم بلا استثناء. تراجع قليلا ً وسأل جده: ـ ولكن بعض الشعوب مازالت مهووسة بحرب الجميع ضد الجميع؟ ـ هذه سحابة صيف! ـ لم افهم. ـ ستزول، بزوال الجميع! ـ وهل سينقرضون إلى الأبد؟ ـ لا...، وإلا ماذا سيعمل الموت؟
[75] شبح الموت همس النمر في إذن رفيقه: ـ لطخ وجهك بالوحل، لطخه، أسرع، فقد لا يتعرفون علينا! ـ ماذا حدث..؟ ـ فرق الموت تبحث عنا! ـ عنا...؟ وماذا فعلنا، كي نتعرض للقتل؟ ـ هل نسيت إننا كنا في حديقة السلطان، والآن أصبحنا في حديقة الشعب؟ ـ آ .....، فهمت، فبعد أن خلعوا السلطان، وصلبوه...، جاء الدور على حاشيته، ونحن منها!
[76] عودة بعد أن نجح الغراب باستحداث فجوة في القفص الكبير، بدأت الطيور تتسلل بعيدا ً عن الحديقة، حتى لم يعد هناك سوى الغراب، لم يهرب. وكان ذلك تحديدا ً ما شغل بال مدير الحديقة، وحيره ...، فاستدعاه: ـ أنت فتحت الفجوة، وأنت ساعدت الطيور على الفرار، ولكنك لم تغادر ...، فماذا يعني هذا...؟! اعترف الغراب انه اضطر تحت التهديد للقيام بذلك، وأضاف: لكن أين تراها تذهب؟ تساءل المدير: ـ لكنك لم تهرب..، ولهذا أنا بحاجة إلى إيضاح؟ اقترب الغراب من المدير: ـ المشكلة لا تتعلق بالتاريخ، فأنت تعرف انه مضى، لأن الاتكاء على الماضي كالإصغاء إلى حفرة! والمشكلة لا تتعلق بالغد أيضا ً، لأنها تماثل من ينتظر نزول المطر من العدم! المشكلة تكمن في الحاضر، بحسب تعبيركم، يا معشر البشر! ـ جيد ...، لكنك لم تخبرني...، لماذا لم تهرب؟ ـ لأنني، ببساطة، انتظر عودة الطيور! ابتهج المدير، مصغيا ً له: ـ فانا أخبرتك باضطراري للخيانة! وممارسة عملا ً لا شرعيا ً، لكن ليس بسبب تهديد الطيور حسب، بل للبرهنة على ان المشكلة إن لم نجد لها حلا ً، في الواقع، لم تعد ثمة مشكلة! ـ أصبحت تتحدث مثل الفلاسفة! ـ دعك من الماضي. ـ إذا أصبحت تتحدث مثل هؤلاء الذين يفكرون بالمستقبل؟ ـ دعك من الحالمين، الخياليين، الفنتازيين! ساد الصمت برهة، بينهما، حيث بدأت الطيور بالاقتراب من الحديقة، والدخول من الفجوة ذاتها، التي في القفص. قال الغراب: ـ الآن بالضبط امسكنا بالماضي والغد! ـ لم افهم! ـ أيها السيد المدير، دعني اجري الحديث مع الطيور على الهواء، من غير تهديد، ووعيد، ومعاقبة! استدعى الغراب زعماء كل صنف من الصنوف. فسأل الحمامة: ـ لماذا عدت ِ؟ أجابت: ـ لم أجد مكانا ً صالحا ً للسكن. واستدعى زعيم البلابل: ـ وأنت؟ ـ الدخان ملأ السماء، فلا مكان لنا فوق الأرض. واستدعى زعيم العصافير، فأجاب بان الحرب لم تترك شجرا ً ولا حجرا ًفي المدينة. تمدد الغراب فوق الأرض، من شدة الضحك، بعد ان فقد قواه، وطلب من المديران يعيد النظر بنظام الحديقة. أما المدير، فحدق في المرآة، في غرفته، وخاطب نفسه: ـ لم يعد لدي ّ إلا ان أتشبث بعملي، هنا، بعد ان كنت انتظر فرصة للفرار! تبا ً للفم لا يتكلم إلا عندما تكون الكلمات قد فقدت معناها! [77] حلم
ـ رأيت حلما ًمن غير رموز! أصغت له بفزع، وسألته: ـ ماذا رأيت إذا ً؟ ـ رأيت الريح تهدم أسوار المدينة، تقتلع الأشجار، وتجرف المنازل، والكل تناثر وتحول إلى ومضات وذرات ...، ورأيت الفراغات تمتد، وتتسع، وتتوسع، وتفقد حافاتها...، وعندما حاولت ان اعرف أين أنا، سمعت من يهمس في رأسي: لم يعد لك وجود، ولم يعد للأرض حضور! ـ تقصد...، وقعت الحرب؟ ـ لا...، حدث اضطراب أو تشوش في البرمجة...، فالشمس توارت، والقمر اختفى، ومعهما باقي الكواكب...، وكأن المجرة اتسعت حتى تقلصت حد الصفر! ـ وماذا فعلت؟ ـ أفقت من الكابوس...،كي اعثر عليك، يا حبيبتي، بجواري! فقالت السلحفاة لرفيقها: ـ وأنا رأيت الحلم ذاته ..، كي أراك تذكرني بالرموز التي لم تفقد صلاحيتها بعد: الماء، النور، العشب، الصخور، الأشجار، والهواء... فقال بمرح: ـ وحتى لو غابت هذه جميعها، فسنغيب معها...، آنذاك يكتمل الحضور برموزه الغائبة! [78] ماذا افعل؟ عندما رأته مكفهر الوجه، شارد الذهن، لم تحتمل اللبؤة الصمت، فسألته: ـ ما الذي يجعلك حزينا ً، وحائرا ً، حتى انك لم تعد تكترث لوجودي بجوارك، يا أسد البراري..؟ هز الأسد رأسه وتمتم بصوت خفيض: ـ سأخبرك بالخلاصة التي بلغت ذروتها لدي ّ: ان من يبلغ نهاية المعرفة كمن هو في القاع! ـ جيد! هذه النتيجة تستحق ان تنال عليها أرقى الجوائز! ـ ها، ها، هذا هو المثير للسخرية، فالحمار استبدل جلده بجلد النمر، والثعلب غدا يؤدي دور الدب، والفأر صار يتحكم بمصائرنا، الأعمى يسبقنا في المشي ليقودنا، والأعرج يعلمنا الرقص، والمجذوم أصبح قدوة لنا! فماذا افعل يا سيدة البراري، والوديان ...؟ ـ لنتقدم بشكوى إلى السيد المدير...؟ ـ ولكن ما الذي علي ّ ان اخبره، والأمور بلغت نهايتها، وهو يجهل لغتنا، أو يتجاهلها، هل اخبره بسرقتهم لغابتنا، وبريتنا، وإنهم أسرونا، ووضعونا في الأقفاص، وبدل ان يقتلوننا راحوا يعلمونا الرقص على الحبال، والغناء مع القطط! ـ هل هذا هو سر حزنك، واساك؟ ـ لا! ليس هذا حسب، بل لأن من معنا، في هذه الحديقة، يجهل انه ماض َ إلى المجهول! ـ تقصد إننا سنموت؟ ـ الكل سيموت، سقراط والكلب وأنا، لكن ما سيحدث فهو اشد فظاعة من الموت! ـ وهل هناك ما هو اشد قسوة من الموت....، إذا ً اخبرني بهذا السر؟ ـ إنهم منحونا الحرية! قهقهت اللبؤة وهي تسأله: ـ وهل تخاف من الحرية؟ ـ نعم! لأن الحرية لا تعطى، لا تمنح، ولا توهب...، إنها تنتزع، تُؤخذ، بالجهد والكد والشقاء....، فهل حريتي ان أدبك مع القردة، وأتمايل مع الكلاب، واغني مع الضفادع ؟ اقتربت منه، وسألته مجددا ً: ـ وماذا كنا نفعل في البرية، وفي السهول، وفي الغابات...، غير الهرب من الصيادين، والبحث عن مناطق اقل خطرا ً، وكل هذا غدا قبض ريح، يا أسد الغابات، والآن الجميع يقتدون بك، ويتعلمون منك، الفار هو من يحلم ان يرتقي درجة نحو مجدك، وكذلك الذئب، وليس هو أنت من يفكر بالتراجع، والارتداد، كي تصبح ثعلبا ً، أو ضبعا ً! ـ لم اقصد هذا أبدا ً...، فانا أدركت ان السعادة ذاتها أصبحت عبئا ً لا يحتمل، ووزرا ً ثقيلا ً... ـ لكن العودة إلى البرية يعني نهايتنا...، فأنت حر في الاختيار؟ ـ هذا هو تحديدا ً سر شقائي، فلا أنا ولا أنت، ولا من معنا في هذه الحديقة، يمتلك هذا الحق: حق تقرير المصير! مع ذلك، علينا ان نردد: عاش الفأر، عاش الهر، عاش الأعرج، كي لا نفقد ـ في هذا السيرك ـ هذا القليل من العبودية؛ حريتنا بالبقاء على قيد الحياة!
[79] خالدون أسرع الفأر مهرولا ً بأقصى ما يمتلك من القوة، ليتوارى داخل جحره، مذعورا ً، بعد ان شاهد الأفعى تسعى نحوه، كي يفلت منها، أخيرا ً. فسأله جده: ـ ما الذي جرى لك يا حفيدي؟ ـ كادت الأفعى ان تبتلعني. ـ الم ْ أخبرك، مرات ومرات، ان تكون حذرا ً منها، ومن القطط، والنسور...؟ ـ آ ...، يا جدي، اخبرني هل حقا ً ان الأفعى خالدة، لأنها سرقت وردة الأبدية من جلجامش...؟ ـ لم افهم قصدك؟ ـ هذه الأفاعي اللعينة، أتراها لا تموت، رغم إنها ارتكبت إثم السرقة، واعتدت على الآخر...؟ ـ آ ..، فهمت قصدك أيها الفار الفطن، ولكن فكر ـ معي ـ كيف اجتزنا ملايين السنين، ولم ننقرض، ونصبح من الماضي! ـ ها هو ذهني يضطرب، ورأسي يزداد تشوشا ً...، فمن منا الخالد، ومن منا الفاني: الأفعى الشريرة أم نحن الفئران؟ قال الجد بصوت رزين: ـ لولانا، يا حفيدي، لما حملت الأفعى عنوان: أسد التراب! ولولانا، لكانت هذه الأفاعي حفنة رمل تتقاذفها الريح! ـ أي خلود هذا الذي عبر الأزمنة ولم يقدر على إبادتنا، ولكن لم يقدر على تهذيب تلك الكائنات عديمة النفع، أي خلود اكتسب هذا الشهرة وهو لم يدم إلا على مصائرنا الفانية! [80] هديل ـ يا للهول...! تابعت الحمامة تروي ما شاهدت في المدينة، وهي ترتجف ذعرا ً: ـ امسكوا بالرجل وكبلوه ثم قطعوا رأسه...، وكان الناس من حوله يصفقون، يرقصون، يبتهلون، وينشدون: عاد من حيث أتى! فسألتها زميلتها: ـ وما الجديد في الأمر....، فهذا يحدث منذ أول الدهر...؟ أجابت بصوت مازال مرتجفا ً: ـ لقد رأيت رأس الرجل، هو الآخر، يرقص، ويتمايل، ويغرد! فتمتمت مع نفسها بصوت شارد: ـ آ ...، ماذا يفعل الخوف عندما يبلغ ذروته، فانا رأيت ما هو أكثر غرابة: فقد سمعت الرجل يقول لهم: لو قطعتم راسي، ألف ألف ألف مرة، فانا لن ألوذ بالفرار! ـ ها، الرجل على حق، فبدل ان يموت ككلب، فضل ان يموت كبطل! هدأت الحمامة المذعورة، وسألت زميلتها: ـ ونحن ماذا سنفعل...؟ ـ نروي القصة بهديلنا لعّل هناكً من يسمعها! ـ آ ......، الآن عرفت لماذا لم نغلق أفواهنا منذ أول الزمن!
[81] انتظار ـ اهربوا...، اهربوا ... وأضاف زعيم الأرانب بصوت مذعور: ـ فالموتى خرجوا من المدافن....! ـ أين نهرب...، أيها الزعيم، وليس أمامنا إلا الأحياء، ومن خلفنا هذا الجيش الجرار من الموتى؟ صمت برهة وقال: تجمدوا! ثم بدأت المعركة بين الموتى والأحياء. سألت واحدة من الأرانب الزعيم: ـ لكن هذه هي فرصتنا للهرب! ـ لا....، علينا ان نراقب بصمت...، فبعد ان يفتك الموتى بالأحياء، والأحياء بالموتى، نبحث عن ارض لا موتى فيها ولا أحياء! ـ كأنك تفكر بالذهاب إلى كوكب آخر؟ ـ لا ...، سنعود إلى حديقتنا، ونعقد صلحا ً مع المدير! آنذاك نتدرب على عدم العصيان! ـ نخون نوعنا، أيها الزعيم الخالد؟ ـ وهل للموتى بطولات تذكر...، عدا شواخصهم تحت الريح!
[82] قرار ـ الأفعى تبتلع الفأر، الذئب يفترس الحمل، النمر يصطاد الغزال، والأسد ينهش الثور، والسيد المدير يتأملنا عبر أجهزة الرصد بلذّة، وشغف، ولا يحرك ساكنا ً! ـ كأننا في غابة، ولسنا في حديقة! لكن ماذا يفعل المدير...، وهو يعرف ان الأمور لو لم تجر هكذا، فانه سيطرد من عمله!
[83] جلود همس النمر في إذن زميله الحزين، وهو يتذكر كيف كان يجتاز حلقات النار، بخفة، ومهارة، وإتقان، أمام الجمهور الغفير: ـ آ ...، النسوة المترفات، الجميلات، يزددن زهوا ً وهن يستعرضن مفاتنهن بارتداء جلودنا! مثل بعض الرجال حولوا جلودنا إلى معاطف! ـ أنا لست حزينا ً لأن لنا هذه القيمة، والأهمية...، بل أفكر بالسؤال الذي لم يخطر على بالك: هل يحافظ هؤلاء، النساء أو الرجال، على جلودهم من السلخ، وهم يرتدون جلودنا الجميلة..؟! ـ آ .....، في الحرب الأخيرة، أنا شاهدت الجثث متناثرة تلهو بها الضواري! ـ بل قل: تفترسها! فلا تحزن لمن سلخ جلدك، وارتداه، فقد لا يجد حتى فرصة ان يبقى له جلد صالح للسلخ!
[84] النمر والموت صاح النمر: ـ أيها الموت، أرجوك لا تسرع، أرجوك خذني معك! ـ لم يحن دورك، أيها الضبع، بعد! ـ من السعيد الذي طلبك...؟ نظر الموت شزرا ً في عينيه: ـ أنا لا يطلبني احد، أو يستدعيني، فانا هو من يقرر! ـ أرجوك إذا ً ...، ارحمني! ـ مع إنني لا أود أن يمتد العمر بك، لكن قل لي: أين اذهب بالموتى؟ بحزن عميق قال النمر يخاطب نفسه: ـ حتى الموت لم يرحمنا! [85] السلحفاة والزرافة في صباح يوم ممطر، سألت الزرافة السلحفاة: ـ بماذا تحلمين...؟ ـ قسما ً بالماء والتراب، بالسمك والطحالب، بالرمل والحجر، أنا لا احلم ان يكون لي رأس أجوف كرأسك! ـ سأضاعف قسمك بباقي العناصر، وبكل رموز هذه الحديقة، ولا أقول لك إنني احلم برأس غاطس طوال الوقت، في الوحل! ولكن اخبريني ما الذي دعاك للغضب، والإجابة غير اللائقة ...؟ ـ زهوك! مع إننا نعرف انك ِ طالما تقومين بإخفاء رأسك تحت الأرض!
[86] بهدوء لطفا ً! لم يرفع الثور نظره عن الأقدام التي كانت تدك الأرض، فقد تحول صداها إلى دوي ّ، كأنه انفجار ألغام، أو سقوط قذائف، فود لو اخبر زوار الحديقة، ليس المشي بخفة، وشفافية، وعدم إيذاء التراب، وما تحته...، بل عدم إيذاء الجلد الذي يحمي أقدامهم! كانوا صبية، وصبيات، راحوا يتأملونه بشغف، وفضول. فود لو اخبرهم بحكاية الشاعر الذي أصغى إلى الاسكافي يقول له: لن اشترك بالحرب، فسأله الشاعر: كيف؟ أجاب: لن اصنع للجنود البساطيل! ضحك الشاعر، دار بخلد الثور، وأنا بودي ان اطلب منكم ان لا تصنعوا من جلدي أحذية تتباهون بها وانتم تمشون فوق رفات أسلافكم! [87] غربة رفع فرس الماء رأسه، ونظر إلى الطيور: ـ من منا أكثر سعادة...، المخلوقات الثقيلة، أم التي تحّوم في الفضاء...؟ قال الغراب الذي قرأ ما دار بباله: ـ لا تدعني اروي أسباب حزني، وأساي! فانا، قبل لحظات، كنت أحسدك على المستنقع الذي لا اعرف كم يمنحك السعادة، والمسرة! فقال فرس النهر بصوت متردد: ـ إذا كان من المستحيل استبدال أدوارنا...، لكن عليك، منذ الآن، ان تخبرني بماذا تحلم، كي اروي لك بما احلم..؟ قال الغراب: ـ آ .....، انك تثير مشاعري، يا فرس الماء، فانا منذ زمن بعيد لم اعد احلم إلا بوسيلة اكف فيها عن الأحلام! ـ غريب! ـ الغريب انك مازالت تشعر بالغربة!
[88] طيران نادى الأسد، من وراء القضبان، غزالا ً مر من أمامه: ـ نعم، يا سيدي، تفضل. رفع الأسد رأسه وقربه من الغزال مستمتعا ً باستنشاق رائحة البرية، والحقول، قائلا ً: ـ اذهبي إلى المدير...، واخبريه: أنا سأعود إلى التدريب على المناورة، اخبريه إنني سأتعلم سريعا ً، مثلما تعلمت الرقص على الحبال، فأنني سأتعلم الطيران! ابتهجت الغزال، وسألته بشغف: ـ وهل ستمنحني جناحا ً للقفز عاليا ً؟ ـ بل اقسم لك إنني سأعلمك كيف لا تعودين تشعرين حتى بالأرض!
[89] مجسمات سأل الدب الأبيض زميله الدب الأسود، في قفص الدببة ذات الألوان المتعدد: ـ اخبرني هل جاءوا بنا إلى هذه الحديقة للاحتفاء بنا، أم لمعاقبتنا...؟ أنا أتوا بي من القارة المتجمدة، وأنت من الجبال، وذاك من السهول، والآخر من الغابات، والأخير من المستنقعات...؟ لم يتفوه أحدا ً منهم بكلمة. فاضطر ان يلكم الدب الأسود بقوة، فوجده صلدا ً، لا يتحرك، ليكتشف انه صنع من الحجر. فتذكر فجأة: ـ وأنا في الطريق إلى هنا، رأيت أسدا ً فقلت لنفسي: ماذا يفعل هذا الحيوان في المدينة. ها، ها، كي أدرك الآن، أو بعد فوات الأوان، إنهم، بعد ان أموت، سيصنعون لي مجسما ً، لكن بلون الثلج!
[90] بذرة
في القفص الكبير، كان الببغاء يتأمل الطيور، بمختلف أنواعها. كان يقف بمحاذاة شريكته، فقال لها: ـ ما دمنا جميعا ً داخل هذا القفص..، فلماذا تسرف بعض الطيور بالزغردة، وبعض الحمامات بالهديل، وبعض البلابل بالتغريد...؟ أجابت بسلاسة: ـ آ ....، لو كنت أغلقت فمك بدل هذا السؤال العقيم..؟ قال لها بعد لحظات تفكير: ـ ترغبين بكلمة مفيدة، آ ...، لو تعرفين كم أعشقك! ـ أنا لم اطلب منك النطق بها! ـ آ .....، فهمت، إذا ً أنا احبك بسعة هذا الكون! ـ تقصد ...، بضيق هذا القفص؟ ـ آه ...، هكذا تنبت بذرة الشقاء، وتنمو، لتصبح معضلة كلما فكرنا بالحد من اتساعها ازدادت استحالة على العلاج!
[91] البقرة والثور ـ اقسم بالماء، والهواء، والحجر، والنار.. ـ لا تسرف بفضح يقينك المضطرب! فقال الثور للبقرة: ـ بل اقسم بالحديقة، وبهذه الأشجار! ـ كل ما تريد ان تقول يجعلني مضطرة إلى تصديقه، فماذا تريد ان تقول؟ ـ فكرت، انك، مع الأبقار السمان الأخريات، تنجبن العجول، للذبح...، فأي ظلم حد الجور هذا الذي لا نهاية له وقع علينا؟ ـ لا تحزن، نحن ننجب العجول، وهم يرسلون أولادهم للموت في الحرب! ـ كنت آمل ان اسمع منك كلمة تطمأن قلبي المضطرب، وعقلي الحزين! فانا كلما شعرت بدنو اجلي ازداد تهيجا ً ورغبة بك، يا بقرتي العزيزة! بعد ان شعر بالسعادة، والهدوء، قال يخاطب نفسه: ـ هم يرسلون أولادهم للموت في الحرب ...، بعد ان يسلخوا جلودنا، ويحولون لحومنا إلى وجبات شهية! قالت له: ـ هكذا تكون أكثر القضايا استحالة على الحل، قد اكتسبت شرعيتها!
[92] ماذا عنا؟ قال مساعد المدير لمديره: ـ من المستحيل على احد ان يجتاز أسوار الحديقة، او الفرار من قفصه، فقد تأكدنا من سلامتها، ولم نترك مكانا ً غير خاضع لكاميرات المراقبة، والرصد... نطق الببغاء الواقع بجوار المدير: ـ لا اخفي عليكما إنكما في وضع حرج! قال المدير: ـ ما العمل...، وهناك من يخطط لهرب! فسأل الببغاء المدير: ـ لِم َ تخف علي ّ ما ذكرته لي في وقت سابق...، الم تقل انك تبحث عن فرصة للهرب...، والبحث عن ملاذ آمن..، وانك لم تعد تحتمل البقاء...، فماذا عنا أيها السيد المدير؟
[93] مصائر ـ أمضيت شبابي في الصحراء، طليقا ً فيها، كأن الآلهة خصصتها لي، وأنا وجدت لها! وأضاف الذئب العجوز يحدث زملائه: ـ والآن لا أجد سوى مساحة لا تكفي حتى للموت! واساه احدهم: ـ ألا تتذكر إننا عندما كنا نتأمل السماء كنا نقول: كم هي شاسعة، ولا تحصى نجومها، وكواكبها، ثم سرقوها منا، فلا تنح على الأرض، يا صاحبي! فقال الذئب العجوز بصوت واهن: ـ أنا أخشى ان نفقد حتى الأمل بالبقاء في هذا القفص أيضا ً! ـ وهل ثمة أبشع من هذا الانتظار...؟ ـ اجل، ان تطلب الموت، فلا تجده!
[94] مستقبل ـ لا تفقد الأمل. قال الغزال للثور: ـ فحتى لو ذبحت، فالأبقار ستجد ثورا ً آخر. ـ هذه هي المشكلة، فانا عندما أمضيت حياتي اجر المحراث، قلت: ماذا سيفعلون بعد موتي؟ ـ وماذا حصل؟ ـ الأبقار ولدّن ثيران أقوى مني! فقال الغزال: ـ لا تكترث..، فانا ادعوك للموت بإرادة المنتصر، الذي حرث الأرض، وخاض الحروب، واشتبك في حلبات المصارعة، وجر العربات، مزهوا ً بقوته، فأنت عندما تموت منتصرا ً خير من ان تموت وأنت تدرك ان جلدك سيسلخ ليصبح أحذية! ـ آ ....، لم يخطر ببالي هذا أبدا ً...، فهل سيصنعون من جلدي أحذية حقا ً ـ ومحافظ، وبساطيل، وحقائبا ً، وربما ـ بسبب متانته ـ دروعا ً أو قربا ً، أو خيما ًللمحاربين! ـ لكن، أيها الغزال، لا أناقتك، ولا جمالك، ولا شفافيتك، تمنعهم من تناول لحمك اللذيذ! وتصبح من الماضي! ـ الم اقل لك دعك من الماضي...، لأن الماضي لا يلد إلا مستقبله!
[95] شماتة خاطب الصرصار التمساح: ـ كلما رأيتك أفكر بالصيادين! فقال التمساح بصوت غاضب: ـ لا تشمت...، فمن ولدت في الحضيض، لن يستنشق العطر!
[96] بيض خاطبت الدجاجة الديك: ـ الحقير، مدير هذا الجناح، يوفر لنا الطعام، والتدفئة، والرعاية، والعناية الصحية، كي يسرق بيضنا! بحزن أجابها الديك: ـ ومدير الجناح يقاسم المال مع مديره، بعد ان يبع البيض، والمدير، بدوره، يحرص على إرضاء الأعلى منه! ـ كل هذا بسبب البيض؟ ـ نعم، وليس بسبب صوتي، فانا أصيح، منذ أول الدهر، ولا احد أصغى لي وأنا ابكي وأنوح! قالت الدجاجة: ـ دعني ابيض...، فهو صوتنا الوحيد الذي يوفر لنا الطعام، وبعض الراحة! [97] عيد سعيد لمناسبة بدء السنة الجديدة، ذهب الفأر إلى الأسد، وخاطبه بصوت رقيق: ـ كم أتمنى ان تكون السنة الجديدة أكثر سعادة، ومليئة بالمسرات عليكم! حدج الأسد الفأر، متمتما ً: ـ وأنا كم كنت أود لو سمعت هذه الكلمات منك في الغابة!
[98]نصيحة مر الثعلب من أمام قفص النمر، في يوم شديد الحرارة، فراه يدير قفاه للزائرين: ـ لم أر نمرا ً في حياتي يدير قفاه لنا! كأنه يستعرض مهارات نجهلها! ـ أيها الجرذ! صرخ الثعلب: ـ بدأت تخلط، لأنك هرمت، وفقدت ذاكرتك! ـ لا...، لو لم يكن أصلك وضيعا ً..، لاحترمت هيبتي، ومكانتي، في هذه الحديقة! فقال الثعلب: ـ ولو كنت استذكرت ماضيك، أيها النمر، لأغلقت فمك ومت بوقار!
[99] صفحات استدعى المدير الذئب، بعد أحداث الاضطرابات التي حصلت مؤخرا ً، وطلب منه ان يأخذ قسطا ً من الراحة، بعد ذلك بوقت غير قصير سأله: ـ ماذا افعل لك أيها الذئب كي تستعيد مسرتك..؟ ـ لا تقدر أيها السيد المدير! ـ لا اقدر...؟ ـ نعم....، لأنني، أنا الآخر، عندما فكرت وسألت نفسي: ماذا افعل لك كي تستعيد هيبتك، وسعادتك، وجدت ان حديقتنا، لا تختلف عن البرية، في شيء...! فلا أنت تستطيع ان تفعل لي شيئا ً، ولا أنا استطيع ان افعل لك شيئا ً! ـ آ ......، كأنك تقول: كلانا لا يعمل إلا على محو الآخر، أو، بالمعنى نفسه: كلانا لا يعمل إلا على طوي صفحته! ـ أجل! ـ يا للهول! ـ لا تخف.؟..، لا تقنط، ولا تهن...، فهناك، صفحات لم تدوّن ستجد من ينجزها، بعد غيابنا أيها السيد المدير!
[100] دعاء ـ يا ربي متى تمنحيني الراحة، بعد هذا العمل الطويل الشاق، في هذه الحديقة...؟ أجاب الببغاء الذي اختاره المدير مساعدا ً له: ـ دعائك غير مستجاب، أيها السيد الموقر! سأله بصوت حزين: ـ لماذا لا يستجيب ربي لدعائي أيها الصديق العزيز؟ ـ لأنه لا يستجيب لدعائك باجتثاث الجميع، ومحوهم من الوجود في هذه الحديقة! وحتى لو فعل وساعدك على ذلك، كما فعل في مرات لا تحصى وأرسل الطوفان، والكوارث، وكما بعث الجذام والطاعون، وكما لم يضع حدا ً للفاسدين وأمراء الحروب وتجار السلاح......، فانه لن يتخلى عن حديقته إلى الأبد، ليعيد لها الحياة مرة ثانية، ولكن من غيرننا!
[email protected]
#عادل_كامل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصص قصيرة جدا ً/ مستعمرة الديناصورات
-
قصة قصيرة/ ممرات
-
في التشكيل العراقي/ غالب المسعودي
-
قصة/ شجرة من غبار
-
قصة قصيرة/ اعترافات كبش
-
قراءة في رواية وجع المدينة لعماد العبدلي
-
قصة قصيرة/ تتمات
-
في النحت العراقي الحديث/ منعم فرات
-
قصة قصيرة / لا احد سوى الجميع
-
قصة قصيرة/ في الطريق الى المنصة
-
قصة قصيرة/ كآبة بيضاء
-
قصة قصيرة/ غبار وكلمات
-
قصة قصيرة/ الوباء
-
قصة قصيرة/ المستنقع
-
قصة قصيرة/ الغائب معنا
-
قصة قصيرة/ اقتضى حضوركم!
-
المصيدة
-
الغزلان في السماء
المزيد.....
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|