|
ذكريات من غياهب الزمن المر !
علي سعد زيني
الحوار المتمدن-العدد: 4918 - 2015 / 9 / 7 - 20:41
المحور:
مقابلات و حوارات
كل بني البشر في أرجاء المعمورة يملكون في حواضر ذاكرتهم جزءا مشرقا وآخر مظلما كما اسوداد ليلهم فمن عجائب الزمن نجد أن الذكريات السعيدة فيه تنتقل إلى عالم الماس .. والذكريات المؤلمة تنتمي إلى عالم البرونز ، نعم انه عالم البرونز! الممزوج بين شجون الماضي وصخب الحاضر وبريقه الكاذب فتظهر الذكريات المؤلمة بقوام شبيهة بهذا العنصر عبر التقادم الزمني ، فيمكن للذكريات الأليمة أن تتحول إلى مدعاة فخر ذات يوم أو إنها تكون لحظة مكاشفة صادقة مع الذات الإنسانية ، وقد يختلف معي البعض وقد يتفق آخرون مع منظوري الافتراضي لعوالم الذكريات فبالتالي كل وجهات النظر نصيبها الاحترام . كانت تلك المقدمة التي كللتُ بها مقالي المتواضع استرشاداً لما سرده لي النَسيب العزيز الدكتور "عمار الشماع " ومما علق بأديم ذاكرته عن أواخر الحقبة المظلمة التي شهدها العراق وبالتحديد في العام 1998 في أيام الحملات الصدامية التعسفية لعسكرة المجتمع وإذلال الناس وإيقاف عجلة المسيرة العلمية وتحت مسمى أجوف هو " يوم النخوة " .. ففي احد تلك الأيام حينما كان عائدا إلى منزله وبعد أن نزل من باص الأجرة أكتشف خطبا خطيرا ألا وهو فقدان محفظته الجلدية وفيها أهم مستمسك وهو دفتر الخدمة العسكرية فأصابته أقصى درجات الهلع من جراء ذلك الخطب ، فتوجه صباح اليوم التالي إلى دائرة تجنيد الأعظمية الثانية في منطقة شارع المغرب والتي تعرف سابقا بــ "محلة نجيب باشا " وذلك نسبة إلى اسم والي بغداد العثماني الذي كان يسكن تلك المنطقة آنذاك لإصدار دفتر جديد خدمة بدل الضائع , وبعد عناء طويل واستنساخ وروح وتعال لمدة يومين دون جدوى ، جاء أحد الأشخاص إلى منزله عاثرا على المحفظة المفقودة ومعها دفتر الخدمة العسكرية ، لكن سوء طالعه الفلكي كان له بالمرصاد ، فقد قرر في اليوم الثالث الذهاب إلى دائرة التجنيد ليخاطب الدائرة المعنية بأنه قد وجد دفتر الخدمة المفقود ولكي يؤشروا له الدفتر ، فقد جرت العادة أن يتم تأشير الدفتر بعد سنة التخرج فقد أعطاهم دفتر خدمته عن طيب خاطر ظنا منه انه سيتم تأشير الدفتر له في اليوم الرابع، لكن حصل ما لم يكن بالحسبان إذ انه اكتشف في اليوم الرابع وبعد مراجعته لدائرة التجنيد إن الدفتر قد اختلط مع دفاتر الجنود المساقين إلى معسكرات التدريب والدفتر تم إرساله مديرية التجنيد العامة ,ورجع بذلك إلى نقطة الصفر فعليه الآن إصدار دفتر جديد مع الرشاوى والسجائر فكان كل سؤال عن الإجراءات يجب أن يكون معه علبة سجائر أو 50 دينار أو أقلام ، إذ إن هذه المراجعات كلفته خسارة حضور محاضرات " كهربائية القلب التي يلقيها البروفيسور العراقي " حكمت الشعرباف " في كلية الطب جامعة بغداد ، فإن عدم حضور الطالب يعني عدم فهم تلك المحاضرات المهمة . انتابه إحباط شديد من جراء حظه العاثر فإذا به بعد برهة من الزمن يكتشف إن بناية تلك الدائرة هي بيت بغدادي قديم أو فيلا مكونة من طابقين عائد إلى أحد أثرياء اليهود الذين هاجروا بشكل أو بآخر من العراق في أربعينات القرن المنصرم ، بطابوقها (الݘ-;-ف قيم ) ويحيط أركانه ال (الپاد كَير ) واحتوائه أيضا على ( الفاير پلَيس ) مع حديقة حول البيت ونافورة تتوسط المنزل ، ففي قمة ذلك اليأس وما يشوب المكان من زحام وضوضاء الجنود المرحلين إلى المعسكرات وبين المراتب المرتشين العاملين في تلك الدائرة سرق نفسه من نفسه إلى عوالم الخيال وأغمض عينه وسط تلك الشجون إلى درجة انه لم يعي مآسي ذلك الواقع الذي من حوله وتخيل الحياة في ذلك البيت قبل سبعون عاما وكيف أن الأطفال ببراءتهم يلعبون ويركضون حول النافورة وفي مشهد آخر كان والدهم يقرأ بجريدة ويحتسي فنجان قهوة بينما ربة البيت مع خادمتها الأرمنية في المطبخ تحضر وجبة الفطور ، والسائق السيخي الذي يغسل السيارة في المرآب ، ومن ثم غرفة استقبال الضيوف الحاوية في أحد أركانها على موقدا للخشب في ترف ملكي لم ولن يعود في أيامنا هذه ،وبالطبع انه لم يغفل عن البلاط والذي كان من الرخام والذي كان يحوي على نقوش وزخارف هندسية منقوشة بإتقان إضافة إلى الأشكال السداسية وليس بالضرورة أن تكون نجمة داوود ، تأمل السلالم والمحجرات وقضبان النوافذ المصنوعة يدويا من كثرة نقوشها و إلتواءاته ، حتى مرزاب مياه الأمطار الذي يمتد الى واجهة البيت ككل البيوت البغدادية القديمة قد وضع له إطار حديدي في بدايته ونهايته منقوشا بنقش شجري بديع ، فبينما كان يتجول بين أركان المنزل ذلك المنزل كأنه صديق هذه العائلة بانتظار ربة البيت وهي تقرع الجرس إيذانا لموعد تناول الفطور ، فجأة صحا من حلم يقظته على صوت نشاز كان هذا صوت النائب عريف في دائرة التجنيد الذي مسح كل تلك الصور من مخيلته قائلا له : " هاي شجابك هنا !! ، ممنوع خالي ، انزل جوه " طالبا منه النزول إلى الحديقة أو بقايا الحديقة في الطابق الأرضي ويبدو أن الحظ ابتسم له هذه المرة فقد استطاع أن يجد دفتر الخدمة العسكرية القديم الذي اختلط مع دفاتر الجنود المساقين إلى معسكرات التدريب وذلك من خلال وساطة احد جيرانه الذي كان برتبة نقيب في المديرية العامة للتجنيد الذي استطاع أن يخلصه من دوامة تلك المراجعات . وبعد مرور خمس سنوات تغير الزمن كل الزمن وتغيرت كل ملامح المنطقة ، فكل شي انهار حتى الصنم ، فكلما مر الدكتور "عمار الشماع " بشارع المغرب يلتفت إلى ذلك البيت البغدادي القديم ويبتسم ابتسامة مشرقة وبمعيتها تنهيدة عميقة وهو يتخيل الأطفال وهم يلعبون حول نافورة المنزل دون كلل أو ملل منذ خمسة وثمانون عاما وحتى هذه اللحظة . فالعبرة من تلك القصة إننا شعب لا يحب الحفاظ على ارثه التاريخي ولا يتعلم من تجارب التاريخ ولا نشعر بوجود تلك المعالم وقيمتها التاريخية إلا بعد إزالتها من الوجود ، ولدينا رغبة عارمة بتدمير معالم الأزمنة السابقة إضافة إلى ذلك أن هناك أيادي خفية لديها أجندات خارجية تشجع مثل هكذا ممارسات تهدف إلى طمس المعالم في مختلف المدن العراقية مسخ الهوية الثقافية والحضارية للعراق العظيم .
#علي_سعد_زيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اللامنطق هو منطق زماننا !
-
لسان دَلالَة !
-
خليها سكتة يا لفتة !!
-
الإنسانية بين مطرقة التأسلم وسندان الإلحاد !
-
في أروقة العالم الكحلي !
-
ماذا لو ؟
-
العودة الى المعقل الأخير
-
دايخ بزمن بايخ - توليفة عراقية -
-
وداعا مقبرة الأحلام ...
-
الحرب على الأبواب !
-
متيمة بالعراق !
-
مليكة المساء
-
جاسمية المصيبة صاحبة الخلطة العجيبة !
-
وللشتاء فصولا لاتحكى !
-
رحلة في كوكب اللامكان
-
ثيروقراطية أم ديموقراطية ؟
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|