ابو حيان التوحيدي
الحوار المتمدن-العدد: 1351 - 2005 / 10 / 18 - 07:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في عام 1962 نشر الفيلسوف توماس كون كتابه الشهير " بنية الثورات العلمية " والذي تركز بشكل اساسي حول العلوم الطبيعية, ولكن تأثيره مالبث ان امتد حتى الى العلوم الاجتماعية, وهكذا سيظهر عام 1970 كتاب " علم اجتماع علم الاجتماع " على الطريقة " الكونية" نسبة لكون. كان السؤال الاساسي لكون هو كيف يتغير العلم؟
كان الراي السائد في صفوف معظم العلماء, ان العلم يتقدم بشكل تراكمي, العلم وصل الى حالته الراهنة بعملية تراكم للمعرفة بطيئة ومستمرة, وهكذا في المستقبل سيتقدم اكثر. هذا التصور كان رائده نيوتن. لكن كون يقول لنا ان هذا التصور لعملية تطور العلم هو تصور خاطئ وحاول كون جاهدا ازالته.
يقر كون ان " التراكم " يلعب دور رائد واساسي في عملية تقدم العلم, ولكن التغييرات الاساسية والكبرى نحصل بفعل " الثورات العلمية" . يقدم لنا كون التصور التالي لكيفية حدوث الثورات العلمية سأحاول ان اوضحه بالمخطط التالي :
باراديغم ______العلم العادي _____ انوماليا ( شذوذ, لا انتظامية )
(1) (2) (3)
ازمة _________ ثورة _____باراديغم جديد
(4) (5) (6)
يعتقد كون انه في العالم دائما هناك انموذج او " باراديغم" مسيطر. اما " العلم العادي" هي فترة تراكم للمعرفة وحيث يقبل العلماء البراديغم المسيطر ويعملوا على نشره . هذه العملية ستؤدي الى ظهور " انوماليا" وهي عباراة عن حالات من المستحيل فهمها من خلال البراديغم المسيطر, عندما تزداد هذه الحالات الشاذة او اللاانتظامية يتكون " الازمة " والتي بدورها ممكن ان تؤدي الى الثورة العلمية , ومن ثم توليد باراديغم جديد وتعود نفس الكرة.
الباراديغم تفيد بعملية التمييز بين مجموعة علمية واخرى, ممكن ان تستخدم ايضا للتمييز بين الفيزياء والكيمياء او بين علم الاجتماع وعلم النفس مثلا, كما يمكن ايضا استعمالها للتمييز بين مراحل تاريخية مختلفة في عملية تطور العلم. هناك استخدام ثالث للكلمة للتمييز بين تيارات ضمن نفس العلم , مثلا ضمن علم الاجتماع بين ماركس وماكس فيبر و دوركهيم. وهكذا هناك فرق بين النظريات والبارديغم, فالنظريات هي فقط جزء من الباراديغم.
ماذا عن الباراديغما التي سادت في العالم العربي الاسلامي في المراحل التاريخية المختلفة؟ هل نستطيع الكلام عن بنية للثورات العلمية في العلوم الدينية؟
مع ظهور الاسلام ومنذ البداية قام بدحض المعرفة الاستدلالية الحسية والتي كانت ممثلة بالكفار اولئك الذين كانوا يقدمون اعتراضات عقلية, فكان رد القران قاسيا ولنأخذ كنموذج هذا المقطع ونعالجه :
“وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق انكم لفي خلق جديد. افترى على الله كذباً أم به جِنَّة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد. أفلم يروا الى ما بين أيديهم وما خلفهم إن نشأ نخسف بهم الأرض او نسقط عليهم كسفاً من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب”
يقول الطبري مفسرا المقطع الاول والذي باللون الازرق بالشكل التالي :
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلّكُمْ عَلَى رَجُل يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّق إِنَّكُمْ لَفِي خَلْق جَدِيد } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّد , مُتَعَجِّبِينَ مِنْ وَعْده إِيَّاهُمُ الْبَعْث بَعْد الْمَمَات بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : { هَلْ نَدُلّكُمْ } أَيّهَا النَّاس { عَلَى رَجُل يُنَبِّئكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّق إِنَّكُمْ لَفِي خَلْق جَدِيد } يَقُول : يُخْبِركُمْ أَنَّكُمْ بَعْد تَقَطُّعكِمْ فِي الْأَرْض بَلَاء وَبَعْد مَصِيركُمْ فِي التُّرَاب رُفَاتًا , عَائِدُونَ كَهَيْئَتِكُمْ قَبْل الْمَمَات خَلْقًا جَدِيدًا
رفضوا البعث بعد الموت, هذه معرفة استدلالية حسية . فماذا كان جواب " القران" كان تأسيس للمعرفة " الغيبية " او " الاسطورية" , حيث نجده يقول لهم :
" وَقَوْله : { بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَاب وَالضَّلَال الْبَعِيد } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : مَا الْأَمْر كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَظَنُّوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ افْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا , أَوْ أَنَّ بِهِ جِنَّة , لَكِنْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي عَذَاب اللَّه فِي الْآخِرَة , وَفِي الذَّهَاب الْبَعِيد عَنْ طَرِيق الْحَقّ , وَقَصْد السَّبِيل , فَهُمْ مِنْ أَجْل ذَلِكَ يَقُولُونَ فِيهِ مَا يَقُولُونَ "
طبعا والامثلة كثيرة ولكي لا اطيل ساكتفي بهذا المثال.
بعد ذلك وبعد ان وجد العلماء المسلمين انفسهم اما سيطرة هذا النوع من المعرفة( الازمة), سيقوموا بالانكباب على النصوص الفلسفية اليونانية, وسنجد ان النصوص الاساسية للفلسفة اليونانية كانت قد ترجمت الى العربية مع نهاية القرن الثامن الميلادي, اذا كانت "ثورة" في مقابل " العلم العادي" او المعرفة الاسطورية , وهكذا سيتجسد ذلك بظهور المعتزلة الذين سيطرحون " خلق القران" الذي ما هو الا وعي تاريخي او " تاريخية القران " في مواجهة " قدم " القران او الوعي الاسطوري واللاتاريخي للقران, وهكذا سنجد في القرن الرابع الهجري او العاشر الميلادي مايسميه الدكتور محمد اركون ب" نزعة الانسنة " اي الانفتاح على كل انواع العلوم والمعارف وتتجسد بشخصيات كبيرة مثل مسكويه وابو حيان التوحيدي والجاحظ .
بعد ذلك ستنتهي تلك "الثورات" وندخل عصر الانحطاط , وسيكون المخطط كالتالي:
باراديغم ______العلم العادي _____ انوماليا ( شذوذ, لا انتظامية )
(1) (2) (3)
ازمة ________ " تكرارية "_____ عودة الى بارديغم سابق
(4) (5) (6)
حيث سيتم تكرار واجترار باراديغما سابقة والانغلاق عليها فباب الاجتهاد مقفول , فالبدعة ضلال !! ولن تولد اي باراديغما جديدة.
وسنجد في عصرنا الحالي بدلا من ابو حيان التوحيدي والمعتزلة وفهمهم التاريخي للقران مثلا زغلول النجار و" الاعجاز العلمي في القران " العودة الى مرتكزات الباراديغما السابقة " الوعي الاسطوري للقران ".
#ابو_حيان_التوحيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟