والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثالث عشر )

فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 4916 - 2015 / 9 / 5 - 17:11
المحور: الادب والفن
    

لم يفضِ نقاشي مع شيرين إلى شيء في ذاك اليوم. حكت لي عما حدث وكم هي متخبطة وحائرة . ورغم كل عيوب أستاذها( مختار) ودأبه على تجاهلها وإهانتها فإنها لا تفهم سر انجذابها ومقاومة حضوره الجارف.

سقط حديثها على رأسي كالصاعقة. ووقفتُ عاجزة متألمة أمام عنادها وتمسكها به .

ما الذي يجعلها سعيدة حالمة، لا تشعر بالخجل وهي تروي لي تلك الفظائع منه، التي تطورت إلى علاقة غريبة وشاذة ؟ كأنها تصف لي مشاهد رومانسية ناعمة وهي تحكي لي كيف كان يضربها ويعذبها، وكلما ازدادت قسوته ازدادت تمسكاً به، سلوكيات جنسية غريبة مذِلّة مهينة، تمنحه المتعة الكبيرة وهي مستسلمة مذعِنة، كأن يبول على جسدها العاري، أو يجذبها من شعرها أو يقيدها من معصميها. ممارسات جنسية سادية غير سوية، وعلاقة غريبة أذهلتني ولم أكن أملك حيالها شيئاً.

باتت أسرارها حملاً كصخرة ثقيلة على نفسي لا أستطيع مواجهة نديم بها، أو أن أساعدها، خاصة وأن علامات شحوب بدأت تظهر عليها، لم أعرفها في تلك الوردة الندية المتفتحة على الحياة . لا شك أني أخطأت في عدم إبلاغ نديم، لا سيما بعد أنها أدمنت الخمر بتشجيع من أستاذها، الذي أوهمها أن الخمر سوف يجعلها تحب ما تفعله، وسترى فيما يفعله معها شيء جميل ممتع لا تستطيع أن تحسها وهي في حالتها العادية ! وهكذا .. أصبحت تحمل أحياناً في حقيبتها زجاجة فيها نوع من الخمور أظن أنه ويسكي، وتجرأتْ في آخر مرة زارتني، عندما علمتْ أن أشرف غير موجود في البيت، أن أخرجت علبة سجائر وقارورة معدنية فاحت منها رائحة الكحول، وكانت تشرب منها مباشرة وتدخن.

يومها أحسست أني تأخرت فعلاً في إبلاغ نديم، وأن الموضوع أفلت من يدي، وأني بدلاً من أن أكون الصديقة أو تعويضاً عن الأم، كنت كالمشجع لها بصمتي على زللها، ولم تعد تسمع توجيهاتي أو نصحي . كذلك ساهم غياب الست نبوية بسبب مرضها، التي كانت بمثابة عيون لي على شيرين، في جهلي موضوع إدمانها للكحول، حتى ظهرت علامات الشحوب والهزال عليها، ثم عندما أصبحت تأتيني وهي مخمورة بلا خجل.

هنا .. كان لا بدّ من مواجهة عنيفة بيننا في نقاش حاد:



- دي آخر مرة بحذرك فيها يا شيرين لازم تبعدي عن الراجل المجنون ده.

- ولا تحذريني ولا حاجة انا مش حاقولك حاجة تاني ومش حتشوفيني كمان.

وسحبت حقيبتها ونهضت بعصبية، ولكن ساقيها خانتاها، فوقعتْ على الكرسي وظلت جالسة حتى تتمالك قواها، كأنها تحاول إخفاء ما حدث، وتحدّق بي كأنها تقول هاتي ما عندك..

نظرت لها بعطف وأسى، ورثيتُ شيرين الوردة الحلوة التي كانت ضحكاتها وشقاوتها وفنها يملأ الدنيا.

فردت وهي تحاول المقاومة بعد أن وصلت لحالة من الوهن الشديد:

- إنتي ليه مش عايزة تصدقي إنه بيحبني وانا بحبه ؟ ليه متصورة إنه بيستغلني ؟ لو كنت مش عايزة ده كله يحصل كنت رفضت لكن انا كده وعاجبني هو على كده.

فاستنكرت قولها:

- وهي دي طريقة حب؟ إندفاع وجنون وتهور وتضيعي نفسك وحياتك مع راجل أد أبوكي وعلى فكرة عمره ما حيتجوزك، ده لو كان يهمك الارتباط به.. عارفة ليه !! لأنك مجنونة وهو أجن منك.

ردت وعيونها ونظرتها تمتلىء بالتحدي:

- وانتي عملتي إيه بالعقل؟ هه؟ عمرك ما عملتي إللي نفسك فيه.. عشتي بالورقة والقلم وفضلتي محبوسة جوة علبة المثالية.. بتتفرجي عالحياة من ورا حاجز زجاجي، وحتى ما اتجوزتيش الراجل اللى انتي بتحبيه فعلا !! ورحتي اتجوزتي راجل تاني علاقتك بيه باردة زي الورد البلاستيك شكلها حلو لكن لا ريحة ولا حياة وهربتي من حبه.



نظرت لها والدهشة تملؤني، ووجدتُني أنظر حولي بخشية أن يسمع أشرف هذا الجنون، كأنها أرادت استخدام سلاح الهجوم علي لمقاومتي والدفاع عن نفسها. حاولت ان أحتفظ بهدوئي وقلت:

- وده مين بقى يا ست شيرين الراجل اللى بحبه؟

فعاجلتني بالرد الفوري:

- نديم!

صعقـْت من ردها، قلت لها وأنا أرسم ابتسامة سخرية واستنكار:

- نديم طول عمره أخ لي واللى انتي بتقوليه ده كله محض وهم.. إنتي تعبانة والراجل ده مغرقك معاه في عالم كله جنون وهلوسة، وانتي مصدقاه وعاوزة تدخَّلي العالم كله جوة الإطار اللى هو محدده لك.

- أنا مرتاحة كده ومش هاسيب مختار مهما حصل.. موّتوني بقى، على فكرة أنا خلاص عندي عشرين سنة.

نهضت ثم سحبت حقيبتها بعصبية واتجهت مترنحة نحو الباب ، خرجت وصفقته خلفها، وتركتني بين حيرتي حول إمكانية مساعدتها على إنهاء هذه العلاقة الغريبة ليكون خلاصاً أكيداً لإدمانها، وبين ... آه ~ حتى أنتِ يا شيرين؟ كيف تخيّلتْ أني كنت أحب نديم، وأني لم أتزوج أشرف إلا للهرب من حب نديم !!



طيب يا سلوى، الناس رأت العيون الغرقانة ببعضها، وأنتما تغنيان والكف بالكف وأنتَ كذا وأنتِ كذا .. هل نسيتِ؟ ما ذنب الناس إن كانت عيونهم في وجههم لا في ظهورهم؟

خشيتُ على شيرين من الانهيار وشعرت أنها مسؤوليتي، والمشكلة أني لم أستطع منذ البداية أن أحكي لأشرف عنها لكي يساعدني في التفكير وفي كيفية مساعدتها وحلّ مشكلتها، لأني وعدتها بأن لا أبوح بأمرها لأي مخلوق، كذلك لم أكن أحب طريقة أشرف في تناول الأمور الحياتية، فقد كان واقعياً لدرجة مزعجة، يقوم بتحليل الأمور كما لو كانت موضوعاً سياسياً جافاً، وحتماً كان سيُصِرّ على مصارحة نديم بكل الحكاية، حتى لو تسبب هذا في قتله حزناً عليها، لذا لم ألجأ إليه منذ البداية، وكذلك لنديم طبعاً، رغم إحساسه أنها تمرّ بشيء غير طبيعي، وتوصياته لي قبل سفره الأخير أن أظل بجوارها وأضع عيني عليها. أصبحت حائرة بعد أن اتضح لي أنها لا تتوقف عن شرب الخمر ليل نهار، وبالتأكيد سوف تُفصَل من الكلية لو تم اكتشاف أمرها هذا.

يجب أن يعلم أهلها لعرضها على الأطباء لتتعالج من إدمان الخمر.. ومن هذا الرجل.



لم يمر حواري مع شيرين هكذا بسلام، فقد أرقني ليالي طويلة. كنت أستعيد فيها تفاصيل قديمة وأعيد تفسيرها وتحليلها، في محاولة لإثبات أني لم أكن مخطئة في حكمي على الأمور، وأن نديم لم يحبني يوما كامرأة، بل كأخت وصديقة.

تمكّنت فكرة حب نديم لي من عقول الأصدقاء والجيران، ولن أنسى عندما قررنا استبدال بيتنا بعد وفاة والدي وقد أصبح كبيراً علينا، ببيت أصغر، يتناسب مع ظروفنا المادية المتواضعة، تطوّعت يومها صديقتي العزيزة بنت الجيران ميرفت لمساعدتي في ترتيب حاجياتي. وكانت متأثرة جداً لفراقنا، فلنا ذكريات مشتركة كثيرة، في طفولتنا، في مدرستنا، واستذكارنا الدروس معاً، كذلك كانت والدتها صديقة لوالدتي، وتعاهدنا على ألا تشغلنا الدنيا عن متابعة التواصل أبداً. في يوم الانتقال إلى البيت الجديد، أصرّ أيضاً مدحت أخو ميرفت الأكبر منها، أن يكون إلى جانبنا. وجاء نديم ليقدم خدماته كالمعهود عنه، وشهدت أمي منافسة كبيرة بين الشابين على مساعدتها في إظهار الشهامة والنبل وحسن التعاون.

وفي اليوم التالي بعد أن استقر أمرنا في البيت الجديد فوجئت بأمي تسألني:

- سلوى، هو نديم بيحبك؟

فقلت:

- إشمعنى يعني؟ ليه بتسألي دلوقتي يا ماما ؟ حصل حاجة غير عادية؟

فضحكت أمي وقالت:

- هو انا أسأل سؤال، يترد عليا بمليون سؤال!! ثم أنا بسألك لأني لاحظت غيرته من مدحت وكمان يومها كان بيتصرف كأن له فينا أكثر من مدحت.

ثم أكملت:

- وحياتك ياسلوى نديم ده جوهرة وياريت يكون فعلا من نصيبك يابنتي، رغم أن مدحت إبني برضه ومتربي في بيتنا لكن نديم حاجة تانية..

ثم صمتت قليلاً وعادت تقول وعادت تقول كأن الفكرة تأكدت في رأسها:

- بس يا سلوى متهيألي بيحبك.!!

رددت بابتسامة لكن بحسم:

- متهيألك يا أمي متهيألك.



حتى أمي تريدني أن أعترف بأن هناك ما يجب استشفافه من سلوكياته وكلماته.

وأمي كانت تعلم برغبة والدة مدحت بطلب يدي له بعد أن تخرج من الكلية الحربية، واستسمحتها بتأجيل الموضوع إلى أن أكمل دراستي، ورفضت ما يسمونه " ربط كلام " لأن لا أحد يعلم ماذا يخبىء المستقبل. وحاولت بدوري أن أنكر أمام ميرفت حب نديم لي. أذكر مرة وكنا نتسامر ونحكي عن الفتيان في النادي، تقول لي بخفة دمها المعهودة وهي تمسك بخصلة من شعرها الأسود الطويل وتضعها تحت أنفها على هيئة شنب:

- أحلق شنبي إن ما كان نديم بيحبك.

فكنت أضحك على طريقتها ثم أقول مستنكرة:

- بطلي عبط، أنا ونديم أصحاب.. أصحاب فقط، زيي أنا وانتِ.

لكني كنت وقتها أشعر أن نديم يغار من مدحت، الذي كان يتباهى ببدلته العسكرية حين كان يأتي أيام الخميس والجمعة والعطل الرسمية، فيتجول بها رغم أنها كانت تشكّل عبئاً لأنه كان يرتديها طوال الأسبوع، ، وكان لابد في كل اجتماع في النادي في عطلة نهاية الأسبوع أن ينتهي لقاء نديم ومدحت بمشادة رغم هدوء طباع نديم. شيء ما كان يثير حفيظة نديم في وجود هذا الشخص بالذات.

كنت أنكر حب نديم لي. هل كنت سأسأله مثلاً : هل تحبني يا نديم؟ أو أن أدفعه بطريقة ما ليعبّر عما يجيش به عقله وقلبه؟ لا لا ~ لست أنا من تفعل هذا . كنت دائماً صادقة معه، خطاً مستقيماً وما زلت، وقنعتُ بأن يظل نديم في حياتي الأغنية التي أغنيها همساً، ولا يسمعها أحد سواي.

***

في إحدي الليالي وبعد عودة نديم من السفرة الأخيرة، وكان جالساً مع والده بالشرفة، دخلت شيرين مسرعة نحو غرفتها، فانتاب أبوها القلق فهذه لم تكن عادتها. كانت تلك الفتاة المرحة التي تطلّ عليهم وهي تدندن، أو تلقي النكات وتجلس على حجره كطفل صغير مدلل، لكنها أصبحت متجهمة مؤخراً، كأنها تخفي شيئاً، فتختصر الكلام وتتحدث في أضيق الحدود وترد باقتضاب، كما لو كانت تفرّ من علاقة أبيها وأخيها، أوتريد أن تقلل الاحتكاك بهما .

طرق نديم باب غرفتها الذي أصبح دائماً مغلقاً، ثم دخل دون أن ينتظر ردها، وجدها جالسة على أحد جانبي الفراش ووجهها مليء بالعلامات الزرقاء وآثار كدمات على ذراعيها وكتفيها، فوقف مذهولاً وصرخ:



- مين عمل فيكي كده ؟

فلم ترد بل سالت الدموع من عينيها، ثم ارتمت في حضنه وبكت بكاءً مراً، وهي تقول:

- مختار طردني وقال لي مش عاوز أشوف وشك تاني.

صمت نديم برهة وكأنه يحاول أن يتحقق من أنه سمع بهذا الاسم من قبل أم لا، ولكن حين لم تسعفه ذاكرته أبعدها قليلاً ونظر في وجهها المشوه بالكدمات:

- مختار مين ؟

فأفاقت شيرين وتبينت أنها تتحدث لنديم، فقالت بضعف:

- فين سلوى أنا عايزة سلوى..

ثم خارت قواها فحملها نديم ووضعها في الفراش وتركها لتنام، واتصل بي وقال بلهجة جادة وحزينة:

- إزيك يا سلوى، معلش أنا عارف أن الوقت مش مناسب بس ممكن أقابلك في المقهى بعد نص ساعة ؟ محتاج أتكلم معاكي، أو لو ماكانش يضايقك تعالي عندنا هنا في جاردن سيتي نشرب قهوة ونتكلم.. الموضوع يخص شيرين.

صمتُّ للحظات، وشعرت أني مدلاة من ساقي وأغوص في بئر عميقة، ثم حاولت ألا يظهر الارتباك على صوتي. كنت نويت أن أحكي لنديم بعد استراحته من السفر، لكن شيرين لم تمهلنا، قلت:

- حمد الله عالسلامة، أوي أوي أنا جاية عالبيت ، إزيّ أنكل توفيق ؟ سلم لي عليه لحد ما أشوفه.

ثم أغلقتُ سماعة التليفون بينما أنفاسي تتلاحق وأشعر بخوف شديد، ولا أعرف كيف سأجيبه لو علم أني كنت على صلة بموضوع علاقة شيرين بأستاذها منذ البداية ولم أصارحه به.



حين وصلت إلى بيت نديم كان هناك مجموعة من الأطباء. أحدهم من أصدقاء والد شيرين ويعتبر أشهر أطباء المخ والأعصاب في مصر، وكان توفيق بك يجلس بينهم في البهو حائراً، وقد بدت على وجهه بشدة علامات السنين، وارتسمت على وجهه كل أحزان العالم، رفع عينيه إليّ حين دخلت وقال بلهفة كمنْ وجد قارب نجاة:

- سلوى حبيبتي شوفتي شيرين جرى لها ايه!! في واحد ضربها وسرق شنطتها والبنت نجت من إيده بصعوبة.. لو شفتيها تصعب عليكي.. نديم جوة معاها.

دخل الأطباء إلى غرفة شيرين، وجلست أتحدث إلى توفيق بك لبرهة محاولة أن أطمئنه، ثم بعد ذلك دخلت إلى غرفة شيرين وفتحت الباب بهدوء، فوجدت مجموعة الأطباء ملتفين حول فراشها، صديق والدها الدكتور ألبير يناوشها بنكاته أثناء توقيعه الكشف عليها، وترد هي عليه بوهن شديد. ثم اتجه نديم نحوي مرحّباً، كانت راقدة بجسدها النحيف الذي تحول بياضه إلى شحوب واصفرار، وقد أغمضت باستسلام عينيها الزرقاوين، وتحت عينها اليسرى دائرة زرقاء داكنة، وفي رقبتها آثار جروح غالباً بسبب أظافر، وعلى كتفيها آثار أخرى.. فتحت عينيها وحين رأتني تبادلنا النظرات، فسالت دموعها غزيرة بللت وجهها ، فنظر لها نديم وابتسم وقال:

- طبعا مش سلوى هنا؟ لازم ندلع بقى ونعيط، حبيبتك بقى والصدر الحنين.

ابتسمت ومسحت دموعها، وكان الأطباء قد انتهوا من عملهم والتفت لها الدكتور ألبير وقال مازحاً :

- شكلك حتيجي عندي شوية في المستشفي أدلعك انا كمان.

حين خرجوا من الغرفة بصحبة نديم، اقتربت منها وسألتها:

- إيه اللى عمل فيكي كده؟ هو؟

أومأت بالإيجاب وقالت بتوسل:

- بس وحياتك ما تقوليش لنديم، أنا مسامحاه مش زعلانة منه.. المشكلة انه مش عاوز يشوفني تاني.

فقلت لها بعصبية :

- يعني أروح أقتلهولك؟ إزاي يعمل فيكي كده؟ وإزاي ما نقولش لنديم .. ولحد إمتى حنفضل مخبيين عليه؟ بصراحة الموضوع بدأ يدخل في الخطر وأنا خايفة عليكي. ثم استطردتُ:

- أنا خايفة عليكي مش منه لأ.. من نفسك.. يا شيرين إنتى بتتصرّفي بجنون، وزي الأعمى لا تري أي شيء يدور حولك.

في هذه اللحظات دخل توفيق بك مندفعاً نحو فراش ابنته وخلفه نديم، وكان الأطباء قد انصرفوا، قال وهو يقاوم البكاء:

- يعني أنا ما عرفتش أحافظ عليكي؟ أمال أنا جايب لك سواق ليه؟ الولد ده لازم يترفد.. كان فين لما حصل لك كل ده؟

ففزعت شيرين وقالت مدافعة:

- لا لا يابابي أنا كنت لوحدي العربية كانت معايا وأنا اللى قلت له عايزة أسوق النهاردة.

- يبقى لازم نبلغ البوليس

- يا بابي أرجوك أنا هبقى كويسة.. خلاص والبوليس هيعمل إيه؟

نامت شيرين تلك الليلة بعد نوبة من البكاء الحارق كنت أحتويها بين ذراعي وكان نديم يجلس على الأريكة في الغرفة أمامنا واجماً، تأمّلها بشك، ثم نظر إلي لعله يستشف شيئاً من تعبيرات وجهي، وبدا كأنه يؤنب نفسه أنه انصرف عنها مؤخراً وأهملها.

أحكمت الغطاء عليها وأطفأت النور وخرجت وعقلي يدور كماكينة.. كيف سأرد على أسئلة نديم واستجوابه الذي سأتعرض له في الدقائق القادمة ؟؟

ذهبنا لنجلس في الشرفة واقترح أن نشرب الشاي فوافقت. وكما هي عادة نديم لا يحب أبداً أن يتسبب في حرج لمن يتعامل معهم، فحتى لو كانوا أناساً هامشيين في حياته، يظل يعتذر ويقدم الأسباب قبل أن يسأل أو يستفسر عن أي شيء.

ولكي أختصر الطريق وأنا أعلم أني لن أستطيع أن أخفي عنه مهما طال الوقت، لأن نديم يفهمني دون أن أتكلم، فضّلت أن أكون المبادِرة بإخباره بدلاً من ترْكه محتاراً، فقلت له وفي صوتي شيء من التردد:

_ أنا عارفة إنك عاوز تعرف إيه اللى حصل لشيرين ، وعارفة إنك منتظر مني إني أحكي لك بنفسي.. كل الحكاية إني وعدتها ألا أبوح بأي حرف وما كنتش عاوزة أخلف وعدي لها.

قال بحزن وهو ينظر لي بعتاب:

- أنا مش أي حد، وانتي عارفة شيرين إيه بالنسبة لي يا سلوى، إحكي لي أرجوك وما تعذبينيش أكتر من كده، على فكرة الدكتور ألبير قال إنها مدمنة، وإننا لازم نجبرها على دخول المستشفى، وطبعا بعد ما تتعافى لازم تتعالج نفسيا.

حكيت لنديم القصة كاملة، فانهار بكاء وألقى اللوم على نفسه أن اضطر لتركها والسفر من أجل عمله.

مسكين نديم.. في نفس هذا اليوم أخبروه أن أحد أفلامه قد فاز بالجائزة الأولى في إحدى المسابقات العالمية للفيلم التسجيلي، هذا الفيلم قام بتصويره بمنطقة عين الصيرة، وهي حيّ من أفقر أحياء القاهرة، كان يحاول من خلاله أن يرصد إلى أي حد من البؤس الانساني وصل الفقر بسكان هذه المناطق.. ولحساسية كاميراته وخصوصية نظرته للأمور وصدقه وإنسانيته وفنه وعطائه غير المحدود .. فاز بالجائزة وكان ينوي أن يقيم احتفالاً لطاقم الفيلم بهذه المناسبة،لولا ما حدث لشيرين بشكل مفاجئ. تعِسٌ هذا الرجل .. نديم !

تركته حزيناً وثائراً، يود لو يكسر رأس هذا الرجل، ويخشى أن يأتي هذا بنتائج عكسية على أخته العنيدة التي يعرفها جيداً، ويعرف أنها سوف تتشبث به أكثر.

***

صوت طرقات على الباب، ناهد بالمطبخ ومعها دعاء، محمود يجلس أمام التليفزيون بكسل، رضا يحمل فرد حمام بيده ويرشف من كوب ماء أمامه ثم يقبــِّله ويسقيه، تزعق ناهد من الداخل على ولديها:

- حد فيكم يفتح الباب بدل ما انتم قاعدين لا شغلة ولا مشغلة.

تكررت الطرقات ولم تجد ناهد استجابة من كليهما، فخرجت من المطبخ مشمرة عن ساعديها وخلعت شبشبها وقذفت به محمود وهي تقول:

- لا منك ولا كفاية شرك.. قوم افتح يا منيل إيدي فيها سمن الله يخيبك أكثر ما أنت خايب.. قوم يا وله.

تفادى محمود شبشبها الذي كاد أن يطيح برأسه، وقام بتكاسل متذمراً نحو الباب وهي في مكانها تترقب من الطارق.. تفاجأت أم محمود بالضيفين نديم وشيرين، يقفان عند الباب ونديم يسأل بأدب:



- منزل الست نبوية؟

فيرد محمود بزهق:

- أيوة ، نعم؟

فأتت ناهد قفزاً نحو الباب وصوتها يجلجل:

- يادي النور يادي النور، أهلا سي نديم.. والست شيرين كمان، إتفضلوا يا ألف أهلا وسهلا.

وأزاحت محمود من الطريق بعصبية وفتحت الباب لتُدخِلهما، ووجهت كلامها لرضا:

- قوم يا واد قوم من هنا.. خد الحمام بتاعك ده وخش جوة، ثم استطردت، أهلا وسهلا.. ده احنا زارنا النبي.

ابتسم نديم برقة وهو يجلس على حافة أحد كراسي الطاقم الأسيوطي المتراص في ردهة المنزل، والذي تعتز به ناهد بشدة وقال لها:

- شكرا يا أم محمود، كنا نحب نطمن على صحة دادا نبوية، هي نايمة والا صاحية؟

فردت ناهد بسرعة:

- نايمة، بس نصحيها يا سي نديم إحنا في ديك الساعة لما حضرتك تنورنا بالزيارة !! طب والنبي الحتة كلها نورت.

ثم همست لرضا الذي جاء وجلس ينظر لنديم وشيرين بانبهار وابتسامة لا معنى لها تعلو وجهه، مرتدياً بيجامته:

- إجري يا واد يا رضا بالعجل هات قزازتين ساقع.

انتفض نديم وقد سمعها قائلاً:

- لا لا لا، إحنا ماشيين على طول بس لو سمحتي عاوزين ندخل لها نسلم عليها.

فقالت ناهد:

- ودي تيجي، لما تشربوا حاجة الأول، حالا أديلها خبر.. والنبي الدنيا نورت.

وتركتهما جالسَين ودخلت متجهة نحو غرفة الست نبوية، التي ترقد بوهن شديد وبجوارها محمود فنظرت له أمه بغضب وقالت:

- قوم قامت قيامتك، قوم الضيوف عاوزين يدخلوا لجدتك.

فنهض وهو يتمتم بكلمات غاضبة ويلوح بيده في الفراغ بتذمر قائلاً:

- إنتي ورايا ورايا، ربنا ياخدني عشان ترتاحي.

نادت ناهد على الست نبوية:

- أمْة ؟؟ أمْة ؟؟ قومي يامْة، الأستاذ نديم والست شيرين هنا جايين يطمنوا عليكي.

نهضت الست نبوية بصعوبة، وعدلت منديل الرأس الذي مال على ناحية وبرز منه الشعر الأبيض بشكل غير منتظم ،أجلستها ناهد وأسندتها إلى الوسادة، ثم ذهبت لتدعو نديم وشيرين للدخول إليها، تحركت شيرين بآلية ومشت نحو الغرفة كالمنوّمة، ، وجه شاحب وعينان ذابلتان وقد ظهر عليها الهزال الشديد، وحين دخلا قال نديم بحنان بالغ:

- سلامتك يا دادا.

وقبلتها شيرين ودموع في عينيها ثم قالت لها:

- وحشتيني يادادا.. إنتي لازم تخفـِّي بقى وتيجي تاني، أنا كل حياتي متلخبطة من غيرك.

ردت الست نبوية بصعوبة وقالت موجهة كلامها لهما معاً:

- ياللا حسن الختام ياسي نديم حناخد زمننا وزمن غيرنا.. إلهي يخليك ويبارك فيك يابني، شفت صورتك في التليفزيون ياسي نديم.. بدر منور.. مش حتيجي تعمل فيلم عندنا ياسي نديم؟

ثم إلى شيرين:

- إزيك ياحبيبتي!! على عيني بعادي عنك يا نور عينيا. عاملة إيه في الكلية؟ يارب دايما ناجحة ونجمة عالية في السما، بس باين عليكي مش بتاكلي كويس، ما هو أكيد الأسطى رمضان مش عارف يطبخ وعشان كده ضعفانة، ثم أكملت:

إزي توفيق بيه ؟ إن شاء الله يكون بخير.. طول عمركم ولاد أصول ربنا ما يحرمناش منكم أبدا.

دخل رضا حاملاً الزجاجتين بيده، فخطفتهما من يديه ناهد التي كانت تقف عند الباب ترقب المشهد مبتسمة بترحاب، ثم عادت تحملهما على صينية ألومنيوم باعتزاز كما لو كانت تحمل كنزاً.

نظر نديم للست نبوية بتعاطف وقال:

- في دكتور شافك يا ست نبوية؟

فقالت باستسلام وابتسامة على وجهها:

- سيبها على الله يا سي نديم هو احنا أد الدكاترة.!!

فقال باستنكار:

- إزاي!! لازم نعرف إيه سبب الضعف الشديد اللى انتي فيه ده وكمان مش بتتحسني، لازم دكتور يشوفك ويطمنا.. ما تحمليش هم حاجة يا دادا ، ده إنت واحدة من العيلة.

غمرت السعادة الست نبوية بعد انصراف ضيفيها العزيزين. وفي اليوم التالي أرسل نديم فريقاً من الأطباء الذين قرروا بعد أن أجروا عليها فحوصات عديدة، أنها تحتاج لعلاج بمستشفى للأورام إذ تبين أنها مصابة بسرطان الرئة.

كان قرار الأطباء بأن تدخل الست نبوية المستشفي قراراً قاطعاً لا يحتمل التأجيل أو التهاون، تكفل نديم بمصاريف العلاج بالكامل وأصرّ على ذلك رغم تمنّع أم محمود والست نبوية ثم استسلمتا في النهاية.

#فاتن_واصل (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات