احمد مصارع
الحوار المتمدن-العدد: 1352 - 2005 / 10 / 19 - 11:21
المحور:
الادب والفن
( 1 )
الله هو الذي جعل جدي يراني واقفاً في الطابق الأول لشجرة التوت العملاقة , ألانني كنت صغيراً أرى هذه الشجرة كما لو كانت بستاناً ؟ ! فهي كالبناء المكون من عدة طبقات ، كانت جذوعها الفرعاء ملعباً رحباً لعدد كبير من الأطفال ، أرجوكم ، لا تتخيلونا كالقرود نتقافز على أكتافها فالصعود عليها سهل مهل .
كان جدي ينظر إليَّ عابساً ومرة أخرى إلى العصفور الصغير بين يدي .
- أترك الطائر ... حرام . صمت قليلاً ثم قال :
- انزل على مهلك ... تعال إلي َّ سأعطيك نصف ليرة .
واللهِ لم يكن هناك قصد ، أنها صدفة ، صدقوني لم أستعمل العصفور كرهينة لابتز جدي بهذا المبلغ الكبير ، فمن عادة جدي أن يعطيني من حين لآخر فرنكاً أو أثنين ، وهو لوحده ، بكامل وعيه أبداً لم أساومه ، لقد قرر أن يعطيني نصف ليرة ، أي عشر فرنكات دفعة واحدة .
لا أعرف الحيلة ، إنَّ هذا حدث قبل أيام المدرسة فكيف لي أن أعرف نقطة الضعف عند جدي ، نعم، صحيح لقد رأيت جدي أكثر من مرة يشتري من الأطفال الكبار حرية الطيور ، بمبالغ زهيدة ولكن ليس بنصف ليرة .
النصف ليرة أي الثروة الصغيرة كانت تكفي فقط لشراء عدة سندوتشات ، وكمية من الحلويات ومشاهدة مجموعة من أفلام السينما لعدة مرات ، فقط ، فماذا يعني ذلك ؟
لاشيء فأنتم تعلمون بأنَّ جدي غني ويمتلك أراض واسعة وعدد كبير من البيوت .
ولم يكن يعطيني أحد تلك البيوت ليكون لي وحدي ، كنت سأبيعه لأعيش في بحبوحة .
كما كان يفعل أولاده وأحفاده الكبار ، فلماذا لم أكبر في الوقت المناسب ؟ ! وتقولون إن َّ الحظ لا يلعب دوراً كبيراً .
كان الحظ كتلك اللحظات حين أرغمه الله أن يراني ويخاف عليَّ وعلى الطير .
وتعلمون مثلي بأن المرور على غرفة جدي محنة ، فالدخول إليها والخروج يمر عبر بوابتين مقوستين ومتخمتين بالظل ... المسجد والمكتبة العامرة بمخطوطات كثيرة مذهبة والمصاطب العالية ذوات الفرش المنجدة ، كأسرة للنوم ، ومشاجب معلق عليها بدلات جوخ إنكليزي مخططه ، عدد من البواكير وعدد من الطواقي العصملية الأسطوانية الخمرية اللون .
لم أرغمه على رؤيتي ، لوحده لمحني ، لوحده تذكر دينه والمبلغ الذي وعدني به اجفلتني صيحته الآمرة .
- تعال ولاك .
وقفت أمامه ذليلاً وعيني مسمرتين على الطربوش الأحمر ، كنت كالتنبل أمام السلطان عبد الحميد ، وبأطراف أصابعه المحدبة من الروماتيزم ، أخرج نصف ليرة دفعها إلى يدي دفعاً ودون أن يبتسم أو تنفرج أساريره ، كعادته حين يمنح لأحدنا مبلغاً صغيراً ، إلا أنه أعطاني مبلغاً من المال أكثر مما استحق ! ؟
وحين يكبر جدي للصلاة تكون الفرصة مؤاتية لمن يريد الهرب ، لأنه ينسى كل من حوله ، فمن نال حاجته ليس مثل من يقعد منتظراً انتهاء صلاته ليشرح له مشكلته ، لأن ما بعد الصلاة ، الدعاء ... متى يكمل ؟ ومتى يلتفت باسماً نحو الواقع ؟ ! .. من الأفضل لك أن تذهب لمشاهدة فيلم ثم العودة إليه ، لكن بعض أحفاده أو أولاده يضطرون لانتظاره ، لا أفهم لماذا كانوا يضيعون أوقاتهم في الانتظار ، دون أن يحملوا معهم أي قفص يحوي طيراً أسيراً .
من غير شك ، كنت محظوظاً حين وجدت العصفور الصغير ، الذي لم يكن يقدر على الطيران أمسكته برفق ، خفت عليه من القطط التي تملأ حارة جدي فصعدت على الشجرة لأضعه في مكان آمن .
لقد فرحت حين فزت بالجائزة ولكن سعادتي كانت أكبر حين أنقذت العصفور الصغير من الهلاك لأن خوفي على الطيور كان موهبة وليس صنعة .
أمرني جدي بالدوام عند الكتاب شيخ عباس , مقرئ القرآن , وكأنني بذلك قد تلقيت جائزة متبوعة بعقوبة , وقد مرت أيام ضيافتي الأولى بسلام , فلم تلامس جلدي خيزرانته الطويلة , وكنت قد شهدت مجموعة من الأطفال ,وبمساعدة من هم أكبر منهم , تشد أرجلهم بحبل , وعندما تلسعهم سوط الخيزرانة , يشرعون بإطلاق توسلات و وعود كاذبة :
- والله هذه آخر مرة شيخ عباس , شيخي , والله في المرة القادمة ..
كنت قد حفظت سور التعويذ والفاتحة , وحين اختبر حفظي ,وجدني مضطربا وخائفا , وعيوني لا تفارق الخيزرانة التي تهتز في يده , مهددة ولا تستقر , وتكرر المشهد , فلم يعد لي عذر عنده , فأنذرني متوعدا هذه المرة :
- لوكان فيلم سينما , أو صيد طيور , لكنت الآن تتكلم مثل البلبل , أما في حفظ سور قصيرة من القرآن العظيم فلا, وغدا إن لم تأتي حافظا , وزاد ني سورة أخرى , فستجلد مثل الآخرين .
لالن أجلد أبدا , ولن أصطاد أي عصفور , كما لن أمر بالقرب من مضافة جدي, أما السينما فقد زاد شوقي إليها , فكل ممنوع مرغوب , ففي السينما ضحك ولعب , إثارة وتشويق , لقد لجأت سياسيا الى جدي الآخر فهو لا يلبس طربوشا أحمرا , كما أنه يبدو ضاحكا باستمرار , وحين لا يعرفني أحد الحراس ويمسك بي وأنا أندس وسط الداخلين ,أقول له واثقا:
-هذه سينما جدي , وحين يراني جدي أسيرا عند الحارس يهتف ضاحكا : يا وال كم مرة شاهدت الفيلم ؟!.
لقد تعلمت الكذب من خيزرانة الكتاب - والله هذه هي المرة الثانية .
**********
الجزائـــــر
( 2 )
كان اليوم الجمعة ، وهدير السيارات لا يكاد يسمع ، بينما شرعت الزهور تتنفس الصعداء ولتطلق باقات من الفتنة ، لتدعوا الغيارى والحساد ليغازلوا جمالها .
للخفوت سحره الآسر ، وفي الصباح ظلال الأشجار الزاهية الاخضرار، وجذوعها المصبوغة بالأبيض ، وأسراب الحمائم البيضاء وزرقة البحر الفسيح ، تجولت كثيراً في حديقة معهد المعلمين حيث أعمل وأسكن في عامي الأول .
سيارة بي جو أوبوجو .. بين الطائر والجوهرة ، مصقولة لماعة حمراء قطعت الحاجز تلألأ ضؤها وأبرق صوتها بدعوة .
- أهلاً بالإمام .
- لست أنا ، ليس في الأمر وراثة , أبى هو إمام المسجد الأقصى .
- أهلاً بفلسطين من النهر إلى البحر .
- هيا معي , لا تضيع الوقت .
- أين ؟
- إلى الصيد . صيد الطيور .
- لا أحب اصطياد الطيور ، غيرِّ المشروع لو سمحت وأنا جاهز .
قال مستغرباً وألقى بوجهي تهمة :
- كأنك تحرم هكذا لوحدك ، ما أحله الله ليس نظرية .
كان يخز رني بنظرة زاجرة ، ولذلك أسرعت مدافعاً .
- لا . لا والله فقط تخيل معي الهدهد مذبوحاً . الهدهد الرمز ، بل روح الأمة تنسفه طلقه ، ما الذي سيحصل عندئذ ٍ . ! !
- هيا . دع عنك الأفكار الغريبة والغربية، لست سوى مدرس رياضيات . أنا مدرس اللغة العربية والشريعة يا صديقي .
قلت له متوسلاً :
- ألن تغضب مني إن أسمعتك رأياً .... مجرد رأي
قله .... خلصني
قلت ببلاهة :
- سبحان الله الذي أحل الطيور وحرم الخنازير .
رماني بنظرة استهجان وقال :
- غريب .... أليست هذه هي الهرطقة أو الزندقة ؟ بل هذا هو الإلحاد بعينه ، حقاً من تمنطق فقد تزندق ...
أحببته ببرود تام :
- لا يا سيدي ، أنا لم أقل شيئاً يمس العناية الإلهية . إلا إن كل شيء يتم باسم الله .
إنَّ للطيور قدسية ... ولست أقصد القدس .
وألحَّ عليَّ بالصعود .
- أعدك أن لا أصطاد سوى الطيور الكبيرة فلحومها لذيذة للغاية ، تذكر ذلك !؟.
اضطررت للذهاب معه لأنه ببساطة أعادني إلى الوراء , فحين كنت ببغداد فقد خرجت ذات مرة , برفقة بعض الأصدقاء , في نزهة ولاصطياد طيور الدراج , والدراجة الجميلة من حجم الدجاجة , ولكنها تطير لمسافات بعيدة ,دون أن ترتفع عن الأرض عاليا , ولها صيحة جذلانة مؤنسة , ولحمها له نكهة طيبة عند شوائه .
انطلقت بنا السيارة نحو الأحراش والبساتين وهناك تعلقت عيوننا على ذرى الأشجار الوافرة الظلال، والمشرئبة عالياً على القمم والوديان ، نحن أبناء للطبيعة لولا الروح العدوانية التي يقصفها صديقي ببندقيته ، كنا نقابل سحر الغابة وموشحات الطيور بهلاهل وزغاريد للموت ، هوس عرس دموي ، ترمى الرؤوس النازفة ويلقى بالأجساد المحمومة في الجعبة وحدث ما كنت أكره أن يحدث
- انظر ما فعلت ! هذا عصفور صغير وهذا الهدهد .... أين العهد الذي قطعته على نفسك ؟
أطلق ضحكة هاربة من أنياب الخطيئة ...
- أقسم أن هذا حدث بالخطأ ... سبحان من لا يخطئ يا صديقي .
حين حملت الهدهد كانت عيناه غائرتان ترتعشان من الألم تموج روحه ونضطرب بشدة بين أصابعي، لاحظ ذهولي وانقضَّ على يدي . انتزع الطائر ، فصل رأسه عن جسمه بسرعة ووقف واثقاً يلقي على درساً في كيفية الإجهاز على الطير حتى نخلصه من الألم والنزيف .
قائلاً – يجب أن لا يتعذب الطائر والسرعة مطلوبة ..
ثم قال مشفقاً علي :
- إنها مسألة تعويد .. هل تخشى رؤية الدماء ؟
قوي قلبك .. في المرة القادمة ستكون أشجع من اليوم .تذكر العشاء اللذيذ ورائحة اللحم المشوي .
حين عدت من الحفلة الصغيرة وآويت إلى فراشي ، تمنيت لو أن تلك الليلة قد حذفت كما تقطع صفحة من كتاب ، لم أتمكن من النوم وكلما أوشكت أن أغفو يبدأ الدم ينزف من صدري دم حقيقي كما نزف الهدهد ، وكانت المسافة بين ضوء شمس النهار وظلمة الليل صارت أطول من ليالي الشتاء , لقد بدا الليل حقاً كأنه مكبل بأمراس متينة ولا يستطيع أحد الفرار منه .
السماء الجرداء ... السماء المتشوقة إلى خفق أجنحة الطيور السماء الجرداء وهي كالصحراء بدون ماء فإلى أين هاجرت الطيور ؟ حتى سفائن الغيم الأبيض لم تعد تمخرُ في عبابها ، ولا موكب فرح تسلى بالنظر إلينا مغرورة من فوق ، وقوافل الجمال التي تهفهف كالأشجار لم يعد يرها أحد تتهادى عبر كثبان الرمال في الصحراء .
إلا السراب وحده السراب ، تهزهز السراب يرقص خليعاً ، هناك عند خط الأفق البعيد تكبر حلقات مرايا الوهم وتستفيض العيون بالدموع وكان الهدهد ينزف من صدره الدم ، ثورة تلو ثورة .
مطلبي عسير والمسعف شحيح نادر , لقد الوقت كان فجرا .
قال سائق السيارة وهو يتمطى من النعاس : – إلى أين أيها الأخ .
قلت – إلى الولي الصالح سيدي عبد الرحمن .
حين دلفت في بهو القبة الخضراء ورأيت الأستار الخضر وشممت البخور وانتشيت في هدوء المكان صرت أقبض شيئاً فشيئاً على خيوط روحي النازفة كالهدهد .
أمام شيخ جليل تلألأ كالفضة ، تحدثت بصوت خافت ، لم أكد انهي حكايتي حتى تهلل وجهه بالابتسام ، أمرني بالاقتراب منه ، وضع يده على صدري فتوقف النزيف .
- لاشيء يا ولدي بإذن الله ،لقد كان زوارك من أولياء الله الصالحين , لقد أنذروك من خطر الدماء التي تسفح من غير داع ، لقد دخلتم إلى أماكن محروسة وهتكتم أستار صمتها ، وبعنف أسلتم الدماء على أرضها وإن في روحك أثراً عميقا ولا أظن أنك ستعود لفعل ذلك أبدا , وهو خير لك , ووحدك المسئول عما تفعل , على بركة الله . ؟
-والله لا أعود لهذا أبداً ، والطائر الحر لا يليق به الأسر, بل وقلت في سري لو جاءني هذه المرة ابن إمام الحرمين الشريفين
#احمد_مصارع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟