|
تظاهرات ساحة التحرير: من (المشروطة) حتى ديكتاتورية ( ما ننطيها )
حسين كركوش
الحوار المتمدن-العدد: 4888 - 2015 / 8 / 5 - 11:03
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تظاهرات ساحة التحرير: من ( المشروطة) حتى ديكتاتورية (ما ننطيها)
2
ما حدث في 14 تموز 1958 كان انقلابا عسكريا. لكن الانقلاب تحول إلى (ثورة) تحديثية شاملة. تلك الثورة تصدرتها قوى سياسية تنتمي لمدارس فكرية متعددة و متباينة. لكن القوة الحقيقية التي جعلت الانقلاب يصبح ثورة تحديثية هو المجتمع العراقي نفسه. لو كان المجتمع العراقي غير مؤهل وغير مستعد لما استطاعت أي قوة سياسية أن تقنعه بالتغيير. الثورة التحديثية صنعتها رغبة العراقيين ، كل العراقيين ، في التغيير التي كانت قد أعلنت عن نفسها في بداية القرن العشرين مع بدايات معركة (المشروطة والمستبدة). وإذ كانت تلك الرغبة في بداياتها خجولة ومحدودة الغاية ، فأنها ظلت تتطور وتتنوع وتتعمق وتتجذر وتتوسع ، فكريا وسياسيا وجغرافيا. الرغبة في التغيير جسدتها وعكستها جمعيات و أحزاب سياسية عديدة ومختلفة بدأت تظهر من ذلك الحين ، مع قوى وشخصيات اجتماعية و أدباء و مثقفين أحرار ، حتى أصبحت الرغبة في التغيير مطلبا عراقيا شعبيا.
ملايين العراقيين الذين بدأت تغص بهم شوارع المدن العراقية بعد انقلاب 14 تموز 1958 هم الذين اختطفوا المبادرة من أيادي الضباط ، وهم الذين غيروا بوصلة الانقلاب وحولوه إلى ثورة شاملة ، ما كانت تتوقعها ولا ترغب بها الأكثرية الساحقة من الضباط الذين نفذوا الانقلاب ، بحكم محدودية تفكيرهم. وإذا كانت الثورة قد خلقت عدم رضا عند أكثرية الضباط الذين قادوا وشاركوا في عملية الانقلاب ، فأنها خلقت (الرعب) عند فئات اجتماعية متعددة و مختلفة بدأت عملية التغيير تلحق بمصالحها أضرارا خطيرة. وعادت من جديد التهم ذاتها التي رفعها المحافظون ضد دعاة التغيير في بداية القرن. نوعية التهم التي رددتها (كل) القوى المحافظة ضد (كل) أنصار ثورة تموز 1958 ( وهي التهم نفسها التي قيلت ضد دعاة التقدم والتجديد زمن الخلافة العثمانية ، وهي نفسها التي يتم رفعها أو ما يشابهها الآن) ، تمثل لب وجوهر الصراع في المجتمع العراقي ، سابقا وحاليا في أيامنا هذه. إنه صراع بمحتوى اجتماعي وليس صراعا طبقيا. فالمصالح التي تضررت بعد تموز 1958 ما كانت طبقية خالصة. المجتمع العراقي وقتذاك ( وحاليا أيضا) زراعي باقتصاد بدائي ريعي لا توجد فيه طبقات اجتماعية متبلورة متصارعة ، تفصل بينها ، كما في العالم الرأسمالي الأوربي ، خنادق عميقة فيما يخص نمط العيش والتفكير والملبس والعادات والتقاليد. الصراع في العراق كان (وما يزال حتى اللحظة) اجتماعيا ، و المصالح العراقية التي بدأت تتضرر بعد تموز 1958 هي مواقع ومكاسب وامتيازات وأنماط تفكير ومجموعة قيم متوارثة ، تستند على بنى تحتية اجتماعية أخلاقية قائمة منذ قرون. تلك الفئات الاجتماعية التي وقفت ضد عملية التغيير عقب ثورة تموز 1958 كانت متناحرة فيما بينها ، لأسباب مختلفة ، ألا أنها تناست خلافاتها ( وبعضها خلافات قاتلة ) ، ورفعوا جميعا شعار (يا أعداء الشيوعية اتحدوا). الشعار كان يعني ، في حقيقة الأمر ، (يا أعداء التغيرات التقدمية الاجتماعية اتحدوا). فالشيوعية كانت خطرا وهميا لا وجود له في المجتمع العراقي. ثم أن الحزب الشيوعي تم إبعاده عن المشاركة في الحكومة منذ تشكيل أول وزارة بعد الثورة. وكل ما كان الحزب الشيوعي يطالب به هو المشاركة في الحكم (سبع ملايين تريد الحزب الشيوعي بالحكم). وما أثار رعب مناهضي التغيير هو ، عدم مراوحة عملية التغيير تحت سقف محدد من المطالب. و ازداد رعبهم عندما تيقنوا أن عملية التغيير لم تنحصر داخل دائرة ضيقة من أفندية و نخب حضرية متعلمة ، وأنما وصلت رياح التغيير لأوسع الفئات الشعبية و للمناطق الريفية العشائرية التي كانت تعتبرها جميع القوى المحافظة قلعتها الحصينة و المحصنة إزاء رياح التغيير ، والاحتياط المضموم الذي تعتمد عليه لمنع أي تغيرات اجتماعية جذرية. بالطبع ، عملية التغيير التي أعنيها لم تصل حد القضاء على البنى الاجتماعية التحتية القائمة قبل الثورة. هذا أمر لا يمكن أن يتخيل أحد حدوثه بين ليلة وضحاها. التغيير الذي نعنيه هي (مؤشرات) أولية كشفتها بدايات التغيير والتي تمثلت في مسألتين.
أولا/ أظهر المجتمع العراقي بأنه راغب و مؤهل ( وكان ذلك قبل أكثر من نصف قرن) لتقبل تغييرات اجتماعية عميقة ، بما في ذلك تدمير النظام الهرمي التراتبي المعرقل لأي عملية تغيير مجتمعي جذري. ثانيا/ اتساع وتعميق عملية التغيير، و خصوصا وصولها للقرى والأرياف كشف أن القيم المجتمعية ، كلها دون اسثناء ، بما في ذلك القيم العشائرية، ليست نصوصا مقدسة لا يمكن تغييرها أو المساس بها، لكن شرط أن تقود عملية التغيير قوى راغبة و مؤهلة وقادرة. وذاك ما حدث بالفعل. ففي تلك الأيام شرعت المدينة (تغزو) الريف ، وليس العكس ، كما في أيامنا هذه. في تلك الأيام بدأت القيم العشائرية القديمة المتوارثة هي التي تتراجع أمام زحف القيم الحضرية المدنية الحديثة باتجاه الريف. في تلك الأيام كان فلاح مغمور يصبح رئيسا لجمعية فلاحية و يعلو صوته مائة مرة على أصوات كبار ملاك الأراضي الذين هم شيوخ عشائر في الوقت نفسه. في تلك الأيام كان (حمال) أو عامل بلدية ينتزع الوجاهة من أصحاب الوجاهة التقليدين. وتلك الممارسات يمكن تلخيصها بجملة واحدة : خلخلة (قوانين) منظومة القيم الاجتماعية القديمة المتوارثة. ولهذا ما كانت مجرد صدفة أن تطلق القوى المناهضة للتغيير وقتذاك صفة (الفوضوية) على عملية التغيير. وما كان مجانيا شعار (الموت للفوضويين) الذي رفعته آنذاك القوى المحافظة والمناهضة لعملية التغيير. و لأن الصراع الذي بدأ عقب ثورة تموز هو صراع اجتماعي وليس طبقيا ، ولأن المصالح التي بدأت تتضرر عقب الثورة كانت بمحتوى اجتماعي أكثر منه طبقي، فأن (الأسلحة) التي استخدمها مناهضو التغيير كانت من نفس النوع. ولو راجعنا وحللنا القاموس اللغوي الذي استخدمه عقب ثورة تموز مناهضو التغيير لوصف عملية التغيير و من يناصرها ، فسنجد أن مفرداته تقترب من المفردات التي رُفعت في مواجهة أنصار (المشروطة) وفي مواجهة أنصار حركة الاتحاد والترقي في بداية القرن. إنها مفردات ذات محتوى اجتماعي أخلاقي ، وليست بمحتوى طبقي : الكفر ، الشعوبية ، الإلحاد ، الأفكار الهدامة ، الأفكار المستوردة ، التحلل الأسري ( وقتذاك نسبوا إلى النساء المؤيدات لثورة تموز قولهن: ماكو مهر بس هالشهر والقاضي نرميه بالنهر). بالطبع ، أن تلك الاتهامات كانت محض كذب. و الذين كانوا يرددونها يعرفون أنها غير صحيحة ، لكنهم لجأوا لرفعها لأنهم يدركون أنها أسلحة أكثر فتكا من السلاح الفعلي ، خصوصا داخل مجتمع شرقي محافظ. كانت تلك الاتهامات تعكس الرعب الذي خلقته عملية التغيير داخل الأوساط المحافظة ، و هلعها من اقتراب التغيرات لمنطقة التابوات الاجتماعية بكل أنواعها ، التي تدرك القوى المناهضة للتغيير أن تدميرها يسبب لها خسائر خطيرة ، معنويا ، وماديا ، أيضا. بالتأكيد ، لا ننسى أجواء الحرب الباردة وقتذاك ولا دور العامل الدولي والإقليمي ، فهناك مصالح دولية وإقليمة تضررت. و تلك المصالح كانت اقتصادية و سياسية دبلوماسية ، لا علاقة لها بالمصالح الاجتماعية العراقية. فشركات النفط ، وحلف بغداد ما كان يهمها ، مثلا ، أن تبقى المرأة العراقية حبيسة البيت أو تشارك في الأمور العامة ، وما كان يهمهما أن تبقى القيم العشائرية أو تزول . لكن التقاء المصالح وحد الجميع. وهكذا ، بدأت عملية التغيير تراوح في مكانها ، ثم تتراجع حتى تم الانقضاض عليها في 8 شباط 1963.
يتبع
#حسين_كركوش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تظاهرات ساحة التحرير: من (دستورية) الأخوند الخراساني حتى ديك
...
-
قراءة في كتاب فالح مهدي : الخضوع السني والاحباط الشيعي. نقد
...
-
الفشل في العراق يكمن في الانقلاب على الدستور (القسم الأخير)
-
الفشل في العراق يكمن في الانقلاب على الدستور (4/5)
-
الفشل في العراق يكمن في الانقلاب على الدستور (3/5)
-
تمعنوا جيدا في هذه المواد الدستورية (2/5)
-
الفشل في العراق يكمن في الانقلاب على الدستور (2/5)
-
الفشل في العراق يكمن في الانقلاب على الدستور (1/5)
-
( النجف. الذاكرة والمدينة ) : مسح بانورامي للمدينة
-
إيران تفجر قنبلة سياسية في العراق
-
ماذا لو تجرع العراقيون السنة السم ؟
-
مؤامرة، فلتسقط المؤامرة: على هامش الأحداث الإرهابية الأخيرة
...
-
نفاق وانتهازية الأحزاب السياسية الإسلاموية في تعاملها مع الس
...
-
شيعة الحياة وشيعة القبر
-
هل أن أغنية لزهور حسين ، مثلا ، تُلهي عن ذكر الله ؟؟؟
-
هل دخلت داعش مرحلة الموت السريري أم أن (الذئب) ما يزال ينتظر
...
-
ليس ثمة انشقاقات وكل شيء هاديء على جبهة الأحزاب العراقية الح
...
-
الإسلام ليس ماركة مسجلة والإسلامويون ليسوا الوكلاء الحصريين
-
( الطيور الصفراء) : رواية أميركية عن الحرب الأميركية في العر
...
-
هل يتحول البئر اللاديمقراطي الذي حفره المالكي لإياد علاوي عا
...
المزيد.....
-
كان محكومًا بالسجن مدى الحياة.. لحظة لقاء فلسطيني بزوجته في
...
-
لافروف وفيدان يناقشان الوضع في سوريا والقضايا الإقليمية
-
كيف تصادمت طائرتان في أجواء واشنطن؟ تفاصيل غريبة عن حادث مطا
...
-
-نقوم بالكثير من أجلهما-...ترامب يصر على استقبال مصر والأردن
...
-
مظاهرة حاشدة لأنصار عمدة مدينة اسطنبول أثناء مثوله أمام القض
...
-
فرقة البيتلز تعود بالذكاء الاصطناعي وتترشح لنيل جائزة غرامي
...
-
الشرع رئيساً.. بداية لإرساء منطق الدولة أم خطوة نحو المجهول؟
...
-
الجيش الإسرائيلي: إطلاق صاروخ اعتراضي نحو هدف جوي في منطقة ز
...
-
هيئة الأركان العامة الأوكرانية تعترف بوضع قواتها المعقد على
...
-
شبكة -NBC- تكشف تفاصيل جديدة حول حادث تصادم الطائرتين في مطا
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|