|
-رزوق- صديق القطط المتشردة
نور الدين الناجي
الحوار المتمدن-العدد: 4912 - 2015 / 9 / 1 - 19:18
المحور:
الادب والفن
تموء القطط و تتعارك بشراسة في ذلك الركن المظلم من الزقاق، لعلها دجاجة ميتة أو سمكة نتنة هي التي أشعلت فتيل القتال في ساحة المعركة،و ربما هو صراع كونيكشوتي على الظفر بمهبل قطة قادمة من الحارة المجاورة، فحتى القطط تقاتل من أجل نزوة عابرة في هذا الفصل البارد من السنة الذي يغري بالتناسل. ينصت هو في هدوء و استسلام تام، بينما الأفكار الجنونية و الأحلام الصبيانية تترتب في انتظام تحت الوسادة المتضعضة. داهمه النوم على حين غرة و ظلت الاحلام تطوف طوفا جنونيا حول روحه البلهاء، راسمة كومة في تلك الغرفة التي ما تحرك سريرها قط لا للنظافة و لا للمتعة، و من بين تلك الاحلام المنبعثة من المجهول راسمة لوحة فواقعية يستعصي فك رموزها، لوحة غامضة تشبه تلك النقوش الهيروغليفية التي يستفزوننا بها علماء الاركيولوجيا عقب زيارتهم لكهوف الإنسان الأسود. لم يكن يبالي بما كان سلوكها يوحي إليه في هذا الحلم الطائش من غرابة تصرفاتها. فلقد أمسك بها و ضاجعها كما يحب و كما تحب هي. و لم يشعر بالنفور أو الفتور نحوها، و إنما لهث كما اعتاد أن يلهث و تهيج كما يحب التهيج، فصرخت هي و عضت و هاجت و ماجت ، ثم رفس و رفع و صفع المناطق اامكتنزة، في لحظة الانتشاء لم تكن هي بل كانت ثم تحولت إلى القطة التي كانت تموء من ألم المضاجعة في ذلك الركن المظلم في آخر الزقاق، في ذلك الوقت المتأخر من الليل. في صبيحة ذلك اليوم اكتشف انه لم يضاجع تلك المرأة الغريبة أو القطة البئيسة التي تناوب عليها القطط، و لكنه ضاجع نفسه ككل مرة، امتعض امتعاضا شديدا و هو يزيل عنه غطائه الرث ليواجه برد الصباح القارص، و أمطار الشتاء الباردة.
لم يكن في يومه ذاك ما يثير الاهتمام و لا جديدا يستحق الذكر، اللهم البؤس و الشقاء ، و العمر الذي ينزلق من بين يديه يوما بعد يوم، شهرا بعد شهر سنة بعد سنة في رتابة و ملل. رجل في السابعة و الثلاثين، رجلا طويل الوجه، ضيق الجبين، اسود العينين، خفيف الشعر، كث الشارب، قصير القامة، عريض المنكبين، ذو جسم برميلي. إنه يخرج في الصباح ليعود في المساء، يأكل لكي يذهب إلى الحمام، ينام لكي يستيقظ، إنه يعمل لكي يعيش، يضاجع نفسه على أصوت القطط المتشردة، لا يشكو هموم الدنيا و متاعبها و ظلم القدر و مرارة الحياة و قسوة الوحدة، إنه كتافه بلا هوية عليه أن يركب دراجته الهوائية كل صباح ليتجه إلى العمل و يكد كالبغل. إن عمله الشاق يعلمه كل يوم الطاعة و الصبر و طأطأة الرأس و فرقعة الأصابع، آلة بشرية تبيع مجهودها مقابل دراهم معدودة و تركل على مؤخرتها اذا ما تقاعست، علمته الأيام أن يطيع صاحب العمل و أن يستجيب لطلبات الزبائن، علمته الحياة أن ينتظر فرصته الذهبية ليحصد ما سيحصد أو ليسرق ما سيسرق، علمته أن ينتظر. ... أن ينتظر الاسبوع حتى يكتمل ليظفر بأجرته الهزيلة، أن ينتظر أوامر " الباطرون لكي يتحرك، أن ينتظر العروس لكي يتناسل، أن ينتظر المطر حتى يهطل، أن ينتظر خبرته حتى تنضج، أن ينتظر رمضان لكي يصوم، و العيد الأضحى ليسافر إلى باديته النائية. إن حياته كلها إنتظار طويل لا ينتهي، و بهذا يؤكد دونيته و سلبيته، سلبيته التي امتزجت مع الطاعة لكي تجعله في النهاية مخلوقا صبورا كالجمل، مستكينا كالحمار وديعا كالبغل، وفيا كالكلب وديعا كالحمل. صامدا كصخرة صلبة أمام المصائب و المناكب، لا يبالي بالمرض و لا يخشى العجز و الفقر و الحرمان، لقد مات عقله منذ زمن طويل فلم يعد يميز بين القبيح و الحسن. ين الصالح و الطالح، لم يعد قادرا على الرفض و النقد، أصبح مستسلما خائفاً خانعا يعيش على رحمة الآخرين، يترجم عجزه في قنينة من الخمر الرخيص كل أسبوع، يبكي عليها و تبكي عليه، يلومها و تلومه، إن لومها قاس إن لهجتها مملوءة دائما بالمرارة، فيعانقها و يبكي و تتساقط الدموع من عينيه ساخنة تبلل وجهه و تغسل همومه، فيضان كاسح من الدموع يطفئ النار المشتعلة في صدره. يبكي حين يتجرع الخمر و يبكي حين يصلي يوم الجمعة و يبكي حينما تلسعه رياح الشتاء كلسع السياط في ظلمة الليل. دموعه هي عزاؤه الوحيد، في مجتمع قاس حكم عليه بالاتكال و الصبر و الانتظار، حكم عليه بالسمع و الطاعة، حكم عليه بالدونية و العجز عن مواجهة الظروف و التحكم في المصير، حكم عليه بأن يضع رأسه بين الرؤوس و ينادي على قاطع رؤوس. حكم عليه بالتهميش و الفقر و العزلة و الحرمان، حكم عليه حكما ظالما فأصبحت حياته فوضى عارمة بدون هدف و بدون مستقبل، حياة تكرر نفسها باستمرار، حياة يعيشها و لا تعيشه، يعيشها بدون أمل أو تأمل ، لا يتأمل حال هؤلاء الاشباح الجهلة و هو الذي تعود على رؤيتهم كل خمس سنوات يرفعون شعاراتهم الرنانة و يلقبون انفسهم بالقاب مجيدة، لا يتساءل كيف يترشحون في مناصب يعتبرون أنفسهم أهلا لها. لا يتعجب من المواطنين كيف يستنحمرونهم هؤلاء بالمرقة وورقة نقدية خضراء. كيف يصفقون و يهللون و يطلبون كأنهم غزاة من الروم. لا يتأمل حاله ماضيه و مستقبله, لماذا ضعف ؟! لماذا ضعفوا ؟ لماذا استكان؟ و لماذا استكانوا؟ لماذا تدهورا؟ كيف يبيع نفسه بثمن بخص ؟ لماذا يرضون بالذل و المهانة؟ لماذا؟ ...لماذا؟ لماذا؟... اه لو تسائل لو استشكل وضعه البائس و لو مرة واحدة. اه لو تحرر من حياة القطيع، حياة البقرة و الحمار و الجاموس و القطط.
نورالدين الناجي بتاريخ 27/8/2015.
#نور_الدين_الناجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نوم مستيقظ
-
أين أنت يا أنا ؟
-
فرصة مقاوم
-
رحلة إلى عالم العراء
-
ظلام الأنانية
-
كارلي
المزيد.....
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|