والقلب يعشق سراً .. ( الجزء السادس )

فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 4903 - 2015 / 8 / 21 - 20:31
المحور: الادب والفن
    

أثناء لقائه اليومي بالدكتور أشرف لممارسة الرياضة وسط الغابات، كنا محور حديث نديم الأساسي، مجموعة أصدقائه وزملاء الدراسة : عصام رضوان وأنا وبهاء محمود وريمون مجدي.
في اعتقادي أن حديثه هذا ما كان سوى شعوراً بالحنين والوحشة، لذا فلم يكن يتوقف عن سرد مختلف المواقف والذكريات:
مجموعة هايلة، كانوا على طول فى بيتنا، وكنا بنذاكر مع بعض، بما فى ذلك سلوى، بنت مجدع مافيش كلام، مسيرك تقابلهم في يوم من الأيام وبالذات سلوى أحب أوي إنك تتعرف عليها.
كان نديم يحكي بحماس فابتسم دكتور أشرف وقال مازحاً :
شوّقتني إني أتعرف عليهم بس ما قولتليش.. مجدع يعني إيه !! شبه الرجالة يعني ؟
فاندهش نديم من سؤاله وقال مستنكراً:
شبه الرجالة إزاي؟ مين قال كده؟ بالعكس سلوى جميلة جداً، كفاية ذكاؤها.
فأكمل دكتور أشرف بخبث:
طيب خلاص خلاص ما تزعلش يا سيدي إنت للدرجة دي بتحبها؟
فعاجله نديم وهو مبتسم لكشفه ما وراء أسئلة دكتور أشرف:
بموت فيها بس هي بالنسبة لي زي شيرين، أخت يعني.. أخت حقيقية.
حكى لي نديم عن هذا الحوار الذي دار بينه وبين دكتور أشرف بالتفصيل بعد عودته من السفر.. وكان من المفترض أن أشعر بالفرحة لانطباع نديم هذا عني، لكني في الحقيقة شعرت بالغيظ، ولا أعرف ما الذي أثار غيظي حينذاك.


***
لم أكن قد التقيت بالدكتور أشرف الكاشف بعد عودته إلى مصر، إلى اليوم الذي تلقيت فيه اتصالاً هاتفياً من نديم، يدعوني فيه لحضور ندوة، ضيفها الدكتور أشرف، الذي كان قد عاد إلى مصر قبل أسبوعين وانشغل نديم معه، جاءني صوته هاتفاً بترحاب مرحّباً كعادته وبلا مقدمات:
يابنتي مش معقول كده..! أنا بقى لي ميت سنة ما شفتكيش، هاشوفك إمتى؟
يانديم أنا مريت عليك في المركز إمبارح والنهاردة .. إنت اللى مش موجود، وبصراحة كان نفسي أقعد معاك شوية، بقى لي مدة ما شفتكش.
معلش إنشغلت مع الدكتور أشرف، بس لازم تتعرفي عليه.
الدكتور أشرف مين ؟
يا نهار أبيض !! إنت نسيتي؟ أنا كلمتك عنه اول ما رجعت من أمريكا.. ده انت حتى وقتها قلتي لي لما ييجي مصر ضروري تعرَّفني عليه.
ثم أكمل :
كاتب ومفكر ومحلل سياسي من العيار التقيل، وأنا مش عاوز أفوِّت فرصة وجوده في مصر من غير ما المركز يستفيد بمحاضرة أو اتنين من بتوعه.. وكمان ناوي أحط في المكتبة شوية من الشغل بتاعه.
أيوة أيوة إفتكرته.
طيب إعملي حسابك يوم السبت اللى جاي فى ندوة حيكون ضيفها.
السبت ده مستحيل يا نديم ورايا مليون حاجة.. وانت عارف اني بعمل كل الحاجات المؤجلة طول الأسبوع في اليوم ده.
فقال بانفعال:
ياسلاااام يا سلوى.. بقولك لقاء مهم.. أي حاجة ممكن تتعمل في وقت تاني.
أجبته مستسلمة فقد كنت متأكدة أنه لن يتنازل:
حاضر حاضر، عموما لو خلصت بدري ضروري آجي على الأقل نقوم معاه بالواجب، بس بلـَّغ عصام إن ......
فقاطعني نديم :
لا الكلام ده ما ينفعش.. لازم تيجي، مش لو خلصتي بدري.
فقلت باستسلام:
حاضر.
في يوم الندوة وصلت متأخرة بعد حوالي ربع ساعة من بدايتها، قابلتني شيرين مرحّبة، احتضنتها بود وجلست بجوارها في آخر صف من المقاعد، فقالت بصوت هامس:
نودي هيتجنن علشان إتأخرتي وكمان أونكل عصام لسة جاي قبلك بخمس دقايق.
رددت:
عارفة عارفة، هنصلح الموضوع.
القاعة كانت مساحتها صغيرة، بحيث استطعت أن أتبين ملامح وجه نديم وهو جالس على المنصة ينظر إليَّ معاتباً على تأخري، يدير الندوة بنفسه على غير العادة، مما يدل على اهتمام خاص يوليه للضيف الذي كان بجواره مباشرة.
رجل وسيم، يرتدي ملابس رسمية، بدلة كحلية أنيقة على أحدث طراز مودرن، وكوفية بيج، شعره شديد السواد ناعم يتخلله بضع شعيرات بيضاء أعلى أذنيه تمنحانه جاذبية ووقاراً، له حاجبان كثــَّان يزيدان عينيه قوة، وملامحه أقرب للملامح الإيرانية. يبدو في أواخر الثلاثينيات.
في الاستراحة، وقف الضيف وحوله لفيف من الحضور يرحبون به ويمطرونه بالأسئلة، يرد عليهم وقد كست ملامحه ابتسامة هادئة تنم عن ثقة كبيرة في النفس، يرشف شاياً من فنجان بأناقة. بينما لمحتُه ينظر لي من حين لآخر، حيث كنت أقف مع شيرين على مقربة منه، نتبادل حديثاً قصيراً ، فجاء إلينا نديم مهللاً وصوته يمتلئ بالحماس:
أخيرا شرفتي، مش قلت لك تسيبي كل حاجة وتيجي يا سلوى؟ تعالي لما أعرفك على الدكتور أشرف، وفين عصام بيه؟ طبعا زوَّغ كالعادة.
فردّت شيرين مدافعة كأنما تريد أن تمتص غيظه:
لا يا نودي هو قال إنه خارج يشتري سجاير وراجع تاني على طول.
نظر لشيرين مبتسماً ثم جذبها من شعرها مازحاً وقال:
وإنتي بقى المحامية بتاعته!! والله عال.
ثم جرَّني نديم من رسغي كطفلة، بينما شيرين تتعلق بيده الأخرى، متجهاً بنا نحو الضيف، وقال مبتسماً:
آدي يا سيدي سلوى الشيشيني اللى ياما كلمتك عنها.
ثم مازحاً وماداً يده الأخرى الممسكة بيد شيرين:
وآدي شيرين العفريتة اللي مجنناني.. انت إتعرَّفت بعصام أما ريمون وبهاء فمسافرين واحد فى بعثة فى كندا والتاني فى السعودية بيعمل شوية فلوس.
ثم التفت إليّ وقال بمرح:
آديكي شفتي الدكتور أشرف، عاوزك بقى تقولي له كل اللى قولتيه من وراه لما كنت باحكيلك عنه وأدِّيكي كتبه تقريها.. سلوى من أشد المعجبين بك يا دكتور.
شعرت بوجهي يسخن والخجل والإحراج يملآني ثم نظرت له معاتبة وقلت:
انت مش هتبطل هزارك ده! وأكملت بجدية: أهلا بيك يا دكتورأشرف أنا فعلا عرفت حضرتك من كلام نديم من كتر ما حكى لنا عنك، ومن خلال كتبك طبعا.
رد دون أن تختفي الابتسامة:
أولا بلاش اللهجة الرسمية دي، ثانيا أنا كمان أعرفك من زمان يا سلوى من قبل ما أشوفك بكثير، ياما نديم كلمني عنك فكوِّنت صورة ذهنية والحمد لله ما طلعتش بعيدة.
ازداد وجهي سخونة حين ناداني بإسمي مباشرة رافعاً الكلفة بيننا، فتدخل نديم مقاطعاً:
تعالوا نشِم هوا فى البلكونة لحد الاستراحة ما تخلص. فوافقناه جميعاً.
خرجنا إلى الشرفة، لسعة البرد أنعشتنا ورائحة العشب الذي بلله المطر تخللت رئتي، وأعادت لي ذكرى أيام سهرنا بعد البروفات، وكل منا يحمل كوباً من الشاي يدفئ به كفيه، حتى النور الخافت الصادر عن غرفة عم صالح كان له عميق الأثر في نفسي. نظرت لنديم وأحسست أنه يفكر في نفس الشيء الذي أفكر فيه،..وكأن قطار الذكريات توقف بحمولته عندي ثم عنده..

تحدثنا طويلا أنا وأشرف في هذه الليلة. سألني عن عائلتي ودراستي والكتب التي أحب قراءتها وأنواع الموسيقى المفضلة لدي، وتبادلنا أرقام التليفونات، لم يقطع حديثنا سوى حلول موعد الجزء المتبقي من الندوة واستماعنا بعدها لسوناتا ضوء القمر، التي تعزفها شيرين على البيانو بطريقة بديعة أضفتْ على تلك الليلة مذاقاً ساحراً خاصاً.
ظللت أتأمل أشرف من بعيد أثناء العزف في محاولة مني لإكمال الصورة التي تشكلت في ذهني من حكايات نديم عنه، أتفرس في ملامحه الهادئة، ولحظات كان يغمض فيها عينيه مستمتعاً منسجماً مع الموسيقى، كنت أنظر إليه دون أن يراني، أعجبتني طريقته فى نطق اِسمي ونبرات صوته التي يتخللها بحّة بسيطة، لعينيه الواسعتين نظرة تنمّ عن حضور وقوة شخصية. أحسست أنه جدير بالاهتمام الذي يحظى به من نديم.
خرجنا بعدها كلــنا لتناول العشاء، على أنغام موسيقى ناعمة بأحد المطاعم على النيل، بدعوة منه شخصياً، وأصر على أن يذهب عصام ليحضر زوجته نيفين لقضاء السهرة معنا.
فتح الدكتور أشرف لي باب السيارة لأركب بجواره بمنتهى الرقة والتهذيب.
لم نتوقف عن الكلام طوال الطريق، ونديم يحاول التقريب بيننا دون سبب واضح. كنت مرحة في هذه الليلة مرحاً يشوبه بعض التحفظ، إلا مع شيرين التي كنت أتبادل معها نظرات تحمل الكثير من المعاني من حين لآخر، وكانت تتفهمها رغم صغر سنها في ذاك الوقت، قال أشرف فجأة:
أنتِ سريعة البديهة يا سلوى وكمان شديدة الذكاء، ملاحظاتك تنم عن ثقافة وجدية.

حين وصلنا إلى المطعم، دعاني إلى الدخول وخلع عني سترتي التي ارتديتها بعد خروجنا من الندوة، وأزاح ليَّ المقعد لأجلس ثم جلس قبالتي.
لحق بنا عصام ونيفين زوجته الحامل، وهي ابنة عمه، يعشقها ويدللها ويشاكسها بالنكات طوال الوقت، وبخفة ظلها المعروفة بها قالت لنا حين جلست وهي تربّت على بطنها المنتفخ، وتخبطه بنفس الطريقة التي يتبعها الناس ليعرفوا بها مدى جودة البطيخ:
أنا باعتذر عن النمرة بتاعتي الليلة دي يا جماعة، أصلي أكلت كتير شوية النهاردة.
ضحكنا من القلب.. وحين بدأ العازفون في عزف موسيقى " مون آمور"، نظر أشرف لي، ثم مد يده إلي برقة فى دعوة صامتة لمراقصته، فتطلّعت بتلقائية جهة نديم - كما لو كنت أستأذنه - بدا كأنه تردد للحظة، ثم غمز لي مبتسماً مشجعاً، فأومأت بالموافقة، حين وصلنا إلى الحلقة المخصصة للرقص، احتواني أشرف بين ذراعيه. كنتُ أنظر بين حين وآخر إلى نديم فألمح ما يشبه الشجن في عينيه . تلك النظرة التي غالباً ما كنت أراها بمجرد أن يشرد قليلاً مهما كان للظرف من تأثير إيجابي عليه.
لم أشعر بالوقت ونحن نرقص طوال السهرة، ثم غادرنا في ساعة متأخرة من الليل، وضحكاتنا تملأ المكان.
لم أنم فى تلك الليلة والأسئلة تلح على ذهني:
هل لنديم يد في هذا الاهتمام الذي أبداه الدكتور أشرف نحوي؟
لماذا يشجعني نديم ويدفعني تجاه الدكتور أشرف؟!
لعله يتصور أني أحبه فأراد أن يمحو هذه الفكرة من ذهني بدفعي تجاه شخص آخر؟
تُرى .. هل الدكتور أشرف سيهتم بفتاة بسيطة مثلي رغم ما أبداه من اهتمام وودّ.. وهو الرجل صاحب المكانة الرفيعة في الأوساط السياسية والفكرية؟



تولدت بداخلي رغبة شديدة في الاتصال بالدكتور أشرف.. ولكن خشيتي من أن يعتبرني متطفلة ألجمتني، وحين جافاني النوم قررت أن أتصل وليكن ما يكون.
جاءني صوته على الجانب الآخر بمجرد أن رفع سماعة التليفون قال بصوت باسم:
أهلا سلوى.
عرفت إزاى أن أنا المتصلة؟
مش عاوزة ذكاء، أصل أنا لما أرغب بشدة فى حدوث شيء معين بيحصل.
ثم انفجر ضاحكاً.
فرددت عليه متسائلة فتساءلت وأنا أخفي فرحتي:
عاوز تفــَّهِّمنى إنك كنت عاوزني أتصل بيك؟
جدا.
أشرف يستخدم عبارات قصيرة في لغة تلغرافية محددة، دون لف أو دوران أو إطالة، صادق ولا يجيد كلمات الإطراء والثناء التي غالباً ما تعجب النساء.
في هذه الليلة ظللنا نتحدث حتى ظهور الخيوط الأولى من فجر اليوم التالي. لم أكفّ عن الأسئلة، ولم يملّ أو يتذمر ، وظل يجيبني بمنتهى الصبر، بل وأحياناً كان يتركني أنتظر لدقائق على الجانب الآخر ريثما يحضر كتاباً يقرأ منه مقطعاً ليؤكد لي ما قال، تحدثنا في كل شيء، شغفي للمعرفة وعقلي المليء بالتساؤلات، المتعطش للإجابات حينذاك، كان يشعل حماس أشرف، لدرجة أن الوقت قد مر دون أن نشعر به، ونحن مستمران في الحديث، قطعه فجأة بالسؤال:
حشوفك إمتى؟
فأجبته ضاحكة وبدون تردد بعد أن نظرت في الساعة بجوار فراشي:
الساعة دلوقتي أربعة الفجر .. أشوفك دلوقتي.
في الثامنة صباحاً كنت أستقل سيارتي الصغيرة في طريقي إلى العمل، وحين وصلت، وجدته منتظراً بالقرب من الباب الرئيسي حاملاً باقة من الزهور، مد يده بها إلي قائلاً وابتسامة تعلو وجهه:
الزهور دي قالت لي إنك بتحبيها فلم أتردد قلت أوصلهم لك.
ضحكت ملء قلبي، ومددت يدي أضم الباقة وقلت باختصار حتى أنهي الحديث، كي لا ألفت انتباه زملائي الذين يدخلون من هذه البوابة:
ما أقدرش على المفاجآت دي.
منذ ذاك الحين تأكدت من أن أشرف يـكنّ لي مشاعر حب.. متحفظ ولكنه عميق . وتعددت لقاءاتنا فيما بعد، سواء بين الأصدقاء أو منفردين. كنت أسعد بوجودي معه، وبعد كل لقاء كنت أشعر بأن شيئاً ما أضيف لعقلي. لقاءاتنا كانت بمثابة غزوة فكرية لموضوع من الموضوعات الحساسة الحرجة، ولا سيّما تلك التي لم أجرؤ أبداً على مناقشتها مع أي إنسان، فتحولت علاقتنا إلى صداقة وطيدة، ولكني كنت شبه متأكدة أنه أحبني.
متأكدة أم شبه متأكدة .. يحبك والسلام ، وكان واضحاً يا سلوى. ليست هذه النقطة، المهم هو :
وأنتِ ؟ هل أحببتِه أنت أم أنك أُخِذتِ بشخصيته وأرضى أنوثتك التي لم يلتفت إليها نديم ؟ لنكنْ واضحين .. أجيبي .
أنهكني في البداية حتى اعتدت على طباعه، فلم يعد يفاجئني باختفائه مثلاً لعدة أيام ، ثم ظهوره بعد أن تكون كل المخاوف والوساوس قد التهمت عقلي .. سألته مرة أين كان وأنا أحترق غيظاً أين كان، فرد عليّ بهدوئه المعتاد:
كنت فى دبي ولسة راجع إمبارح.
فرددت بعصبية:
وما كانش ممكن تقوللي قبل ما تسافر؟ ثلاث أيام أدور عليك وماعرفش عنك حاجة؟
علتْ الدهشة وجهه وقال:
أقولك؟! طب ليه؟
فصرخت بمنتهى الانفعال :
يعني لو عكسنا الأمر مش حتزعل؟
فرد أشرف بلباقة وودّ:
أبدا .. عارفة ليه؟ لأن مافيش حد فينا بيمتلك التاني، كل واحد مننا عبارة عن طير حر نتقابل فى هوامش لكن مش مفروض إننا نحتل حياة بعض، مش مفروض أن نعيق حركة بعض.. وياه.. سلوى راحت للترزي من غير ما تقوللي، ويا سلام.. أشرف راح السينما مع أصحابه وما قالش.
رددت بغضب:
أوكي إعمل اللى انت عاوزه.
فابتسم وأكمل أشرف بنفس الهدوء متجاهلاً عصبيتي وانفعالي :
تعالي نتحرر من مشاعر الملكية، ونشوف علاقتنا كإثنين اختاروا يمشوا فى الحياة جنب بعض، اختاروا .. فاهمة يعني إيه إختاروا ما فيش حد أجبرهم على حاجة، متساويين فى كل شيء، في وقت بيجروا ، ووقت تاني ماشيين ببطء ، ووقت تالت بيساعدوا بعض على التقدم للأمام في الحياة ، وهكذا.
أنصتُّ لكلامه وعلى وجهي تعبير الاقتناع، وأجبت بصوت خفيض:
فهمت.
فتهلل وجه أشرف وهتف قائلاً :
مش بقولك ذكية.
ابتسمت بسعادة ، وفوجئت به يُخرِج من جيب ســترتـه جراباً جلدياً شديد الفخامة ويقدمه لي قائلاَ :
أتمنى تعجبك.
تناولته بلهفة طفل، فتحت الهدية ، فوجدتها ساعة غاية في الجمال والذوق الراقي.. مددت له يدي بالساعة، فزيّن بها معصمي ثم انحنى وقبــِّل يدي، فسرت رعشة في جسدي.. وشعرت بسعادة غامرة.
استطاع أشرف أن يستخرج الأنثى من داخل عقلي، فانشغلت به وبـهـرت بشخصيته، وأصبحت لا أرى سواه، أقلق لغيابه وباتت حياتي بالكامل تسير من خلاله. أتلهف للقائه لأني أعلم أن هناك دائماً جديداً ينتظرني.

هل تذكرين يا سلوى يوم مر عليك في صباح أحد الأيام وطلب منك أن تنزلي إليه، ولما ركبتِ السيارة قلت له مندهشة :
خير يا أشرف؟ في حاجة؟ ايه اللى جابك بدرى كده؟
حبيت نفطر سوا قبل ما نروح الشغل.
يا مجنون!! انت وحشتني.. وحشتك؟
عادي يعني.
عادي يعني ايه؟؟ وحشتك والا لأ؟
يعني جاى من آخر الدنيا وعاوز نفطر مع بعض يبقى ده معناه إيه!
طيب مش الأسهل تقول أيوة وحشتيني ؟
إنتِ لسة ما عرفتينيش، ما أحبش أقول الكلام التقليدي المستهلك اللي كل الناس بتقوله.

موسيقى بيتهوفن تملأ جو البيت، وما زالت الذكريات تتداعى إلى ذهني، تركتَ فراغاً كبيراً يا أشرف.. والذكريات الرائعة التي صنعناها معاً ستكفيني العمر كله، ترى.. هل أحببتني أكثر مما أحببتك ؟
الحقيقة .. أنه .. رغم التقارب الشديد الذي حدث بيني وبين أشرف، ظل هناك في الأفق البعيد شيء يقف عقبة بين قلبي وبينه، أحترم آراءه وأحب أن أستمع إليه وأرى الدنيا من خلال منظوره هو للحياة.. أستمتع بنزهاتنا وأجد لها طعماً خاصاً.. لكن، دوماً معه أشعر أني تلك الفتاة الصغيرة التي لم تنضج بعد، والتي ما زال أمامها الكثير لكي تكون على نفس المستوى من الندية كعلاقتي بنديم أو عصام مثلا.. لم يكن أشرف يعبّر عن حبه بإظهار غيرته كما يفعل العشاق، أو بكلمات الغزل التي نعرفها ونتوق شوقاً لسماعها، لكن لم يكن هذا دليلاً أبداً على أنه لا ينصهر ألماً لبعادي، حين كنت أضطر للسفر بمأموريات عمل تطول أحياناً لتصل إلى الشهر، أو تملأ الدموع مآقيه حزناً لو جرحني دون قصد.
على أي الأحوال كنا متفاهمين إلى درجة كبيرة، درجة لم تكن تسمح لي بأن أفرّق إذا ما كان الذي يجمعنا حباً أم صداقة حميمة من نوع خاص ؟ حتى أوصلنا هذا التفاهم إلى أن أصبحنا أنا وأشرف نتحدث بلغة العيون دون حاجة للكلمات، علاقتنا كانت معلنة وأمام الجميع والكل يباركها، حضورنا بين الناس كان محبباً، وكنا نــقابــل بالترحاب أينما تواجدنا، فقد كان له مكانة وثقل سياسي وحديث شيق وثقافة موسوعية شديدة الرقي، وشكلنا ثنائياً ناجحاً بدرجة كبيرة.

أصبح نديم واحداً من أصدقاء أشرف المقربين، يستشيره فى أمورنا ويعيد له الفضل دوماً فى ارتباطنا. وكان نديم يؤكد لنا أنه كان يعلم ومنذ اليوم الأول الذي التقى فيه بأشرف، أنه أنسب شخص من الممكن أن أرتبط به، وذلك لأنه يعرفني جيداً وكنت له بمثابة أخت وصديقة !! ويظل نديم يعدّد ما تشاركنا فيه منذ الطفولة، ويحكي عن محاولاتي وصبري في النقاش لإقناع والده الذي كان يثق بي كابنته، أيام قرر التخلي عن شهادته الجامعية، والاتجاه لدراسة الإخراج السينمائي وبناء المركز الثقافي، مشروعه الذي تمناه طوال حياته.
أسندت رأسي على ظهر المقعد، أتذكّر ..
لا أنسى عندما أصيب نديم بكسر في رسغه، إثر سقوطه من أعلى سلم أثناء أعمال ترميمات وإصلاحات فيلا جده، تمهيداً لافتتاح مركز النجار الثقافي، ذهبت لزيارتهم ، استغلّ السيد توفيق غياب نديم في غرفته وصارحني بأنه يتمنى لابنه زوجة في مثل رجاحة عقلي وتفهـُّمي.
كما عرفت من دادا نبوية فيما بعد، أنه كثيراً ما ألحّ على نديم أن يفكر بي كزوجة له، على اعتبار أننا تربينا ونشأنا معاً، وبيننا الكثير من التفاهم والأشياء المشتركة.
كان يجذبني من شعري مازحاً أمام والده وينظر في وجهي ويقول بطريقة تمثيلية:
دي وحشة أوي يا بابا.. لأ لأ، ما أقدرش ما أقدرش.
فكنت أقول بدلال متجاهلة المقصود من وراء كلمات نديم:
صحيح يا أونكل توفيق!! أنا وحشة؟
فيرد الرجل بصوته الضخم مؤكداً:
إنتِ!! ده إنتِ قمر يا سلوى، هو يطول!! تعالي إتجوزيني أنا.
فننطلق ضاحكين، وأضع عيني في عيني نديم الزرقاوين العميقتين، لعلي أرى ما أتوق إليه، فألمح نظرة العشق تقترب من حافة البوح.. إلا أنه كان يقبض عليها في آخر لحظة.. وأعود خائبة خاوية الوفاض.
كنت دوماً قريبة منه أشاركه معاناته فى مشاكل شيرين من أصغرها، كالقلق عليها حين تمرض أو تصاب بالبرد، إلى الأكثر صعوبة كغيرتها عليه، وصراعها المستمر مع صديقته الإيطالية لأسباب تافهة أحالت حياته بسببها إلى جحيم، لدرجة أن طلب من فتاته ألا تأتي إلى مصر، وأن يذهب هو إليها ليقضي معها الوقت في روما، أو أن يذهبا معاً إلى مكان ما في العالم ليلتقيا بعيداً عن شيرين.. وفي الحقيقة كنت كثيراً ما أجد أن شيرين محقة في انزعاجها من هذه الشخصية، التي كانت من وجهة نظرنا أنا وهي لا تناسب نديم الفنان الراقي الإنسان، فقد كنت أراها فتاة سطحية، لكني لم أصرِّح بهذه الأفكار أبداً خشية أن يتهمني نديم بالغيرة، وهي الفكرة التي حُظِر طرحها.



في إحدى الليالي الصيفية، كنا مجتمعين بالمركزالثقافي أو المقهى كما كان يحلو للبعض تسميته وفي ضيافة نديم، وكان زميلنا بهاء محمود قد عاد لتوّه من السعودية لقضاء إجازة بعد عامين من الغياب. بهاء زاملنا طوال فترة الدراسة الجامعية وكان واحداً من مجموعتنا في المذاكرة والرحلات، ولكنه لم يكن في فرقتنا الغنائية، انضم إلينا بعد إلحاح طويل على نديم، وكنا أنا وعصام وريمون نرفضه لغرابة آرائه وتشدده خاصة مع الجنس اللطيف.
تصادف أن كانت ليلة عيد ميلادي، وقد حضر عصام وزوجته نيفين وأشرف بصفته أصبح واحداً من أصدقاء نديم وكذلك بعض الأصدقاء الآخرين. كانت المرة الأولى التي يلتقي فيها زميلنا بهاء بالدكتور أشرف، قابلناه جميعاً بحفاوة وإذا به يصافح الجميع ما عدا نيفين وأنا وقال:
معلش يا سلوى أصلي متوضي.
امتقع وجه أشرف وشعرت أنا بالحرج واحمرّ وجهي وخاصة أني كنت قد مددت يدي له، فقلت بغيظ مستنكرة:
هو أنا كلب حينقض وضوءك ؟
فقال بخجل :
لا أستغفر الله انتي ست الناس كلها.
فرددت عليه محذرة :
أيوة كده إتعدل.
كان بهاء قد أطال لحيته وبدا حديثه غريباً على مجتمعنا في ذاك الوقت. وبعد أن دارت بعض الحوارات تبيَّن منها أن بهاء يتبنى آراء غاية في التشدد.
حاول نديم التدخل ليضفي جواً لطيفاً على اللقاء، فنادى شيرين وكانت تجلس على مسند المقعد الذي أجلس أنا عليه قبالته وقال لها بلطف :
حبيبتي .. إيه رأيك تهدي سلوى المقطوعة الحلوة اللى سمَّعتيها لي الصبح !!. دي ألفتْها مخصوص علشانك يا سلوى.. مش حتصدقي الجمال ، ياللا يا شيري.
تحركت شيرين كالنسمة الرقيقة نحو البيانو، فأطفأ نديم الأضواء إلا ضوءاً مسلطاً على العازفة، لتبدو صورتها بجسدها النحيف الرقيق، مع النغمات العذبة الصادرة عن البيانو الأسود الضخم كحلم رومانسي ساحر.. أو كإحدى لوحات رينوار أو ديجا.
كانت نغمات البيانو تنساب وكأنها تمر في عروقنا، يهبّ علينا عبير الورود، من حولنا والقمر يلقي بضوئه على الوجوه والأشجار والزهور، ويملأ الليل بهجة، وأحسست أن الضوء يتسلل إلى قلبي فيَعْتمِر بالفرح، ولا أعرف إن كان السبب في ذلك النغمات الساحرة أم نظرات الحب التي كانت تحيط بي من كل جانب.
صفّق الحضور جميعاً، بما في ذلك باقي رواد المقهى. بعد أن انتهت شيرين من العزف، أتت نحوي تحتضنني وتقبلني .. فبادرتها قائلة:
دي أحلى هدية جات لي فى عيد ميلادي.
فضحكت شيرين وغمزت لي بعينها، تماماً مثلما يفعل نديم وقالت هامسة :
أكيد مش أحلى من هدية أونكل أشرف.
فضممتها بقوة وهي تضحك.
فجأة وجّه لي بهاء كلمات خرجت كالرصاصات متسائلاً:
حتلبسي الحجاب إمتى يا سلوى؟ مش آن الأوان والا إيه ؟
فرددت وابتسامة عريضة على شفتي في محاولة لإغاظته، ثم غرست أصابعي بين خصلات شعري، وأفلتها ناشرة شعري على أكتافي وقلت لأستفزه:
الله يرحم الجينز اللى كنت بتلبسه بصابونة والقمصان المشجَّرة المفتوحة لحد بطنك، والسوالف اللى واصلة لحد رقبتك، وشعرك المسبسب على قورتك.. جرى لك إيه ؟ إنت من إمتى استشيخت والا كنت بتمثل علينا!!.
فرد بهاء مدافعاً :
كنا صغيرين، دلوقتي الواحد كبر وفهم إن كل الحاجات دي كانت غلط وحرام، ثم بالنسبة للستات أكثر بقى، إنتى كلك كده على بعضك عبارة عن عورة ولازم تتغطي بالكامل.
وكأنه فجر قنبلة لتوه، وتوتر الجميع حتى نيفين زوجة عصام، والتفتوا لنا منتبهين للحوار الذي تحول لمشادة، قلت له بتحدّ:
أنا مش عورة وما اسمحلكش تقول كده عليا ياسي بهاء.. أنا زيي زيك بالضبط ويمكن أكون أفضل، على الأقل أنا كنت من الأوائل على الدفعة واتْعينت فورا فى أكاديمية البحث العلمي، الدور والباقي على اللى راحوا السعودية يتمسحوا فى الجاز ويلموا فلوس.
تضرج وجه بهاء بدماء الغضب وهمَّ يبادرني لكن لم أعطِه فرصة وأكملت:
إسمع إنت دماغك ضربت وأكيد حصل لمخك حاجة، إنت ما كنتش كده جرى لك ايه؟ ما تقول حاجة يا دكتور أشرف، فبادره أشرف بهدوئه المعهود وقال:
لا أظن انه من الصواب إختزال المرأة في مجرد جسد، فالمرأة وقبل أي شيء إنسان له شخصية وعقل وأفكار ومستقلة تماما وخاصة لو كانت تكسب عيشها بنفسها، لذلك فموضوع الحجاب في الحقيقة هو من وجهة نظري تكريس لهذه لفكرة أن المرأة مجرد جسد.
رد بهاء بغلظة يشوبها بعض التهكم:
طيب ما هي أساسا جسد، مش شايف انها ها تثير الشهوات عند الرِّجّالة لو كشفت عن مفاتنها، والكل هيبقى عنده رغبة فيها ويَريِّل عليها !
رد أشرف وهو ما زال محتفظاً بهدوئه:
لو نظرنا للأمر بالشكل ده المجتمع هيتحول لغابة، والمرأة تبقى مجرد فريسة تنهشها العيون وينقض عليها أى عابر سبيل بمجرد ما جزء منها يظهر فتثير شهوته. المرأة كائن ناضج مكتمل العقل والشخصية وعليك أنك تحاول تغيير نظرتك للمرأة وتعيد النظر في انطباعاتك عنها.
فقال بهاء باستفزاز وكأنه يريد أن يقول لأشرف، لا تحاول أن تكسب نقطة لصالحك عند سلوى على حسابي ، فلن أعطيك الفرصة:
احنا كلنا عارفين أن النساء ناقصات عقل ودين.

عند هذا الحد، تدخل عصام بسرعة محاولاً تهدئة الموقف خاصة وأن بهاء غضب وتحفز ونهض مهدداً بأنه سيترك الجلسة، لكن عصام أوقفه مازحاً، واضعاً كفه على صدر بهاء وكأنه يمنعه من الهجوم عليّ بطريقة فكاهية، مثلما يفعلون فى خناقات الشوارع.. وقد كانت لعصام قدرة على تقليد الأصوات، وكثيراً ما كان يُصدِر فجأة أصواتاً يقلد بها شخصية شهيرة فينفجر الجميع فى الضحك، فقال بصوت مرتفع وحاد وبصوت كصوت صبي القهوة:
صلوا على رسول الله، بصراحة القعدة دي واقفة علينا بخسارة... مافيش رقاصة؟ أنا قلبي ما كانش مستريح، من ساعة ما شفت الجدع اللي اسمه بهاء ده.
فضحكنا جميعاً حتى أنا وبهاء.. لكن أشرف ظل متجهماً جاداً لا يرغب في أن يتحول الأمر كله إلى مجرد مزحة، إذ كان يرى وراء هذا الحوار شيئاً خطيراً يتكوّن داخل أذهان الشباب، كالوحش ينمو وسينقضّ على الجميع في وقت ما.
بهاء كان يجيد وبجدارة اكتساب العداوات، وكثيراً ما كان يستفز الآخرين بالدخول في معارك نقاشية، كأن يدخل في عراك مع زميلنا ريمون مثلاً حول ما إذا كان المسيح قد صُلِبَ ورُفِعَ إلى السماء، أم أن الذي صُلِبَ هو مجرد شبيه. كان يضع الجميع في حرج لولا أن ريمون كان عاقلاً ويؤثر السلام، أو يدخل في صدام مع نديم حول أن الموسيقى حرام ويجب علينا أن نكفّ عنها، أو معي حول عمل المرأة كيف أنها لا يجب أن تتشبّه بالرجال.


يتبع غداً

#فاتن_واصل (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات