|
العربية في..اسفار المأساة اللغوية الجزائرية
محمد دامو
الحوار المتمدن-العدد: 4895 - 2015 / 8 / 13 - 09:01
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الحديث عن الواقع اللغوي في الجزائر يحتاج دون مبالغة الى مدوَنات تحاكي اسفار المأساة الهندية بكل غرائبها وفواجعها، وكل من يدَعي المقدرة على فك رموزها ،لا بد وان يرمى بالمكابرة والغرور، إن لم يتهم بالخبل والجنون ، وقد ازداد الوضع ارباكا مع سرعة التقدم التكنولوجي وانتشار نتاجه الصناعي بشكل واسع بين الناس ،على ما يصحبه ذلك من مصطلحات جديدة ومفردات لغوية معبَرة ،مما زاد في إرباك اللهجة العامية ،وفي إحراج اللغة العربية الفصحى. اللغة العربية هي اللغة الوطنية الرسمية الوحيدة في البلاد ،كما نص على ذلك الدستور الجزائري وتعديلاته منذ الاستقلال وحتى عام 2002، حيث اجري تعديل دستوري نصَ على ان الامازيغية لغة وطنية الى جانب العربية، التي ظلَت محتفظة بمركزها باعتبارها اللغة الرسمية الوحيدة في الجزائر. هذا على الصعيد القانوني ،امَا واقع الحال ،فأمر مختلف تماما. اللغة الفرنسية التي لا تحظى باية شرعية قانونية تذكر، هي في الواقع لغة التعامل المهيمنة على العديد من مفاصل النشاطات الحيوية في الجزائر ،تصل الى حدَ استحالة تسوية اية معاملة بدونها ،كونها حاضرة بقوة في معظم الادارات ،ولا يمكن انجاز العديد من المعاملات الادارية بدونها. فاذا كانت المصالح الادارية في البلديات تتعامل باللغة العربية دون إشكال ،طالما بقي الامر متعلقا بالوثائق الثبوتية الشخصية كشهادة الميلاد وشهادة الوفاة ،فالامر يصبح مختلفا في التعاملات البنكية مثلا ،وغيرها من المصالح التجارية والمالية. وعموما يصعب على المرء ان ينجز معاملة ادارية ذات اهمية ،ما لم يكن على معرفة جيدة باللغة الفرنسية ،حديثا وكتابة ، خاصة وان الفرنسية باتت الرافد الاساسي والوحيد للهجة العامية ،فالمتحدَث بالعامية لا يلجأ الى العربية او الامازيغية عند الحاجة لرفد قاموسها المتواضع ،بل يستعين بالفرنسية، يغرف من قاموسها الجاهز دوما لتعويض ما عجزت عنه عاميته في التعبير عن فكرته واستكمال حديثه. أمَا اللغة الانكليزية ،فهي الضيف الذي يحلَ بالمشهد اللغوي الجزائري دون دعوة ،ودون استنكار ايضا ،بل يحظى بترحاب من جميع الاطراف المنشَطة للمشهد اللغوي في البلاد ،ليس باعتباره العنصر البديل ،بل لامكانية اتخاذه كحليف ونصير في عملية القضاء على الخصم التاريخي والايديولوجي في الصراع المحتدم بين انصار العربية من جهة وانصار الفرنسية من الجهة الاخرى ،مع ان الواقع يبدي خلاف ذلك ،فالانكليزية تقتحم ميدان الصراع اللغوي لحسابها الخاص ،ولا يبدو انها بحاجة لحليف محلَي ،بعد ان فرضت هيمنتها التامة على قاموس المصطلحات في معظم الفضاءات ،وخاصة ميدان التكنولوجيات الحديثة للمعلوماتية والاتصال مثلا ،بالاضافة الى قيم اخرى ليس هنا مجال الخوض في اشكالها والوانها ،وهي عديدة ومتنوعة وتكاد لا تحصر. رغم وضعها القانوني الذي يجعل منها اللغة الرسمية الوحيدة في البلاد ،ورغم كونها لغة التعليم في المدارس والثانويات والمعاهد والجامعات عدا بعض الكليات المعدودة ،فان اللغة العربية تبدو في موضع ضعف امام غريمتها الفرنسية ،ليس بمقدورها حسم صراعها المحتد مع الفرنسية ،الذي بات يصب في كثير من الاحيان لصالح الاخيرة ،او على الاقل لصالح طرف ثالث متمثَلا في اللغة الانكليزية ،وكثيرا ما يعزى هذا الاخفاق الذي تعاني منه العربية ،الى "مؤامرة" حاكها ويحيكها اللوبي الفرانكوفوني ،المدعوم من الخارج، لكن هذا الطرح يبقى مجرد اتهام سياسي ،غير قائم على تحليل علمي محايد او تقييم موضوعي للظاهرة مدعوم بوقائع حية ملموسة، بل وعلى عكس ذلك ،هناك خشية تصل لحد الذعر ،من اية محاولة جادة للبحث عن الاسباب الحقيقية لهذا الاخفاق ،وكشف مكمنه، فالسؤال والمساءلة عن وضعية اللغة العربية في الجزائر اصبحت من المحرمات التي يدان صاحبها بانتهاك المقدس ،والاعتداء على المعتقد الديني ،كونها لغة القرآن، والاسلام هو الركن الاساس في ثوابت الامة. على هذا ورغبة منه لاستغلالها حزبيا وسياسيا ،تبنى التيار الاسلامي قضية اللغة العربية وبالغ في أحاطتها بهالة التقديس ،وتمسك بالدفاع عنها من منطلق المصلحة الذاتية ،حتى اضحت العربية لغة الخطاب الديني الموسوم باللوثة السياسة، التي لا تعترف بالمقدس وتبيح المدنس ،وهو تناقض انعكس سلبا على العربية مما جعلها في الجزائر تبدو كما لو كانت، لغة خارج زمانها غريبة عن مكانها، خلافا للحقائق التاريخية ،فكان لا بدَ من ادراجها في خانة العقيدة والعبادات وإحدى ادوات ممارستها في اطار البند الدستوري الذي ينص على ان الاسلام دين الدولة وهو صالح لكل زمان ومكان. خارج هذا الاطار المبهم في التعاطي مع اللغة العربية ،لا يوجد في الجزائر تقليد بالحث على تطوير العربية ،ودعم مشاريع توسيع قاموسها من خلال هيئات علمية تضم خبراء في مجالات العلوم المختلفة ،تكون مهمتها استخراج درر اللغة عبر الاشتقاق المناسب لتسمية كل اختراع جديد بحسب جنسه ونوعه ووظيفته ،..إن كان آلة او حركة ،او مصدرا او فعلا او فكرا، بالاضافة الى تتبع كل مستجد في عالم البحث العلمي ،والابداع الفني ،والخلق التقني ، وهي مجالات باتت تتحفنا في كل يوم بالجديد والغريب الذي ،لم يخطر ببال الاولين عربا وعجما وامازيع ايضا.
#محمد_دامو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسؤول عسكري بريطاني: جاهزون لقتال روسيا -الليلة- في هذه الحا
...
-
مسؤول إماراتي ينفي لـCNN أنباء عن إمكانية -تمويل مشروع تجريب
...
-
الدفاع الروسية تعلن نجاح اختبار صاروخ -أوريشنيك- وتدميره مصن
...
-
بوريسوف: الرحلات المأهولة إلى المريخ قد تبدأ خلال الـ50 عاما
...
-
على خطى ترامب.. فضائح تلاحق بعض المرشحين لعضوية الإدارة الأم
...
-
فوضى في برلمان بوليفيا: رفاق الحزب الواحد يشتبكون بالأيدي
-
بعد الهجوم الصاروخي على دنيبرو.. الكرملين يؤكد: واشنطن -فهمت
...
-
المجر تتحدى -الجنائية الدولية- والمحكمة تواجه عاصفة غضب أمري
...
-
سيارتو يتهم الولايات المتحدة بمحاولة تعريض إمدادات الطاقة في
...
-
خبراء مصريون يقرأون -رسائل صاروخ أوريشنيك-
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|