ابراهيم الحريري
الحوار المتمدن-العدد: 4882 - 2015 / 7 / 30 - 03:17
المحور:
مقابلات و حوارات
انباء الموصل – العدد لأخير
نشرة صادرة عن اللجنة المحلية
للحزب الشيوعي العراقي في الموصل
سكرتير التحرير : ابراهيم الحريري
تموز 2015
فرحان ! من منكم يعرف فرحان ؟ اين باستطاعتي ان اجد فرحان ؟
كنت ادور على محلات السراجة في سوق السراجين , خلف المتحف الوطني القديم ( متحف التراث الشعبي الأن ) اسالهم واحدا , واحدا .
كان اكثرهم جديدا على المهنة ,بعضهم , الأكثر تقدما في العمر , كان يحك رأسه , ثم يجيب : اختفى . لا نعرف عنه " . واحد فقط قال انه مريض , يعيش عيشة مزرية , بعد ان لم يعد بامكانه مزاولة المهنة , لكنه لا يعرف اين بامكاني ان اجده . يئست . كدت اكف عن البحث حتى قّادتني الصدفة البحت الى سرّاج كهل , عند نهاية شارع الجعيفر و التقائه بساحة جسر الأمين - جهة الكرخ .
:قلت له " تعرف فرحان " ؟ كَصني بنظرة مستريبة , من فوق لتحت . توقف هنيهة ليضيف : " فرحان النقابات ؟ فرحان الشيوعي ؟ "
جفلت . كدت اغادر على الفور . لولا انني تذكرت .اننا في اواخر 2003 . صدام و نظامه ولّيا . و انا عائد من المنفى ابحث عن الرفاق و الأصدقاء القدامى , كان فرحان احدهم .
سحب الرجل نفسًا عميقا من سيكارته . قال مبتسما و هو يحاول ان يطمئنّني : يرحمه الله . كان رجلا طيبا , لكن لماذا تسال ؟ "؟ . " صديق قديم ..." و غادرت .
تعود علاقتي بفرحان الى اواخر شتاء عام 959 عندما تأسس الأتحاد العام لنقابات العمال في العراق , او كان تحت التاسيس , و تقدم بطلب اجازته . كنت اتردد على مقر الأتحاد , اول شارع ابو نؤاس من جهة شارع الرشيد , بحكم عملي , مراسلا و محررا عماليا لصحيفة " اتحاد الشعب " . كان اكثر قادة الأتحاد , آرا خاجادور , طالب عبد الجبار ,عبد القادر العياش ,حكمت كوتاني , كاظم الدجيلي , و غيرهم , من الرفاق و النقابيين الذين التقيتهم في السجون و المواقف و المعتقلات , قبل ثورة تموز . خلال تنقلي بين غرف الأتحاد , لألتقاء هذا القائد النقابي او ذاك , كدت اصطدم بشاب ربعة , في اواسط العشرينات , مهدل الكتفين , يعاين بنظرة مواربة , كأنه يتجنب ان تلتقي عيناه بعينين اخريين تكتشف في عينيه مكر ودهاء , تنم عنهما ابتسامة جانبية . سألت . قيل لي انه فرحان , واحد من شغيلة الأتحاد , فراش , شايجي , مصلح لأي عطب , من النجارة , البواري الى الأقفال , يعني , بكلمة واحدة , " بتاع كله ", من بين سائر قادة الأتحاد , اختصه الشهيد طالب عبد الجبار بالأهتمام و الرعاية , كما عرفت فيما بعد .
تقلب الأتحاد , بين مجازٍ و غير مجاز . يعتقل قادته حينا و يطلق سراحهم ليلتقيهم "الزعيم " , حسب مزاج قيادة السلطة , حتى خاضت السلطة معركتها الحاسمة , ضد النقابات و المنظمات الديمقراطية تعاونها اجهزة الأمن و عصابات الشقاة .
سيطرت السلطة على مقر اتحاد النقابات و سلّمت مفاتيحه للحاج ابراهيم , بينما تشتت القادةالنقابيون , بين معتقلٍ و مسجون او مختفٍ ,اما فرحان فلا حس ولا خبر , كأنه فص و ذاب,ٍ!
أُغْلِقَتْ الجريدة , و تنقلتُ بين منظمات مختلفة , حتى أُلحِقتُ باللجنة المحلية للحزب في الموصل , فكنت اتردد , بين الآن و االآن , على بغداد , في مهام حزبية . كُلّفْتُ ان اذهب الى احد محلات السراجة لألتقي رفيقا , سيقدّم لي تسهيلات في مجال اخفاء البريد الحزبي و النشرات .
هناك التقيت فرحان , مرة اخرى . كان فنانا مبدعا في هذا المجال , كان يقعّر الصناديق , يضيف طوابق مخفية للحقائب , يخترع جيوبا سرية في حقائب الكتف , لا يكف خلال ذلك عن" دندنة " مقام او بسته , كأنه يقوم بعمل عادي , كانه خُلِقَ لهذا النوع من العمل .
غادر ابو زيد ( الرفيق طالب عبد الجبار ) الى بغداد و تـاخر بعض الوقت ( بعد عودته صدر بيان عن الآحتماع الكامل للجنة المركزية , اي يضم الأعضاء و المرشحين , و لما كان الرفيق طالب مرشحا لعضوية اللجنة المركزية قدرنا ان لغيابه علاقة بالأجتماع ) .
التقينا على فطور عمل في بيت الرفيق الشهيد ستار خضير , عضو اللجنة المحلية و مساعد لمسؤولها ( خلف الساعة ) كان قريبا من بيت الرفيق طالب ( المياسة ) . لا اتذكر ما اذا كان الرفيق ( الشيخ ) معروف البرزنجي , الذي كان التحق بمحلية الموصل منقولا من كركوك التي كان مطاردا فيها , و كلف , من ثم , بالصعود الى الجبل لملاقاة البارزاني الأب كان قد عاد . تداولنا بعض الآمور , عندما دعانا طالب الى مرافقته . قال انه يدخر لنا مفاجأة . تبعناه الى باحة في احدى محلات الموصل ( لا اتذكر اسمها ) . قرع احد الأبواب فانفتح عن...فرحان !
كانت مفاجأة من العيار الثقيل ! تعانقنا . دعانا الى الدخول . كانت تقتعد احدى زوايا الدارسيدة في منتصف الأربعينات, متينة البنيان الى بدانة , ربعة اميل الى القِصَر. ارادت ألنهوض للترحيب لكن ثقلها البادي اعاقها .
قدمها لنا فرحان : خالتي " ابتسم طالب ابتسامة ذات مغزى و اضاف : " واحدة من خالاته الكثر" , ! فهمنا التلميح عندما اطرق فرحان خجلا .
المفاجأة الأخرى كانت تنظرنا في السرداب الذي تقدمنا فرحان اليه . كشف فرحان فرحًا , فخورًا , كما يكشف العرّيس نقاب عروسه ليلة عرسهما . غطاءً فبان عن آلة رونيو , كانت , رغم قدمها , نظيفة .
كيف تم ذلك ؟ كيف ؟ في ظروف الموصل العصيبة , اوائل الستينات , تم نقلها ؟قطعة قطعة ؟ مرة واحدة ؟ و متى تم استئجار الدار ؟ الى غير ذلك من الأسئلة التي ظلت دون اجابة , اذ كان السؤال محظورا . لكن كان يمكن تخمين ان الكثير من الأحابات كانت تكمن في صدري فرحان و ابو زيد
قال ابو زيد و هو لا يخفي فرحه : بامكاننا , الآن , ان نصدّر نشرتنا " ! و هذا ما حصل .
كان كل شيئ جاهزا . العروس ( الرونيو ) يصحبها جهازها ( صحائف الستانسيل و ألأحبار) و كاتب الطابعة (محمد , ابو جاسم , رفيق منقول من بغداد , للألتحاق بعمله في واحدة من محاكم الموصل ) و المحرر , سكرتير التحرير ( الداعي ) و رئيس التحرير . الرفيق طالب . اما الأسم فقد اخترته و لم اكن ميالا للأسماء الطنانة الرنانة : " انباء الموصل " .
و بدأ العمل !
لم نكن نعاني من تجهيز المواد . كان لدينا الكثير من المواد الأولية , سواء ما يردنا من المركز , بغداد , أو من الأقضية و النواحي التابعة للمحافظة , المشكلة كانت في الطبع .
كان محمد , ابوجاسم , كما كنت اسميه تدليلا , مع انه كان في اوائل العشرينات , يقيم في دارة صغيرة , من طابقين في الدواسة , الطابق الأول كان يضم المطبخ و باحة مسقوفة كأنها الصالة , و الطابق الأعلى غرفة لنومه ووالدته .
كان محمد يعود من عمله في المحكمة و عندما كنت اقرع الباب وقت الغروب بالطريقة المتفق عليها كنت اجد كل شيئ معدا : الوالدة في الدور السفلي , تعد لنا الشاي . بينما كان العمل يتم في غرفة النوم , يحكم محمد اغلاق باب الغرفة و يغطي الشبابيك ببطانيات ثقيلة لمنع تسرب صوت الطابعة .
تطلّب انجاز النشرة , بضعة ايام . سلمت الستانسيل المنجز الى فرحان صباحا لاعود لأستلم النشرة في المساء و اذهب الى بيت ستار .
كان كل شيئ معدا للأحتفال : ام مي , زوجة الشهيد ستار التي اعدت المزات الشهية مشغولة في الباحة تهيئ الشواء , ابو مي يقتعد ارضية غرفة الجلوس على واحدة من ركبتيه بنته , مي , يجاوره ابو زيد , تلتمع عيناه زهوا , و عندما ابسط " انباء الموصل "على الطبلية , يتداولها القعود..
ثم ترتفع الأنخاب ! يتخلّلها صوت ابو مي , الشجي , يغني ابوذية او اثنتين . تتناهبني اللوعة و الفرحة . اتذكر حبيبتي التي لا تبادلني الحب فاغني " أشكَر و شعرو ذهب ! في حبو شفت العجب ! كنا كاننا فتية لاهون ! كأن الموت لم يكن ينتظرنا , في ايام الموصل العصيبة تلك, عند كل عطفة!
( كتبت فيما بعد قصة بعنوان " الوليمة " اصف فيها واحدة من سهراتنا , نشرتها في صحيفة مجلة " صوت الخليج " الكويتية عام (964
الآن , وبعد 53 عاما من اول اصدار ل " أنباء الموصل " , و انا انجز , على بعد آلاف الأميال من الموصل , الجريحة , الذبيحة ( ايّ قدر اسودَ , دامٍ , يلاحق الموصل ! ) الاصدار الأخير من " انباء الموصل " , استدعي الشهيدين :طالب عبد الجبار, ستار خضير , و الراحل فرحان , و كاتب الطابعة ابو جاسم ( لا اعرف ما اذا كان ما يزال حيا ) , ارفع كأسي و اهتف :
نخبكم ايها الرفاق ! نخب الكلمة الخيرة , النيّرة ! نخب الصحافة الشيوعية في عيدها الثمانين !
#ابراهيم_الحريري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟