نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1352 - 2005 / 10 / 19 - 11:46
المحور:
الادب والفن
في خريف عام 2002, و بعد إعلان فوز الكاتب المجري إيمري كيرتش بجائزة نوبل للأدب, و بعد أن كان قد أعلن أن كلاً من الأديبين الإسرائيليين عاموس عوز و دافيد جروسمان مرشحان للجائزة الكبيرة, كتب الكاتب اليساري الإسرائيلي جدعون سبيرو مقالا في موقع الضفة اليسارية تحت عنوان - أي حظ, عاموس عوز لم يفز بنوبل-. كتب سبيرو معبراً عن سعادته بعدم فوز مواطنه, بعد أن رشحته الشائعات بقوة, ثم بعد أن تجاوزته النتيجة النهائية:
"صحيح أن عوز مصنف إسرائيلياً من قبل اليمين باعتباره يساريا, غير أن اليسار الذي ينتمي إليه هو يسار لين, مائع, متردد, يحاول دوما السير على الحبال لأجل الحفاظ على – التوازن- بين إدانة إسرائيل و إدانة الفلسطينيين. هو صهيوني من النوع الكيبوتسي الشائع. لا يزال يصف الصهيونية كحركة تنويرية و عادلة, تخطأ هنا وهناك, تعاني من انحرافات عن الطريق تحتاج لإصلاح بسيط. الصهيونيون على شاكلته, يفقدون القليل من النقد الذي يملكونه إزاء إسرائيل عندما يسافرون إلى الخارج. يبدأ الفيروس الوطني في العمل لساعات إضافية, و يتحول هو في الحقيقة إلى مندوب دعاية إسرائيلي شائع. خشيت أنه لو حصل عاموس عوز على الجائزة في هذه الأيام, كنا لنسمع في الاحتفال بتسلمها خطابا صهيونيا وطنيا حماسياً, يكتبه لحكومة شارون, و هي في رأيي حكومة مجرمة, و لسعادتي لم يحدث هذا. "
عد هذا المقال تهنئة لليسار العالمي عامة و الإسرائيلي بشكل خاص, بعدم فوز عوز بالجائزة, و تحديا لإسرائيل الرسمية, التي تراهن على عوز كثيراً, و هو ما يمكن إعادة التهنئة به الآن, بعد أن رشحت الشائعات عوز بشدة ثم ذهبت الجائزة في النهاية إلى الضفة الأخرى, الضفة اليسارية, الكاتب البريطاني الشريف هارولد بنتر. هذه الشائعات الدائمة عن عوز تسهم أكثر فأكثر في تلميع صورته في العالم, بعد أن أصبح واحدا من أكثر الأدباء شعبية في إسرائيل, وإن لم يكن قد فاقهم قاطبة. و كالعادة, لا يمكن فصل أي شيء عن السياسة, لا يمكن في أفضل الأحوال الحديث عن شهرة عظيمة لكاتب بسبب كتابته الأدبية الخالصة, و إنما دوماً ما يتعلق الأمر بعناصر أخرى, هي في الغالب ما تجعل من عاموس عوز نجماً إسرائيلياً, بل و عالميا أحيانا, تحاصره الشائعات, و بطلا في أعين البعض, تخلع عليه النيويورك تايمز بسخاء لقب: أورويل الصهيوني.
في حوار أجري مع عوز في عام 2002 بعد صدور روايته (قصة عن الحب و الظلمة) كتبت المحاورة: (يصعب تصديق أن الأمر يتعلق بأديب إسرائيلي و ليس بنجم تليفزيون). كان هذا بسبب جمهور الحاضرين للأمسية المقامة عن كتاب عوز الجديد, و الذي هو نصف رواية و نصف سيرة ذاتية, يجد الإسرائيليون نفسهم فيه, كما عبر عن هذا غير واحد من الحاضرين في الأمسية, بل و يجدون أنفسهم ربما في عوز نفسه, عوز الذي ولد في القدس لأبويين دينيين, غير أنه و بعد انتحار أمه اختار برغبته التمرد على أسرته الدينية, هاجر إلى الكيبوتس و تحول إلى العلمانية و غير اسمه من عاموس كلاوزنر إلى عاموس عوز. في هذا كمن فعل أكثر من مذهل في أعين إسرائيل, إسرائيل التي أحبت وصف نفسها بأنها تمرد على التاريخ اليهودي القديم و محو له في آن, تمرد على اليهودي الأوروبي التقليدي, المنحني و الخانع, إلى يهودي قومي, علماني, عبري بعد أن كان أوروبياً منفياً, - هذا ما تجلى في تغيير اسم العائلة البولندي كلاوزنر إلى عوز الذي إذا أضيف له اسم عاموس ستعني بالعبرية: الممتلئ بالقوة-. عوز اختار مصيره بيديه. تمرد على تاريخه و عائلته القديمة. هو باختصار: صهيوني, كما أرادت الصهيونية وصف نفسها. ليس دقيقا أن الإسرائيليين يرون أنفسهم فيه, الأدق أنهم يرون فيه مثالا لما يجب أن يكونوا. عاموس هو الوجه الجميل لإسرائيل, هو مثالي بفضل عدة نواح: هو قادم من أصل غربي - مقارنة بنظيره الإسرائيلي أ. ب. يهوشواع الشرقي الأصل- , و هو علماني - حتى مع وضعنا في الاعتبار أن التقسيم إلى ديني و علماني في إسرائيل هو تقسيم واه لا يتعلق بشيء على الأرض بخصوص الاحتلال و السلام و العنصرية-, و هو صهيوني -ينتمي إلى اليسار الصهيوني, ذلك المزيج الفريد من التمسك بالرواية السائدة حول أرض الأجداد و حول العرب و من تلميع الرواية ذاتها في أوروبا لتصبح أقل ميثولوجية-, و هو بالطبع ليس عربيا. أي أنه يمثل إسرائيل البيضاء على كل المستويات, بعد أن تخلصت من عربها و يهودها الشرقيين و متطرفيها الدينيين و يسارييها الراديكاليين ممن يبيعون الأرض للعرب. كل شيء في عاموس هو ما يجب أن يكون,أبيض و نقياً.
يمكن لعاموس عوز أن يتحدث عن العدل الاجتماعي في قلب إسرائيل فيسمح لكلماته بأن تكون راديكالية بما يكفي, شريطة ألا يقترب من وصف فظائع الاحتلال الإسرائيلي, من تأمل نقدي للاستيطان الصهيوني الذي بدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر, و وصل إلى ذراه الإجرامية ما بين العامين 1947 و 1949, شريطة ألا يقترب من التقسيم الطائفي داخل إسرائيل, باختصار من كل ما يتعلق بالصهيونية. كذلك يدين هو زعماء الليكود بحرية تامة, و كأنهم شيطان ينبغي تطهير الجسد الإسرائيلي الجميل منه, في مقابل وصف باراك بالبطولة, باراك الذي لم يحرر سجينا فلسطينيا و لم يفكك مستوطنة يهودية طوال الثمانية عشر شهرا التي قضاها رئيسا للحكومة. يكتب عوز في الغارديان البريطانية قبل ذهاب باراك إلى كامب ديفيد عام 2000:
"علينا أن نرِي البلاد و العالم الآن أن ملايين الإسرائيليين يصاحبون رئيس الوزراء بدفء, داعمين له و متمنين نجاحه.. اذهب إلى كامب ديفيد .. إيهود باراك.. اذهب ممتلئا بالشجاعة و الحذر و الحكمة و البصيرة و التعاطف مع الآخرين و بحسك الحاد بالواقع. اذهب إلى كامب ديفيد كجراح يذهب إلى غرفة العمليات".
و عندما فشلت المفاوضات استطاع مرتاح الضمير أخيراً اتهام الفلسطينيين و تبرئة الإسرائيليين. بعد أن عرض باراك على عرفات كل شيء, بحسب الرواية الإسرائيلية و الأمريكية الشائعة عن المفاوضات, ما عدا عودة اللاجئين, و رفض عرفات كل هذا و بدأ في انتفاضته القاتلة ضد الشعب الإسرائيلي!! يقول عوز في مقال له في يديعوت أحرونوت :
"القيادة الفلسطينية ترفض هذا السلام. إنها تطالب الآن بحق العودة لمئات الآلاف من الفلسطينيين الذين هربوا و طردوا من قراهم في 1948, من خلال تجاهل كلبي لمئات الآلاف من اليهود الذين جاءوا إسرائيل بعد أن هربوا وطردوا من بيوتهم في البلدان العربية".
يرفض الضحية سخاء سيده و لا يقبل إلا بحقوقه كاملة, و هو ما يمثل إهانة للسيد, و لمن ساندوه بقوة, لأنه يعني أن ثمة رواية للضحية, متماسكة و عنيدة, تختلف عن رواية السيد المحسن. هل يعني عوز هذا في الحقيقة؟ هل يريد إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل و إعادة اليهود العرب إلى البلدان العربية التي جاءوا منها؟ ماذا يعني هذا إلا إعادة المشهد, في جزء كبير منه, خطوة قبل الصهيونية, و لماذا يسمى نفسه صهيونيا إذن؟ يسارع عوز بالقول: (تحقيق -حق العودة- الفلسطيني معناه سلب حق الشعب اليهودي في تعريف ذاته و تقرير مصيره, و يحوله إلى أقلية أبدية خاضعة لأفضال المسلمين. بالضبط كما يقرر الإسلام المتعصب الذي يحكم على اليهود بوضع "أهل الذمة" تحت سلطان المسلمين). هذا ما يملكه العلماني الصهيوني. لا يفهم هو إلا تقسيم العالم على حسب أديانه أو قومياته. لا يتصور نضالا يقوم لأجل تحييد الدين من الصراع كله و فهمه باعتباره صراع ما بين قادمين جدد و أهل البلاد الأصليين. لا يفهم هو إلا كلمتي -يهودي- و - مسلم. هذه هي علمانية قطاع كبير جدا من الإسرائيليين, زعماء و مفكرين. و هذا هو الواقع الذي تخشى إسرائيل خدشه: - يهود- قادمون من البلدان العربية يعيشون في إسرائيل و فلسطينيون (أي: عرب) يعيشون في المخيمات في البلدان العربية. هي الرواية الإسرائيلية القسرية بعد أن حققت الصهيونية ذاتها و صارت غير قابلة للرجوع إلى الوراء, أو غير محبة, و هذا هو التجانس القومي و الديني الذي تتصوره العنصرية الصهيونية, التجانس الذي تخشى أي مساس به, التجانس الكاريكاتيري, المبهر و إنما المخصي.
يتخلص عوز من علمانيته بميوعة وافرة, و من دينيته كذلك إذا اقتضى الأمر. يبدو جاهزا دوما للرجوع خطوات لصالح إرضاء أكبر لقرائه, من الإسرائيليين و الأوروبيين على حد سواء, و لكن ليس من العرب, أي لصالح إرضاء القادرين فحسب على منحه المكانة الأدبية اللائقة. يقول في حوار له مع تال باشان في جريدة هاآرتس لعام 2002:
"علينا أن نفهم أنه طوال الوقت تدار هنا على الجانبين حربان, يديرهما نفس الأشخاص: هناك حرب الشعب الفلسطيني الذي يريد أن يكون شعبا حراً في بلده, و هي في أساسها حرب عادلة على أي إنسان عاقل أن يدعمها و هناك حرب ثانية قوموية إسلامية تهدف لسلب الشعب اليهودي حقه في تعريف ذاته. و هذه حرب يقف الحق فيها مع إسرائيل بشكل مطلق و على أي إنسان عاقل أيضاً أن يدعمها."
تلفت النظر هنا اللعثمة التي يعاني منها عاموس عندما يتحدث عن عدالة حرب الشعب الفلسطيني الذي يريد أن يكون حرا في بلاده, فهذه الحرب و برغم عدالتها إلا أن المرء يشمئز من وسائلها, في مقابل الحرب التي يقف فيها الحق مع إسرائيل بشكل مطلق. كذلك يلفت النظر عدم التطرق للحرب الأخرى, القادمة من الاتجاه الآخر, حرب الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني, و لو حتى لأجل مواجهة السؤال : (ما الذي جعل الشعب الفلسطيني غير حر في بلده, و ما الذي جعله يحارب لأجل حريته؟). يبدو عوز هنا نادبا متوسط القيمة على كراهية الأغيار لبني إسرائيل, المواجهين بحربين, إحداهما إجرامية و حقيرة و الثانية, هه, يعني, عادلة بعض الشيء. يستطرد هو: (أزعم أيضاً أنه حتى لو لم يوجد الشريك الذي يمكننا صنع سلام معه فعلينا الخروج من الأراضي المأهولة حتى نواجه, بدلا من الحربين, حربا واحدة نحن على حق فيها بنسبة مائة في المائة.) هكذا على إسرائيل أن توقف احتلالها للأراضي الفلسطينية, ليس لصالح الفلسطينيين الذين يريدون أن يكونوا أحرارا في بلادهم, و إنما لصالح إسرائيل نفسها, حتى لا تثقل كاهلها بمزيد من الحروب, و خصوصا الحروب التي ليست على حق فيها بنسبة مائة في المائة, الحروب التي تلوث صورتها, الصورة هنا هي المهمة لا معاناة الناس. بنسبة كم في المائة يا ترى إسرائيل على حق في حرب الشعب الفلسطيني الذي يريد أن يكون حرا في بلده. لا يجرؤ عوز على التلميح إلى إمكانية الصفر في المائة, كما جرؤ بسخاء شديد على التصريح بالإطلاق النقيض, المائة في المائة. هذه الميوعة هي ما تحدث عنها سبيرو الذي ابتهج بعدم حصول عوز على نوبل للأدب. و هي تجعل عاموس امرأ لكل المواقف, امرأ للتصدير إلى أوروبا كما إلى الدينيين في إسرائيل, محبوبا من الجميع. لم يكن غريبا أن يكتب الناقد الإسرائيلي مردخاي شاليف عن روايته "قصة عن الحب و الظلمة" ملمحا إلى أن انتحار أم عاموس في الرواية هو رمز لانتحار الشعب الإسرائيلي بعد اتفاق اوسلو مع الفلسطينيين. أي أن تفسيرا يهودياً متطرفاً و معارضا لأوسلو (التي انتحر الشعب عبرها) يقدم لكلمات عاموس الذي أيد أوسلو. يبدو عوز دبلوماسيا في رده على هذا التفسير و الذي يفترض أنه يعارضه بشدة: (هذه أجندته. أنا لا أوافق على هذا ولكنني لا أستطيع أن آمره بعدم فعله). لا يدخل عوز في جدل مع هذه –الأجندة. لا يشرح لماذا لا يوافق على هذا, لا يقول إلا تحصيل حاصل من النوع المتوسط. وهو ما يتوافق بشدة مع ميوعته التي تريد أن تكون لكل الأدوار و المواقف, من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار, و أن يرضي حتى من ينظرون إلى اليسار, صهيونيا أو معاديا للصهيونية, باعتبار طابورا خامسا, و ذلك في تلميع متبادل بين اليمين المتطرف و بين اليسار الصهيوني: اليمين يقرأ رواية لعوز على أنها تعبير عن رؤية وطنية قومية ترفض كل الحلول مع العرب, مدغدغا بذلك مشاعر قطاع كبير من اليهود المتطرفين في أكثر أشكالهم ظلامية, و يتوقف اليسار الصهيوني عن الدخول في جدل مع هذه الرؤية, و يحد اعتراضه بسقف: "لكل منا أجندته". في النهاية, و على حسب تعدد الأجندات التي تستعملها كل القطاعات الإسرائيلية, يمكن رؤية أكثر من وجه لعوز, و يمكن لعوز فعلا أن يكون هو الشعب الإسرائيلي, هو الكيبوتس و الصهيونية و التاريخ المبهر و النقاء الساطع. شيء واحد لن يسمح عوز لنفسه أن يكونه: أن يكون مصدرا للإقلاق و النقد الحقيقيين, للفهم لا للدغدغة.
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟