|
قراءة السلوك الانتخابي بالمغرب في ظل الانفتاح الديمقراطي
علي بلهوى
الحوار المتمدن-العدد: 4899 - 2015 / 8 / 17 - 21:39
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تتعدد أشكال الممارسة الديمقراطية و مبدئيا تعتبر الإنتخابات جزئ من الديمقراطية و آلية من آلياتها، إلا أن الديمقراطية هي سيرورة متكاملة ومتعددة العناصر، فهي إنتخابات، مؤسسات، ترسانة قانونية، وثقافة سياسية حديثة...، و هي بالتالي كل لا يتجزء، إن تعطل منه جزئ، تعطل البناء الديمقراطي ككل. فدراسة السلوك الإنتخابي عموما وبالمغرب على وجه الخصوص لا بد من دراستها من خلال عدة مقاربات،إجتماعية كانت أو قانونية، إقتصادية، سياسية، تقنية، نفسية، جغرافية، دينية ...،و ذلك بغية الوصول إلى تفسير موضوعي شامل إلى حد ما لاختلاف الأصوات و توزيعها، إلا أن ما يمكن ملاحظته في هذا الصدد هو أن الدراسات السوسيولوجية للفعل الإنتخابي، تختلف من دولة إلى أخرى، فإن أهمل المغرب للدراسات السوسيولوجية، فيرجع ذلك إلى عدة عوامل لعل أبرزها هو التأثير الكبير الذي مارسته النظرية الماركسية على السوسيولوجيين المغاربة، على أساس أن النظرية الماركسية كان موقفها واضحا من الإنتخابات إذ ترى فيها أنها تجديد لسيطرة طبقة على طبقة أخرى(لينين) و بالتالي لا تعكس في شيء الديمقراطية الإجتماعية التي كانت تسعى إليها، بالإضافة إلى أن إحجام الباحثين لإقامة دراسات حول الإنتخابات المغربية لإعتقادهم غياب شرط النزاهة و الشفافية، مما يعني أن كل محاولة للدراسة لن تكون إلا محاولة لإضفاء صبغة المصداقية على نتائجها، هذا وان مسألة الحصول على الوثائق الخاصة بالإنتخابات جعل عدد من الباحثين ( عبد الرحمان القادري، خالد الناصري على سبيل المثال) يتخلون عن فكرة دراسة الإنتخابات المغربية. قد لوحظ من خلال الدراسات الإنتخابية الخاصة بأن هناك عامل أساسي متحكم في العملية الإنتخابية و المتمثل في عامل الزبونية الذي يربط بين شخصين في الغالب لا تربطهم أية علاقة قرابة و يختلفان من حيث إمتلاك المصادر و الوسائل. إذ يمكن التمييز داخل هذه العلاقة بين ثلاث أنواع للزبونية : العلاقة الشخصية: بإعتبارها علاقة شخصية بين شخصين و خاصة في مجال معين من أجل تحقيق غرض معين كما أنها ودية فدون هذه الودية لا يمكن أن تتطور لتحقيق تلك الغايات، فهذه العلاقة هي أقرب من علاقة القرابة و التي تم وصفها بالقرابة الخيالية. العلاقة التبادلية: أي أنها علاقة تبادل للمصالح تكون بالضرورة هناك حلقة أضعف، لولاها لما كانت الضرورة إلى تكوين هذه العلاقة التبادلية مما يجعلها تتوقف في الوهلة الأولى التي يتم التفكير في نسجها. العلاقة التبعية: تتميز هذه العلاقة الزبونية بغياب المساواة عكس الصداقة يكون فيها الحلقة الضعيفة تابعا للحلقة القوية من خلال توفير هامش معين من المصالح، في حين أن المستفيد الأكبر هو المتبوع. إنها حسب هذه الدراسات تم تفسير السلوك الإنتخابي من خلال نوعين للسلوك : الأول يتمثل في التصويت المباع من خلال توفير مصالح معينة للمرشحين إما بتقديم خدمات أو موارد مالية كمقابل، وثانيا من خلال التصويت ألقطيعي الذي من خلاله يتم التصويت جماعة بتوفير مبيت جماعي و مأكل و مشرب و بعض التحفيزات ليتم التصويت في مرحلة مقبلة جماعة، فهذه الدراسة جعلت من الباحثين يصلون الى خلاصات تعكس سوى قوة النفوذ و المصالح، في حين أن الدول الثالثية أحيانا لا تتدخل مباشرة في تزوير الإنتخابات بل تكتفي بأساليب الزبونية كمحدد و متحكم في السلوك الإنتخابي هو ما يجعل أيضا مثل هذه الدراسات مفروغة من المحتوي المرغوب الذي تسعى التوصل إليه. الأسس إجتماعية و الإقتصادية كدافع لتحديد السلوك الإنتخابي: إنطلقت مجموعة من الدراسات التي اعتمدت العامل الإقتصادي و السياسي كمحدد للسلوك الإنتخابي من خلال رصد أهم الدوافع التي تدفع بالمترشحين و المصوتين بالإمتناع أو المشاركة السياسية، ثم البحث حول الدوافع التي تدفع بالمترشحين إلى ترشيح أنفسهم. يقول "فليب برو" أن الناخب يصوت مدفوعا أكثر بالدفاع عن مصالحه، بحيث يبحث عن تقليل القلق غير المرغوب فيه من خلال ثلاث مستويات: رغبة الفرد في الانتماء إلى المجموعة (يظهر السلوك الانتخابي كسلوك اجتماعي يتطور إلى عملية فردية حيث إن الفرد ينعزل للإدلاء بصوته لكن يحس بأنه يضم صوته للجماعة)، حيث أن الفرد يجد بعض العقبات تخلق له بعض الآلام، من أجل تخفيف هذه الآلام يعتبر الانتماء إلى المجموعة الوسيلة الأولى لتناسيها من خلال مشاركة آلام المجموعة و الانضمام إليها عن طريق الانتخاب العام على الرغم من سرية التصويت و شكله الانفرادي؛ إلا أن الفرد يشعر بهذا الارتباط، حيث يضن أن صوته انضم إلى ضوت الملايين من الناس. بحث الفرد أو الناخب عن الحماية: أي حماية من ظروف الحياة و أزماتها، مع العلم أن استراتيجيات الأحزاب تقوم على تضخيم الأزمات بهدف زيادة الخوف لدى الأفراد و دفعهم إلى قبول مقترحاتها و إشعارهم بالحماية المحتملة إذا ما تبنوا أفكارها و أدلوا بأصواتهم لصالح هذه الأحزاب. الخزف من الفوضى و الاضطراب الذي يثير جملة من مشاكل الماضي: الخزف من اللااستقرار، الخوف من فقدان العمل، الخوف من اندلاع صراع دولي... الفرد يرى أن عدم مشاركة السياسية في التصويت لحزب ما يعطي الفرصة لحزب آخر يؤمن بايدولوجيا عدوانية و إمكانية الدخول في صراع دولي، لذلك تعتبر مشاركته –على المستوى النظري- الوسيلة الفعالة للحد من إمكانية اندلاع الصراع الدولي و من تم يصوت لصالح حزب يؤمن بالسلام بمعنى آخر يعتبر مشاركته جزء من إحلال عملية السلام العملي. رغبة الفرد في المشاركة من أجل التحرر من مشاعره العدوانية المكبوتة: الفرد داخل المجتمع يخضع لمجموعة من القيود تبدأ أولا من عائلته التي تحاول وضعه في قالب معين وهو القالب الاجتماعي، الاقتصادي، الثقافي للعائلة، و تنتهي هذه القيود بوضع المجتمع لمجموعة من المحرمات التي تهدف إلى ضبط السلوك الإنساني و تثير هذه القيود نوعا من الصراع داخل نفسية الفرد؛ يبدأ من الصراع الأول مع الوالدين و يمكن تحديده على مستوى الذي وصفه فرويد بين الحب و العدوانية، أي حب الطفل لوالديه المانحين له الحب و الحنان و العطف، وعدائه لهم عندما تكبت رغباته و مطالبه. و المرحلة الثانية من الصراع تبدأ مع المجتمع حيث يقوم هذا الأخير بإرغام الفرد على قبول المناهج المطروحة. فمن خلال خضوع الفرد و كبت رغباته يشعر أن هذه الوسيلة "المشاركة السياسية" هي الطريقة الوحيدة لاستمرار وجوده داخل المجتمع. الأسباب الدافعة إلى امتناع الأفراد عن المشاركة كمصوتين أو كمرشحين: يحدد روبرت دال أسباب الامتناع عن المشاركة في ستة نقاط: - الشخص يشارك بصورة قليلة إذا وجد أن التعويضات التي يحصل عليها من خلال مشاركته هذه أقل بالمقارنة مع التعويضات التي يحصل عليها في أي نشاط آخر. - تكون المشاركة في الحياة السياسية أقل إذا اعتبر الشخص أن الأهداف المطروحة الجديدة لا تختلف عن سابقاتها و كنتيجة فان مشاركته لا تغير شيئا في الواقع. - مشاركته في الحياة السياسية تكون أقل عندما يشك الشخص في إمكانية تغيير الأوضاع، أي أن ثقته في نفسه و في قدراته لا تقوده إلى المشاركة الفعالة في السياسة. - المشاركة في الحياة السياسية تكون أقل عندما يعتقد الشخص بأنه يمكنه الوصول إلى نفس الأهداف بدون الارتباط بالسياسة. - المشاركة في الحياة السياسية أقل إذا حكم شخص على نفسه بمحدودية معلوماته السياسية. إذن فكلما زادت المعوقات أمام المشاركة السياسية كلما قل ارتباط الفرد بالعمل السياسي. أسباب و دوافع الفرد لترشيح نفسه: إذا ما أردنا البحث عن دوافع الفرد في ترشيح نفسه للانتخابات فلابد من الرجوع إلى الأرضية الاجتماعية و الاقتصادية. في محاولة "روبر دال" لرصد الانتماءات الاقتصادية و الاجتماعية التي ينحدر منها المرشحون في الانتخابات، و سجل مجموعة من الخصوصيات: الخصوصية الأولى: الانتماء السوسيو مهني: يقول أن... المرشحين في الانتخابات ينتمون لنوعية خاصة من الناس، فعلى الرغم من اختلاف الاتجاهات السياسية و المواقع الجغرافية، فهم اجتماعيا أو مهنيا فهم يشغلون إما الوظائف الحرة أو الوظائف التدريسية أو كوظائف متقدمة داخل السلطة السياسية (التوفر على الوقت اللازم للقيام بحملة انتخابية، المستوى الفكري المساعد على الإقناع). هذا الربط بالانتماء المهني و العمل السياسي راجع إلى طبيعة العمل السياسي نفسه الذي يفترض القيام باتصالات مكتفة و اجتماعات الهدف من ورائها التأثير على الهيئة الناخبة و تعبئتها وراء أهداف حزب ما، و عمل من هذا النوع يفترض توافر الوقت الكافي لانجاز هذه المهمة؛ و لكون أن أكثرية الناس تعيش و تصرف كل وقتها من أجل إشباع حاجياتها الأساسية قلا يمكن لها القيام بهذا العمل. في الوقت الذي تجد فيه المجموعة المذكورة كل الوقت للقيام بهذه الوظيفة. إن هذه الفئة تجد الأرضية الفكرية التي تساعدها على تيسير عمليتها، فكونها تمثل النخبة المثقفة فان إمكانية التأثير على الآخرين و السيطرة تكون متوفرة لديها وذلك من خلال ما تقدمه من تبريرات عقلانية؛ و لكن هذا لا يعني استحالة ترشيح الشخص لنفسه إن لم يكن منتميا لهذه المجموعة، إذ لوحظ من خلال تحليل نتائج الانتخابات أن هناك عددا لا بأس به من المرشحين استطاعوا الفوز في الانتخابات رغم أنهم لا ينتمون إلى هذا الصنف من الناس؛ فوصول هذا الصنف من الناس يفسر باختراقها للعمل السياسي و هو اختراق يساعدها في التعويض عن النقص في التكوين الفكري بل أكثر من هذا أنه يخلق منها مجموعة تختلف من الناحية النوعية عن قواعدها المؤلفة لأحزابها مثل حالة بعض الأشخاص داخل الأحزاب الشيوعية الذين يخترقون العمل السياسي سواء داخل أحزابهم أو خارجها. الخصوصية الثانية: الجنس الخصوصية الثانية التي يتميز بها المشاركون في الانتخابات هو أن أغلبهم من الرجال، أما تخلف النساء التمثيلي فيرجع إلى أربعة أسباب تحدث عنها فيليب برو و حددها كالتالي: يعود تخلفهن عن الانتخابات إلى اصطدامهن بالإرادة السيئة للأجهزة السياسية المسيطر عليها من طرف الرجال. إلى الأرضية الشعبية التي تختار مرشحين رجال. تواجه النساء مصاعب في الارتباط السياسي بشكل خاص لان التقسيم التقليدي للأدوار كل جنس تؤكد على أن وظيفة النساء هي البيت. يكون للنساء رغبة أقل في الارتباط بالمسرح الانتخابي لان التعويض المعروض يبدو لهن أقل جاذبية. فيما يخص السببين الأول و الثاني- الإرادة السياسية و الإرادة الشعبية- تمثيل المرأة في الميادين الاجتماعية ضعيف بسبب سيطرة الرجال عدا التدريس حيث تظهر نسبتهن التدريسية بشكل كبير. بالنسبة للسبب الثالث - الارتباط السياسي- رد هذه الصعوبة إلى التنشئة الاجتماعية و السياسية التي تؤكد على الفصل بين الرجل و المرأة مما يعرقل اهتمام النساء بالسياسة؛ خصوصا إذا ما تم رد ذلك بالنظرة ....التي يتم النظر بها إلى المرأة. بالنسبة إلى السبب الرابع فهو نتيجة طبيعية لتوجه النساء مند الطفولة إلى البحث عن العاطفة و الزواج كبدائل للتعويض عن مواجهة مصاعب السياسة و متاعبها بحث أن السياسة أخذت كمهمة مقصورة على الرجال بشكل عام. الخصوصية الثالثة: السن الخصوصية الثالثة المميزة للمرشحين في الانتخابات هي السن و الاقدمية السياسية فقد لاحظ منت خلال تحليله نتائج الانتخابات أن اغلب المرشحين ينتمون إلى العقد الرابع في مقابل المشاركين الذين يوصفون بالعنصر الشاب أو الفتي؛ فعلى الرغم من محاولة الأحزاب السياسية تقديم مرشحين شباب إلا أن الاقدمية السياسية أو الخبرة السياسية تلعب دورا في تحديد مجال منافسة الشباب لهذه المجموعة التي تتميز بخبرتها السياسية في إدارة السلطة لكونهم يشكلون جزء منها، أو العمل السياسي داخل الأحزاب، لدى فهناك صعوبة تواجه المرشحين الشباب خاصة المستقلين منهم في كسر الاحتكار السلطوي لمجموعة العقد الرابع. دوافع المرشحين للانتخابات: حسب "داهل" هناك ثلاث دوافع: - يأمل الفرد في السلطة بهدف تحقيق الصالح العام، فهو يأمل تقاسم مصالح جميع المواطنين من أجل نشر العدل و خدمة الدولة. - يأمل الفرد في السلطة بشكل شعوري و بهدف تحقيق مصالحه خاصة - الأفراد الطامحين للوصول للسلطة السياسة يكونون مدفوعين بعوامل لا شعورية. فيما يخص الدافع الثاني فانه يعني بأن الفرد عندما يكون في السلطة سوف يقوم بتحقيق إشباعاته المادية و المعنوية لان الفوز بالانتخابات ستمكنه حسب "برو" من السيطرة على هيئة القرار أو التأثير عليها و بمعنى آخر يكون جزء من مجموعة صانعي القرار – إذا كان في الأغلبية- أو ممن يؤثرون عليها –إذا كان من المعارضة، و ليس هناك موقع أكثر أهمية من هذا الموقع لتحقيق الإشباعات الفردية. أما فيما يتعلق بالدافع الثالث نشير إلى تحليل "هارولد لاسويل" في هذا الصدد حيث يقول" إن حصول الفرد على السلطة يمثل تعويضا عن عدم تحقيق الإشباعات النفسية مند الطفولة كفقدان الاحترام أو العطف، فألانا تكون في حالة تألم و الفرد يكن تقديرا سيئا لنفسه، يأمل من أنه من خلال حصوله على السلطة سوف يعوض عن التقدير السيئ لنفسه، و يعتقد أن حصوله على السلطة سوف يغير من صفاته و يصبح إنسانا موضوع حب و احترام و تتغير بذلك مواقف الناس عنه. حصول الفرج على السلطة يعني انه أصبح نجما متألقا و محط أنظار المجتمع، و موضوع حديث الصحف و كل هذه الأشياء سوف تساعده على إشباع رغباته المكبوتة و لكن لا يمكن للمرشح أن يطرح نفسه لهذا .... و إلا كانت خسارته حتمية، لدا فهو يلجئ لتكتيك آخر فمن خلال إضفاء غطاء إيديولوجي على نفسه سوف يضفي نوعا من المثالية على شخصه و على أناه بالخصوص و ذلك بربطها بمبادئ إنسانية و سياسية تتعلق بالدفاع عن المصالح العامة و الاستعداد للتضحية من أجلها. إذا كانت هذه هي أهم الدراسات و النظريات التي حاولت تحديد السلوكي الإنتخابي من خلال الأبعاد السياسية، القانونية، الإقتصادية، السوسيولوجية، السيكولوجية،البيوإجتماعية، والجغرافية... فهل يمكن إسقاط هذه النظريات على التجربة المغربية ؟ ثم ما هي خصوصيات المغرب ؟ ثم هل هناك محدد واحد شامل و عام لدراسة و تحديد السلوك الإنتخابي بالمغرب ؟ المطلوب حاليا هو خلق ممارسة و سلوكات مبنية على ثقافة سياسية تهتم أساسًا بالبُعد القِيَمي للديمقراطية عبر استثمار قنوات التنشئة الاجتماعية والسياسية، وليس اختزال البناء الديمقراطي في سياقه المؤسساتي/الإجرائي فقط، فعمليًّا لا يمكن أن تنجح دول الربيع العربي في كسب رهان إحداث قطيعة مع الثقافة السياسية السلطوية الموروثة عن الأنظمة البائدة، دون التأسيس لثقافة سياسية جديدة قائمة على أساس غرس قيم جديدة تؤطِّر العلاقة بين المواطن العربي والسلطة السياسية، قوامها الحرية وحفظ الكرامة وضمان العيش الكريم، وذلك من خلال الاستثمار في بعض المنطلقات المحورية لتثبيت أساسيات تجديد الثقافة السياسية، وهي استنهاض الوعي السياسي وغرس قيم الديمقراطية من خلال قنوات التنشئة السياسية وتعزيز المشاركة السياسية للمواطنين، وتكريس دولة الحق والقانون، ومأسسة السلطة، وغرس قيم الثقافة الديمقراطية على مستوى المجتمع. إن للثقافة السياسية تأثيرًا كبيرًا على النظام السياسي بوجه خاص والحياة السياسية بوجه عام؛ إذ تدفع الأفراد والجماعات إما باتجاه الانخراط في النظام السياسي أو تدفعهم باتجاه اللامبالاة والسلبية السياسية، وحسب تقدير (فيربا وألموند)، فإن التوافق بين الثقافة السياسية والبنية السياسية ضروري لتأمين استمرار النظام السياسي، فإذا حصل التفاوت بينهما، يتلكأ النظام ويتعرض حينئذ للزوال، ومع ذلك لا يكون التوافق كاملًا على الدوام لعدم امتلاك الثقافة السياسية التجانس الكامل ولكل نمط من الثقافة السياسية ما يقابله من البنى السياسية، أو ينمو ويتطور في ظله، ولا يمكن بناء بنية سياسية معينة خارج إطار البناء الثقافي السائد في المجتمع، ومن دون التلاؤم بين الثقافة السياسية والبنية السياسية، يتعرض النظام السياسي للخطر ويتهدد بالسقوط، والتلاؤم بينهما شرط أساسي للاستقرار السياسي إن روح الديمقراطية الحقَّة لا تقوم على الأساس المؤسساتي/الإجرائي فقط، فقد تكون الثورات استطاعت أن تقوض مؤسسات ونخب النظم الاستبدادية السابقة إلا أنه يبقى الرهان الحقيقي هو كيفية محق قيم الثقافة السياسية التسلطية التي تغلغلت في جينات العقل السياسي العربي، سواء على مستوى الشعور واللاشعور الذي يحدد أنماط السلوك السياسي السلطوي حيث استطاعت لردح من الزمن أن تحصِّن هذه النظم السياسية التسلطية؛ فالظاهر في هذه المخاضات التي تعيشها دول الربيع الديمقراطي، أن عملية هدم المؤسسات السياسية واستبدال أخرى بها، تعبِّر عن إرادة الشعب، هي عملية يسيرة على خلاف ما إذا كان الأمر يتعلق باستبدال قيم ثقافة سياسية ديمقراطية بقيم ثقافة سياسية استبدادية. هي مسألة بالغة التعقيد، وقد تحتاج إلى وقت بفعل موانع وإكراهات تشكِّل التفكير الجمعي السلطوي ليس فقط في علاقة السلطة بالمواطن وإنما بفعل تمكنها حتى من العلاقات الاجتماعية مما يفرض تحديات كبيرة وعظمى. والثقافة السياسية الجديدة التي تفترضها استراتيجية الانتقال الديمقراطي هي -باختصار- الثقافة التي تحمل النزعة النسبية في وعي السياسة والمجال السياسي محل النزعة الشمولية (أي: التوتاليتارية)، وتحمل التوافق والتراضي، والتعاقد، والتنازل المتبادل، محل قواعد التسلط، والاحتكار، والإلغاء… إلخ، فتفتح المجال السياسي -بذلك- أمام المشاركة الطبيعية للجميع، وتفتح معه السلطة أمام إرادة التداول السلمي عليها. هذا يعني أن في قاع هذه الثقافة السياسية النظري مفهومًا مركزيًّا تأسيسيًّا للسياسة والسلطة، وهو أنهما -معًا بحسبها- ملكية عمومية للمجتمع برمته يلتقي معها أي سلم معياري تتوزع بموجبه أقساط ومستحقات السياسة والسلطة على قواعد الامتياز أو الأفضلية أو ما في معناها من أسباب السطو على الرأسمال الجماعي السياسي في ترسيم وتحصين قيم الثقافة السياسية والبناء الديمقراطي إن الترسيم والتحصين الحقيقيين لقيم الثقافة السياسية والبناء الديمقراطي يستندان إلى جملة من الموجبات والأساسيات والاشتراطات، أولها: استنهاض الوعي السياسي الديمقراطي الذي يشكِّل منبع التفكير والسلوك الديمقراطيين، وتأتي في مقام ثان التنشئة السياسية من خلال استحضار دورها المحوري في التربية والتأطير وغرس قيم الثقافة الديمقراطية. وفي نفس المنحى تبرز أهمية ومحورية مصالحة المواطن العربي مع السياسة من خلال تعزيز المشاركة السياسية، وما يستتبع ذلك من “مأسسة السلطة”، مع ضرورة تثبيت قيم الثقافة السياسية الديمقراطية مجتمعيًّا. أ/ - استنهاض الوعي السياسي الديمقراطي إن الوعي السياسي هو إدراك الفرد لواقع مجتمعه ومحيطه الإقليمي والدولي، ومعرفة طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحيط به، ومعرفة مشكلات العصر المختلفة، وكذلك معرفة القوى الفاعلة والمؤثرة في صناعة القرار وطنيًّا وعالميًّا. والوعي السياسي هو طريق الفرد لمعرفة حقوقه وواجباته في كل الأنظمة الديمقراطية أو الشمولية. والمجتمعات التي تنوي التحول من النظام الديكتاتوري إلى النظام الديمقراطي بحاجة إلى منظومة من المعارف السياسية التي تتضمن قيمًا واتجاهات سياسية مختلفة، يستطيع من خلالها الفرد التعرف على الظروف والمشاكل التي تحيط به محليًّا وعالميًّا، ويحدد مكانه وموقفه منها والمساهمة في تغييرها أو تطويرها. ولذلك يحتاج الفرد إلى رؤية سياسية واعية وشاملة بالظروف والأزمات التي تعتري المجتمع. ب/ - الاستثمار في التنشئة السياسية لغرس قيم الثقافة الديمقراطية إن التنشئة السياسية هي العملية التي يتم من خلالها تشكيل الثقافة السياسية للمجتمع، وتشمل عملية التنشئة السياسية: “كل أنواع التعليم السياسي، الرسمي وغير الرسمي، المخطط وغير المخطط، في كل مرحلة من مراحل حياة الفرد، ويتضمن ذلك مختلف أنواع القيم وأنماط السلوك التي ليس لها علاقة مباشرة بالحياة السياسية ولكنها تؤثر على السلوك السياسي للفرد، مثل اكتساب بعض الاتجاهات الاجتماعية والخصائص الشخصية التي قد يكون لها أثر على سلوك الفرد السياسي”(13)، فالتنشئة السياسية عملية مستمرة ومتجددة، ويكتسب من خلالها الأفراد التوجهات السياسية ونماذج السلوك السياسي Political Orientationsوالمعارف السياسية Political Cognitions التي ترتبط ببيئتهم السياسية. إن الثقافة السياسية للمجتمع هي نتاج لعملية التنشئة السياسية وإن القيم والتوجهات وأنماط السلوك التي تتضمنها هذه الثقافة هي انعكاس لنوعية التنشئة التي يتعرض لها أفراد المجتمع. ويجدر التنويه هنا إلى أن كل النظم السياسية تحاول أن توظف عملية التنشئة السياسية لغرس القيم والتوجهات والأفكار السياسية التي تتفق مع قيم وتوجهات وأفكار السلطات الحاكمة ويتم ذلك عن طريق المؤسسات والقنوات التي تخضع لسيطرة السلطة مثل المؤسسة التعليمية ووسائل الإعلام، ولكن إلى جانب أسلوب التنشئة الرسمي والمباشر، فإن الفرد يكتسب قيمه وتوجهاته السياسية عن طريق قنوات أخرى قد تتناقض مع قنوات التنشئة الرسمية، مثل الأسرة وغيرها من القنوات التي لا تخضع لسيطرة السلطات بصورة مباشرة. ت/ - تعزيز المشاركة السياسية إن المشاركة السياسية تزود السلطة الحاكمة بمزيد من الآراء والتصورات التي تسهم في إنضاج القرار وترشيده، وتبقى قناة مناسبة لنقل احتياجات الجماهير للحكام. كما أن الشعور الشعبي بالمشاركة في صنع القرار يجعل تنفيذ الخطط والبرامج أكثر سهولة، وبذلك يتعزز استقرار المجتمع وتتكرس شرعية النظام السياسي ويرتفع مستوى الولاء له، وتتراجع صور استغلال السلطة. وحيث إنه من الصعب قبول مقولة: إن القمع وحده يمكنه وقف التناقضات الاجتماعية والفكرية والسياسية في المجتمع، وانفجار هذه التناقضات قد يتخذ أشكالًا عنيفة تكون نتائجها مدمرة، لذلك فإن تأطير هذه التناقضات وفتح قنوات المشاركة أمامها، وإشاعة قيم التسامح مع الرأي الآخر تحفظ المجتمع من التناقضات العنيفة. وبذلك تسهم المشاركة السياسية في تنمية الشخصية الديمقراطية على المستويين الفردي والجماعي. وحتى تكون المشاركة السياسية فاعلة لابد أن تكون قنواتها مفتوحة لمختلف التوجهات السياسية في المجتمع، والانتماءات الدينية والقومية، وقادرة على استيعاب الشرائح الاجتماعية الجديدة ومطالبها المتصاعدة في المشاركة في الحكم، على أن تجد صداها لدى النظام السياسي بالاستجابة لمطالب واحتياجات الشعوب. إن بناء الديمقراطية لا يتم إلا بالإنسان ولصالح الإنسان الذي يتخذ في إطار الدولة صفة المواطن، ولذلك فإن هذا الأخير لا يمكن أن يكون معزولًا عما يجري حوله وغائبًا عمَّا يُدار باسمه ولأجله، وإنما لابد أن يكون مشاركًا في الحياة السياسية، والحد الأدنى لهذه المشاركة هو تتبُّع طرق إدارة الشأن العام والمقارنة بين البرامج التي تتقدم بها الأحزاب السياسية والإدلاء بالصوت في الانتخابات العامة، ولكي تكون المشاركة إيجابية ولو في حدها الأدنى المذكور، يجب أن يكون المواطن مدركًا للقواعد التي ينبني عليها المجتمع الديمقراطي ومتشبعًا في ذهنيته وثقافته وسلوكه بالقيم الديمقراطية. وإذا كانت تلك هي الصفات الضرورية التي ينبغي أن يتحلى بها المواطن العادي، فما بالك بالنخب التي تعمل من أجل الوصول إلى مراكز القرار في الجماعة أو الدولة والمساهمة الفعلية في تدبير الشأن العام، وهنا يتضح مدلول المقولة المعروفة، وهي: لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين، لأن الديمقراطية لا تصبح أمرًا واقعًا في الحياة العامة بوجود دستور وقوانين وأحزاب وصحافة وانتخابات ومؤسسات، وإنما تتوقف بالإضافة إلى كل ذلك على وجود المواطن الديمقراطي داخل أسرته وفي محيطه الاجتماعي والمهني والسياسي، أي أن تكون الثقافة الديمقراطية شائعة بين المواطنين العاديين والمناضلين السياسيين والنقابيين والفاعلين الجمعويين والكتَّاب والمثقفين والصحافيين والموظفين والمسؤولين الإداريين والقادة السياسيين والماسكين بزمام السلطة ومواقع القرار. ث/- تكريس مأسسة السلطة إن المنطلق في مأسسة السلطة هو مأسسة العملية السياسية التي تعني احتواء عملية صنع واتخاذ القرارات السياسية ضمن إطار المؤسسات السياسية؛ مما يسهِّل على النظام السياسي اكتساب قدر يُعتدُّ به من الشرعية السياسية؛ ذلك أن التنظيم المؤسس للعملية السياسية بقدر ما يمكِّن المبادئ والقيم الديمقراطية للممارسة السياسية فإنه يفيد في تحقيقه خصائص عديدة، منها: قانونية العملية السياسية إذا تمكنت المؤسسات من أن تنظم عملها شبكة معقدة ومحكمة من الضوابط والتوازنات، وتعمل وفقًا لأحكام محددة وأسس للتوظيف والتمويل وتقويم الأداء، وتخضع لمقاييس معروفة وعلنية للنجاح والفشل وضوابط للمراقبة والمحاسبة وقواعد للتنسيق بينها، وعقلانية العملية السياسية؛ ذلك أن المؤسسات والمناصب تسمح في إطارها بالعمل على أساس الكفاءة المهنية، مما ينعكس مباشرة على واجباتها تجاه المواطنين. علاوة على عمومية العملية السياسية حيث يُلغي العمل المؤسسي الاعتبارات الشخصية ويعتمد اعتبارات المواطنة ويركز عليها. وأخيرًا استقرار العملية السياسية لأن العمل في المؤسسات لا يتأثر بتغير الأفراد. ج/ - دمقرطة المجتمع إن علاقات التسلط والرضوخ المنتشرة في الحياة الاجتماعية العربية وروح الإذعان والاتكالية تنعكس في نهاية المطاف على الحياة السياسية ذاتها فيصبح من الطبيعي للإنسان العربي أن يتقبل أي نظام تسلطي، حيث إن هذا هو ما تعوَّد عليه طيلة حياته، ويصبح عنده إحساس بالعجز وعدم القدرة على المشاركة في اتخاذ القرارات، حيث إنه قد تعوَّد على وجود من يتخذ له القرارات في جميع جوانب حياته الأخرى ولذا فإنه يتقبل وجود من يتخذ له القرارات بالنيابة عنه في المجال السياسي. تعتبر الديمقراطية أنها حق المواطن الفرد في المشاركة في اتخاذ القرارات العامة ولكن غياب الإدراك بهذا الحق لدى المواطن العربي وشعوره بالعجز عن المشاركة في اتخاذ القرارات في الأمور التي تخصه، يجعله يقبل بوجود أي نظام تسلطي على أنه أمر يتفق مع طبيعة الأشياء في مجتمعه، بغضِّ النظر عن مشاعره تجاه هذا النظام، وعادة ما تكون مشاعر سلبية مشوبة بالكراهية وعدم القبول لهذا النظام، يصاحبها إحساس بالعجز عن فعل أي شئ تجاه النظام أو تغيير سياساته إن أي نضال يرمي إلى إقرار ديمقراطية حقيقية لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا إذا كان مبنيًّا على نظرة شمولية للديمقراطية لا تقتصر على الجانب الذي يعني الدولة وإنما تشمل أيضًا المجتمع بأفراده وهيئاته. وكلما انتشرت الثقافة الديمقراطية داخل المجتمع، وترسَّخ السلوك الديمقراطي داخل الأحزاب السياسية والنقابات وهيئات المجتمع المدني عمومًا، تعبَّدت الطريق أكثر نحو الديمقراطية التي لا يعتريها الخلل من أي جانب، لأن الدولة والمجتمع كل منهما يصب في الآخر، ولا يمكن للدولة إلا أن تعكس مستوى تطور المجتمع في شموليته وليس في أجزاء محدودة منه.
#علي_بلهوى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلسفة الدولة كنظام و السيادة كفعل و المواطنة كممارسة
-
مقاربة سوسيولوجية للحركات الاجتماعية
-
تجليات العلاقات الاجتماعية بالدين كظاهرة سوسيولوجية
-
الواقع العربي و سؤال الديمقراطية - مقاربة سوسيولوجية -
-
الواقع العربي المعاصر و سؤال الديمقراطية - مقاربة سوسيولوجية
...
المزيد.....
-
جراح قديمة وطاقة جديدة في عاصمة الثورة السورية
-
غيراسيموف: قلة التدريب بسبب العقوبات الأمريكية وراء انهيار ا
...
-
دوجاريك: إسرائيل لا تزال ترفض توصيل المساعدات إلى شمال غزة
-
أكثر من مليون قتيل وجريح.. الأركان الروسية تحصي خسائر كييف خ
...
-
حزمة مساعدات عسكرية أمريكية لأوكرانيا بأكثر من مليار دولار ب
...
-
زاخاروفا تعلق على إمكانية رفع -هيئة تحرير الشام- من قائمة ال
...
-
شاهد.. شركة فضاء يابانية تلغي رحلة قمر صناعي بعد دقائق من ال
...
-
مقتل شخصين على الأقل إثر اصطدام طائرة بمبنى شحن في هاواي
-
نتنياهو يمثل أمام المحكمة من جديد بتهم فساد
-
صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|