|
(( وعد الله))
عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)
الحوار المتمدن-العدد: 4901 - 2015 / 8 / 19 - 14:01
المحور:
كتابات ساخرة
((وعد الله))
الفرق بين نظرتنا للحياة ونظرة الأوربي تختلف كثيراً، وهي متأتية من ثقافة مجتمع. نحن ننظر لها على كونها صراع ومنافسة وسباق الغرض منه النجاح والتفوق والتميز عن سوانا، القريب والجار والصديق... الأوربي يجد أن الحياة وسنين العمر مناسبة وفرصة لا تتكرر للسعادة والفرح، فيكسر كل القيود وينطلق ليعيش ويتفاعل مع المحيط ويبحث عن المتعة في الحياة وفي العلاقات الأسرية والمجتمعية وحتى في العمل، ولم يكن في عجلة من أمره لتحقيق ذلك ولا بسباق مع الزمن ـ كما نفعل نحن ـ لنخسر في نهاية المطاف دون دراية... سنين العمر! في أوربا، يأخذ الطالب الجامعي (قيلولة) من الدراسة في أي فترة هو يختارها، فيتوقف لكورس دراسي أو حتى لسنة ويذهب بسفرة طويلة لجنوب أفريقيا أو أمريكا أو جنوب شرق آسيا وأستراليا وغيرها للنقاهة وتجديد حيويته ثم العودة لكرسيه من جديد، ومنهم مَن يعود ليستبدل إختصاصه أو حتى كل مجال دراسته حتى لو كان قد وصل لمراحلها الأخيرة، ذلك لأنه (يكتشف) بأستقلالية تامة بأنها لا تلائمه! حتى بعد التخرج، نجد منهم من يسترخي عدة أشهر مبرراً بأن التحول من عالم الدراسة لعالم العمل والتهيؤ له يتطلب الهدوء ولملمة الأنفاس ليقوم العقل (بشحن) البدن من جديد...
السؤال الذي يجب أن نستوعب اجابته مبكراً... لِمَ الإستعجال، ولِمَ التسابق، وهل ظروري أن ندخل سباق ليس فيه رابحاً وخسراناً؟ الأغلبية الساحقة في النهاية سيستلمون شهادة تخرجهم وسيعملون ويأخذون رزقهم وحصتهم في الحياة، فليس من داعٍ للإستعجال ومتعة الحياة ليس بالضرورة أن تأتي بعد التخرج. في أوربا هناك من يتخرج بعد أقرانه بعشر سنين وهو راضٍ ولا ينظر المجتمع له كخاسر أو فاشل أو عاجز. لم نكن نحن الطلبة في بلداننا الوحيدون المتعجلون في أمرنا، فالأهل والمجتمع وحتى البلد يريدنا أن نتخرج وأن نبدأ بالعمل والإنتاج ساعة قبل أخرى... لكن هل هذا واقع حال، وهل كل من تخرّج منّا شغل مكانهِ وجلسَ على الكرسي المناسب؟ × × ×
بين يومي تخرجي من الجامعة ودخولي الجيش كان أقل من شهرين، لم يكن ذلك لأن العراق صمم على مواكبة التطور و(دخلَ) عصر السرعة، بل لأنه (دخلَ) مع جارته إيران بحرب! أكملتُ دورة ضباط أحتياط على عجل أيضاً وبفترة أربعة أشهر، ثم ظفرتُ مع زميلين مهندسين تعيين بوحدة عسكرية تقع ثكنتها بمعسكر الرشيد، وهي تحمل الرقم 6203، ولما سألنا لماذا رقم للوحدة العسكرية وليس أسمها الصريح، قالوا أنه ولزيادة الحيطة والحذر، لن يذكر على المظروف الأسم الصريح للوحدة. (لا بأس) قلنا، فهذه (السرّية) هي أول ما درسناه في كلية الضباط الأحتياط، لكن ـ استطردنا ـ كيف لنا أن نعرف أين تقع ثكنتنا بمعسكر الرشيد الذي هو عبارة عن (ولاية) كبيرة؟ قالوا في البريد العسكري بباب المعظم، أعطوهم رقم الوحدة من خلال شباك يقع على الشارع العام، وسيأتيكم الجواب بعد انتظار ليس طويلاً. كنّا الثلاث في باب المعظم باكراً، فالوقت يمر والالتحاق خلال 48 ساعة، استلم جندي الرقم ليأتينا الجواب بصريح العبارة وأمام الجميع وبصوت رخيم... ـ أبو الوحدة 6203 يروح لمعمل القاعدة الالكتروني بمعسكر الرشيد. همس صاحبي: آخ... هاي مو خوش، شو كشفوا سرّيتهم، كل واحد ينطي ورقة برقم أي وحدة، فيكشفون له أسمها وعنوانها، بالعافية على إيران وإسرائيل! لكن ومع (هفوتهم) هذه، فالحق يُقال أن جوابهم لم يتأخر، ولم نقف بالشارع تحت الشمس سوى (ساعتين ونص)!
بعد التحاقنا وحين أخبرْنا زملائنا الضباط بهذا (السهو)، ضحك ضابط مخضرم ليقول أن على شارع الحلة العام يقف طابور (فورتات) تصيح على خلق الله... (المطار السري... المطار السري)، أجابه آخر كان لتوه عائد من ايفاد على أجهزة رؤيا ليلية بأنه كُتبَ بالجوازات التي قدموها للشركة الانكليزية أنهم منتسبو شركة النقل البري العراقية، وقد ذهبوا (كسوّاق) ليتدربوا على استخدام وصيانة معدات تساعدهم في السواقة بالليل، ولما عادوا بعد اتمام فترة التدريب، وصلتهم وعلى عنوان الجيش شهاداتهم، وفيها أسمائهم و(رتبهم العسكرية)، وقال... (عرفوني مترفع رائد حتى قبل ما آني أعرف)! × × ×
تصليح المعدات وصيانتها بالجيش يتم على ثلاث مستويات، معامل الميدان لإدامة الآليات، وهي ترافق التشكيلات الآلية في حركتها، وتكون مثل المستشفى الميداني، سهلة التفكيك والنقل. ومعامل متوسطة تقع في المواقع الثابتة للفيالق وتقوم بصيانة شبه متكاملة معتمدة على مواد احتياطية تجهزها بها معامل القاعدة، وهذه الأخيرة ـ أي معامل القاعدة ـ تقع بثكنات قرب المدن ولا تتبع أي تشكيل بل ترتبط بالمقر العام وبإمكانها التصليح الآليات (أوفر أول).
(معامل القاعدة) هذه كبيرة فعلاً وفيها كفاءات وخطوط انتاجية ضخمة لتصليح المعدات والسيارات والدبابات والمدافع، فمثلاً معمل العجلات الشرقية بمعسكر التاجي، فيه خط روسي متكامل لتفصيخ سيارة (الواز) وخلقها من جديد من (عُمرة) المحرك حتى الصبغ، وآخر ألماني شرقي لشاحنات (الايفا)... وهكذا، وفي معمل تصليح الدبابات توجد خطوط لكل موديل ونوع، وفيه غرف معزولة لفحص محرك ديزل الدبابة الـ (في تايب) الذي يتكوّن من 16 أسطوانة قطر الواحدة 200 ملم، ويتم فحصه بتحميل جُهد هائل عليه دون ربط مسكتة (صالنصة) وقِس شدة الصوت. وكان معمل تصليح المُهمات في معسكر الرشيد، يشتمل على ورش حديثة ومنوعة للنجارة والحدادة والسباكة واللحيم... وفيه من المواد والخامات مخازن ضخمة يقوم عليها (فوج) من نواب الضباط والجنود المتطوعون، وله امكانية تصنيع ـ مثلاً ـ دراجة أطفال كاملة، ولو كان توجهه مدني لرفد الأسواق بما لا يتصوره إنسان! × × ×
كانت صدمة ان أجد وحدتي أي (معمل القاعدة الالكتروني) عبارة عن معمل صغير يشغل سقيفتين تم استجزائهما من معمل المهمات كونهما يتبعان نفس الصنف، صنف الهندسة الآلية الكهربائية (هـ أ ك)، أحد السقيفتين لورش صيانة وتصليح الأجهزة، والأخرى للمقر والشعبة الفنية التي نُسبتُ ضابطاً مسئولاً عنها. كان منتسبو المعمل يسمون الشعبة الفنية (ش ف)، وهي ليست كبقية أقسام المعمل، لأننا مجموعة عسكر مهنيين بعيدين عن الأعراف العسكرية، وكان بإمكاننا أن نتحرك بحرية بين بقية الأقسام وكنا الوحيدين الذين يثق بنا آمرنا حتى بدخول داره فيما لو احتاج لصيانة او تصليح أي شيء فيه.
لمّا نجح الآمر بإقناع ادارة الصنف ببناء مجمع حديث ومثالي للمعمل، خُصصت له أرض واسعة بالزعفرانية مقابل معهد التكنولوجيا، وتسنى لنا كـ (ش ف) الاشراف على بعض الاعمال ومتابعة المقاولين العراقيين في أعمال البناء والعزل والاضاءة والتبريد... كما أخذنا على عاتقنا، عمل مجاري مياه الأمطار للسقائف وذلك بتهيئة الألواح بمعمل ألمنيوم تابع لأحد جنودنا بمقابل (تفرغه) من الدوام، فيما تكفلنا نحن منتسبي الشعبة تنفيذ العمل بجهود وأمكانيات جنودنا لنوفر للصنف مبلغ كبير. كان العمل يُنجز بأحسن ما يرام وقد وفرنا كل مستلزمات النجاح كفحص المَيل اللازم لانسيابية الماء والمتانة وتحمل الجهد، وكان لدينا جندي حداد أسمه (وعد الله) يقوم بأعمال اللحيم، ولان شعبتنا استُنفرت للعمل ضمن سقف زمني بتحدٍ مع المقاول، بقي فقط جندي مهندس واحد في قسمنا لاجل البريد والاتصال بالآمر، كان من الموصل أسمه (رعد) وكنا نناديه (رعدايا) لأن هكذا كان ينطق أسمه (بالمصلاوي)! لـ(رعدايا) أخ خبير في اصلاح جهاز دخل حديثاً بيوتنا وصار وقتها وصار شغلنا الشلغل وهو (الفيديو تيب)، والمعروف أن (ميكانزم) عمل الفيديو معقد ويحتاج صيانة وتبديل اجزاء تُستهلك لأنها متحركة، كالهيد والعين السحرية والقوايش والبكرات. أخ (رعدايا) الخبير هذا كان بارعاً بلحيم الأجزاء الدقيقة، فنجح حين زارنا للمعمل بتصليح فيديو الآمر بعد أن عجزنا عن اصلاحه، تشكر منه الآمر وقام أثر ذلك بمساعدة الأخوين بفتح ورشة لهما بشارع الضباط بالاعظمية لتصليح التلفزيون والفيديو، درّت عليهما... ذهب! × × ×
... جاء يوم، شكى لي (رعدايا) أن الأمور لم تسِر تمام حين أحب أخوه الخبير شابة معظماوية ورفض أهلها تقدمه لخطوبتها، فأعتكف وانطوى وتغيب عن العمل، وبدأ مشروعهم يخسر! في هذا الوقت، تعثرت خطواتنا نحن أيضاً في تنفيذ مجاري الأمطار، لكن ليس بسبب قصة حُب، بل عانت عيون (وعد الله) ألتهاباً بسبب زيادة الضغط عليه في لحيم (الولدنك)* فتمرد ليتوقف العمل وبدا أننا سنخسر رهاننا مع المقاول... ألتقيتُ (رعدايا) وتبادلنا حديث للخروج من المأزق، وأتفقنا على ضرورة إيجاد حلاً سريعاً لمشكلة (وعد الله). قال (رعدايا): ما العمل يا ملازم عماد، علينا أن نطلب من الآمر التدخل، فهو الوحيد الذي يمكن أن يؤثر على (وعد الله) ليعود للعمل من جديد. قلت: سأتكلم مع الآمر، وانشاء الله تسير الأمور على خير.
... في صباح اليوم التالي دخلت على الآمر ليضغط على (وعد الله) العودة للعمل، قال يبدو بأن الولدنك قد أتلف عينيه ولم يعُد قادراً على العمل، ثم رفع سماعة الهاتف وطلب من آمر معمل المهمات تنسيب جندي (لحيمجي) آخر... عُدتُ وأخبرتُ (رعدايا) بأن الآمر قد نجح بحل المشكلة بالتلفون وكل شيء سيعود كما كان، وقبل أن أستكمل حديثي، تنفس (رعدايا) الصعداء وأبتهج بشكل مبالغ به و(باسني) ثم ركض لغرفة الآمر وطلب مقابلته كي يتشكر منه، فتعجبتُ كثيراً لسلوكه لكني قلت... (احساس بالسعادة أحسن من احساس بالتعاسة!).
... لم أعلم بالضبط كيف دار الحديث بينه (رعدايا) وبين الآمر وكيف صُدمَ كما صُدمتُ (أنا) حين أكتشفتُ بأن موضوعين قد التبسا علينا وتداخلا مع بعض وأنه من أغرب الصدف أن أخو (رعدايا) كان أسمه أيضاً (وعد الله)!!
عماد حياوي المبارك
× كان سوء الفهم قد مهّد لاحقاً للآمر أن يتكلم مع (وعد الله) أخو (رعد) لتنفرج مشكلته ويعود للعمل بالورشة، فسارت أمورهما بخير من جديد، كما تم تنفيذ مشروع مجاري الأمطار ضمن السقف الزمني المحدد وكسبنا الرهان مع المقاول وحصلنا نحن منتسبيو (ش ف) من الآمر على مكافئات مجزية... (أجازات طويلة). ... يلتقيي (وعد الله) الحداد والخبير ليس بالأسم فقط، لكنهما بارعان أيضاً بعملية اللحام مع الفارق الكبير بين مهنتيهما.
× لحيم الولدنك: اللحام هي عملية وصل قطعتين معدنيتين مع بعض شرط أن تكون من الفلزات، وتكونان من نفس المعدن أو من معدنين مختلفين. والعملية بإختصار هي تهيئة جزيئات القطعتين ومادة اللحام لتقبل بعضها. اليوم ليس اللحام مجرد حرفة وإنما فن من خلاله يتم صنع أشكال وأجسام تنسجم مع بعض وترتبط بقوة. لحام الولدنك يتم بإنصهار المادة الرابطة بين صفيحتين حين يلتقي قطبان يمر بينهما تيار عالي وفولتية واطئة جداً، مرور التيار العالي يؤدي لإرتفاع وقتي وشديد لدرجة الحرارة فيذوب القطب الموجب أي سلك اللحيم (الأنود) بينما يستقر القطب السالب (الكاثود) على جهة بعيدة من الشريحة المعدنية، والعملية غير خطيرة على الإطلاق، ذلك لأن (فرق الجهد) لو كان واطئاً لا يشكل أية مخاطر على الجسم، الخطر بالصدمة الكهربائية المميتة يتم حين يُسلط على الجسم فرق جهد أي (فولتية) عالية. يُمكن لقطرة لحيم ولدنك واحدة لو وُضعت بأتقال بين سطحين خشنين نظيفين أن تتحمل تعليق عدّة (مئات) الكيلوغرامات بها، وهي نفسها لا ترفع سوى عدة كيلوات لو تؤدى بدون خبرة ومهارة...
#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)
Emad_Hayawi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ناس تأكل الكباب...
-
((لستُ أدري!))
-
((وساطة!))
-
مجرد كلام سلطنة
-
سليخة
-
وهابيون جدد
-
ثلاثاً في ثلاث
-
هبهب
-
من نصرٍ... إلى نصر
-
جواسيس (غشمة)
-
حواس وعجايا
-
فيكتوريا
-
عادلون
-
رحلات الصد ما رد...
-
أذكياء لكن... أغبياء
-
شكراً عم (جيليت)
-
حارث
-
مَثار النقعِ
-
ختيارية زمن الخير
-
دينار... أبو العباس
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|