أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محسن حنيص - ابو حالوب















المزيد.....

ابو حالوب


محسن حنيص
(Mohsin Shawkat)


الحوار المتمدن-العدد: 4873 - 2015 / 7 / 21 - 01:44
المحور: الادب والفن
    


أبو حالوب
( نص مفتوح )
...
في آخر زيارة للعراق ألتقيت بأحد الاصدقاء القدامى وطاف بنا الحديث ودرنا على سلسلة المنافي التي أبتلعت العراقيين ( وأنا واحد منهم ) حتى وصلنا الى سوريا . وجدت نفسي اتنهد وأزفر حسرة على هذا البلد الذي مررت فيه قبل ان انتقل الى منفاي في هولندا . الفترة التي عشتها في سوريا كانت كافية لعشق أبدي لهذا البلد وعاصمته العريقة . فجأة انعطف الحديث الى موضوع آخر لم اكن راغبا في الخوض فيه . سألني صديقي :
(( ما هو برأيك مؤشر اقتراب النظام في سوريا من نهايته ؟ ))
اجبت بلا تخطيط و بعفوية الى حد ما :
(( حين يختفي ابو حالوب )).
لم يكن نديمي على علم بقصة ( أبو حالوب ) لذلك ظن انني احاول ان القي نكتة في غير محلها . لكني اكدت له اني لا امزح ولا ابغي ان أؤلف نكتة لا تليق بحمام الدم الذي يجري هناك . تضافر فضوله وشهيتي للكلام الى فتح ملف ابو حالوب الذي كان مجهولا تماما بالنسبة له .
(ابو حالوب ) هو عراقي غادر بلاده عام 1978 في رحلة ليست سياحية , رحلة من نفس النوع التي اعتاد العراقيون عليها: رحلات الذهاب فقط . عبر ابو حالوب الحدود البرية سرا حتى وصل الى دمشق . ولأن سفرته البرية كانت شاقة فقد فكر ان يستريح وينفض تعبه في احدى مقاهي المدينة . سحبته قدماه الى مقهى في وسط المدينة. جلس في اول كرسي فارغ صادفه ( الكرسي الاول على اليسار بعد المدخل مباشرة ) . منذ تلك اللحظة وهو جالس على هذا الكرسي في طقس يومي لم يتغير مرة واحدة. عشرة ساعات يوميا على نفس الكرسي ولفترة لا تقل عن ثلاثين عاما . في هذا المكان وعلى مدى كل هذه العقود من السنين مر كل العراقيين بأبي حالوب قبل ان ينتقلوا الى منافيهم المنتشرة في الأرض .
يقع ابو حالوب في قلب مدينة دمشق : الصالحية , وتحديدا في ( مقهى الروضة ) وفي الكرسي الاول على اليسار بعد المدخل مباشرة .
ان اية محاولة لتعريف او تبسيط اوتلخيص ابو حالوب سوف تبوء بالفشل . والأفضل هو المرور به والجلوس معه وفتح صفحة في سجله . لا يكلفك فتح هذه الصفحة سوى قدح شاي متفق عليه مع أدارة المقهى . يمكن ان اقول دون اي تردد ان سجل ابو حالوب لا يقل عن مليون صفحة في كل واحدة أسم لعراقي خارج وطنه .لا يمكن ان نطلق عليه اسم زبون دائم لمقهى الروضة , لأن الواقع أكثر تعقيدا من هذا الوصف .ان ابو حالوب هو ديمومة غامضة تتجاوز اي مصطلح . أنه ظاهرة غريبة ربما تحتاج الى تدخل من فيزياء الكم . قد يغيب الزبون عن المقهى لاي سبب : مرض, جنازة ,عرس , او ملل , أما ابو حالوب فلم يغب يوما واحدا عن مقهى الروضة طيلة اكثر من ثلاثين عاما . الا يستحق ان يقيد في كتاب غينيس ؟
يصعب على اي عراقي يدخل الشام تجاهله. وحتى لو لم يمر بأبي حالوب فأن وجوده في سجل ابي حالوب شبه مؤكد . تتحرك مجسات أبو حالوب بشكل دائم وغريزي وتربط هذا بذاك . وحين يقيدك في سجله يقيد معك كل معارفك حتى الدرجة السادسة . ومن الناحية التاريخية فأن أبو حالوب هو اقدم من (غوغل) بما لا يقل عن ربع قرن . فأذا سألته : أين باسم ؟ يجيبك : اي باسم تقصد ؟ باسم قهار , باسم المرعبي , باسم حميد , باسم شريف , ام باسم العلي ؟ .
و تعتبر زوجتي (كريمة الفريجي) من اكثر المشككين بصحة رواياتي . وهي ترى ان الفرق بين الكاتب والكاذب ليس اكثر من حرف واحد. فأذا أخذنا بعين الاعتبار النوايا الطيبة ووضعنا الخيال والكذب في سلة واحدة يمكن اعتبار رؤيتها صحيحة الى حد ما . وبمرور الوقت واختلاط الواقع بالخيال اصبح من الصعب علي فرز هذا عن ذاك . وقد انسحبت هذه النتيجة على الكثير من تجاربي ومشاهداتي الحقيقية ومنها طبعا قصة ابو حالوب . بقيت لسنوات طويلة اؤكد لها ان ابو حالوب هو شخص بلحم ودم لكنها لا تصدق وتعتبر ابو حالوب هو خرافة من صنع خيالي . ولكي اثبت لها صحة المثل الشعبي القائل ( يفوتك من الكذاب صدق كثير) كان علي ان أريها أبو حالوب بشحمه ولحمه . جاءت لحظة الفصل حين قمنا بزيارة الى سوريا عام 2009 لرؤية أهلنا بعيدا عن العراق ومفخخاته . اول شئ فعلته بعد وصولنا هو دعوة زوجتي الى تناول فنجان قهوة في مقهى الروضة . وجدنا ابو حالوب في مكانه بالضبط ( الكرسي الاول على اليسار بعد المدخل مباشرة ) . جلسنا على طاولته . وبعد اول رشفة من القهوة بادرته بالسؤال :
(( ماهي أخبار عدنان ؟ ))
أجابني على الفور :
(( أي عدنان تقصد , عدنان الصائغ , عدنان الشلاه , عدنان ابراهيم , ام عدنان حسين ؟ ))
تبادلت النظر مع زوجتي وتركت لها حرية اختيار ال(عدنان) . اختارت زوجتي المخرج التلفزيوني (عدنان ابراهيم) لانه الوحيد الذي تعرفه . اجابها ابو حالوب بتلقائية وببروده المعتاد : عدنان ابراهيم قتل قبل اسابيع. وجدوا اثني عشر طعنة سكين في ظهره . وبدأ يسرد لنا تفاصيل قصته والروايات المختلفة عن اسباب أغتياله وزيجاته الاربع ( آخرهن كانت .الممثلة نورمان أسعد ابنة الفنان أسعد فضة ) . راح ابو حالوب يستعرض تفاصيل وأسماء كثيرة الهبت حماس زوجتي ففتحت لها أذنيها على المصراعين ودفعتها لطلب فنجان قهوة ثان .
ابو حالوب هو سجل دقيق للعراقيين العابرين الى المنافي . دفعت هذه الظاهرة مخرجا مسرحيا مرموقا مثل ( باسم قهار) الى تقديمه كعمل فني بألأتفاق مع قناة الجزيرة .
. ان وصف شكل ابو حالوب : طوله ووزنه ليس هاما . والأهم في ابو حالوب هو ذاكرته . على وجه التحديد عضو الذاكرة : المخيخ , هذه الهشاشة البلغمية التي نتأملها طويلا من خلف زجاج عربات باعة سندويجات الاعضاء غير المحترمة في الاغنام ونأكلها احيانا بتلذذ ( خليط من الفقر والجوع والحس الطبقي) , هذه الكتلة الهشة هي اقرب صورة لأبي حالوب . هكذا يبدو ابو حالوب :مخيخ معبأ بحكايا المنفيين العراقيين .انه المحطة التي لابد من المرور بها قبل الوصول الى المنفى . لماذا هذا الاصرار على الثبات رغم ان كل ما يمر به هو متحرك. كل ما يتداوله من اخبار وأسماء تشير الى الترحال , الى التبدل, ألى الذهاب والغياب , الى الرواح والمجئ , والانتقال المستمر , هذه هي بضاعة ابو حالوب. أنه حكاية المنفى .
هل هو الحكاية كلها ؟ ام هو سجلها. والذين التقوه وأنا واحد منهم يلاحظون أنه لا يتدخل في مايحكيه. ذلك ان وعيه المتواضع لا يصلح ان يسجل سوى الصادرة والواردة لهذا الحكاية المتعددة الأبعاد , وان محاولة اعطائه دورا اكبر من ذلك فيه نوع من الاحراج له . المرجح لدي انه احد الرواة الثقاة , انه لا يعرف الكذب ليس بسبب ميله للصدق ولكن لأفتقاره الى الخيال , ولهذا استبعد من جميع كتب الصحاح . ولكن هذا هو الضروري في بعض الاحيان .
وجد ابو حالوب نفسه قبل ثلاثين عاما ينتقل من بغداد الى الشام واول شئ فعله هو الجلوس في اول مقهى صادفته , وظل يداوم على الكرسي ذاته طوال هذه السنين وانتهى الامر . الغريب انه لم يصب بأي مرض من امراض الجلوس المتواصل مثل الفقرات او الروماتزم . اما السأم فقد ظل بعيدا عنه . بل اكاد اجزم انه لا يعرفه . وهذا ما حيرني ودفعني احيانا للتشكيك في مصداقية علم النفس . ابو حالوب هو الشخص الوحيد المختلف في قصة المنفى . انه الوحيد الذي لا يريد مغادرة مكانه . وفي الوقت الذي كانت تعصف بابطال حكايتي كل عصاب الترحال وهستيريا اللجوء, كان هو ينقل هذه الهستيريا بأمانة وبلغة باردة .وضعني ابو حالوب في مواجهة صريحة مع ظاهرة الملل , الملل هذا القانون الذي يشمل موجودات الكون بما فيها الله نفسه .الم يخلق الله الانسان بدافع السأم ؟ فلماذا لا يمل ابو حالوب ؟ كانت هذه الاسئلة تدور في مخيلتي على الدوام وانظر من خلالها الى هذه القطعان من البشر التي لا تشبه ابو حالوب . الذين يتقاتلون من اجل الوصول الى أي شئ آخر : مكان آخر , مدينة اخرى , بيت آخر , رفيقة اخرى , بلد آخر. كل شئ يتبدل الا ابو حالوب . يظل ابو حالوب في كرسيه العتيد يتحدى قوانين الطبيعة والعراقيين جميعا . يتحدى ديانة العالم الثالث التي تتلخص بالوصول الى امريكا او استراليا او كندا او اوربا .
هل كان ابو حالوب وكيلا للمخابرات السورية ؟ هذه الرواية سمعتها ولكني استبعدها لسبب بسيط هو ان ابو حالوب لم يؤذ احدا طوال هذه العقود من السنين . وهي في الواقع رواية ضعيفة اعتدنا ان نفسر من خلالها الظواهر الغريبة في مجتمعاتنا الفقيرة بالاستثناءات , الفقيرة بالخراف الشاردة من القطيع . كل ماهو غريب هو من صنع المخابرات هذه هي العقلية السائدة .
لا توجد رابطة بين ما يرتكبه النظام السوري وابي حالوب , ذلك انهما من طينة مختلفة والفرق بينهما هو نفس الفرق بين وحيد القرن والنملة . ولكن هناك شئ واحد يجمعهما للأسف :أختفائهما المتزامن . ان حدسا قويا هائل الوقع يضغط علي الآن بقوة يؤكد لي انهما سيختفيان في وقت واحد . لا يهم من سيختفي اولا , لكني املك شعورا عارما يقول لي ان اختفاء احدهما يتبعه بشكل فوري وتلقائي اختفاء الآخر . ارجو ان لا يكون كلامي هذا حافزا للمعارضين السوريين لتصفية ابي حالوب لأنهم بذلك يرتكبون خطأ شنيعا
لقد تأكدت من هذا الأقتران ( بين مصير النظام السوري وأبو حالوب ) من خلال شواهد يصعب المرور دون التوقف عندها . ففي زحمة الصراع الدموي المحتدم في هذا البلد حاول ابو حالوب البحث عن مقهى بديل خارج سوريا . فلم يجد امامه سوى مدينة اربيل الكردية متخذا من مقهى ( مجكو ) مقرا له . التقيته هناك فوجدته قلقا وعاجزا عن الاستقرار على التخت الكردي , ولكي يخفف هذا القلق تحولت حياته الى زيارات مكوكية بين أربيل ودمشق . هنا وقفت مندهشا ومذهولا امام الوقائع . فحينما يكون ابو حالوب في مقهى ( مجكو ) يتقدم الجيش الحر وجبهة النصرة والدواعش ويتقهقر الجيش السوري وحليفه حزب الله . ولكن حالما ينتقل ابو حالوب الى الشام ويجلس في مقهى الروضة يستعيد الجيش السوري كل المدن التي فقدها ويزيح خصومه. وسواء كان ما يجري هو صدفة او اقتران . فان تكراره بالنسبة لي أمر يصعب تجاهله . .
وقبل ان اختم مقالي . انتهز هذه الفرصة لأوجه نداءا الى ادارة مقهى الروضة للتعجيل بأخذ قالب جبسي لأبي حالوب لأن تمثاله في مدخل المقهى سيكون أمر شبه بديهي وسيوفر للمقهى دخلا أضافيا . سوف يتحول ابو حالوب بالضرورة الى معلم سياحي ومزار لجميع العراقيين الذين مروا على دمشق في طريقهم الى المنافي .
_________
محسن حنيص
كاتب عراقي مقيم في هولندا



#محسن_حنيص (هاشتاغ)       Mohsin_Shawkat#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عقلية السجاد الايراني
- مصحف الملكة نفيسة
- الجوع الاردني
- العوق الروحي
- كل ما هو صعب المنال
- ستوديو جليل - نص مفتوح جدا-
- جمال ( أبو منقار)
- عرس عماد مياسة
- خمسة أعراس لم يرقص بها أحد
- باص ابو راضي - نص مفتوح جدا -
- وأيده بجنود لن تروها


المزيد.....




- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...
- تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر ...
- سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
- -المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية ...
- أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد ...
- الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين ...
- -لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
- انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محسن حنيص - ابو حالوب