أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - لطفي خيراللّه - مقدّمات لمنطق خالص















المزيد.....


مقدّمات لمنطق خالص


لطفي خيراللّه

الحوار المتمدن-العدد: 363 - 2003 / 1 / 9 - 03:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إدموند هوسّرل.

 

الفصل  الأوّل*

القول في المنطق بما هو علم ضبطيّ، وبخاصّة بما هو علم عمليّ 
) الجزء الأوّل 1(
 
    تعريب  لطفي خيراللّه والإشارات منه**

(4   في نقص العلوم المخصوصة النّظريّ.

    تفيدنا التّجربة اليوميّة بأنّ إتقان الصّانع لصناعته، وحكمه حكما جازما ودائم الوثوق على مصنوعاته، قلّما يستند فيهما إلى معرفة نظريّة بأحكام تضع منهجا ونظاما لسلوك الأفعال العمليّة، وتعيّن معا، معايير يقدّر بها العمل المُتَمَّمَ من جهة النّقص والكمال. فالصّانع لا يبتكر بحسب مبادئ ولا يقدّر بحسب أصول بل، وهو يصنع، إنّما تدفعه عفوا، ملكات له متناسقة التّثقيف، وهو يحكم، تدفعه رقّة حدسه وحسّه الفنّيان. والأمر كذلك ليس فحسب بالنّسبة للفنون الجميلة الّتي ربّما تكون أوّل ما ورد بأذهاننا، وإنّما بالنّسبة للفنون كلّها عامّة، بما للعبارة من أوسع المعاني. ومن ثمََََّ فإنّ الأمر لهو أيضا كذلك بالنّسبة لأفعال الإبداع العلميّ، وبالنسّبة للتّقدير النّظريّ لنتائجه، وللأصول الموضوعة Fondations العلميّة، أصول الوقائع والقوانين والنّظريّات. فالرّياضي والفيزيائيّ والفلكيّ أنفسهم، ليسوا بحاجة، حتّى يدركوا الغاية في أهمّ أعمالهم، لأن يكونوا قد بلغوا البداهة الذّهنيّة بآخر أصول بحثهم وإن كانت النّتائج المُحَصَّلَة إنّما لها، عندهم وعند غيرهم، قوّة الإقناع العقليّ، فإنّه، مع ذلك، يمتنع عليهم الزّعم بأنّهم قد أثبتوا في كلّ الأحوال، المقدّمات الأخيرة لنتائجهم أو طلبوا الأصول الّتي يقوم عليها صدق مناهجهم. فالنّقص الّذي في كلّ العلوم إنّما أصله ذلك الأصل. (2)ولسنا نريد الكلام هاهنا فحسب عن نقص طريقة هذه العلوم في استكشاف حقائق مواضع بحث كلٍّ منها، وإنّما عن افتقارها للوضوح والعقلانيّة الباطنيّة اللاّزمين لها، بمعزل عن كيف العلم هو متقدّم. وبهذا الإعتبار، فإنّ الرّياضيات نفسها الّتي هي أكثر العلوم جميعا تقدّما، لم تكن لتطمع بأن تكون مستثناة من هذه القاعدة. (3)فهي من أوجه كثيرة مازالت تعدّ بمثابة مثال كلّ العلوم عامّة، أمّا كيف أنّ هذا الزّعم إنّما يقوم على دليل قاصر، فإنّما نُخْبَرُهُ من الخصومات القديمة الّتي ما نرى لها بَعْدُ من انتهاء، ذات التّعلّق بمسألة أصول الهندسة، وأيّ أصول حقّة لمنهج الأعداد الخياليّة .فنفس العلماء الّذين يصرّفون بإتقان لانظير له المناهج الرّياضيّة العجيبة، فيثرونها بخلق مناهج أخر، دائما ما يظهرون على غاية العجز في أن يعلّلوا تعليلا مستوفيا صدق هذه المناهج المنطقيّ وما هي حدود صدقها الجائز. فالعلوم، على مواضع اللّبس هذه، وإن هي قد أصبحت عودها مشتدّ وآزرتنا في أن صرنا أسياد الطّبيعة كما لم نكن لنحلم به البتّة من قبل، فإنّها مع ذلك هي غير مستوفية من جهة النّظر. فهي ليست بالنّظريّات البيّنة والشّفّافة، حيث وظيفة كلّ المفاهيم والقضايا تكون مفهومة على التّمام، والفرضيّات كلّها مَحَلَّلَةً على الدّقّة، والمجموع كلّه لا يرقى إليه شكّ نظريّ من الشّكوك. 
(5 في نقص العلوم المخصوصة متممّة نظريّا بالميتافيزيقا ونظريّة المعرفة.

    لقد شاع الظّنّ بأنّه من أجل بلوغ تلك الغاية النّظريّة، فإنّه يُحْتَاجُ، أوّلا، إلى أبحاث تنتسب إلى الميتافيزيقا. (4)
    وفائدة هذه الأبحاث، كما نعلم، أنّها تعيّن وتتثبّت في مسلّمات ميتافيزيقيّة غير مُمَحَّصَةٍ، بل غير متفطّن إليها في غالب الوقت، مع أنّها ذات بال كبير، وعماد العلوم كلّها، أو على الأقلّ، العلوم الّتي تتعلّق بالواقع الطّبيعيّ ومن تلك المسّلمات، مثلا، أنّه يوجد عالم خارجيّ ممتدّ في المكان والزّمان، والمكان هو رياضيّ الصّفة ذو كثرة إقليديّة ذات أبعاد ثلاثة، والزّمان ذو كثرة أرتوويديّة ذو بعد واحد؛ وأنّه كلّ حدث فمحكوم بقانون العلّيّة، وهلمّ جرّا. وقد دأبنا، اليوم، أن نسمّي، خطأ، باسم نظريّة المعرفة، هذه المسلّمات الّتي إنّما تدخل بالتّمام ضمن الفلسفة الأولى لأرسطوطاليس.
    ولكن الأساس الميتافيزيقيّ هذا هو غير كاف لبلوغ الكمال النّظريّ المرجوّ في العلوم؛ بل إنّه لا يتناول إلاّ العلوم الّتي تُعْنَى بالواقع الطّبيعيّ، وهو ما ليس بشأن جميع العلوم، وممّا لاريب فيه، ليس بشأن العلوم المحض رياضيّة ذات المواضيع كالعدد، والكثرات وأشياء أخرى من نفس الجنس، والّتي إنّما بنحو لواحق أسندة خالصة المثاليّة نتروّى فيها بمعزل عن كلّ وجود أو لا وجود لها. إلاّ أنّه يختلف  هذه الحال  عن حال قسم ثان من الأبحاث إجراءها في مقام النّظريّ توجد أيضا بنحو مسلّمة ضروريّة في مسعانا إلى المعرفة؛ إنّها تتعلّق بالعلوم كلّها على السّواء، لأنّها، وليكن كلامنا موجزا، إنّما تنظر فيما الشّيء الّذي يجعل العلوم عامّة، علوما؟ وإنّا بهذا إنّما نومئ إلى علم جديد، و معقّد، كما سنبيّنه قريبا، خاصّيته أنّه علم العلم، وهو من أجل ذلك تحقيقا، استحقّ أكمل الإستحقاق، أن نسمّيه بنظريّة العلم. 
(6  في وجود منطق بما هو نظريّة في العلم، و جواز وجوده .

    إنّ وجود علم كهذا وجواز وجوده ـ بما هوعلم ضبطيّ وعمليّ ينتسب إلى فكرة العلم - يمكن تأصيلهما بما يلي من نظر:
    فالعلم كما يدلّ اسمه، غرضه المعرفة وليس معناه أنّه هو نفسه مجموعة أو جملة عضويّة من أفعال معرفيّة. العلم لا يوجد وجودا موضوعيّا إلاّ بمدوّنته، وليس يوجد وجودا خاصّا إلاّ بوجوده في هيئة مصنّفات مكتوبة، وإن كان هذا الوجود ذا نسب كثيرة بالإنسان وأفعاله الذّهنيّة؛ وهو بوجوده في ذلك الشّكل إنّما يخلد آلاف السّنين ويعمّر بعد النّفوس والأجيال والأمم. فإذن العلم هو عبارة عن جملة وسائل خارجيّة، يمكنها، كما كانت قد حدثت من أفعال معرفيّة لنفوس كثيرة، أن تعاود أن تعرض لأفعال شبيهة لنفوس أخرى لا تُحصى، بطريقة فهمها يسير ولكنّها يصعب وصفها وصفا صحيحا بدون استطرادات طويلة ودقيقة. فحسبنا أن نقول هاهنا بأنّ العلم يضع أو شأنه أن يضع، من أجل إنجاب أفعال معرفيّة، شروطا أولى دقيقة، وممكنات معرفيّة حقيقيّة يمكن لرجل " سويّ"  أو " ذي فطرة سويّة"  عند أسباب " مستقيمة " أن يعتبر تحقيقها بنحو غرض لهمّته أن تتعلّق به. فإنّما بهذا المعني كان العلم غرضه المعرفة .
    ولكن بالعلم تُمْلَكُ الحقيقة، إنّما بالعلم بالفعل، الّذي نُرَدُّ إليه في آخر التّحليل، نملك الحقيقة بنحو موضوع حكم صواب. إلاّ أنّ هذا وحده غير كاف؛ لأنّ كلّ حكم صواب وكلّ وضع أو رفع، يتّفق مع الحقيقة ومع حال ما، فليس بمعرفة بوجود أو لا وجود تلك الحال. بل ما يميّز المعرفة - مأخوذة في معناها الأخصّ والأدقّ - إنّما هو البداهة، واليقين الشّعشعانيّ بأنّ ما أقررت به موجود، وما أنكرته غير موجود، وهو يقين، كما هو معلوم، ينبغي أن نفرّقه من الاعتقاد الأعمى والظّنّ المبهم والثّابت من الظّنّ بلغ ما بلغ من الثّبات، إذا ما كنّا، على الأقلّ، لانريد أن نرتطم بصخور الشكّيّة الغالية. لكن اللّغة العُرْفيّة لا تتثبّت في هذا المفهوم الصّارم للمعرفة، فنحن نتكلّم أيضا عن معرفة، مثلا، لمّا يقترن في وقت واحد، بحكم مصرّح به، ذكرى بينّة بأنّنا قد أسلفنا التّصريح بحكم تصحبه بداهة ذات فحوى هو هو، ولا سيّما لمّا هذه الذّكرى تكون متعلّقة أيضا باستدلال برهانيّ كانت نشأت عنه هذه البداهة، ونحن متيقّنون أنّه في مقدورنا معاودة إنشائه وهذه البداهة معا " إنّي لأعلم أنّ مبرهنة فيثاغورس صواب، ويمكنني البرهنة عليها"؛ فمكان هذه الجملة الأخيرة، قد نقول، بلا شكّ، أيضا " ولكنّني نسيت البرهان."
    وهكذا فإنّا نتصوّر، عامّة، مفهوم المعرفة بمعنى أعمّ ولكنّه ليس بمبهم كلّ الإبهام؛ ونميّزه من الظنّ غير المؤصّل، ونعوّل هاهنا علىضابط وجود الحال المفترضة أو على صوابيّة الحكم المصرّح به .والمقياس الأتمّ لهذه الصّوابيّة هو البداهة، إذ نراه بأنّه المعاينة القريبةImmédiate   للحقيقة نفسها .وعلى أكثر الأحوال، فنحن نفتقر لهذه البداهة المطلقة بالحقيقة؛ فنستعيض عنها، مكانها، باحتماليّة متفاوتة القدر في الحال الّتي كلّما ناسبتها ، " درجات احتمال" أعلى، أذعن الحكم فأدّى إلى قطع في الأمر ذي رسوخ .ولنذكر وظيفة الذّاكرة في الأمثلة الواردة آنفا، فبداهة احتماليّة حال ما أ ليست بمؤصّلة بلا ريب، لبداهة حقيقتها، وإنّما تؤصّل الاعتبارات المقارنة والبديهيّة الّتي بها، وبحسب قيم احتمالاتها الموجبة أو السّالبة، يمكننا أن نفرز الفرضيّات والآراء الرّاجحة من المرجوحة، والمؤصّلة تأصيلا حسنا من غير المؤصّلة تأصيلا حسنا .وتجريد الدّلالة أنّ كلّ معرفة صادقة، ولا سيّما المعرفة العلميّة فإنّ قوامها، إذًا، هو البداهة، وبقدر ما تتّسع البداهة يتّسع بالتّبع مفهوم المعرفة.
    وهذا، مع ذلك، لا يرفع أنّه يوجد نحوان اثنان في مفهوم المعرفة أو العلم، ومعناه، في رأينا، سواء والأوّل، معرفة، بالمعنى الأدقّ للعبارة، وهي البداهة بأنّ حالا ما توجد أو لاتوجد، مثلا، بأنّ س  هو ب ؛ وحينئذ، فإنّ البداهة بأنّ حالا ما لها درجة أو أخرى من الإحتماليّة، هي أيضا معرفة، معرفة تتعلّق بأنّ هذه الخاصّيّة توجد لها، بما  للعبارة من معنى دقيق.  ولكنّه، في نفس الأمر، فإنّه توجد بالإضافة إلى وجود الحال نفسها وليس بالإضافة إلى احتماليّتها معرفة بالمعنى الواسع والمغاير للكلمة، وهو بهذاالمعنى الأخير إنّما يُتَكَلَّمُ، بحسب درجات الإحتمال، عن معرفة تتفاوت كبرا؛ والمعرفة، على المعنى الأوّل، أي بداهة وجود س ل ب فإنّها نهايتها المثاليّة الثّابتة ثباتا مطلقا، تقترب منها اقترابا أسّمتوتيّا  Asympotique، إحتماليّات وجود ب ل س وهي تتزيّد (5).
    بيد أنّ مفهوم العلم وفائدته ما يقتضيانه يفوق أن يكون المعرفة بمجرّدها. فمتى نكون نعيش إدراكات باطنيّة، مفردة كانت أم مجمّعة، ونكون عارفين لها بأنّها حاضرة، فإنّنا نكون نملك معرفة، ولكنّ شتّان هذا وأن نكون مالكين لعلم ما. والأمر هو كذلك، على نحو عامّ، بالنّسبة لمجموعات غير مترابطة من أفعال معرفيّة، إذ ليس من شكّ أنّ العلم إنّما يريد أن يعطينا كثرة من المعارف، ولكن ليست الكثرة بمجرّدها. ولو وُجِدَ الاشتراك في المادّة، فليس شأنه أن يؤلّف المعارف المتكثّرة في وحدة علميّة، فمعارف كيميائيّة مفردة لا تجيز لنا لا محالة بأن نتكلّم عن علم كيميائيّ. فهو ظاهر أنّه إنّما يجب شيء آخر، ألا وهو  التّرابط النّسقيّ بالمعنى النّظريّ، وأنّما هاهنا يكمن تأصيل المعرفة وكذلك الوصل والنّظام اللاّزمين لتعاقب الأصول الموضوعة.
  فمن ماهية العلم إذًا أن توجد وحدة ترابط في الأصول الموضوعة، تستفيد بها المعارف المخصوصة، والأصول الموضوعة نفسها، وأيضا تآليف أعلى في الأصول الموضوعة، ندعوها بالنّظريّات، وحدة نسقيّة إنّما العلم غرضه أن يعطينا ليس معرفة بمحضها ومجرّدها، وإنّما معرفة ذات فحوى و هيئة يتناسبان أكمل التّناسب مع أغراضنا النّظريّة العليا.
  وهو ليس، بوجه ما، لمجرّد ميل فنّيّ في طبيعتنا، نحن نرى بأنّ الصّورة النّسقيّة إنّما هي التّجسيم الأخلص لفكرة العلميّة، وكان سعينا، بالتّقريب، إنّما لها بل العلم يأبى ويمتنع عليه أن يكون لعبا معماريّا. فالنّسقيّة الّتي هي خاصّة العلم، أي العلم الحقّ والأصيل، بالطّبع، لسنا نحن من يبتكرها، بل إنّها توجد في الأشياء، حيث لا يعدو عملنا إلاّ أنّنا نصيبها ونكتشفها .إنّ العلم يعرض لمعرفتنا بنحو وسيلة نلج بها إلى الحقيقة، مفهومة بأوسع المعاني ولكنّ الحقيقة ليست بفوضى غير ذات نظام، وإنّما تحكمها وحدة القانون؛ من أجل ذلك وجب أن يكون البحث في الحقائق وبسطها نسقيّين أيضا، و أن يعكسا ترابطاتها النّسقيّة ويستخدمان هذه التّرابطات في الوقت نفسه بنحو مَرَاقٍ في التّطوّر متعاقبة، حتّى يمكن، بعد أن يُبْدَأَ من معرفة معلومة أو محصّلة، أن نلج إلى أقاليم من الحقيقة أعلى.
    وليس لهذه الحقائق غِنًى عن تلك المراقي المتعاقبة، فالبداهة الّتي، في آخر التّحليل، إنّما هي قِوَامُ كلّ علم فليست بمكمّل طبيعيّ يرد لمجرّد تمثّل لأحوال ما بمعزل عن كلّ صناعة منهجيّة وإلاّ لما كان النّاس قد تجاسروا في بناء العلوم. وحيثما تكون النّتيجة قد أُعطيت مع القصد، فإنّ تركيب المنهج يكون غير ذي معنى، إذ ليت شعري، فما الجدوى في أن نبحث في علاقات الأصول الموضوعة وأن نؤسّس البراهين إذا كنّا ندرك الحقيقة بتبيّن قريب !? ففي الحقيقة، البداهة الّتي تعرّف الحال المتمثّلة بأنّها موجودة، والخلف الّذي يعرّفها بأنّها غير موجودة (وكذلك الأمر بالنّسبة للاحتماليّة أو غير الاحتماليّة)، فلا تعرض بنحو قريب إلاّ فيما قلّ أيّما قلّة من أحوال أولى، إذ لا يحصى من القضايا الصّادقة لا يمكن أن ندركها على أنّها صادقة إلاّ إذا " أُصِّلَتْ " تأصيلا منهجيّا، على معنى أنّه في تلك الأحوال، ما وُجد منها، فكلّ قطع بحكم، باعتبار القضيّة بمجرّدها، فإنّه لا يكون بداهة، أمّا لو فُرِضَتْ أسباب مستقيمة، فمتى يُبْدَأُ من معارف ما، ونسلك بعدها بفكرنا قاصدين طريقا يأخذ إلىالقضيّة المُسْتَهْدَفَةِ، فإنّ كلاهما سيعرضان معا. ولقضيّة واحدة أن يُسْلَكَ مسالك كثيرة في تأصيلها، بعضها ينشأ عن معارف ما، وأخرى عن معارف غيرها، فهو إنّما هي حقيقة ممتازة وجوهريّة أنّه توجد كثرة لا متناهية من الحقائق لا يمكن أبدا أن تُصَيَّرَ معارفا بغير مثل تلك الطّرق المنهجيّة. 
    فأن يكون الأمر كذلك، أي أنّنا نحتاج إلى أصول موضوعة لنُعَدِّي في العلم والمعرفة، من البديهيّ القريب، والمُكَرَّرِ قوله، ليس بجاعل فقط العلوم ممكنة وضروريّة الوجود، وإنّما أيضا، وبها، ممكنا وضروريّا وجود نظريّة في العلم ومنطق ما. فما دامت العلوم كلّها إنّما تسلك بطريق منهجيّ في بحثها عن الحقيقة، وما دامت كلّها تستخدم وسائل بوجه ما صناعيّة، لتجعلنا نقف على حقائق، أو بحسب الحال، على احتمالات ما، لولاها لبقيت مخفيّة (6)، ولتسخدم ما هو بيّن بذاته وما قد تُثُبِّتَ فيه بنحو رافعة لبلوغ ما هو بعيد وليس يُدْرَكُ إلاّ بتوسّط، فحينئذ، فإنّ الفحص المقارن لهذه المُعِينَاتِ المنهجيّة الّتي كانت قد تخزّنت فيها آراء حدسيّة وتجارب أجيال لاتُحصى من الباحثين إنّما شأنه أن يعطينا طرق وضع ضوابط عامّة لمناهج شبيهة، وأيضا قواعد لمعرفة كيف نبنيها بحسب مختلف أقسام الحال.                     
(7  تابع .في الخصائص الثّلاث الكبرى للأصول الموضوعة.

    ولنزيد تدقيقا في هذه المسألة، لننظر في الخصائص الكبرى لطرق الفكر العجيبة هذه الّتي دعوناها بالأصول الموضوعة.
    فوجه أوّل لها، بالقياس إلى محتواها، فهو أنّها ذات بنيات ثابتة، فمتى رمنا إدراك معرفة ما، مثلا، معرفة مبرهنة فيثاغوراس، فليس بالممكن أن نختار المبدأ جِزافا من بين المعارف المعطاة قريبا، كما ليس من حقّنا، بعدها، أن نزيد أوأن نحذف جزافا أجزاء استدلاليّة، ما كنّا نبغي أن تظهر بداهة القضيّة المُؤَصَّلَةِ حقّ الظّهور، وأن يكون التّأصيل، بالنّتيجة، تأصيلا حقّا.
    ونحن ذاكرون الآن خاصيّة ثانية : فبادئَ الرّأي، أي قبل أن نقارن بين أمثلة الأصول الموضوعة هذه الّتي تتقاطر بفيض من كلّ الأنحاء، فقد يُتصوّر أنّ كلّ أصل موضوع فهو واحد في نوعه مادّة وصورة بالتّمام و لا شيء يمنع بَدْأً أن نعدّ هذه الفكرة ممكنة، وهي أنّ هَوًى في الطّبيعة ربّما قد صاغ ذهننا صياغة عجيبة بحيث تغدو عبارة أشكال الأصول الموضوعة المختلفة، المألوفة لدينا جدّا في الحاضر، غير ذات معنى، والمقارنة بين الأصول الموضوعة لا تفيدنا البتّة إلاّ بشيء واحد نتبيّنه بنحو الخاصّيّة المشتركة، ألا وهو أنّ قضيّة ما س، غير بديهيّة في نفسها، إنّما تستفيد البداهة إذا ما وُصِلَتْ إلى معارف ب1، ب2  تُضَمُّ إليها آخر الضّمّ، بمعزل عن كلّ قانون عقلانيّ ولكن الأمر ليس كذلك، فليس الجزاف الأعمى من جمع رُكَامَ حقائق ب1، ب2، س، ثمّ سوّى الذّهن تسوية بحيث يكون مضطرّا  أو أيضا عند أسباب مستقيمة  أن يصل إلى المعارف ب1، ب2، المعرفة س. إنّه لا يوجد مثال واحد يكون فيه الحال كذلك. فليس الجزاف والبخت من يحكمان ترابط الأصول الموضوعة، بل العقل والنّظام، أي قانون وظيفته وظيفة القاعدة وهولا يُحْتَاجُ بتاتا إلى مثال لإفهام ذلك. فلمّا في مسألة رياضيّة تتعلّق بمثلّث  أ ب س  ما معطى، نُوقِع القضيّة " المثلّث المتساوي الأضلاع، زواياه متساوية  "، فإنّما نأتي تأصيلا مفاده كالآتي: كلّ  مثلّث متساوي الأضلاع فزواياه متساوية، المثلّث  أ ب س متساوي الأضلاع، فإذًا هذا المثلّث زواياه متساوية .ولِنَقِسْ ذلك إلى التّأصيل الحسابيّ، وهو أنّ كلّ عدد عشريّ النّظام يكون رقمه الأخير زوجيّ، فهو زوجيّ، 364 عدد عشريّ النّظام رقمه الأخير زوجيّ، فإذن 364 هو عدد زوجيّ .فنتبيّن في الحال أنّما لهذه الأصول الموضوعة شيء مشترك، ألا وهو هيئة باطنيّة متشابهة نعبّر عنها للإفهام ب" الشّكل القياسيّ" :  كلّ أ هو ب،  س هو أ، فإذا كلّ س هو ب. وليس هذان النّمطان من الأصول الموضوعة وحدهما من لهما هذا الشّكل نفسه، بل لا متناهي آخر من الأنماط. ثمّ أيضا، فالشّكل القياسيّ إنّما هو عبارة عن مفهوم لقسم يستغرق كثرة من التّرابطات من القضايا، يؤلّف هو نمطها المحدّد بيّن التّحديد. ولكن يوجد كذلك القانون الماقبليّ  الّذي مفاده أنّ كلّ تأصيل مَنْوِيٍّ  يحتذي ذلك الشّكل فهو أيضا تأصيل صواب بحقّ ما ابتدأ من مقدّمات صواب.
    والأمر يطّرد هكذا عموما، فحيثما نرتقي عند تأصيل ما من معارف معطاة إلى معارف جديدة، فالتّأصيل يكون ملازما لصورة ما تشاركه فيها أصول موضوعة أخرى كثيرة وهاهنا إنّما يوجد أشدّ الأمور ظهورا، وهو أنّه لا أصل موضوع واحد بموجود بمفرده، ولا واحد منها يصل معرفة بمعرفة من غير أن يَبِينَ، سواء في الشّكل الخارجيّ للتّرابط أم في الشّكل الخارجيّ و الهيئة الباطنيّة  لقضايا شتّى معا، نمط معيّن، إذَا ما نُقِلَ إلى مفاهيم عامّة، فإنّه يؤدّي إلى قانون عامّ ذي تعلّق بأصول موضوعة ممكنة لا متناهية  .
  وبأَخِرَةٍ، توجد خاصّيّة ثالثة تستأهل أن نذكرها فبادئ الرّأي، أي قبل المقارنة بين الأصول الموضوعة لعلوم مختلفة، فقد نظنّ بأنّ أشكال الأصول الموضوعة إنّما مقترنة بمواضيع المعرفة، فإن وُجدت الأصول الموضوعة المتعلّقة بأقسام المواضيع لم تختلف باختلاف تلك الأقسام، فربّما الأصول الموضوعة إنّما تتباين بحسب مفاهيم أقسام أعمّ جدّا، كتلك الّتي تحدّ مختلف مواضيع العلم، أفلا يمكن أن نقول بأنّه لا توجد صورة تأصيل مشتركة بين علمين اثنين، مثلا ، بين الرّياضيّات والكيمياء؟ ولكن ظاهر أنّ الأمر ليس كذلك، كما كنّا تبيّنّاه من المثال الآنف، إذ لا يوجد علم لا تقع فيه أحكام ما على أحوال جزئيّة، أي  لايتكرّر فيه كثيرا أقيسة من الشّكل الّذي اتّخذناه مثالا وكذلك الحال بالنّسبة لكثير من سائر أنواع الأقيسة، بل يمكن أن نقول بأنّ سائر أنواع الأقيسة عساها أن يُسْلَك بها إلى العموم بحيث تصير متصوّرة تصوّرا " خالصا " جدّا حتّى أنّها تنتفي كلّ علاقة جوهريّة لها بموضوع المعرفة المحدّد تحديدا ذا تعيّن.                    

 إشارات.                         

 (1 التّجزئة من عندنا، ويلي الجزء الأوّل هذا ويُتَمِّمُ الفصل جزء ثاني سوف يُنشر بعده.
(2  فالعلوم غير الفلسفة مهما بلغت من قوّة ونماء، فهي توجد ناقصة من جهة تمام عقلانيّتها، لأنّه ليس شأنها  أن تنظر فيما يقوّمها ويؤصّلها بما هي علم، وهذا الاعتبار هو أصل النّقص في العلم نقصا ملازما لها وليس بالعرض .
 (3 أي في كونها أيضا كبقيّة العلوم ينالها النّقص المشار إليه آنفا.
 (4 لقد ظُنّ أنّ المكمّل النّظريّ لهذا النّقص العقلانيّ في العلوم إنّما يكون بمباحث ميتافيزيقيّة، لكن هوسّرل سيبيّن زيف هذا الرّأي بعد أن يفصّل القول فيه.
 (5 أي أنّ احتماليّة وجود  ب  ل س هي معرفة ذات بداهة، ولكن بداهة نسبيّة، تزيد وتنقص بحسب قربها أو بعدها من البداهة الأولى المثلى والنّهائيّة، أي بداهة اكتمال حصول الحال محدوسا بتمامه غيرَ تارك منه ولو ذرّة ممّا فيه مستهدف ولكن غير مملوّ؛ أنظر، الأبحاث المنطقيّة، المبحث السّادس، مقالة الحسّيّة والذّهن
 (6 معناه لولا تلك الوسائل الصّناعيّة بوجه ما، لبقيت الحقائق أو احتمالاتها مخفيّة لنا. 

طبلبة. 29/6/2000   
    
  Prolégomènes  à  la logique pure, Chapitre Premier*

**باحث في الفلسفة.




#لطفي_خيراللّه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مصر.. حكم بالسجن المشدد 3 سنوات على سعد الصغير في -حيازة موا ...
- 100 بالمئة.. المركزي المصري يعلن أرقام -تحويلات الخارج-
- رحلة غوص تتحول إلى كارثة.. غرق مركب سياحي في البحر الأحمر يح ...
- مصدر خاص: 4 إصابات جراء استهداف حافلة عسكرية بعبوة ناسفة في ...
- -حزب الله- يدمر منزلا تحصنت داخله قوة إسرائيلية في بلدة البي ...
- -أسوشيتد برس- و-رويترز- تزعمان اطلاعهما على بقايا صاروخ -أور ...
- رئيس اللجنة العسكرية لـ-الناتو-: تأخير وصول الأسلحة إلى أوكر ...
- CNN: نتنياهو وافق مبدئيا على وقف إطلاق النار مع لبنان.. بوصع ...
- -الغارديان-: قتل إسرائيل 3 صحفيين في لبنان قد يشكل جريمة حرب ...
- الدفاع والأمن القومي المصري يكشف سبب قانون لجوء الأجانب الجد ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - لطفي خيراللّه - مقدّمات لمنطق خالص