خاص: الحوار المتمدن
هذا الصباح وعند الخروج من المنزل، دخلتُ في عاصفة ثلجية عاتية، أو هي دخلت بي، فمن الصعب معرفة ذلك، خاصة حين تلتحم عاصفة الداخل بعاصفة الخارج،وماأكثر العواصف هذه الايام، خاصة تلك التي تهب من جهة القلب، أو من جانب الوطن.
لكن الاكثر غرابة هو تذكري، داخل هذه العواصف الثلجية البيضاء، رواية الكاتب نوري المرادي ـ خضرمة ـ الأمر الذي لا يفسر حسب علم قراءة النصوص، بل حسب علم تشريح الدماغ.وربما سأتذكر السر في هذا خلال الكتابة، لأن الكتابة النقدية هي الاخرى شكل من اشكال الدخول في متاهة الخلق العارية، المنهكة، والممتعة.قال مرة الروائي عبد الرحمن منيف عن الروائي الفلسطيني أميل حبيبي: ان اميل حبيبي خسره الادب ولم تربحه السياسة.وهذا الكلام ينطبق على الدكتور نوري المرادي الذي يعيش صراعات الاخطبوط مرة عن طريق سلاح الرواية ومرة اخرى عن طريق سلاح الكتابة السياسية، لكنه وكما قال أميل حبيبي عن نفسه ايضا في اشارة واضحة لهذه اللعبة انه مثل معايد القريتين !قرية السياسة.وقرية الادب.
وربما قرى أخرى لا نعرفها.أو نعرفها ولا نقولها حبا بأميل الانسان والكاتب والمناضل. كثيرون لا يعرفون الوجه الاخر لنوري المرادي، وجه الروائي، ولعل أكثر هؤلاء خطورة ونسيانا، وتغييبا لهذا الوجه، هو نوري نفسه، واسباب ذلك كثيرة ومنها ان الروائي نوري تعرض للعبة النقد المعروفة والماكرة، والمرهقة، وهي لعبة التجاهل والنسيان، بل الطمس المنظم الذي يجيده حراس النوايا ولا يجيدون غيره.
والسبب الاخر هو ان الروائي المرادي دخل في المحظور والممنوع والمخفي والمسكوت عنه والذي لا يصرح به ونقل حوارت الهمس والاشواق السرية التي لا تقال عادة الا في الغرف المغلقة وهي غرف كثيرة ومتعددة حتى يمكن ان يقال ان الادب العراقي في هذه المرحلة الحرجة هو ادب الغرف المغلقة.
والرواية خاصة هي فن فتح النوافذ والستائر على الغرف المقفلة والخائفة والمرتعشة من اجل دخول المزيد من الهواء النقي، ومن أجل الخروج من الاختناق.وربما ايضا وايضا لأن نوري يغني في مقبرة.ما من أحد يطرب في هذا الموات الغريب .
ولأنه،ايضا، خارج لعبة الترويج للنفس ومؤسسات الاعلام التي لا يحبها ولا تحبه.
وخضرمة هي الخرزة التي تقي من المخاطر غير المتوقعة، لكن هل حقا تستطيع خرزة ان تقي شخوص هذه الرواية من تراجيديا الموت والعذاب والسلطة والمنفى والخيبة واللوعة والخطر؟ هذه الرواية هي سيرة المرادي نفسه، الطفل الجنوبي الذي عاش يبحث عن الأمان والحرية والاستقرار والعدالة مرة عن طريق السياسة واخرى عن طريق الكتابة وثالثة
عن طريق البحث في الاسطورة وله كتاب " اسفار ميسان" وفيه يبحث الاصل العراقي لاسفار التوراة.لكن من الطريف ان المرادي يعرف نفسه في " نبذة عن المؤلف" بأنه مستقر حاليا في السويد/ وفي مالمو.
وكلمة" مستقر" تحتاج الى تعريف دقيق خاصة اذا عرفنا ان المرادي لا يعرف الان ان يسكن..!بإستثناء سرد عابر هنا أو هناك عن حياة الاسرة والطفولة والمدرسة، وهي كل مايبقى في ذاكرة الرجل من ذكريات مشعة، إلا ان الرواية هي رواية سفر وهروب وتشرد وبحث وخيبة تتكرر، ويتكرر معها السبب نفسه: غياب الحرية، وموت الضمير، وفشل هدف العثور على ارض يسكنها دون إستجواب ما عن الهوية والرغبة والانتماء والعقيدة، حتى صار حاله كمن يستنجد بقشة فتنجده كما يقول في الاهداء.ويالها من محنة انسانية عميقة حين لا يبقى للانسان، هذا الكائن الجميل، المحاصر، والمطارد، غير قشة تهب لنجدته. فماذا في وسع قشة أن تفعل يانوري في هذا الزمن العراقي الغريب، زمن الصلب الرمزي على الطاولات، أو على أبواب
السجون، أو على بوابات المدن؟
من القاهرة الى دمشق الى بيروت موسكو، الى عدن ـ والمحنة واحدة: جواز سفر، ومساحة من الحرية، وبقعة عشب، وسرير نظيف، وغرفة مضاءة، وطعام يليق بآدمي، وضحكة تسمع من المنزل المجاور، ومكان هاديء يتسع لحلم رجل أعزل.
هذه هي شروط هذه الرواية وقد استحالت في كل المدن التي مر بها، أو مرت به، أو دخلها هو أو دخلته هي كما دخلت انا في العاصفة هذا الصباح. إن صوت الراوي هنا هو صوت السياسي، الرجل الهارب، المطارد، الباحث عن قشة في
هذه البرية الشاحبة من المخاطر والرايات المتناقضة، ومن الحراب، ومن الحطام، ومن الاوجاع.وهذا الصوت هو الذي اكتسح مساحة الحكي والقص وسيطر عليه حتى ضاعت الاصوات الاخرى التي تحولت الى هامش أو ديكور في هذه الرحلة من الخراب الى التيه.
والحبكة في هذه الرواية تتأزم ولا تحل حتى تجيء عقدة أخرى، وهكذا تتداخل الحبكات ومستويات الحكي مرة عبر الحوار الذي يأتي باللغة العامية المفصحة وهي لغة صعبة وتحتاج الى مران وخبرة، ومرة اخرى من خلال السرد الروائي الطويل
النفس الذي غالبا ما يكون على حساب الحبكة الاصلية.وهذه من نتائج التداخل بين صوت الروائي وصوت السياسي الذي يحتاج الى قدرة للتوفيق بينهما دون ان يطيح احدهما بالاخر على حساب البناء الروائي وهو بناء له خصوصية في التعامل مع الاحداث والازمنة والشخوص.يذكر جوليس أرشر وهو استاذ تقنيات الرواية في جامعة كاليفورنيا عشرة اخطاء
يجب تجنبها في العمل الروائي والقصصي وهي:
1 أكثر الاخطاء شيوعيا هو اسهال التوضيح
2 التركيز على اللهجة المحلية ونسيان اللغة الفصحى
3 العجز في ايصال ما في ذهن الكاتب للقارئ
4عدم انسجام الجملة مع الحدث
5عدم الاهتمام بما تقدم من احداث
6ضعف القدرة على التشويق
7سرد كل ما يفكر به البطل وهو أمر غير ممكن ويفرغه من الاسرار
8 الكتابة السردية على شكل مقالات
9 الاخطاء اللغوية
10وهو أكثر الاخطاء شيوعيا: عدم اعادة الكتابة مرة ومرات.
إن رواية " خضرمة" هي رواية بوح واعتراف ومواجهة وتعرية مؤسسات وأوضاع وقوى وعقائد وافراد. وقد تكون واحدة من الروايات العراقية النادرة التي تعرضت لأحزاب وقيم كانت تعد مقدسات ومحرمات ولامست في اكثر من مكان قضية السلطة والحرية من زوايا غير التي تعودنا النظر من خلالها.لاقداسة في الفكر السياسي لأنه نشاط بشري يخضع للخطأ والصواب، والعقائد السياسية ليس أفكارا عن الشرف كما يفهم الشرقيون، بل هي نظريات وفرضيات قد تكون صحيحة اليوم وخاطئة غدا.
وتسييس الفكر والثقافة هو احد الاخطاء الكبرى في السياسة. اي تحويل الفكر الى مؤسسة، أو مؤسست السياسة، وفي هذه الحال يتحول الفكر البشري الى سلطة لها قوة الاكراه والجبر والقسر والقمع.وهذا ما حصل في الفكر السياسي عامة، سواء في المؤسسة الاخوانية أو القومية أو الماركسية.ليست السلطة مؤسسة فحسب بل هي عقلية وطريقة تفكير وذهنية. وقد تصادر حرية الانسان من سلطة غاشمة، أو من شريحة سياسية أو فئة أو حتى افراد. وهنا نقطة العتمة في تغييب هذه الرواية.
خسرنا نوري المرادي الروائي لأن السياسي فيه يواجه الاخطبوط واذرعه المتكاثرة كل يوم، وخسرنا نوري السياسي ايضا لأنه لا يمكن معايدة القريتين في آن واحد في هذا التداخل والاشتباك والتشابه والدخان والضجة والزحام. صحيح أن خضرمة لم تنفع مع شيوعي منشق وعنيد وراكب راسه ولا يقبل بغير الحرية المطلقة وان التوازن على هذا الصراط الارضي مستحيل فوق هذه الارض القلقة والمهيأة لموسم ذبح جديد، بعد ان اضافت الرأسمالية الامريكية المتوحشة موسما خامسا لقتل العراقيين يقع بين نهاية كل شتاء وبداية الربيع، أسميه الموسم الخامس، لكن هذه الرواية فتحت رغم كل شيء نافذة في الغرفة المغلقة على اشواق وأحزان وهموم أريد لها أن تموت في جو الاختناق.لكن لماذا تذكرت هذه الرواية هذا الصباح وفي هذا الجو الثلجي العاصف؟
هذه حادثة قد تكون طريفة:ارسل لي الدكتور نوري المرادي نسخة من روايته عند صدورها، وبعد عام ارسل لي نسخة أخرى يعتذر فيها لأنه تأخر طويلا في ارسال روايته بسبب عواصف ثلجية !فهل كان نوري السياسي هو الذي ارسل الاولى؟
أم ان الروائي هو الذي ارسل الثانية؟ وهل كان قادما من حفل القريتين؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ*
خضرمة/ دار الكنوز/ بيروت/ 2000