|
الثورة السودانية وأزمة الوسط
عبد الخالق محجوب
الحوار المتمدن-العدد: 1347 - 2005 / 10 / 14 - 11:19
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
قضايا الساعة: الثورة السودانية وأزمة الوسط المقال الثانى - الميدان 12 مارس 1965
هل هناك حقا "وسط" فى التطبيق الاشتراكى؟ واذا كان هناك وسط فهل هناك يمين ويسار؟ للاجابة على هذا السؤال ، لا بد لنا أن نرجع قليلا الى جذور التفكير الاشتراكى التاريخية . فالاشتراكية بمعناها الحديث كعلم تنظيم المجتمع، حديثة على البشرية. صحيح أن الفكرة العامة القائمة على العدل الاجتماعى وانصاف الفقراء فكرة انسانية قديمة، ترجع الى العهود التى بزغت فيها الحضارة، وجرى نوع من تقسيم العمل ، وقد أسهمت الحضارات المختلفة فى تنمية هذه الفكرة برجات مختلفة.
فقد أسهمت الحضارة المسيحية فى تنمية تلك الفكرة فى المرحلة الأولى عنما كان الدين المسيحى يمثل الراية التى التف من حولها المضطهدون وعبيد الامبراطورية الرومانية . وقد انتكست تلك الحضارة حينما أصبح العالم المسيحى خاضعا لحكم الملوك والقياصرة ، الا ما كان يمثل منها الجانب الفقير . كان ذلك الجزء يتمسك بالنصوص الخالصة لتعاليم المسيحية ويحتج بها على الأوضاع الاجتماعية الجديدة التى تخالف روح تلك التعاليم . وأسهمت الحضارة الاسلامية بقدر كبير فى اقرار مبادىء العدل الاجتماعى ، بل اننا يمكن أن نقول أن تلك الحضارة دفعت بفكرة المجتمع العادل دفعا ملحوظا، وتحت رايتها تطورت الفكرة الاشتراكية وبدأ يطلع علم الاجتماع على يد علماء المسلمين أمثال ابن خلدون .
الاشتراكية علم:
انتقلت هذه الأفكار الى أوروبا الحديثة فأصبحت علما لأن العلم أصبح السائد فى تلك النهضة الحديثة ، ولأنه أصبح من الممكن فى ظروف المجتمع الجديد أن تصبح الاشتراكية ضرورة تاريخية واجتماعية ملحة . فالثورة الصناعية والعلمية فى أوربا مزقت العلاقات الاجتماعية القديمة، وكشفت العلاقات بين الناس على أساس (حقيقتها) ، وتبخرت كل القيم القديمة، فالعلاقات الأخوية القديمة النابعة من التعاليم المسيحية تعرضت للمحن ابان العهد الاقطاعى ، ولم يعد للانسان قيمة، بل أصبح عبدا لأخيه الغنى . أصبح الناس ينتمون الى الكنيسة ، أغنياءهم وفقراءهم ، ولكنهم يعيشون فى عالمين لا علاقة بينهما: هناك الحديث عن الاخاء والسلام وهنا الاضطهاد واحتقار الانسان لأخيه والحرب والبطش. ولهذا فلا بد من علاقات اجتماعية جديدة ، تعيد للمجتمع علاقات الاخاء والعدل الاجتماعى ، ولا بد أن تكون تلك العلاقات ثابته فى المجتمع بحكم القانون ، لا مجرد نزوة شخصية أو نظرة انسانية تترك للضمير . فما عاد الضمير وحده ضمانا لبناء مجتمع عادل . وهكذا تحولت الاشتراكية الى علم وفكرة واضحة عن مجتمع محدد العلاقة اجتماعيا وماديا .
الأساس الحق للديمقراطية هو وضع السلطة فى يد المنتجين الكادحين:
ان محور الفكرة الاشتراكية هو السلطة . لمن تكون السلطة حت تحافظ على العلاقات الخيرة بين الناس . بالضمانات الاجتماعية الكافية؟ لمن تكون السلطة حتى ختفى الاستغلال والسيطرة على أرزاق الناس؟ لمن تكون السلطة حتى تختفى شرور الحروب وحتى يعم الاخاء ف عالم مضطرب يموج بالدول الجديدة ذات المصالح المتصارعة؟
وقد أجابت الاشتراكية على هذا السؤال بوضوح: تكون السلطة للمنتجين الكادحين من العمال والمزارعين وأبنائهم المثقفين الكادحين . ولم تجب الاشتراكية على ذلك رغبة منه فى التسلط على الآخرين ولكن لأن الطبقات الرأسمالية تعطل التطور والتقدم ، ولأنه لابد من تصفية التحكم الرأسمالى فتصبح الدولة للأغلبية الساحقة من العاملين. هذا هو الأساس الحق للديمقراطية .
الاشتراكية تحكم والرأسمالية باقية:
لقد أدرك الرأسماليون خطورة الفكر الاشتراكى فى أوربا وهم المفلسون فى تنمية المجتمع ماديا وروحيا. فلجأواا الى الاساءة اليه. وذلك باستمالة أقسام من الجماهير العاملة شقت االصفوف وكونت ما يسمى بالدولة الثانية . لد كانت تلك الأقسام وخاصة فى بريطانيا تعيش على فتات المائدة التى يلقيها الرأسماليون وينهبون البلدان المتخلفة فى القرنين التاسع عشر والعشرين، ولهذا ارتبطت بالرأسمالية وأصبحت لا تمثل مصالح الجماهير العاملة وزيفت الفكر الاشتراكى، ويكفى أن يشير المرء الى أن هذه الفئة من "الاشتراكيي" هى التى قادت سفن الحكم فى العالم العربى فى أيام الأزمات، وهى التى أرسلتالجيوش تحارب حركات التحرر الوطنى فى آسيا وافريقيا والعالم العربى . لهذا لم تعد تعد تلك "الاشتراكية" فى نطاق حركة العاملين، بل أصبحت فكرا يمثل مصالح الطبقات الرأسمالية بين تلك الحركة. وهكذا وصل الاشتراكيون الى الحكمفى كثير من بلدان أوربا الغربية ، ومازاالالنظام الرأسمالى باقيا يستغل العمال فى الداخل ، ويضطهد الشعوب فى الخارج ويمنعها من تحقيق حريتها الوطنية .
ان اشتراكية الدولية الثانية ، وقد تجردت من من العمل لسلطة قوى العاملين ، لم تعد طريقا للاشتراكية وسطا أو متطرفا. صحيح أن الجماهير العاملة التى تنتظم وراء تلك الأحزاب تتكشف الحقائق أمامها فى أيامنا المعاصرة. وتضع كل يوم قوتها الى جانب الاشتراكية فتؤثر خطوة خطوة على اتجاه تلك الأحزاب . ولكن صحيح أيضا أن تحقيق الاشتراكية لن يتم الا باحداث تغيير جذرى فى أفكار قادة تلك الأحزاب يرجع الاشتراكية الى اولها الحقة .
اشتراكية سنقور ونهرو:
هذا ما كان من أمر الاشتراكية فى أحزاب الدولية ولكن للمرء أن يتساءل: هل الدعوة للاشتراكية التى نلحظها فى البلدان المتخلفة ، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية هى نفس الاشتراكية السائدة فى أحزاب غرب أوربا؟ يصعب التعميم ردا على هذا السؤال . فهناك مدارس من تلك الاشتراكية ترجع اصولها الى العالم الغربى وتحمل كل تشويه لفكرة الاشتراكة. فالاشتراكية كما دعا لها جواهر لال نهرو ، تقع تحت التأثير المباشر للفكر الغربى ، وتنهل من منابعه وترجع أصولها اليه . كما اننا نجد الفكرة التى تدعو لها مدارس الرابطة الفرنسية وعلى رأسها ليوبولد سنقور ف السنغال تسير أيضا فى نفس الطريف . و لا تخرج عن كونها رغبة للاصلاح فى ظل التخلف والنظم الرأسمالية ، بل الاقطاعية فى بعض الأحيان . وهذه المدارس الاشتراكية لا تعبر عن حاجة للتقدم المحلى ، وليست مدفوعة بقوى العاملين فى تلك البلدان ، بقدر ما هى تمثل أثر الأفكار الاجتماعية الغربية على بعض القادة والمثقفين الذين تربوا تحت ظل تلك الأفكار . ولهذا فهى لا تحتل مركزا مقدما فى الحركة الثورية لبلدان "العالم الثالث" بل لا تمثل أى مركز فى تلك الحركة ، وتشكل جزءا من الحركة الرجعية فى تلك البلدان .
سبيل اشتراكى للتحرر من الاستعمار والتخلف:
ان الأمر الجدير بالاعتبار هو الاشتراكية التى أصبحت تلعب دورا بارزا فى الحركة الثورية لبلدان "العالم الثالث". والتى نشهد آثارها واضحة فى الجمهورية العربية المتحدة (مصر) وفى جمهورية الجزائر ومالى وفى غانا وفى الاتجاهات الغالبة فى كينيا الخ. تمتاز هذه المدارس من الاشتراكية بأنها نشأت فى النضال ضد الاستعمار الأجنبى . وخلال الرغبة الأكيدة لناء الاقتصاد الوطنى وتحريره . فالجمهورية العربية المتحدة استهدفت أولا بناء اقتصادياتها وناضلت لهذا بتحريرها من نفوذ رأس المال الأجنبى . وفى خلال هذا النضال اتضح أن تحرير اقتصادياتها يتطلب تحولا اجتماعيا – وأن الطريق الرأسمالى أصبح لا يؤدى الى التحرر فى عالم اليوم ، بل الى عودة النفوذ الاستعمارى . ولتفادى هذا الطريق أصبح لا بد من سلوك السبيل الاشتراكى . وهذه الحتمية للتطور عبر عنها الميثاق الاشتراكى فى الجمهورية العربية المتحدة (مصر) تعبيرا واضحا ، وأكد حتمية الحل الاشتراكى لحل لمشكلات التخلف فى المجتمع العربى . وفى جمهورية الجزائر تطلب النضال المسلح طويل الأمد استنهاض الجماهير الكادحة من فلاحين وعمال وجذبهم الى الثورة . ولم يكن ذلك ممكنا بمجرد الحديث عن الحرية الوطنية ، بل كان من المحتم استناد ذلك النضال على تغيرات اجتماعية . كان ذلك ضرورة سياسية وعسكرية . ولهذا انبثقت ضرورة النضال من أجل تحرير الوطن الجزائرى وأصبحت الدعامة لجمهورية الجزائر المستقلة . هذه بعض الأمثلة .
اذن فهذه المرسة فى اصولها تختلف عن المرسة الدولية الثانية . فهى ليست تعبيرا عن مصالح الرأسماليين والمستعمرين ، وليست منبرا للأقسام المنحازة لصفهم من جانب العمال ، بل على العكس . هى تعبير عن مصالح شعوب مضطهدة من قبل المستعمرين والرأسماليين الأجانب ، وتعبر عن الرغبة للانعتاق من التخلف .
لافتة "اشتراكية" لوقف التطور؟
كذلك نشأت هذه المرسة فى ظروف أصبحت فيها الاشتراكية الظافرة تلعب الدور الأول فى تحريك التارخ الحديث ، ولم تنشأ كاشتراكية أوربا الغربية فى وقت كانت الرأسمالية فيه النظام السائد الذى يملك الكلمة العليا . ولهذا فهى تتأثر بميزة العصر . وتأخذ من عصرنا أكثر مما ترفض . لقد ولدت هذه المرسة فى جو عالمى نقى وتحت تأثيرات فكرية معافاة ونظرات اشتراكية سليمة ، وتطبيق ناجح للاشتراكية بين أكثر من ثلث سكان المعمورة . ولهذه العوامل آثارها الجليلة .
فالاشتراكية فى الجمهورية العربية المتحدة تختلف فى الأساس عن اشتراكية الغرب فى أنها حددت السلطة فى تحالف القوى العاملة ، وحددت تمثيلها بالأغلبية فى أجهزة السلطة التشريعية . ولهذا لم تعد الاشتراكية فى الجمهورية العربية المتحدة فى الميثاق مجرد تمنيات أو رغبات طيبة من قبل بعض الطبقات أو احسانا يمد للعاملين ، بل أصبحت نظرية ثورية بالفعل . تضع السلطة فى يد الجماهير العاملة .وهذا فى رأيى هو الذى يحدد ان كان هنالك وسط أو تطرف، وطالما أكدت هذه المرسة الاشتراكية الثورية من الاشتراكية – وقد أكدت – أن السلطة الاشتراكية للعاملين فمن الخطأ وصفها "بالوسط" . الذى يرفض فى الواقع الاشتراكية ، وهو يعبر فى أحسن الأحوال فى البلاد المتخلفة عن رغبة للاصلاح فى بعض الأحيان ، وفى الأخرى عن الرغبة فى وقف التطور والسير فى الطريق الرأسمالى تحت ستار "الاشتراكية" .
(للحديث بقية)
#عبد_الخالق_محجوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف ولد شعار الدستور الاسلامى؟
-
عبد الخالق يعلق على خطاب الدكتور منصور خالد فى الملتقى الفكر
...
المزيد.....
-
صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع
...
-
الدفاع الروسية تعلن إسقاط 8 صواريخ باليستية أطلقتها القوات ا
...
-
-غنّوا-، ذا روك يقول لمشاهدي فيلمه الجديد
-
بوليفيا: انهيار أرضي يدمّر 40 منزلاً في لاباز بعد أشهر من ال
...
-
في استذكار الراحل العزيز خيون التميمي (أبو أحمد)
-
5 صعوبات أمام ترامب في طريقه لعقد صفقات حول البؤر الساخنة
-
قتيل وجريحان بهجوم مسيّرتين إسرائيليتين على صور في جنوب لبنا
...
-
خبير أوكراني: زيلينسكي وحلفاؤه -نجحوا- في جعل أوكرانيا ورقة
...
-
اختبار قاذف شبكة مضادة للدرونات في منطقة العملية العسكرية ال
...
-
اكتشاف إشارة غريبة حدثت قبل دقائق من أحد أقوى الانفجارات الب
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|