|
ألكرافة (ربطة العُنق )
قاسم حسن محاجنة
مترجم ومدرب شخصي ، كاتب وشاعر أحيانا
الحوار المتمدن-العدد: 4899 - 2015 / 8 / 17 - 16:50
المحور:
الادب والفن
ألكرافة (ربطة العُنق ) يتقدم من ألحضور رجلٌ طويل يرتدي بدلة من ثلاث قطع مع ربطة عنق حمراء ، يعتمرُ طربوشا مكويا على طريقة "الأفندية " ، أيام زمان . لقد كان مظهره لافتا وغريبا في هذا المكان وفي هذه البيئة البشرية . غالبية من هَبُّوا لإستقباله والترحيب به ، هم من كبار ألسن الذين يرتدون لباساً تقليدا مُكونا من "دِمَايَةٍ" فلسطينية ، وهي رداء من قطعة واحدة ، تصل حتى الأقدام ،يلُفها الرجال حول أجسادهم ويربطونها "بحبل " يتدلى من أحد طرفيها ، ويعتمرون حطة بيضاء ، حال لونها الى الأصفر الفاتح لقِدَمِها وكثرة غسلها، يعتليها عقال أسود. كانت ملابسهم أسمالا بالية قياسا بأناقة القادم . لم ينتظر أحد الرجال ويُكنى بالقطروز ، وهو عجوز يتكيء على عصا، في أسماله ، وصول السيد الأنيق، بل توجه نحوه بخطوات سريعة ، صافحهُ وانكب على يده يُقبلها .. بينما بادله الباقون مصافحة بمصافحة .. -من هذا، وكيف "يَقبلُ" أن يبوس يده، رجلٌ أكبر من والده بالتأكيد؟ علا صوت أحد صغار السن متسائلا .. أجابهُ أكثر من صوت : إنه أبو رياض ...!! -ومن هو أبو رياض هذا ؟! تلك الأيام خَفّف الحكم العسكري قبضته قليلا ، وبدأ بإصدار تصاريح عمل للشبان العرب ، في المدن اليهودية التي كانت بحاجة ماسة الى الأيدي العاملة . فقد كانت فورة بناء المساكن للقادمين الجُدد في أوجها. ولم تكن تكنولوجيا البناء متطورة ، فالأشغال بمجملها يدوية ، وكان هناك نقص كبير في العمال غير المؤهلين ، ليرفعوا مواد البناء الى الطبقات العُليا . وكان الشباب الأقوياء ، يعملون كعتّالين في ورش البناء ، ينقلون على ظهرهم الطوب الثقيل ، الرمل والحصى في أكياس ، يصعدون وعلى ظهورهم تلك الأحمال الثقيلة بسرعة وجَلَد . لكي يُجاروا البنائين في الطبقات العليا في وتيرة البناء وصب الباطون، السريعة . لقد جرى "القرش" في أيديهم ، وتأثروا بالأجواء حولهم .فلبسوا البنطلون والقميص بدل "الدماية " التقليدية ، سرّحوا شعورهم حسب آخر موضة ، واستبدلوا أكياس الدخان "اللف"، بعلبة سجائر رشيقة وانيقة من الماركات التي كانت رائجة . واشتروا لأنفسهم أحذية لامعة ولها "بوز" ..!! كانت غالبيتهم تشتغل في مدينة تل – أبيب ، وتسكن في يافا ، في البيوت القديمة التي هجرها أهلها ، يدفعون أُجرتها لساكنيها الجُدد ، يبقون في يافا من الأحد حتى ظهيرة الجمعة ، يعودون بعدها الى بيوتهم في القرى ، ليقضوا ما تبقى من يوم الجمعة ويوم السبت بين ابناء عائلاتهم ، وكانوا يعودون بأجورهم يُسلمونها للوالد بخنوع ومع قبلة على ظاهر يده ، حتى يصرف منها ويتصرف بالباقي . وكان يُخيل للسائر في شوارع يافا ، بأنها مدينة شباب فقط ... وكثرت فيها المقاهي والمطاعم العمالية العربية . منذ القديم ، تنشط في يافا سوق شهيرة للأدوات والملابس المستعملة ، وهي السوق التي أطلق عليها اهل يافا، إسم سوق "الدلالة "، أي سوق اليد ألثانية وربما اليد الثالثة أو أكثر . كانت تأتي الى السوق بالات الملابس المستعملة ، وكان أن احتوت إحدى هذه البالات عددا لا يُحصى من الكرافَّتات (ربطات العُنق ) . فتدنى سعرها كثيرا . بحيث قرر أحد الشبان أن يشتري لنفسه مجموعة منها بمبلغ زهيد .لقد اختارها من أزهى الألوان . كان "مصطفى " هذا ، من عائلة فقيرة جدا ، عائلة "القطروز " وهي تعني "العامل في ارض الإقطاعي مقابل الغذاء والملبس " ، إن القطروز أشبه بقِنَّ الأرض ، مما هو إنسانٌ حر .. عاد مصطفى الى البلدة وفي حقيبته ما يزيد على العشرين كرافة . غضب والده على هذا التبذير غير المُبرر ، وصرخ في وجهه :-من تظن نفسك ؟؟!! هل أنتَ "أبو رياض " ؟! عِشنا عمرنا كله ولم نرَ أحدا يلبس الكرافة غير أبي رياض ..!! إنه أفندي ، درس في بيروت ، والأهم من كل ذلك ، فهو المالك لغالبية الأراضي في قريتنا ..!! أسرّ مصطفي في نفسه شيئا . فصبيحة يوم السبت استحم وأرتدى اجمل ملابسه ، بنطلون ، قميص ، جاكيت وربطة عنق ، لم ينسَ تلميع حذاءه ، ووضع علبة السجائر في جيب القميص لتظهر ، عندما يضع يديه في جيوب بنطلونه ، وخرج الى مركز القرية ، حيث يجتمع الرجال في المقهى . رأى عن بعد طربوش "ابو رياض " ، فتوجه نحوه متبخترا مُبرزا ربطة العنق وتركها للهواء يتلاعب بها ! نظر "ابو رياض " نحو المُنافس الجديد ، وفغر فاهُ مندهشا :-مصطفى القطروز !! إبن الذي كان قطروزا في أرضنا ؟؟!! أكيد قامت القيامة ..!! لم يُطق "أبو رياض " رؤية ابن القطروز بالكرافة ... -لقد هزُلت ..لن أبقى في هذا البلد يوما آخر !! أحس بأن ميزته الخاصة قد تلاشت واختفت .. فلم يعد هو الأفندي الوحيد الذي يضع ربطة العُنق ..ماركته المسجلة . وبالفعل ، غادر ابو رياض البلدة ، ليسكن في غرفة في مسجد المدينة .. وعلى ذمة الراوي ، حينما وافتهُ المنية ،بحثوا عن "فاعلي خير " ليحملوا التابوت الى المقبرة القريبة ..!!
#قاسم_حسن_محاجنة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ألتعدد واْلتَعديد .
-
إنتقام ..
-
بين العبرانية واليهودية ..
-
الأول من جوشي للعام 104 ..!!
-
أيُها ألأصدقاء ، تَحَتْلَنُوا ..
-
بين طفولتين ..
-
ألمُجاهدون أليهود ..
-
تَأَسْرَلُوا أو إِرْحَلُوا ..!!
-
-ألضباع- ..تنتشي -بالنصر- ..!!
-
خراب الهيكل
-
خَرابُ حَلَب ..
-
عنصرية -مشروعة ولطيفة - ..
-
قهوة وعنصرية ..
-
-نقاشٌ- مع حمار .
-
دولة أم دولتان ؟!
-
-مجاهدو - المنابر
-
- الترجمة - على أُصولها ..!!
-
-لائحة طعام - ألثورات ..!!
-
الأشرار يكسبون ..
-
من هم دواعش إسرائيل ؟!
المزيد.....
-
دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في
...
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|