مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 4888 - 2015 / 8 / 5 - 19:09
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أثارت حلقة من برنامج حواري أذيعت في أكتوبر تشرين الأول الماضي ضمت سام هاريس , عالم الأعصاب و الناشط الملحد مع آخرين , عاصفة من التعليقات .. كرر هاريس في الحلقة ما قاله سابقا من أن عنف داعش و أخواتها له سند قوي في الإسلام كدين , و أن تلك الممارسات تحظى بقبول عدد من المسلمين أكبر مما يعتقد الآخرون .. بسبب أطروحاته تلك اتهم هاريس من مناظريه في البرنامج و خارجه بالعنصرية و الإسلاموفوبيا .. و لأن مناظري هاريس في تلك الحلقة كانوا ليبراليين , بدا هذا الجدال كنقاش داخلي داخل الصف الليبرالي , نقاشا ليبراليا - ليبراليا , أو حتى علمانيا - علمانيا .. الإسلاميون اكتفوا بالاستفادة من هذا الجدال لوصم أي نقد للدوغما الإسلامية بالعنصرية أو الإسلاموفوبيا .. مثلا , س . صديقي رد على هاريس في موقع الجزيرة أمريكا بالانكليزية , بعد أن ربط مقتل ثلاثة طلاب عرب أمريكيين على يد قاتل ملحد , باضطهاد الأديان في الصين "الملحدة" , و بعد أن نسب لشريف كواشي أحد منفذي غزوة تشارلي هيبيدو قوله ( لمحاميه ) أن مصدر غضبه كان صور التعذيب في أبو غريب , يؤكد صديقي أن المنظمات و رجال الدين المسلمين طالما أدانوا أفعالا كتشارلي هيبيدو , بينما نقل عن أحد رهائن داعش , و هو فرنسي , أنه لم ير أي داعشي يقرأ القرآن و لم يجبره أي من خاطفيه على اعتناق الإسلام و أن كل مجادلات الداعشيين كانت تتعلق بالسياسة لا بالعقيدة , هكذا ينتهي صديقي إلى أن القرآن ليس المسؤول عن أفعال كتشارلي هيبيدو , كما يقول هاريس .. لكن بعيدا عن نفاق صديقي الذي حاول من خلال انتقاء بعض الأخبار و التعليقات التهرب من الإجابة على أسئلة هاريس , مستغلا وصمها من قبل خصومه الليبراليين بالعنصرية و الإسلاموفوبيا , مثلا لا يمكن إلا لخيال جامح أن يربط غزوة تشارلي هيبيدو بالتعذيب في سجن أبو غريب , كان هدف غزوة تشارلي هيبيدو شديد الوضوح , إنه حرية التعبير , و عقل اعتذاري تلفيقي يمكنه فقط تغطية محاولة الكواشي , و داعش , اغتيال حرية التعبير بجرائم حراس سجن أبو غريب الأمريكان , مع كل الحرص على تغطية ماضي سجن أبو غريب الصدامي , و حاضره الداعشي بنسختيه الشيعية و السنية .. عدا عن السؤال المهم أيضا , هل قررت تلك المنظمات الإسلامية و رجال الدين الذين يذكرهم صديقي , كجزء من إدانة أفعال كغزوة تشارلي هيبيدو , مراجعة تلك النصوص التي تدعو لقتل المرتدين و الكفار و نهبهم و استعباد أطفالهم و نسائهم , و قتل الناس لمجرد مجاهرتهم بانتقاد أو رسم كاريكاتور ساخر .. و لأن الجواب معروف , يمكن الانتقال إلى نقد أكثر جوهرية لأفكار هاريس , من موقع ليبرالي , كما يقول صاحبه , غلين غرينوولد , الذي اتهم في الغارديان دعاة حركة الإلحاد الجديد بأنهم يخفون تحت عقلانيتهم الإلحادية معاداة غير عقلانية للإسلام .. الإسلاموفوبيا تختبأ , حسب غرينوولد , خلف قناع الإلحاد العقلاني .. يتجنب غرينوولد مناقشة فكرة أن الإسلاموفوبيا هي نوع من العنصرية , باعتبار أن الإسلام ليس عرقا , رغم أنه يعلق , على الهامش , بأن معظم معتنقي الإسلام هم من غير البيض ... لكن غرينوولد يستدرك : فبالنسبة له من المشروع و الممكن انتقاد الإسلام دون أن يكون المرء عنصريا , و لا شك أن هناك مسلمين يرتبكون فظائع باسم دينهم , كما يفعل متطرفون من بقية الأديان دون أن تسلط الأضواء عليهم بنفس الدرجة , أيضا القتل من أجل "الشرف" , اضطهاد النساء و المثليين , يقوم به مسلمون و يهود و مسيحيون متعصبون ... حسب غرينوولد , من غير المقبول منع انتقاد أية إيديولوجيا تحت أي مبرر , و لا أفعال كتلك التي يرتبكها الدواعش .. لكن غرينوولد يواصل .. إنه يعترض على ما يقوله هاريس من أن الإسلام ينضوي على تهديد للحضارة , أكثر من أي دين أو دوغما أخرى , مثلا أن القنبلة النووية بيد المسلمين ستكون أخطر منها بيد المسيحيين "الجيدين" .. يرى غرينوولد أن هذا ليس انتقادا للدين , بل محاولة لإظهار الإسلام و كأنه "التهديد الرئيسي" .. يرفض غرينوولد قول هاريس بأن العالم المتحضر ( "نحن" ) في حرب مع الإسلام , مع ملايين البشر الذين يؤيدون القاعدة بشكل أو بآخر .. بالنسبة لغرينوولد , صحيح أن هاريس ينتقد المسيحية , لكنه يحتفظ بأشد عباراته ضد الإسلام فقط .. تلك الآراء , إلى جانب آراء أخرى عبر عنها أيضا دوكينز و هيتشنز , المنظرين الآخرين لحركة الإلحاد الجديد , تبرر العنف و العدوان و انتهاك حقوق الإنسان بحق المسلمين .. هكذا يبرر هاريس مثلا دعواته لممارسة التعذيب ضد المسلمين و دعمه لإسرائيل .. برأي غرينوولد , هذا يضع هاريس إلى جانب غلاة المحافظين , في اليمين المتطرف ... ينقل غرينوولد عن تشومسكي أنه , "من الأسهل على المرء أن يدين عنف الآخرين" .. و يحتج على أن هاريس و دوكينز و هيتشنز ينتقدون عنف الإسلاميين , لا الحكومة الأمريكية مثلا ... يقول غرينوولد , أنه باعتبار سجل الحكومات الأمريكية و الغربية , و إسرائيل , في العنف ضد الآخرين , عليهم أن يقضوا وقتا أكبر في انتقاد و كشف هذه الجرائم من انتقاد جرائم الآخرين لتبرير أفعال حكوماتهم .. ينقل غرينوولد عن دعم هاريس لحرب بوش على العراق , على أنها لصالح الشعب العراقي , ليعقد مقارنة بين فهم هاريس للعنف الغربي مقابل العنف الإسلامي : العنف الغربي حضاري , نبيل , أما العنف الإسلامي فهو بدائي , همجي .. هذه المعايير المزدوجة تؤدي فقط إلى شيطنة مجموعة بعينها من البشر ... يتابع غرينوولد اقتباسه عن هاريس , أن غضب المسلمين من السياسة الخارجية الأمريكية و البريطانية له أسباب عقائدية أساسا , بسبب قيام "الكفار" بالإطاحة بديكتاتور مسلم ثم احتلالهم لأراضي المسلمين ... يعلق غرينوولد بسخرية : هل يمكنك أن تصدق , أن هؤلاء المسلمين , الهمج , البدائيين , يغضبون أيضا عندما تهاجم بلادهم , و تقصف , و عندما تفرض عليهم القوى الخارجية الطغاة , يرى غرينوولد أن الغرب هو من فرض الطغيان من الخارج على المسلمين , من قبل تلك القوى "المتحضرة" المتفوقة .. يعترض غرينوولد على إنكار هاريس لوجود الإسلاموفوبيا , أنها ليست إلا اختراعا دعائيا بهدف حماية الإسلام من انتقادات العلمانيين , بوصم هؤلاء بالعنصرية و معاداة الأجانب .. بالنسبة لغرينوولد , الإسلاموفوبيا حقيقية , تماما مثل معاداة السامية و التمييز الجنسي الخ .. يصف غرينوولد قول هاريس بأن المستقبل الوحيد الذي يمكن للمسلم الملتزم أو المتدين أن يتخيله هو مستقبل يعتنق فيه "الكفار" الإسلام أو يقتلوا أو يخضعوا لحكمه , يصفه بأنه "قمامة" , و قمامة خطيرة أيضا .. و ينقل لدعم اعتراضه هذا , نتائج استطلاع رأي جرى عام 2008 بين المسلمين يقول أن الغالبية العظمى من المسلمين تدين هجمات 11 سبتمبر , و أن 93 % من المسلمين هم معتدلون , مقابل 7 % فقط من المتطرفين ... و أن هؤلاء المتطرفين يستخدمون مبررات سياسية لتبرير إرهابهم , لا مبررات دينية .. و ينقل عن دراسة للبنتاغون عام 2004 أن المسلمون لا يكرهون حريتنا , بل يكرهون سياساتنا ... ربما صحيح أن ال 93 % من المسلمين لا يكرهون الحرية النسبية التي يوفرها النظام الديمقراطي البرجوازي لأفراده , و أن بعضهم ربما يطمح لما هو أكثر بكثير من تلك "الحرية" , لكن الأكيد جدا أن ال 7 % الباقية تكرهها جدا , جدا ... الحقيقة أن كلا من هاريس و غرينوولد يبتعدان عن لب الموضوع .. يمكن طبعا الموافقة بضمير مرتاح على أن 93 % من المسلمين هم فعلا "معتدلون" , "طيبون" , كما ينقل غرينوولد .. المصيبة ليست في هؤلاء ال 93 % التي يضيع هاريس و غرينوولد وقتهما في محاولة إثبات "طبيتهم" من عدمها .. المشكلة هي في ال 7 % الآخرين , في الأصوليين , في المتدينين , المتعصبين .. يمكن أيضا أن نقول بكثير من الثقة أن النازيين الملتزمين أو المتعصبين للنازية و لنظريتها العرقية , أو الفاشيين , أو القوميسارات البلاشفة أو أعضاء التشيكا , الخ , لم يبلغوا حتى 7 % من تعداد الشعب الألماني أو الإيطالي أو الروسي , في أي وقت من الأوقات .. و أن ال 93 % الباقية من الألمان و الإيطاليين و الروس تحت حكم هتلر أو موسوليني أو ستالين كانوا فعلا طبيبن و جيدين , حتى و هم ينفذوا أوامر ال 7 % بغزو و إبادة الشعوب الأخرى .. بعد أن جرى غسيل أدمغتهم , و بعد أن جرى تسميمهم بدوغما ال 7 % , و تدريبهم على القتل , و بعد أن قمعوا فكريا و جسديا , حولهم حكامهم ال 7 % إلى أدوات لقمع و إبادة الآخرين .. لقد استطاع هؤلاء عندما اكتشفوا الخديعة أن يشعروا بالذنب , و أن ينقلبوا على تلك الدوغما التي حولتهم إلى قتلة و جلادين .. ما رأيناه في العراق بعد 2003 , و في سوريا و ليبيا بعد عام 2012 , أن هذه ال 7 % ادعت أنها تملك سلطة عقلية و روحية و فكرية و أخلاقية على ال 93 % الباقية , باعتبارها ممثلة حصرية للمقدس , لله , و رأينا كيف أنها استخدمت سلطتها هذه , إلى جانب العنف و القمع الوحشيين , لتنصب نفسها فئة حاكمة على ال 93 % , مستغلة عجز هؤلاء عن دحض و نقد حججها المستندة إلى المقدس , إلى الإسلام ... لا شك أن إلحاد سام هاريس هو إلحاد سلطوي , مركزي أوروبي , أو استشراقي , إنه لا يجد في جعبته سوى الدعوة لمواجهة خطر الأصولية الإسلامية بإجراءات قمعية فوقية ... هذا الإلحاد السلطوي لهاريس ليس بدعة جديدة , لقد جرب طويلا في روسيا الستالينية , ألبانيا أنور خوجة , تركيا أتاتورك , و غيرها , و خدم طويلا و بكل تفاني كدوغما و كتبرير لصالح ديكتاتوريات سافرة و همجية .. في الممارسة لم يكن هذا الإلحاد إلا دينا جديدا لآلهة جديدة : الدولة , الزعيم , الحزب , المخلص , الخ ... لكن غرينوولد أيضا صديق خطير لهذه ال 93 % من المسلمين الذين يريد تبرئتهم من تهمة الإرهاب و الغلو , من تهمة الداعشية , بكل بساطة لأنه يغمض عينيه عن عملية استعباد هذه الغالبية الطيبة من قبل ال 7 % الداعشية , السنية و الشيعية , و تحويلهم فيما بعد إلى أدوات للقتل و التدمير و الموت العبثي كجزء من تقدم و طموح المشاريع الداعشية .. و أيضا عندما يفترض أن الاستبداد نتاج بحت للسياسات الكولونيالية الغربية , إنه بذلك لا يبرء فقط ال 93 % من أية مسؤولية عن الاستبداد الواقع عليهم , بل و يبرء الإسلام أيضا , تلك الدوغما التي خدمت لقرون كإيديولوجيا سلطوية تبريرية للاستبداد , لأعتى أشكال الاستبداد , و التي دحرت فيها كل الأصوات و التفسيرات الداعية إلى درجات متفاوتة من حرية الإنسان و المجتمع في مواجهة تغول السلطة الدنيوية و الدينية , على الأقل منذ صدور الوثيقة القادرية ( بيان الخليفة العباسي القادر ) التي حرمت التفكير و النقد و الجدل و نهت عنه و وصمته بالكفر و الخروج عن الملة , عندما كممت العقول و أحكمت إغلاق السجن المقدس عليها .. أخيرا , قد تكون أسئلة سام هاريس مدفوعة بالإسلاموفوبيا أو بمركزيته الأوروبية أو حتى بالعنصرية , لكنها أسئلة جدية جدا , من الغبي الاكتفاء بتلك الأجوبة الجاهزة للرد عليها , مثل اتهام هاريس بالعنصرية أو الإسلاموفوبيا .. إن هاريس يكشف لل 93 % من المسلمين أشياء مهمة جدا يجب عليهم التفكير جديا بها , لكي يفهموا حاضرهم أكثر .. يقول هاريس الذي دعم حرب بوش لإسقاط صدام حسين , أنه من المرعب التفكير أن ديكتاتور كصدام حسين كان هو الضمانة الوحيدة لمنع قيام حرب أهلية سنية - شيعية , أو لمنع المجازر بحق الأقليات من مسيحيين و إيزيديين ... يضيف هاريس , في حواره مع مناظريه في ذلك البرنامج التلفزيوني : ما الذي تظنه سيحصل لو أننا أحرقنا نسخة من القرآن في حلقة اليوم ؟ ستكون هناك أعمال شغب في عشرات البلدان , ستهاجم سفارات . و ردا على استهانتنا بكتاب سيخرج ملايين المسلمين إلى الشوارع , و سنقضي بقية حياتنا و نحن نصد عنا تهديدات حقيقية بالقتل . و لكن حين تصلب داعش الناس , و تدفن الأطفال أحياء , و تغتصب و تعذب النساء بالآلاف - و كل ذلك باسم الإسلام - فالرد هو بضع مظاهرات صغيرة في أوروبا و وسم تويتري" , و لا أظن من القسوة أن أقول أن أفليك و كريستوف لم تكن لديها إجابة لماحة على سؤالي ذاك . كما أنهما لم يتظاهرا بالتشكيك في حقيقة ما قلته ... كلمات هاريس هذه , جدية جدا , و مهمة جدا , لل 93 % من المسلمين ...
المصادر
http://kanjizai.blogspot.se/2014/10/blog-post.html
http://www.samharris.org/blog/category/islam
http://www.theguardian.com/commentisfree/2013/apr/03/sam-harris-muslim-animus
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟