رائد الجراح
الحوار المتمدن-العدد: 4895 - 2015 / 8 / 13 - 15:16
المحور:
كتابات ساخرة
في إحدى الجادات القريبة من مركز المدينة في لوس انجلس كان هناك جدار عالي عليه بعض الرسومات يطل على رصيف يفترشه عدد من المشردين منهم من إفترش قطعة من ورق الكارتون الأسمر ومنهم من إفترش الأرض , منهم نائم لشدة السكر ومنهم من يترنح ومنهم من صحى تواً من سكره , هذه هي حياة المشردين في أمريكا ويطلق عليهم تسمية هوملس وتعني المتشرد الذي لا مأوى له , هذه الشريحة من المجتمع الأمريكي هم كثر ولكن لاتجدهم سوى في المدن المزدحمة كمدينة نيويورك وسان فرانسيسكو ولوس أنجلس وشيكاغو وكثير من المدن الأخرى , وهؤلاء يمثلون الصورة السلبية للولايات المتحدة الأمريكية ولكنهم ليسوا ضحايا للسياسة الأمريكية كما يدعي البعض من
الذين يكرهون امريكا حد النخاع , ولكنهم إناس شانهم شأن غيرهم في المجتمعات الأخرى فهم ينقسمون الى فئات حسب وضعهم الأجتماعي وكذلك بالنسبة لأعمارهم فمنهم المعاق ومنهم المتمرد على الحياة المدنية فاختار لنفسه حياة التشرد ومنهم من خرج من السجن ولم يجد عائلة تحتضنه أو مجتمعاً يتقبله, ورغم أن الدولة بنت الكثير من الملاجيء لهؤلاء المشردين إلا أن الكثير منهم يفضل المبيت بين زوايا التقاطعات وتحت الجسور ويصنعون لهم بيوتاً من الكرتون لاتتعدى مساحة البيت الواحد مترين مربع ليقيمون فيه ويتنقلون متى شاؤوا الى أماكن اخرى حسب مزاجهم ويعتاشون على بقايا الطعام من القمامة , أو من خلال ما يحصلون عليه من مال بطريق الأستجداء ولكن الكثير منهم يذهب الى قاعات صممت كمطاعم تقدم فيها يوميا آلاف الوجبات لهؤلاء المشردين .
هذه الشريحة هي واقع من المجتمع الأمريكي لايمكن نكرانه أو تجاهله لأنهم أوجدوا انفسهم بانفسهم دون تدخل من احد رغم إن الحكومة قد أقرت قانون للرعاية الأجتماعية للعوائل التي تعاني الفقر والعوز منذ زمن بعيد بحيث يكفل هذا القانون حق العيش ويؤمن لتلك العوائل مايكفيهم الى الحد الذي يجعلهم لايلجأؤا الى التسول أو العيش في ملاجيء للمتشردين لحين توافر الضروف التي تحسن من وضعهم المعيشي , وهذه البرامج موجودة في جميع مدن الولايات المتحدة وتشرف عليها دوائر تابعة لحكومة الولاية وليس لها علاقة بالنظام الفيدرالي رغم تلقيها الدعم من الحكومة الفيدرالية ,
اتذكر عندما دخلت أراضي الولايات المتحدة الأمريكية في شتاء عام 2008 أنا وعائلتي بعد حصولنا على حق اللجوء والعيش والأندماج بين المجتمع الأمريكي , وعند نزولنا من الطائرة في مطار شيكاغو كان اول شيء صادفنا هناك أن السلطات الأمنية منحتنا أول بطاقة وكانت تلك البطاقة هي إجازة رسمية تسمح لنا بالعمل والتوظيف داخل الولايات المتحدة الأمريكية ثم حصلنا بعد ذلك على الرقم الوطني الذي يعتبر وجودنا شرعي قانوني هناك أيضاً ,
ورغم أن المنظمة المكلفة برعايتنا وتقديم المساعدات والعون لنا لم تقصر في مهامها تجاهنا إلا اننا تفاجئنا بوجود جمعيات ومؤسسات كنائسية كثيرة منتشرة في جميع المدن الأمريكية تقدم الدعم الغذائي للمحتاجين علماً إن ماتصرفه لنا حكومة الولاية من البطاقات الغذائية يكفي ويفيض أحياناً عن حاجتنا , إلا ان الرواتب النقدية التي كانت تصرف حسب عدد افراد العائلة لم تكن بالمستوى المطلوب وهذا من أجل سياسة التحفيز على العمل ,
من اهم الأشياء التي بقيت عالقة في ذاكرتي عندما التقيت باحد الأخوة من العراقيين القدامى الذين قدموا الى الولايات المتحدة الأمريكية قال لي عبارة لن انساها أبداً وكان ذلك عندما كنت أؤجه له سؤال عن مصير من لا يجد مأوى في هذا البرد القارص التي كانت تصل فيه درجة الحرارة أحياناً الى 10 درجات مئوية تحت الصفر أتذكر أنه قال لي ( من يعيش في أمريكا لا يبرد ولا يجوع ولا يعرى ) ورغم أنني المس هذه الحالة إلا أنني ذهلت لكلامه هذا لكنني أستوعبته بعد أن عرفت طبيعة القوانين التي تتعامل بها حكومة الولايات المتحدة من ناحية الخدمات الأجتماعية للأنسان , فأنا أعيش على أراضيها لاتهمني سياستها الخارجية تجاه الدول الأخرى بقدر ما يهمني كيف ستكون حياتي التي أعيشها هنا وكيف سيؤول اليه مستقبل أولادي الذين دخلوا المدارس وتغيرت حياتهم بمنعطف كامل ,
وإن اهم عبارتين سمعتهما في حياتي هنا كانت الأولى التي ذكرتها , وأما الثانية كانت من إنسان عربي بائس عاش في مدينة نيويورك مايقارب الأربعين سنة بعد أن جاء مهاجراً من احدى البلدات الفلسطينية , فاستطاع ان يكون له شركة كبيرة للمواصلات الخاصة بالمرضى والمعاقين والعجزة , ورغم إن هذه الشركة كانت تدر عليه أرباحاً كبيرة إلا أنه لم يكن سعيداً في حياته لكنني وبدافع غريزة الفضول أستطعت ان اتوغل أكثر في خصوصياته وهو بالمقابل كان يبحث عن شخص يفضفض له بعض من الهم الجاثم على صدره فكنت أنا ذلك الشخص وهذا من حسن الصدف ,
لقد تحث لي عن حياته ونضاله الطويل حتى أستطاع ان يكون هذه الثروة إلا انه اعترف لي بكل جرأة عن سبب تعاسته تلك بانه قال لي العبارة الثانية التي لم انساها ( إن أمريكا تعطيك كل ما تريد لكنها تأخذ منك أولادك ) حينها أدركت حجم ومعنى المعانات التي يعانيها هذا الرجل , إنه كان يشير الى حجم الحرية في هذا البلد مما يجعل الكثير من الناس من الذين ينحدرون من اصول شرقية يفقدون الكثير من التماسك الأسري والأجتماعي الذي تعودوا عليه في بلدانهم , لذا نجد إن من اصعب المتطلبات التي يواجهها الشاب الشرقي او البنت الشرقية هو الحصول على الشريك المناسب فيلجأ الكثير منهم الى الرجوع لبلده ليختار شريكه من هناك ويتزوج ويعود بعد ذلك لأكمال الأجراءات التي تسمح لهذا الشريك بالقدوم الى امريكا والعيش مع شريكه ,
والآن نعود الى موضوعنا الأهم في مقالتنا هذه التي أخترت لها هذه المقدمة التي اراها مهمة لمن لايعرف الكثير عن طبيعة الحياة المعيشية التي يعيشها الناس هنا ونحن نتفق على طبيعة الفقر الذي يعاني منه البعض ومقارنة بسيطة مع الفقر الذي يعاني منه الناس البؤساء في مجتمعاتنا في دولنا العربية إلا أننا لايمكن ان نجد سبباً واحداً لتلك المقارنة , فشتان مابين من يعيش هناك وبين من يعيش هنا , لأننا لو عدنا الى برنامج الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الذي يتلقى الطلبات لكثير من الأسر والأسخاص للحصول على اللجوء في احدى الدول الأوروبية او أمريكا سنكتشف بأن هذا الشخص او هذه الأسرة عليها الأنتظار خمس الى سبع سنوات ليأتي دورهم في مناقشة وضعهم لفتح ملف لهم للحصول على اللجوء , ومن المفاجآت اننا نجد الكثير من طالبي اللجوء يختارون البقاء في الدولة المضيفة التي تعتبر محطة للحصول على اللجوء مثل تركيا أو الأردن رغم إن الحياة هناك صعبة للغاية وتتطلب صبراً مرهقاً وهذا يؤكد إن إختيار اللجوء الى تلك الدول لم يأتي من عدم دراية او وعي بل إن الكثير من الناس أصبحت لديهم رؤيا واضحة عن طبيعة الحياة في تلك الدول ومنها الولايات المتحدة الأمريكية ,
ولكن هل يصدق احد ما بان هنا في الولايات المتحدة الأمريكية يوجد جياع تتقطع لهم القلوب شفقةً وأسى وتوجد بعض الجمعيات الأسلامية تقدم لهم المساعدات الغذائية والعينية مثل الملابس والبطانيات ؟
نعم ,,, فقد أكتشفت هذا عندما كنت في زيارة لأحد الأصدقاء في مدينة لوس انجلس وعند مروري بالقرب من أحد الأحياء القريبة من مركز المدينة وفي ذلك المكان الذي أشرت اليه في بداية هذا الموضوع كان هناك عدد من المتشردين وكانت هناك شاحنتان تحتويان عدد من صناديق مليئة بالوجبات الحارة ويقوم بعض الرجال الذين يرتدون الزي الأسلامي الذي هو عبارة عن رداء أبيض (دشداشة) معتمرين عمائم بيضاء بلحى سوداء منسدلة على صدورهم توحي بانهم يقلدون بعض الشخصيات الأسلامية التي ظهرت في فلم الرسالة للراحل مصطفى العقاد ,
وبينهم بعض النسوة المتشحات بالسواد والمنقبات بالنقاب الأسلامي المعروف , يطلقون على انفسهم عبارة تشير إلى نشاطهم ( يد بيد من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وكانت هذه المجموعة بدأت نشاطها حسب ما يدعون ومن المعلومات التي حصلت عليها من بعض مواقع التواصل الأجتماعي واليوتيوب وقد نشروا فيديو على اليوتيوب بأسم ( إطعام الفقراء بأمريكا )
https://www.youtube.com/watch?v=qeGm50a9Tys
من أول وهلة وأنا اتابع هذا المنظر وهؤلاء كانوا قد إختاروا تلك المنطقة بالذات التي تكتظ بالمتشردين دون وجود أثر للشرطة في ذلك الحي يحملون كاميرا متطورة وهم يوزعون وجبات من الطعام معدة سلفاً على المتشردين ويساوموهم عليها من خلال طرح بعض الأسئلة التي كان أهمها هو
هل تعرف شيئاً عن الأسلام ؟ فيرد عليهم هذا المتشرد المبهور بهذه الوجبة الدسمة التي نادراً ما يحصل عليها رغم أنها لاتحتوي الكثير , سوى بعض البطاطس المقلية وقطعة من السندويتش المغلفة لايعرف ما بداخلها , ويقول لهم
كلا لا اعرف , ثم يبداؤن يتسللون الى عقليته المترنحة من هذا المدخل ليصوروا له بانهم عبارة عن ملائكة ظهروا له من السماء لينقذوه من هذا الوضع المزري بعد أن يقنعوه بأنهم جاؤا اليه ليفتحوا له الطريق الى الجنة ,
بعد أن شاهدت هذا المنظر الذي أذهلني من أول لحظة قررت أن اجري بحثاً عن هذه الجماعة , للوصول الى حقيقتها ومن هو الممول الرئيسي لها, ورغم أنهم يدعون من خلال الفيديو المنشور بأنهم يصرفون هذه الوجبات من مصروفهم الشخصي , إلا إن الأسئلة عن تلك الحركة الغريبة والمشبوهة تفرض على المتابع من أول وهلة , واهمها هو :
لماذ لم يقوموا هؤلاء بتقديم هذه المساعدات الغذائية والعينية الى جياع سوريا او الصومال او لأطفال الشوارع المشردين في مصر وهم بمئات الآلاف ؟
ورغم أن احداً لن يصدق هذه الكذبة لأنهم لم يقوموا بهذا العمل بنيته المعلنة بل إن وراءه أجندة ذات أبعاد وهم مجرد أدوات لتنفيذ هذه الأجندة وهذا المخطط , وقد يبدو للبعض بان من المضحك أن يقول أحد لمجرد وجود جماعة توزع بعض الأطعمة على المشردين هو عملٌ له أبعاد مشبوهة ولا يمكن أن يعبر على السلطات الأمريكية ,
لكن للأسف إن مثل هذا الرأي خاطيء بالتأكيد لأن البعض لا يمكن أن يتصور حجم الغباء الذي يعاني منه بعض القادة الأمريكان الذين يصلون الى صنع القرار وقد يكلفهم خسائر فادحة بالمليارات مثل ما حصل مع جورج بوش الصغير حين إستجابت دائرة استخباراته لمعلومات خاطئة أدلى بها ضابط هارب من نظام صدام حسين وتم على أساس تلك المعلومات إتخاذ القرار لأحتلال العراق الذي كلف الولايات المتحدة ترليون ونصف الترليون ناهيك عن آلاف القتلى وعشرات اللآلاف من الجرحى وقد اعترف اخيراً السيد اوباما في خطابه الأخير من خلال المؤتمر الذي عقده بشأن الأتفاق النووي الأيراني بهذا الخطأ الفادح .
إن هذه الجماعات تنطلق من مبدأ الحق الذي اريد به باطل , فهم يعرفون جيداً بان مايقومون به لايعادل خمسة بالمئة لأقرب مطعم للمتشردين في ذلك الحي الذي يقدم يومياً ما لايقل عن 4000 اربعة آلاف وجبة غذائية وهذه المطاعم منتشرة في كل المدن الأمريكية وهي مؤسسات خيرية غير ربحية مدعومة من الدولة لتلبية حاجات هؤلاء المتشردين
, واتذكر بأنني كنت قد تلقيت دعوة عام 2010 من عدد من المتطوعين في مدينة سيراكيوز في نيوروك للعمل في أحدى القاعات المخصصة لأطعام هؤلاء المشردين وهذا جعلني قريب جداً من جميع المعلومات الخاصة بتلك البرامج الخيرية المنتشرة في المجتمع الأمريكي من الشرق الى الغرب ,
إلا أنني حين أصادف مثل هذه الجماعات التي تقوم بمثل هذا النشاط فهذا لم يجعلني أتحرك باتجاههم لأستفزازهم لمعرفة ما يقومون به , وقد حاورت احدهم وحين واجهته بحقيقة ما يقومون به , واجه رأيي بأستخفاف شديد لكنه اصيب بصدمة حين وجهت له وابل من الأسئلة كان منها :
لماذا لاتقومون بارسال هذه المعونات المادية والغذائية الى الآلاف من اطفال سوريا مثلاً الذين يتضورون جوعاً ؟
ألم يعلمكم دينكم بأن الأقربون أولى بالمعروف فلماذا تركتم هؤلاء الجياع من أبناء جلدتكم وجئتم تقدمون المساعدات لشعب يعيش في أقوى بلد في العالم ودولكم تستجدي من حكومته الملايين ؟
لماذا لاتقولون لمن جندكم بان عليكم أن تقدموا تلك المساعدات الى الأطفال المشردين مثلاً من الذين يعيشون تحت الكوبريهات في مصر ؟
ولكن للأسف لا جواب
هم جاؤوا لينفذوا وليس ليناقشوا .
ومن هنا يتبين لنا بان وجبة من البطاطس المقلية يمكن أن تستخدم لتغيير مسار دولة بحجم أمريكا .
على الأقل هذا ما يفكر به هؤلاء .
#رائد_الجراح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟