|
-موراى- ساحر وهو لا يفعل شيئا!!
غادة عبد المنعم
مفكرة
الحوار المتمدن-العدد: 1354 - 2005 / 10 / 21 - 10:44
المحور:
الادب والفن
للممثل "بل موراى" وقع خاص فى النفس. فوجهه العادى الذي لا يتمتع بالوسامة أو التميز يستمد جاذبيته من كونه وجهاً مألوفاً ومن لمحة السخرية التى تراها فى عينيه. وجه يمنح صاحبه خفة تشي بأن هذا الشخص لا يأخذ نفسه على محمل الجد ، شخص ساخر يستخدم سخريته وسيلةً للتحرر من ثقل الحياة. فلـ "بل موراى" حضور خفيف، ولعل هذا الحضور الخفيف هو ما يمنح فيلم "زهور محطمة" مذاقه الخاص.
يتقدم "بل موراى" وفى يده باقة زهور وردية فخمة يقدمها للسيدة التى لم يقابلها منذ عشرين عاما وعلى وجهه ابتسامة مترددة ،قلقة. هل يمكن أن يسألها الآن اذا كانت هى أم ابنه ، هل يحدثها عن حمل أثقل به كاهلها منذ عشرين عاما ثم رحل. ينتهى المشهد وينتهى لقاؤه مع السيدة ليعود من جديد ويعيد الكرَّة مع سيدة أخرى. فمن امرأة كانت حبيبته لامرأة أخرى يستمر "دون" بطل "زهور محطمة" فى رحلته مكتشفا كم أصبح غريبا عما كانه يوما ، وكم أصبحت كل منهن غريبة عنه وعنها. من امرأة لأخرى تستمر رحلة بحثه عن ابن قد لا يكون له وجود، وعن ذاته التى ما عاد يحفل بها كثيراً.
فيلم جيم جارموش "زهور محطمة" يدور حول "دون جونسون" (يؤدى دوره بل موراى) الرجل الذى بلغ الخمسين بعدما تحقق ماديا ومعنويا ولم تعد لديه أي رغبة سوى فى الصمت والعيش في حالة سكون صوفى داخل بيته، حتى تتركه صديقته لأنها تشعر بأنها لا تمثل أي قيمة فى حياته، فيزداد استحكام الغربة حوله.
يتماس "دون" مع الحياة من وقت لآخر من خلال جاره الذى هو على طرف النقيض منه تماماً. فجاره الإثيوبى الأصل يعمل في ثلاث وظائف لكى يعول أسرته، ويتبقى لديه مع ذلك وقت إضافى ليقوم ببعض الأبحاث على شبكة الانترنت. يصل إلى "دون" خطاب وردى اللون يخبره بأن لديه ابن فى التاسعة عشرة من علاقة سابقة مضى عليها عشرون عاما، وأن هذا الابن يبحث عنه فى الوقت الحالى. ولأن الخطاب لا يذكر من هى الأم ولا أين هي، يضع "دون" في حسبانه أن الخطاب قد يكون مجرد مزحة سخيفة، خاصة أن اللون الوردى هو اللون المفضل للصديقة التي تركته. هكذا يحاول "دون" الاستمرار في الابتعاد أكثر فأكثر عن الحياة والاستغراق فى عزلته. لكن جاره المتيم بالحياة يبحث له عن عناوين صديقاته والنساء اللاتى عرفهن منذ عشرين عاماً، ويحثه على زيارة كل واحدة منهن وهو يحمل باقة زهور وردية ، ليستشف من استجاباتهن الحقيقة ويعرف من هي أم ابنه.
يمضي "دون" في رحلة بحث عن ابنه. وفي الوقت نفسه يمضي الابن في رحلة بحث عن أبيه. يتنقل "دون " بين نساء ماضيه اللاتي يقابلنه غالبا بابتسامة وترحاب لا يتفقان مع لامبالاته وسكونه الواضح. يستمر فى رحلته ، وعند كل واحدة منهن يجد شيئا وردى اللون. عند كل واحدة منهن يجد دليل إثبات ودليل نفي. وعند كل واحدة يتجدد شكه حول هذا الابن الذى ظهر فجأة والذى قد لا يكون له أى وجود حقيقى.
هكذا ، يبدأ الفيلم وينتهى من غير أن يصل البطل والمشاهد إلى يقين،. كل شيء واضح أمام عيني البطل " دون جونسون" لكنه رغم ذلك لا يرى. لأن عدم الرؤية لا يقبع فى الخارج لكنه يأتى من الداخل، يأتى من رفضه أو من عدم رغبته فى الرؤية. وقد نجح المخرج جيم جارموش في التعبير عن "اللا أدرية" ، حين اختار تنفيذ فيلمه فى كادرات مضيئة بلا ظلال ولا ظلام ، كادرات تبدو كأنها تظهر كل شىء بينما تبقى الحقيقة كما هى فى الحياة الواقعية خفية تحركنا كالموتى فنتناقض بقوة مع سطوع الشمس وجلاء الألوان من حولنا.
ولعل أداء "بل موراى" هو الذي منح هذا الفيلم مذاقه الحقيقي. فبلا حضوره الذى يوحى لك بأنه موجود وغير موجود فى الوقت نفسه ، ربما ما كان من الممكن أن يحصل الفيلم على جائزة كان الكبرى. ويتمثل جزء كبير من عبقرية المخرج جيم جارموش فى هذا الفيلم فى التركيز على ارشاد الممثل حيث يكاد يخلو فيلم "زهور محطمة" من أى تكنيكات مبهرة، بينما تتحقق متعة المشاهدة من هذا التضاد بين أداء بيل موراى الساكن وأداء الممثلات اللاتى لعبت أدوار صديقات الماضى " جاسيكا لانج ، شارون ستون ، فرانسيه كونرى ، تيلدا سوينتون " مما يذكرنا طوال الوقت بأنهن متورطات فى الحياة بينما هو ميت فى عزلته وصمته ..فى هذا الفيلم كما ذكرنا سابقا لدينا فقط صورة واضحة وإضاءة ساطعة بلا أى ظلال أو مناطق معتمة. ليس هناك إضاءة شبحية أو ضباب يواري الوجوه. باختصار، لا وجود لتلك التقنيات التى تستخدم للتدليل على الحالة النفسية للشخصية المنعزلة ، فالمخرج جيم جارموش يعبر عن عزلة بطله - فقط - من خلال أداء "موراى" الرائع. وهو اختيار ذكى من جيم جارموش يدلل على مخرج يملك قدر كبير من الوعى مخرج يدرك التناقض بين ثنائية الحياة التى تبدو من الخارج واضحة وضوح الشمس بينما تكمن داخلها وداخلنا تلك الزوايا المعتمة التى يستحيل علينا أن نراها.. يبقى فى النهاية سحر بل موراى السحر الذى يحدثنا عنه الناقد السينمائي "روجر إيبرت" بقوله إن "موراى هو الممثل الوحيد الذى لا يفعل شيئا ويبدو ساحراً وآسراً وهو لا يفعل شيئا".
#غادة_عبد_المنعم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لحظات ما قبل الموت ..عن الإنتحار، المخدرات والوهم !!
-
بولانسكي يقلب رواية ديكنز إلى ملحمة يهودية
-
الصحف الخاصة تلعن الحكومة وتغازل كفاية والإخوان
-
فى مصر..الصحف الخاصة تلعن الحكومة وتغازل كفاية والإخوان.
-
بريطانيا قتلت جده وبلير عينه مستشاراً.. طارق رمضان المثير لل
...
-
ما رأى فضيلته فى مأساة فلسطين ومحنة العراق..؟!
-
أمم تعشق السادية وتستمتع بالكهنوت..!
-
سيد قطب ورامسفيلد تخرجا من مدرسة -يهودية- واحدة..
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|