|
عن نقد الاقتصادية والارادية
مهدي عامل
الحوار المتمدن-العدد: 4884 - 2015 / 8 / 1 - 12:29
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
لهذا الوجه من القضية أهمية سياسية ونظرية بالغة، فالاقتصادية هي التي ترى في حركة تجدد نمط معين من الانتاج تولدا تلقائيا لبنية متماسكة أخرى من نمط إنتاج آخر، دون رؤية الفاصل البنيوي بين البنيتين، فتجد في الأولى "بذرة" الثانية، وتجعل من الثانية نتاج نمو بذرتها ونقطة الوصول من حركة تكامل هذا النمو التلقائي؛ فتعتمد، بهذا الفهم لحركة التاريخ، منطق التناقض الهيجلي، وتظل أسيرة مفهوم الاستمرارية التاريخية، عاجزة عن تفسير القفزة البنيوية، أي عن تفسير هذا التحول البنيوي الذي يتم فيه الانتقال من بنية إلى أخرى. إن في اعتماد مفهوم الاستمرارية في تفسير التحول البنيوي تناقضا لا يخرج منه المنطق الهيجلي إلا بالسقوط في مثالية موضوعية ترد كل حركة مادية في التاريخ إلى حركة الفكر في تموضعه، فيذوب الاختلاف في تماثل الفكر بذاته- وإن تحول-، إذ التخالف ليس في قدر الفكر سوى الصيرورة التماثل نفسه. لذا أمكن القول إن الفكر الهيجلي خير حليف نظري للاقتصادية، إن لم يكن لها الأساس النظري.
وقد لا تنكر الاقتصادية وجود ذلك الفاصل البنيوي بين البنيتين- الإقطاعية والرأسمالية، أو الرأسمالية والاشتراكية-، فإقامة هذا الفاصل ليست وحدها كافية للتحرر من هذه النزعة. هنا تأخذ القضية وجها آخر، وينتقل مركز الثقل في نقض الاقتصادية من مفهوم الاستمرارية التاريخية إلى مفهوم الانتقال نفسه. فكيف تفهم الاقتصادية هذا الانتقال من بنية إلى أخرى، وما هو الشكل النظري المتجدد الذي هي فيه تختفي، والذي هي، بالتالي، تظهر فيه على نقيضها، بمظهر نقد للاقتصادية؟
لنكن منذ البدء صريحين في القول حتى المباشرة: إن الاقتصادية هي الخطر الرئيسي الذي يتهدد الفكر الماركسي اللينيني في نواته الأساسية، أي في تميزه بالذات من حيث هو فكر البروليتاريا، وبالتالي، من حيث هو الفكر الثوري للتاريخ المعاصر. فالاقتصادية هي إذن الخطر الرئيسي الذي يتهدد الحركة الثورية البروليتارية، من حيث هي الحركة الثورية للتاريخ المعاصر. والخطر هذا كان ولا يزال ملازما لتطور هذه الحركة وفكرها، في شتى مراحل هذا التطور. لكننا، بهذا القول، لا ننسى الخطر الذي هو الإرادية، وإن كان خطر الاقتصادية أكثر ثباتا. فالإرادية تظهر، بشكل عام، في ممارسات الصراع الطبقي، في شروط تاريخية محددة من تأزم هذا الصراع، يتولد فيها وهم طبقي بضرورة تفجير "الثورة" حالا، قبل أن تكون التناقضات الاجتماعية قد بلغت بالفعل، في حركتها المحورية، درجة نضوجها الثوري، أي نقطة انصهارها. بتعبير آخر، إن الإرادية هي افتعال الثورة عند أي أزمة يمر بها تطور البنية الاجتماعية، دون تحديد علمي لطبيعة هذه الأزمة، (هل هي أزمة هيمنة طبقية أم أزمة سيطرة طبقية؟ هل هي أزمة إيديولوجية أم اقتصادية أم سياسية، أم هل هي أزمة عامة؟)، أي دون رؤية العلاقة الفعلية التي تربطها بالحركة التي تحددها في وجودها الفعلي كأزمة معينة، وليس كأزمة بشكل عام. فالإرادية إذن ترى في كل أزمة أزمة عامة لأنها تنظر إلى الأزمة بشكل عام، أي بشكل مجرد عن وجودها الفعلي في الحركة الفعلية للصراعات الطبقية.
والفارق كبير جدا بين أن تكون الأزمة أزمة عامة وبين أن تكون أزمة بشكل عام؛ فهي، في الحالة الأولى، شكل تاريخي محدد من الحركة المحورية للصراع الطبقي، تترابط فيه التناقضات الاجتماعية انصهاريا، فتتحرك جميعها في شكلها السياسي، وتصب في نقطة انصهار هي منها تناقض تتكثف فيه، فتجد بحله، وفي حله، الشرط الأساسي لحلها. والحل ذاك، كالشرط هذا، واحد، هو تغيير السلطة الطبقية بانتزاع سلطة الدولة من الطبقة المسيطرة ووضعها في يد الطبقة المهيمنة النقيض. ولأن الأزمة العامة شكل تاريخي محدد من حركة الصراعات الطبقية في بنية اجتماعية محددة، فإن هذا التناقض الحاسم الذي تنصهر فيه التناقضات كلها يختلف بالضرورة من بنية اجتماعية إلى أخرى، باختلاف التناقضات الاجتماعية الفعلية التي تترابط به فتتحدده بالشكل الذي هي فيه تنصهر في مصادفة تاريخية متميزة. والاختلاف هذا ليس منه سوى اختلاف الشكل التاريخي الفعلي الذي فيه يتحرك كتناقض سياسي. لذا، كان التناقض الوطني، مثلا، الشكل التاريخي الذي يتميز فيه التناقض السياسي في البنية الاجتماعية الكولونيالية كتناقض سياسي، وكان، في شكل وجوده الفعلي كتناقض وطني، يختلف من بنية كولونيالية إلى أخرى، فيتميز، في تخالفه، وبهذا التخالف، دوما، في الثورة الصينية مثلا، أو الفيتنامية أو الكوبية، وفي الثورة الجزائرية أيضا، أي سواء في حله الثوري، أم في فشل هذا الحل.
أما في الحالة الثانية، فالأزمة، من حيث هي أزمة بشكل عام، لا وجود ماديا لها؛ لأن ليس لها شكل تاريخي محدد. فهي إذن ليست في حركة الصراع الطبقي أزمة إلا على أساس من انتفاء تحددها بهذه الحركة الفعلية المتميزة. حين ينتفي واقع هذه الحركة بانتفاء الآلية التي تتحكم به في تميزه، تتسطح الظاهرات الاجتماعية يتبسط التناقض فيها، أي أنه يفقد تعقده، وبالتالي تفاوت بنيته، فتتماثل الأزمات كلها بشكل ترى فيه الإرادية عند أي أزمة مناسبة الثورة. لذا يمكن القول إن الإرادية مناسبية، بمعنى أن المنطق المناسبي منطقها. فالثورة مطلق في انتظار مناسبته، لا تربطه بها علاقة الضرورة، لأنه خارج كل ضرورة، فهو هو الذات تتحقق بفعلها الإرادي الذي يجد في المناسبة مرآة ذاته. والمناسبة هذه حدث لا يخضع لأي ضرورة. إنها نقيض المصادفة التي هي، في مفهومها اللينيني، عقدة عقد العلاقات بين التناقضات في وصولها، بتطورها الضروري، إلى مكان حلها، أي إلى مركز انصهارها. فالمناسبة إذن هي، في منطق الإرادية، انفلات الصراع الطبقي من آليته الضرورية، وتبعثره أحداثا تأخذ بالصدفة شكل أزمة، فتظهر الثورة حينئذ كضرورة مباشرة. وما الضرورة هذه سوى ضرورة الإرادة، لا ضرورة الصراع الطبقي، بعكس المصادفة التي هي شكل مميز من تحرك هذا الصراع خاضع لمنطق الضرورة فيه. من هنا أتى الطابع الذاتي الذي تتميز به الإرادية، والذي هو وليد منطقها المناسبي. وبتعبير أدق، إن الإرادية تنقل الضرورة في منطق الثورة، من منطق حركة الصراع الطبقي إلى منطق الإرادية وذاتية الفعل، فتعجز، بهذا، عن تحديد الدور الفعلي للصراع الطبقي في عملية التحويل الثوري للبنية الاجتماعية، بل هي تنفي هذا الدور من حيث هي تؤكده، لأنها بهذا المنطق الذاتي الذي يتحكم بممارساتها النظرية والسياسية معا، تحيل العملية الثورية المعقدة لحظة زمنية خاطفة، فتضعها في علاقة خارجية هي علاقة مناسبية، مع صراع طبقي فقد تعقده بانتفاء آليته، فاستحال حدثا له البنية الزمنية الخاطفة نفسها التي هي للثورة إذ استحالت لحظة. في هذا الضوء، يمكننا فهم عدم الثبات في "إرادة الثورة" أو في "فعل الإرادة"، والذي هو ملازم بالضرورة للإرادية وممارساتها، إذ لا ثبات في الإرادة الثورية إلا حين تصير هذه الإرادة إرادة طبقية منظمة تستند في أفعالها التي هي ممارسات التنظيم الثوري للطبقة الثورية إلى الوعي العلمي لآلية الصراع الطبقي، أي إلى علم الثورة في الماركسية اللينينية. والعلم هذا نقيض الإرادية من حيث هو أساس الإرادة الطبقية الثورية، فيه ثباتها، فإن انتفى انزلقت الإرادة هذه في ممارساتها إلى منطق الإرادية وفقدت طابعها الثوري.
النص من كتاب: عامل، مهدي: في تمرحل التاريخ، بيروت، دار الفارابي، 2001
#مهدي_عامل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسألة الديموقراطية
-
حركة التحرر الوطني: طبيعتها وأزمتها
المزيد.....
-
النهج الديمقراطي العمالي يدين الهجوم على النضالات العمالية و
...
-
الشبكة الديمقراطية المغربية للتضامن مع الشعوب تدين التصعيد ا
...
-
-الحلم الجورجي-: حوالي 30% من المتظاهرين جنسياتهم أجنبية
-
تايمز: رقم قياسي للمهاجرين إلى بريطانيا منذ تولي حزب العمال
...
-
المغرب يحذر من تكرار حوادث التسمم والوفاة من تعاطي -كحول الف
...
-
أردوغان: سنتخذ خطوات لمنع حزب العمال من استغلال تطورات سوريا
...
-
لم تستثن -سمك الفقراء-.. موجة غلاء غير مسبوقة لأسعار الأسماك
...
-
بيرني ساندرز: إسرائيل -ترتكب جرائم حرب وتطهير عرقي في غزة-
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال ... دفاعا عن الجدل --(ملحق) دف
...
-
اليمين المتطرف يثبت وجوده في الانتخابات الرومانية
المزيد.....
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
المزيد.....
|