حين قرأت مسرحية ( أشياء صغيرة ) للكاتب : محمد كمال محمد ، تذكرت قصته القصيرة التي كتبها تحت نفس العنوان ، وظننت أنه قام بمسرحتها ، فرجعت إليها لاستجلاء الأمر ، فوجدت أن موضوعها جاء مختلفا تماما عن موضوع المسرحية ، لكنه - مع هذا الاختلاف- يحمل نفس الدلالة ، ويقدم شخوصا ينتمون إلى نفس الطبقة التي ينتمي إليها شخوص المسرحية
( الطبقة الدنيا ) هؤلاء المهمشون ( المعذبون في الأرض) الذين " لا يجدون ما ينفقون" !! لكنهم يتعلقون بأشياء صغيرة تملأ عليهم حياتهم ، وتجعلهم يواجهون قسوة الحياة ، بقلوب قوية ، مترعة بالحب ، والأمل ، وتجعلهم يواجهون عالم الأغنياء المجرد من الإنسانية ، والمجرد من المشاعر ..
ولعلني لا أجازف إذا قلت : إن الكاتب القاص والروائي ( محمد كمال محمد ) قد خلق لكتابة المسرح ، وليس لكتابة القصة التي أجاد وقدم إنجازا كبيرا فيها (1) ذلك لأنه علي وعي شديد بأدوات الحرفة المسرحية ، وطبيعة التأليف المسرحي ، يتجلي هذا الوعي في المسرحيات التي كتبها من قبل ، وكان آخرها المسرحيات القصيرة المنشورة في هذا الكتاب (2).. ولعل تمرسه الطويل في مجال الكتابة القصصية والروائية ، ساعده علي رسم الشخصية الدرامية رسم جيدا، ومتماسكا ، بحيث إننا نراها علي الورق شخوصا تتحرك من لحم ودم ، فما بالك لو شاهدناها علي خشبة المسرح ؟! والكتابة المسرحية أولا واخيرا ، تكون للعرض فوق خشبته وليس لوضعها بين دفتي كتاب !
الوعي الذي أتحدث عنه ؛ تعكسه القدرة علي إدارة الحوار ، ومعالجة الموضوعات المتنوعة دراميا ، وهي موضوعات إنسانية افتقدناها كثيرا في مسرحنا المعاصر ، وليتنا نعود إليها من جديد ، لأن المسرح الحقيقي الذي يبقي ، مهما تغيرت الحياة ، ومهما تواترت المتغيرات ، هو الذي يهتم بالقيم الإنسانية الشاملة والعامة ، ولنا في أعمال (وليم شكسبير ) الإنجليزي و( هنريك ابسن ) النرويجي ، ولويجي براندللو وجورج برنارد شو الايطاليين، المثل والقدوة..
دعونا- في عجالة شديدة – نسترجع معا أحداث قصة ( أشياء صغيرة ) التي كتبها محمد كمال محمد منذ سنوات (3) للوقوف علي طبيعة النص القصصي ، وتأثيره الإيجابي علي النص المسرحي .
في القصة نري راويها ، ابن الإسكافي الذي يحب قراءة الكتب ، وكان يعتمد في ذلك علي استعارتها من صديقة ( محجوب) ، الذي يملك عددا كبيرا منها ، ورثها عن أبيه الذي كان يحب القراءة .. و الراوي يحلم بأن يملك كتبا مثل صديقة ، وأن يكون أبوه مهتما كذلك ، .. لكنه يفاجأ حين قام بزيارة صديقه في بيته ، بحزنه الشديد ، لأن أمه باعت الكتب ، وهاهو يجلس أمام الزكائب ، باكيا ، وفجأة ينهض ، حين رأي الحوذي يستعد لحملها في عربته ، فيقوم برفس مخلاة العلف بقدمه من أمام الحصان ، ويختطف الكرباج المعلق بمقدمة العربة ، وهو يهوي به علي ظهره ، فيجري راكضا بالعربة ، ويهرب محتميا ببيت صديقة الذي يروي لنا القصة ( يكسو العرق وجهه ، ويده المعروقة ملاصقة لرأسه ، وكانت تنتفض بجانب الكرباج المسند خلفه .. كان محموما ) ص 631
أشياء تبدو أمامنا صغيرة من الوهلة الأولي ، لكنها تعكس معاني كبيرة ، وقيم نبيلة ، يؤكد الكاتب علي حضورها ، ومن هذه المعاني : حب المعرفة .. المعرفة التي تورث باعتبارها قيمة فكرية ، لا ينبغي التفريط فيها مهما كان الثمن - كما فعلت الأم في القصة – ومهما كانت الأسباب ، فالولد يحرم نفسه من كل شيء ، في سبيل المحافظة علي الكتب التي تركها له الأب ، بل ويعمل علي زيادة رصيده منها بما يملك من نقود قليلة ،، والأم – عن جهل وبغير معرفة وعلم – تهدر هذه القيمة التي يتشبث بها ولدها الصغير ، ويدافع عنها بكل ما يملك من قوة تتوافق مع مقدراته ، ووعيه واحتياجاته .. لقد نجح الأب الراحل في توريث شيء يبدو أمامنا صغيرا في مظهره الخارجي ، لكنه يحمل معني كبيرا وعظيم الأثر ، في مضمونه ودلالته ، وينجح هذا الولد في نقل عدوي الاهتمام ، وعدوي إدمان المعرفة إلى صديقه !! الذي يعمل والده إسكافيا .. فيصير مثله محافظا علي تلك القيمة برغم الفقر ، وبرغم انتمائهما إلى الطبقة الدنيا التي ربما لا يملك المنتمون إليها قوت يومهم ..
وفي المسرحية التي تحمل نفس العنوان ( أشياء صغيرة ) يقدم الكاتب موضوعا مختلفا ، لكنه يحمل نفس المعني : المحافظة علي القيم في عالم يخلو من القيم .. المحافظة علي المشاعر في عالم يخلو من المشاعر.. المحافظة علي إنسانية الإنسان في عالم مجرد من الإنسانية .
والحادثة الرئيسية في المسرحية ، تقوم علي التضحية التي أقدمت عليها الفتاة الصغيرة ، التي تعمل خادمة ، حين قابلت في الطريق ، ولدا في نفس سنها ( خلف) ، رأته باكيا يسير حافي القدمين ، وملابسه ممزقة ، وحين اقتربت منه علمت أن زوج أمه قام بطرده من البيت ، وأخبره بأل يعود .. اشترت له ملابس قديمة وحذاء وطعام ، بالعشرين جنيها التي أعطتها لها سيدتها لكي توصلهم إلى الخياطة ، ويتم القبض عليهما داخل المحطة أثناء محاولتهما السفر إلى أي مكان ، حين شك عامل الشباك في أمرهما .. ويبدأ التطور الدرامي للحادثة ، حين يقوم الشرطي بإحضار السيدة التي تعمل البنت عندها ، لأخبارها بالأمر ، وبحضورها تصر علي توقيع العقاب عليهما معا ،وبعد أن تأخذ ما تبقي من النقود ، تطلب من الولد أن يرد إليها الأشياء التي اشترتها البنت ، ومن بينها الحذاء الذي يرتديه في قدميه !! وأمام إصرارها نري الشرطي يتعاطف مع الولد ويدفع للسيدة ثمن الحذاء ..
الأشياء الصغيرة هنا ، تفجر معاني كبيرة ، كما رأينا في القصة التي سبق الإشارة إليها ، تعاطف الفقراء ، وتواصلهم ، ومواجهتهم لجشع وظلم واستغلال الآخرين الذين لا يعرفون معني المعاناة ، ويفقدون مشاعرهم حين تواجههم الأشياء الصغيرة ، باختبارات إنسانية ، فلا يستطيعون تغيير ما بداخلهم من نزعات الطمع ، وغلو الذات.
التعبير عن المشاعر الإنسانية هو السمة الرئيسية في أعمال ( محمد كمال محمد ) القصصية والمسرحية – كما ذكرت – وشخوصه من المهمشين ، الضعفاء ، الذين لا يملكون من أمر أنفسهم شيئا ، هم ضحية لمجتمع يفرق بين البشر ، ويقم وزنا للقادرين ، ويدوس علي غير القادرين، وهؤلاء لا يستطيعون تحقيق الأشياء الصغيرة ، لأن المجتمع لا يتيح لهم الفرصة كاملة ، لكي ينعموا بالحياة ، هو يبطش بهم ، وبعالمهم ، فيبحثون لأنفسهم عن أشياء صغيرة أخري يستطيعون بها مواجهة قسوة المجتمع عليهم.
هذا العالم المجرد من الإنسانية ، هو ما نراه - أيضا - في مسرحية ( المولود مفقود)..
بطلها (عماد) ينتمي إلى الطبقة الفقيرة - منذ طفولته حتى شبابه- فلقد عمل- وهو تلميذ صغير - شيالا للعمال في ورشة شق الخشب ، بعد موت والديه أثناء غارة من غارات الألمان ! فلم يجد أمامه إلا العمل حتى يستطيع تلبية احتياجات المعيشة ، وحين كبر وصار رجلا يلجأ لصديق الطفولة ( عوض) ، الثري ، الذي يملك شركة كبيرة ، لكي يتوسط له لدي صاحب الشركة التي يعمل بها ، ليعيده إليها بعد أن فصل منها بسبب انقطاعه عن العمل أثناء دخوله إلى المستشفي للعلاج من مرض ( الجدري) الذي أصابه .
ويتخلي الصديق الثري عنه ، ولا يقدم له المساعدة إلا بالقدر الذي يخدم مصالحه الخاصة والذاتية ، فنراه يعرض عليه الزواج من المرأة التي تزوجها مصادفة ، وتلبية لنزوة ، بعد أن قام بتطليقها ، هربا من الفضائح – علي حد تعبيره – فهو يستعد للزواج من فتاة أخري تنتمي إلى طبقته ، ومناسبة لمركزه الاجتماعي والاقتصادي ، كما يصرح لصديقه : " أسطول كبير كاتبه أبو خطيبتي باسمها .. تخيل بقي لو جوازه زي دي طارت من ايدي .."
زواجه من المرأة الأولي نزوة عابرة ، عليه أن يتخلص منها ، وزواجه من المرأة الثانية صفقة لا يريد أن يخسرها ، وهو في الحالتين يبحث عن مصالحه الخاصة بصرف النظر عن مفهوم ومنظومة القيم التي ينبغي الالتزام بها ، باختصار شديد ، غياب مفهوم الشرف !!
وموافقة ( عماد ) علي طلب الصديق جاء اضطرارا نتيجة للفقر المدقع الذي يعيش فيه ، ولأنه لن يستطيع الإقدام علي الزواج بطريق آخر ، غير الطريق الذي عرضه الصديق وقدمه .. لقد ظل لسنوات طويلة - خاصة أيام الطفولة - مرتبطا بهذا الصديق ، الثري ، الانتهازي ، ظل مرتبطا به إلى الحد الذي يشعر معه بأنه مرتبط به حيا وميتا ، ولذلك نراه يتحمل بمفرده نتيجة ما فعلته ( كفاية ) زوجة صديقة السابقة ، وزوجته الحالية ، حين قامت بقتل زوجها - صديق البطل - انتقاما لغدره بها ، وهجره لها ! يتحمل ذلك باختياره ، ويصر علي انصرافها ، لكي لا يقع عليها الاتهام قائلا: " في موته واخدي وراه .. بموته هاموت وياه ( بانفعال يصيح) مش ها عيش ,, مفقود .. مفقود .. مفقود "
وفي المسرحية الأخيرة في هذا الكتاب ( حب) يتعرض الكاتب لجانب آخر من الجوانب التي يؤكد الكاتب – من خلالها – علي حضور القيمة الإنسانية ، التي يستطيع بها الفرد مواجهة الحياة القاسية ، وهي هنا قيمة الحب ، إن الحب في المسرحية – علي الأقل من جانب شخصها الرئيسي أمان مدرس اللغة العربية في قرية الأيتام – حب رومانتيكي ! يذكرنا بالحب العذري المذكورة أخباره في كتب العرب وحكاياتهم . وهو يؤكد علي حضوره من خلال العلاقة التي قام برسمها بين ( أمان ) و( رئيفة) مؤكدا علي البعد الفلسفي لهذه القيمة ، ومدي انعكاسها علي الشخصية ، وتأثيرها علي سلوكها ، و يلجأ إلى كلمات عدد كبير من الشعراء الذين كتبوا عن الحب ، وذكر أسماءهم في هامش المسرحية (4)
ويستعين الكاتب علي لسان الشخصية الرئيسية ( أمان ) بمقولات تحمل نزعة أخلاقية ، فلسفية ، ربما يكون المبرر لاستحضارها بشكل مباشر ، وخطابي – في نفس الوقت – هو أن بطل المسرحية شاعر.. يقول علي سبيل المثال :
" إن الذين نسوا أن يحبوا .. نسوا أن يعيشوا"
ويقول متسائلا ، وموجها كلامه لرئيفة زميلته وحبيبته : " هل سمعت سار تر يقول : قبل أن نحب يخالجنا الإحساس بعبثية وجودنا ، ثم يأتي الحب ، ليعطينا أقوي أسباب الحياة " ..
وتقول ( رئيفة) " ليس من المهم أن نأخذ من الحياة ، ولكن المهم أن نضيف إليها " .
الشخوص في مسرحيات (محمد كمال محمد) يعيشون الوحدة ، بمعناها الحقيقي وليس المجازي .
الصبي في مسرحية ( أشياء صغيرة ) لا أحد له بعد موت الأب ، وزواج الأم من رجل يعامله بقسوة ، وكذلك نجد الأبطال في مسرحية ( المولود مفقود ) : (كفاية ) لم تر والديها ، وأخوها الوحيد ذهب متطوعا في حرب فلسطين ،ولم يعد ، وحتى تستطيع مواجهة تكاليف الحياة ، عملت في مغسلة ملابس ، وعملت في سرجة زيت ، وفي أجزخانة ، وحين قابلها ( عوض) الثري ، في السينما ، ورآها تبكي عندما رأت أخوها ضمن الفلم الذي يصور الجنود في حرب فلسطين ، وأقام معها علاقة انتهت بالزواج ، ثم الطلاق بعد ذلك ، تجد نفسها تعود إلى الوحدة من جديد ..
ورئيفة في مسرحية ( حب) مات أبواها في حادث قطار ، فاضطرت أن تعمل في مهن كثيرة ، مثل شخصية كفاية في مسرحية ( المولود مفقود) . عملت في مكتب محام تدق علي الآلة الكاتبة ، وجلست إلى ( كيس) في دكان عصائر ، وعملت كاتبة في مخبز، وأخيرا مربية ومدرسة في قرية الأطفال اليتامى .
والكاتب يرسم شخوص مسرحياته رسما دقيقا ، محددا أبعادها وملامحها ، المتعارف عليها : النفسية والجسمانية والاقتصادية والاجتماعية بدقة ..
( كفاية ) في مسرحية ( المولود مفقود) - بالأبعاد السابق الإشارة إليها – تقوم – في نهاية المسرحية – بفعل القتل ، لكي تضع نهاية للحدث الرئيسي ، وفعل القتل نجده مبررا جدا ، لأن الكاتب عرض المقدمات التي ستفضي إلى هذه النتيجة بشكل طبيعي تماما ، علي المستويين : الفني والموضوعي .
والنهاية التي ارتضاها الطل لنفسه حين أعلن مسئوليته – وحده - عن فعل لم يفعله ، وجرم لم يقدم عليه ، جاءت متوافقة مع المقدمات التي حددها من خلال الحوار ، وتصاعد الأحداث ، وليس من خللا السرد المتمثل في الإرشادات المسرحية – علي سبيل المثال – وتبدو الشخصية المسرحية في ( المولود مفقود) شخصية تراجيدية ، بكل ما تحمله الكلمة من معني ، فهو يتجه مباشرة ، وباختياره إلى قدره ، وهو علي علم كامل بالنتيجة ، هذا السعي تحدده بعض عباراته التي أطلقها – من حين إلى آخر فضلا عن طبيعة رسم الشخصية كما ذكرت – يقول : " احنا الأثنين – يقد هو وصديقه – بنكون طبقتين ، دايما الطبقة الصغيرة لما بتنداس ، تلقائيا تبقي ملحق اللي فوقها "
ويقول – في موضع آخر- " أنا عايش ازاي .. أنا عايش إيه ؟! ( يشتد شقاؤه) أتولدت بيه ، اتولدت بيه زي شخصية الأسطورة القديمة اللي أتولدت بالخطيئة ( ناهضا يرتجف) اتولدت بيك يا عوض .. اتولدت بيك .."
وفي موضع آخر يقول : " عشت مولود فيه .. مولود بيه ، منكمش جواه مش باين .. إنسان أتولد بإنسان تاني ، كأنه جنين غامض داخل أحشاؤه ماقدرش يتخلص منه، ما قدرش يعيش مولود مش مفقود .. حياته من غير وجود "
وفي موضع آخر - موجها كلامه إلى كفاية - " يوم ما ضربوني كنت بنضرب بداله ، يوم ما دخلت الامتحان كنت بامتحن له ، وشايف باب السجن مفتوح لي ، يوم ماجيت لك ونفسي في اللي محروم منه ، طلعت لك برجليه هو .."
المقدمات التي وضعها الكاتب ، والأبعاد التي حددها لشخوصه ، تفضي إلى النهايات ، ومن ثم فان الحدث الدرامي ، يتطور رويدا رويدا ، ويتنامي الفعل بشكل طبيعي وتلقائي .
ذلك الانسجام المتحقق بين الفعل ورد الفعل ، ارتباطا بالشخصية المرسومة بشكل دقيق ، هو الذي أدي برجل الشرطة ( الصول) في مسرحية ( أشياء صغيرة ) إلى التعاطف مع الصبي المتهم مع الفتاة الصغيرة بسرقة نقود السيدة ، حين أعطاها من جيبه الخاص كل النقود التي بحوزته ، ويحتاجها لشراء مريلة لطفلته الصغيرة ، حين لمس إصرارها علي الحصول علي الحذاء الذي اشتراه الصبي بنقودها ، فلم يرض بأن يخلع الصغير الحذاء من قدميه ويسير عاريا ، لأنه ينتمي إلى عالم الفقراء ، ويشعر بمشاعرهم وأحزانهم ، وهو عالم لم يتجرد تماما من إنسانيته علي العكس من عالم الأغنياء ، الذي تجرد والي الأبد من إنسانيته ، فالتجرد من الإنسانية ليس سمة الفقراء ، ، بل هو سمه عالم الأغنياء الذين لا يشعرون بالقهر الواقع علي غيرهم .. إنها مفاهيم اشتراكية ، يتناولها الكاتب في مسرحياته ، ويؤكد عيها ، حتى نواجهها ، أو - علي الأقل - نتخذ منها موقفا ما ، يطرحها بلا زعيق ، وبلا نبرة خطابية ، لأنه - هنا - ينتصر للفن ، ويتحيز له ، ومن ثم تبدو المفاهيم السياسية تبدو في الخلفية تماما ، وليس في المقدمة ، وتلك المسألة ، تميز الكاتب الحقيقي من الكاتب المدعي ، الذي يظن أن الشعارات ، يمكن أن تؤثر في المتلقي ، وهو يغفل أن المقالة تقوم بهذا الدور .
والانسجام المتحقق بين الفعل ورد الفعل ، هو الذي جعل الفتاة الصغيرة التي تعمل خادمة ، تلجأ إلى مساعدة الصبي ، حين رأته وهو يبكي بعد أن طرده زوج الأم من البيت بلا ملابس أو طعام ..
تقول : " خلف صعب علي .. خدته معايا .ز اشتريت أكل ، وكلنا سوا ، ولقيت ناس جنب الموسكي بيبيعوا هدوم قديمة ، جبت له جلابية ، وجاكته ، ودخلت محل بيبيع جزم جديدة جبت له جزمة .."
ونري نتيجته – أيضا- في مسرحية ( حب ) ، فالمرأة ( رئيفة) تضحي بالحب من أجل التفرغ لرعاية الأطفال اليتامى في ( قرية الأيتام) ، حين شعرت أن الزواج سيؤثر علي اهتمامها بهؤلاء اليتامى ، حيث تشعر إنها واحدة منهم ، تستغني عن أعظم شيء أحست به في حياتها ، وهو حبها لزميلها ( أمان ) مدرس اللغة العربية في القرية ، ذلك الرجل الذي أحبها حبا رومانسيا جميلا ، ويبدو أن الكاتب - بمسرحيته تلك - أراد الإجابة - بطريقته - علي السؤال الذي طرحه من قبل كل من الكاتبين الفرنسيين : كو رني وراسين ، حين عالجا - في أعمالهما - موضوع الصراع بين الحب والواجب ، أيهما ينتصر إذا وجد الإنسان نفسه موضوعا في موضع الاختيار بينهما ؟؟
لقد سبق لطه حسين أن انتصر للحب ، حين حاول الإجابة علي السؤال في أعماله الروائية : دعاء الكروان - الحب الضائع ، متأثرا في ذلك بالأعمال الفرنسية ، أما الكاتب ( محمد كمال محمد ) فقد انتصر للواجب في مسرحيته ، لأنه يريد التأكيد علي معني مختلف تماما ، عن تلك المعاني التي تعرض لها الكتاب الذين تناولوا هذا الموضوع في أعمالهم .. انه يؤكد : أن الفقراء ربما يضحون بسعادتهم من أجل الآخرين ، إذا كانت هناك حاجة إلى الرعاية والاهتمام ، خاصة إذا كان الآخرون ضعفاء ، ولا يملكون من وسائل الحماية والأمان ما يكفل لهم الاعتماد علي أنفسهم .. انهم أطفال ( قرية اليتامي). .
ولتأكيد هذا المعني تقول ( رئيفة) مخاطبة أمان :
" إن تركتهم سأعيش العمر أحمل ذنب التخلي عن دور إنساني ، كنت قادرة علي أدائه ، فكيف احتمل ؟ لا ، انك تطلب المستحيل ".
والحوار في مسرحيات ( محمد كمال محمد) مفعم بالمشاعر ، ويعد كاشفا للشخصية ، ويقوم مقام السرد في الرواية ، ويساهم في تطوير الشخصية ، والنهوض بالحدث .. واذكر هنا نموذجا ، ادلل به علي الحوار الكاشف من مسرحية ( المولود مفقود) :
عماد : فاكر يا عوض .. فاكر العلقة اللي أكلوها لي زمايلك وأنا خارج من امتحان البكالوريا ، كانوا بيكرهوك ياعوض ، وشاورو علي وأنت واقف بعيد مستني يقولو الواد السنكوح أهوه .. اللي دخل امتحن لعوض وجاوب كويس .. عوض ها ينجح ابن الكلب .. ولما وقفت أكلمهم وأدافع عنك نزلو في ضرب .. ضربوني ومفيش قضية .. ودافعت ومفيش قضية .. كانت علقة ياعوض !! انت نسيت ! دول ما سابونيش إلا بعد ما وقعت ع الأرض تحت رجليهم ..
وهنا نموذج للحوار الأقرب إلى المونولوج منه إلى الديالوج ، حين تتحاور الشخصيتان انطلاقا من موقف واحد ، نجده حوارا من الذات وعنها ، ثم في النهاية تتلاقى الارادتان ، برغم عدم توافقهما معا ، حيث إن الظروف ساقتهما ليلتقيان بغير اتفاق وبغير انسجام .. حوار يظهر الشخصية ، وكأنها تتحدث عن شخص آخر بينما هي تتحدث عن نفسها ، فيبدو الحوار وكأنه حديث عن النفس ..
كفاية " في الليلة الأخيرة معاه ، كان الصفاء والحب ، فالعهد اللي بيتجدد ، كان متهيأ لها انه حاضنها في قلبه ، كانت مستعدة لاشارة من صابعه لأي شيء ، تطاوعه من غير كلمة ، عمر الدنيا ماكانت ثقة وأمل وأمان زي ليلتها .. دنيتها كانت هوه ( كمن أصيب فجأة بإعياء) وتاني يوم كان الغدر ، كانت السكين الحامية اللي اندبحت بيها ، كانت الضربة الفظيعة اللي نزلت علي دماغها ، وقعت والدنيا بتلف حواليها ، ما بقتش عارفه فين ، لسه عايشه ، ولا ما بقيتش عايشه ، فيه أمل تلقي صبح تاني بعد ليل أسود؟ صبح زي اللي طلع عليها معاه لما عرفته ( تتوقف ناظرة نحو عماد .. تتكلم بطريقة مختلفة ) اللي حب قوي .. ممكن يكره قوي !!
الظروف التي أوجدها الطرف الثالث ( عوض) والذي يمثل تلك الطبقة القادرة علي تحريك الأمور لصالحها ، والقادرة – في الوقت نفسه- علي توظيف احتياجات الآخرين ، وعوزهم وفقرهم ، لتحقيق مآربهم الخاصة ، فيبدو العالم الذي ينتمي إليه كل هؤلاء – الفقراء والأغنياء – عالم المصالح المشتركة بين طبقتين متعرضتين ، خاليا من المشاعر ، ومجردا من الإنسانية !!
ويلجأ في مسرحيته ( حب ) إلى ما أسماه ( توفيق الحكيم ) اللغة الثالثة ، أي اللغة التي تجمع بين العامية والفصحي. وينجح في ذلك ، لأنه يعرف وظيفة اللغة ، ودورها ، وربما كان للقصة القصيرة تأثيرها في إثراء تلك الأداة ، بما يتوافق وطبيعة الكتابة المسرحية ، التي تتطلب حوارا كاشفا ، حوارا دراميا ، يضيف إلى الشخصية ، ويعمقها ، ويوضح الحدث ويطوره.
أمان: أحبهم .. فأنا لا أعرف غير الحب ، لكنني أضيق بشقاوتهم ( يدخل خليفة حاملا القهوة) أخيرا جئت يا أغبر الوجه ، صح النوم ( يزوم خليفة دون كلمة ) .
رئيفة : (مبتسمة) كان نائما بالفعل ، رأيته وأنا داخلة ..
أمان : هات ! ( يتناول فنجان القهوة ، ويخرج خليفة ، يرشف أمان القهوة في تعجل ، ويضع الفنجان علي المنضدة ، ويتناول حقيبته متأهبا للخروج)
رئيفة : إلى أين ؟؟
أمان : إلى الشياطين ! ( تضحك رئيفة ، وينظر أمان نحوها مبتسما ) ذاهب إلى الأولاد .. أولادنا ، متقاربان نحن ، أنا وأنت ، أليس كذلك ..؟
وعن زمن الأحداث في مسرحيات هذا الكتاب ، هناك إشارات تشير إلى الزمن ، وهو الزمن الماضي ، وليس الزمن الحاضر ، وهذه نقطة لا أعرف سببها الموضوعي ، فربما أن هذه المسرحيات قد كتبت منذ فترة طويلة ، ولم يتمكن الكاتب من نشرها في حينه ..
في مسرحية ( المولود مفقود) نجد إشارة إلى حرب فلسطين ، وغارات الألمان بما يدل علي أن زمن الأحداث هو قبل ثورة يوليه 1953 ، وفي مسرحية ( أشياء صغيرة ) نجد إشارة عن القيمة الفعلية للعملة ، فالشرطي يطلب خمسين قرشا سلفا ، والصول يذكر أنه يريد شراء مريلة ( تيل ) لطفلته ثمنها ثلاثة جنيهات !! بما يدل علي أن زمن الأحداث يعود إلى السبعينيات .. ولكن الحدث في مسرحية ( حب) ليس محددا بزمن معين ، وليست هناك إشارات تساعدنا علي هذا التحديد ، وذلك لأن المسرحية تجنح إلى التعبيرية ، وتعالج قضية تتسم بالكلية ، وكما أشرنا ، فان الكاتب يسعي إلى التأكيد علي البعد الفلسفي لمفهوم الحب في المسرحية ..
هوامش :
1- أصدر الكاتب محمد كمال محمد أعمالا كثيرة في مجال القصة القصيرة والرواية منذ بداية الخمسينيات حتى اليوم ومنها :
في مجال الرواية : أيام من العمر - دماء في الوادي الأخضر - الأجنحة السوداء - الحب في أرض الشوك - هزيمة ملك …
وفي مجال القصة القصيرة : الحياة امرأة – الأيام الضائعة – أرواح وأجساد- حب وحصاد – الإصبع والزناد – الأعمى والذئب – العشق في وجه الموت – حصاة في نهر – البحيرة الوردية – نزيف الشمس – سقوط لحظة من الزمان – زائرة الليل .
2- من أعماله المسرحية التي صدرت وعرض بعضها :
لعبة الثعالب – 1985 – الرقص علي الحبال 1987 - الخندق ( من غير ليه ) 1989 -الكل عريان 1990 – حكايات الحي القبلي 1988
- عرضت مسرحيته ( الكل عريان ) علي خشبة مسرح الشباب باسم ( ضيف في بيت الكذابين ) في عام 1989
3- نشرت القصة في مجموعة ( حصاة في نهر ) ثم نشرت في المجلد الأول من الأعمال الكاملة للكاتب في عام 200 – دار زويل للنشر –صفحة 652
4- من هؤلاء الشعراء : نزار قباني - كامل الشناوي - فاروق جويدة - بشير عياد - سمير عبد النعيم - يحي توفيق - إبراهيم صالح - نبيل الفكهاني .