|
مسألة تعمد تزوير النص المسيحي
حسن محسن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 4890 - 2015 / 8 / 8 - 00:48
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قبل الشروع في المقالة أود أن أتقدم بالشكر الجزيل لكل من تفضل بالسؤال عن سبب غيابي عن مقالات الحوار المتمدن. ففي الفترة الماضية، وفي الحقيقة لا أزال، كنت مضطراً لأن أتنقل، مِن وإلى الكويت، خلال فترات قصيرة نسبياً، وما تبقى من الوقت المتاح كان يمضي للتجهيز للسفر القادم أو قضاء ما يجب إتمامه. فكل المناقشات والردود التي كتبتها خلال الشهرين الماضيين لبعض الأخوة والأخوات كانا إما في الطائرة، أو في فترات راحة قصيرة، أو مناقشات شفهية وضعتها كتابة بصورة رؤوس أقلام قبل أن أخلد للنوم. أكرر جزيل امتناني للأخوة والأخوات ممن تفضلوا بإرسال الرسائل أو البريد الإلكتروني وأعدهم أن أزوال نشاطي كما كان في القريب. أدناه هي مقالة نشأت من محاورة جمعتني ببعض الأخوة والأخوات تتعلق بـ (أصالة النص المقدس ومدى مقدرته على إيصال "حقيقة" من نوع ما لغير المؤمن فيه)، وهذه الجزئية أدناه تتعلق بـ (بعض أدلة تعمد تزوير النص المقدس المسيحي).
لن أطيل في المقدمة، وسوف أدخل في الموضوع مباشرة.
عندما تفتح (الكتاب المقدس المسيحي بترجمته العربية)، الذي يحوي العهدين، القديم اليهودي والجديد المسيحي، ثم تقرأ على غلاف العهد القديم هذه العبارة: "وقد تُرجم من اللغات الأصلية"، ثم تقرأ على غلاف العهد الجديد في الترجمة العربية: "وقد تُرجم من اللغة اليونانية"، ثم بعد ذلك تبدأ في قراءة المحتوى، فإنك ستُصطدم بحقيقة أن (المترجم العربي المسيحي) قد (خدعك) منذ بداية قراءة هاتين العبارتين. فـ (المترجم العربي المسيحي) بالتاكيد، وبدون أي شك، لم يترجم ما ترجمه من العبرية أو اليونانية، بل هو على الأرجح غير قادر على قراءتهما، ولكنه استخدم (ترجمة غربية، ربما ترجمة "الملك جيمس" الإنجليزية، أو ربما ترجمة فرنسية) ليترجم منها النسخة (الكارثية) العربية المتداولة اليوم. فالترجمة العربية هي (ترجمة ثانية عن ترجمة أولى غربية للأصل اليوناني)، أي ترجمة عن ترجمة على أحسن الأحوال لا أكثر من هذا، ولكنها بالتأكيد أقل من الترجمة الأولى بكثير، لأن المترجم العربي لم يتورع أيضاً في "تلطيف" و "تهذيب" وفي بعض الأحيان "التدخل السافر" في بعض الكلمات أو الجُمل في الترجمة الغربية الأجنبية الأولى. فالحقيقة هي أن عبارتي: "وقد تُرجم من اللغات الأصلية" و "وقد تُرجم من اللغة اليونانية" التي تراهما على نسخ الترجمة العربية هما ليسا أكثر (ترجمة عربية عن غلاف النسخة الغربية الأجنبية التي كتبت تلك العبارة)، أي الإنجليزية أو الفرنسية، ولا يعنيان إطلاقاً أن المترجم المسيحي العربي قد ترجم نسخته من الأصول اليونانية. والمترجم العربي "صمت" عن تلك الحقيقة (غير الواضحة لغير المختص) وتغافل عنها. (إلا أن ما ذكرته هنا سوف يحتاج أن يتذكره القارئ الكريم جيداً عندما يقرأ المثال الثاني أدناه).
لماذا ذكرت هذه الحقيقة أعلاه؟
الجواب، بالإضافة إلى حاجتنا إليه في المثال الثاني أدناه ،هو للتدليل الابتدائي على أن هناك نزعة واضحة في التاريخ الديني المسيحي من الواضح أنها لا تتورع إطلاقاً في (اختلاق ما لا حقيقة له ولا أصل ولا سند تاريخي أو واقعي، ومن ثم نسبته إلى الفضاء الديني والعقائدي المسيحي أو إلى يسوع مباشرة)، وكل هذا يتم تحت إيحاء "الورع أو التُقى الديني". وهذا ما يمكن البرهان عليه من نصوص الكتاب المقدس المسيحي ذاتها. أدناه هو مثالين فقط، اختصاراً للوقت، لـ (تعمد التزوير) في النص المقدس المسيحي، والذي تحول بدوره، في بعض الأمثلة، إلى "عقيدة إيمانية مسيحية أو واقعة إيمانية". وفي المثالين أدناه سوف استخدم الترجمة العربية التي تُرجمت عن الترجمات الغربية أياً كانت في مقابل ترجمة (NRSV)، وسوف نرى بوضوح هذه النزعة لتزوير النص المقدس.
المثال الأول:
1- الترجمة العربية: (فقال فيلبس: إن كنت تؤمن من كل قلبك يجوز. فأجاب [أي الخصي الحبشي] وقال: أنا أومن أن يسوع المسيح هو ابن الله) [أعمال الرسل 8: 37]
2- ترجمة (NRSV): هذه العبارة محذوفة بكاملها في تلك الترجمة، ولا وجود لها.
3- سبب الحذف كما هو مشروح في (Cambridge Bible for Schools and Colleges): "هذه العبارة [يقصد أعمال الرسل 8: 37] لا وجود لها في المخطوطات القديمة، ومن المحتمل أنها أدخلت على النصوص. وحيثما كانت توجد [يقصد في المخطوطات الأحدث منها] فإنها كانت على الهامش. هذه الهوامش تم إنشائها بواسطة أفراد، عندما اتسعت رقعة الكنائس ونشأت الحاجة إلى تلقين رسمي لطقوس الإيمان قبل التعميد. هؤلاء الأفراد شعروا بأن هذه القصة [المقصود قصة الخصي الحبشي وفيلبس كما هي في الترجمة العربية أعلاه] تحتاج إلى إكمال في السياق وتحتاج إلى مثل هذا الاعتراف [يقصد آية أعمال الرسل 8: 37]، وأن القصة غير مكتملة من دونه، فصنعوها [يقصد العبارة]".
4- التعليق: إذن، العقيدة المسيحية هي التي (اخترعت حواراً، أو حدثاً تاريخياً لا وجود له). وبالتالي فإن (تزوير الحدث أو الحوار كان دافعه إيماني بحت). فعبارة (أنا أومن أن يسوع المسيح هو ابن الله) [أعمال الرسل 8: 37] ليست حدثاً تاريخياً بالتأكيد، كما أنها ليست ضمن الطقوس المسيحية الأولى في التعميد خصوصاً إذا عرفنا أن أول ذكر للتعميد كان عند يوحنا المعمدان، اليهودي وليس المسيحي [في الحقيقة هناك أدلة أخرى على هذا الاستنتاج]، ولكنها كانت "حاجة" بحتة للكنيسة التي طورت عقيدتها بمعزل عن النص المقدس. فأضافتها على النص، وبكل بساطة. إلا أن الملاحظ أن هذا الفعل، أي التزوير في الحدث التاريخي، لم يتولد عنه (عقدة ذنب) أمام نفس الإله الذي يتعبد له هؤلاء. وهي (ملاحظة تقتصر على التاريخ الديني المسيحي دون غيره فيما يخص "سلامة" النص المقدس عندهم).
المثال الثاني:
1- الترجمة العربية: (فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد. والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح، والماء، والدم. والثلاثة هم في الواحد) [رسالة يوحنا الأولى 5: 7-8]
2- ترجمة (NRSV): (هناك ثلاثة يشهدون: الروح والماء والدم، وهؤلاء الثلاثة يتفقون) [رسالة يوحنا الأولى 5: 7]
3- سبب إضافة (الآب، والكلمة، والروح القدس) كما هو مشروح في (Cambridge Bible for Schools and Colleges):
"إذا كان هناك شيئاً واحداً مؤكداً في نقد النصوص فهو أن هذه العبارة الشهيرة [يقصد (فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد)] هي غير أصلية [غير حقيقية]. والمراجعين لديهم واجب حتمي لاستبعاد العبارة من النص ومن الهوامش. الأدلة الداخلية [يقصد نقد النص] والخارجية [يقصد المخطوطات] كلاهما يقفان على الضد مِن هذه العبارة [...] وهناك ثلاثة أدلة يجب معرفتها بخصوص هذا النص:
ا- لا توجد مخطوطة يونانية واحدة يوجد بها هذه العبارة قبل القرن الرابع عشر. [ملاحظة: أعيد تذكير قارئ المقالة هنا بما كتبه المترجم العربي في أول صفحة من ترجمته للعهد الجديد: "وقد تُرجم من اللغة اليونانية"، والحقيقة هي أنه لم يطلع إطلاقاً على أي نسخة يونانية].
ب- لا يوجد أب واحد من الآباء اليونانيين أو اللاتينيين الأوائل الذين انخرطوا في شروح ومناقشات عقيدة التثليث في القرن الثالث والرابع والخامس [أي فترة تبني النصوص ودخولها إلى دائرة التقديس المسيحي] قد ذكر هذه العبارة.
د- بداية ظهور هذه العبارة كان في نهاية القرن الخامس في اللغة اللاتينية فقط، ولم تكن توجد في أي مخطوطة أخرى [بلغة أخرى] حتى القرن الرابع عشر.
4- التعليق:
من الواضح هنا أن إضافة تلك العبارة على (النص المقدس) هو الحاجة العقائدية لها والتي انعدمت في النصوص الأخرى. وبالتالي أدت تلك الرغبة إلى (تزوير نص وإدخاله في رسالة محاطة بحالة "تقديس" عقائدي) وأيضاً من دون وجود لأي مؤشر لـ (عقدة ذنب) قد نراها واضحة في الديانات الأخرى غير المسيحية فيما يخص موضوع التقديس. هذه الحالة الفريدة من نوعها في الفضاء المسيحي العقائدي مهدت الطريق، باسم الإله وباسم العقيدة والإيمان، للكثير من الباحثين لفهم التاريخ المسيحي وسيرورته. ومن هنا يجب أن يبدأ التاريخ النقدي لسيرورة المسيحية منذ نشأتها حتى اللحظة.
#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في مسألة الترجمة المسيحية
-
بولس – 16 – بولس والنص اليهودي
-
المشكلة المذهبية في الوطن العربي
-
بولس – 15 – بولس والنص اليهودي
-
شذوذ مفهوم الوطنية
-
بولس – 14 – بولس والنص اليهودي
-
بولس – 13 – عصمة النص المسيحي
-
بولس – 12 – بولس والنص اليهودي
-
بولس – 11 – بولس والنص اليهودي
-
نصوص حرق البشر المسيحية - 3
-
نصوص حرق البشر المسيحية – 2
-
نصوص حرق البشر المسيحية
-
بولس – 10 - بولس وإنجيل مرقس
-
لقاء الصالون الثقافي النسائي
-
بولس – 9 - بولس وإنجيل مرقس
-
بولس – 8 – بولس وإنجيل مرقس
-
بولس - 7 - بولس ويسوع
-
بولس – 6 – بولس ويسوع
-
بولس – 5 – بولس والشيطان
-
بولس – 4 – عقيدة التبرير
المزيد.....
-
البندورة الحمرة.. أضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على نايل سا
...
-
هنري علاق.. يهودي فرنسي دافع عن الجزائر وعُذّب من أجلها
-
قطر: تم الاتفاق على إطلاق سراح أربيل يهود قبل الجمعة
-
الفاتيكان يحذر من -ظل الشر-
-
عاجل | مصادر للجزيرة: الشرطة الإسرائيلية تعتقل الشيخ رائد صل
...
-
الفاتيكان يدعو لمراقبة الذكاء الاصطناعي ويحذر من -ظلاله الشر
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون الأقصى ودعوات لتكثيف الرباط بالمسجد
...
-
قائد الثورة الاسلامية: لنتحلّ باليقظة من نواجه ومع من نتعامل
...
-
قائد الثورة الاسلامية: العالم يشهد اليوم المراحل الثلاثة للا
...
-
قائد الثورة الاسلامية: المقاومة التي انطلقت من ايران نفحة من
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|