|
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : أنا النهاية أروي لأبقى
عبدالله عيسى
الحوار المتمدن-العدد: 4870 - 2015 / 7 / 18 - 10:26
المحور:
الادب والفن
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب : أنا النهاية ، أروي لأبقى في رثاء المناضلة نهاية محمد عبدالله عيسى * لم نعد ، كلّنا : نحن المائلين على صناديق السلالة حيث رائحة مفاتيح بيوتاتنا القديمة في فلسطين لم تصدأ بعد وحيث ملامح السلالة في الصور لم تذبل بعد فيها ، لتحرس أجسادنا بحلم عودتنا من مجزرة طائشة أو هجرة تربك التاريخ ِو تؤرق الجغرافيا ، لم نعد ، كما كنا تماماً قبل أن يزورنا هذا الموت بكل ذاك الدمار المبين ، نرى ظلّ نهاية محمد صاعداً أدراج إقليم سوريا في قلب مخيم اليرموك ، وهي ترتب على جدرانه ، وكانت أيضاً في الطريق إليه في الحواري والأزقة التي ضاقت كالأرض كاملة على حلم الفلسطيني ، صور الشهداء وتتفقد ابتساماتهم ونظراتهم وأسماءهم واحداً واحداً : خالد نزال ، عمر القاسم ، وآخرون جميلون في مرايا الذاكرة . ولم تقل لأحد منّا أن الفسحة التي بقيت ، ككسرة سماء تطل على عتمة السجن ، بين الشهيدين تليق بها تماماً ، لنتفقد نحن ابتسامتها ونظرتها في مرايا ذاكرتنا وهي تروي لنذكر : أنا نهاية . أصغر شقيق وشقيقتين ، لأب يشبه جدنا الكنعاني الذي وحّد الآلهة باسم الإله " إبل " لتكنى به ملائكة مثل جبرائيل واسرافيل وعزرائيل ، وشعباً مثل " اسرائيل " خرج من تلموده القديم بوصايا رب الجند مدججاً بالحقد المقدس ليقترف بنا التقتيل والتشريد ، وأمٌ ، سليلة أمنا الكنعانية تعلم حكمة شعبها للنحل كي يصنع العسل ، وللشعوب المجاورة صناعة السفن والصباغة ، ِو للبداوى فن تربية المواشي . على أرضهما تزوجا ، ذاك العامل القويّ كسورعكا القادم من لوبيا في الجليل ، وتلك البسيطة كماء طبريا حيث عاشت . أشبه بقطرتي مطر توحدا ، قبل أن يأتي العابرون الجدد ويفسدوا حلمهما بمنع الأمم من الانقراض بتعليمها فن غناء الميجنا والدبكة والتطريز ونشيد شعبهما الطويل كحنين بحارة فينيقيين انتسبوا لبطولة الرواية الفلسطينية . لم أجئ إلا لأحلم كي أعود . أنا نهاية . حملتتي أمي في بطنها ، على امتداد درب آلامها الطويل ، ككل أعضاء السلالة الفلسطينية ، مذ رمى العابرون حقائبهم على أسرّتنا التي هجرونا منها مؤولين بغريزة القتل المقدس ، من طبريا إلى بيت جبيل جنوب لبنان حيث ولدتني ، لا كما ينبغي أن تلد الأمهات . وحملتتي ، لا كما ينبغي أن يُحمل الأطفال في المهد ، من صيدا إلى الشام ، وصُرة لجوئها على ظهرها ، فيما يعتصم بجسدها الماضي إلى غده اللاجئ في بلاد غريبة أخوتي عادل واعتدال ووداد . لم يكن لي وطن لأقصّ عليه مفردات طفولتي ، ككل أطفال الأرض ، إلا ما تسرد ذاكرة السلالة ، في مكان ما في أرضٍ ما ، كان يمكن أن يكون مَنْسياً لولا حلولنا فيه، نحن الأحياء الذين نبقى نحلم كي نعود سمّوه مخيماً ، وسمٌونا ، لنظل قابضين على جمرة الحلم بالحياة كي نعود ، لاجئين . ولأنني ما أزال أحلم ، أروي سيرتي تلك في مرايا عودتي المنقوصة إلى وطني المنقوص ما يزال في الضفة الغربية ، بالعودة كاملة إلى وطني كاملاً من غير سوء : جيء بي ، وأسرتي التي التحمت بعائلات فلسطينيات لاجئات من أرجاء فلسطين الممتدة ، إلى حيٌ ، أقلّ من مخيم وأوسع من مقبرة جماعية ، على مقربة من طلعة الشيخ محي الدين بن عربي ، ألماً على ألمٍ ، وفقراً على فقرٍ ، لتضيق الأرض بما اتسعت على أجسادنا المكلومة بالحنين إلى الوطن الأم وحلم العودة إليه . أنا تلك الصبية ، بملامحي السمراء كاملة الأوصاف واسمي واضحاً كحزن نبي غريب في أهله ، ألمّ ، بذراعي ّ الذين لم يبلغا بعد الرابعة عشر ، أقراني في المدرسة ، حولي لنردد النشيد الذي كان عالياً على قاماتنا الصغيرة " تحيا الوحدة الناصرية " بين سوريا ومصر ، وكنا قد ظنناها بوحي حلمنا ، طريق عودة إلى فلسطين . وأنا تلك التي تصطحبني أمي برفقة الأمهات الفلسطينيات الأخريات لانتقاء الهندباء والخبيزة والمشمش والجوز ، وتشيّعني للعمل مبكراً ، بعد وفاة الأب مصطفى محمد المبكرة ، في شركة الكونسروة في شارع بغداد الدمشقي ، لسدّ أفواه حوصلاتنا الجائعة ، ثم فيما بعد للالتحاق بالعمال في معمل سيرونيكس لتجميع التليفزيونات ، ولم يكن أحدها في بيتنا ، لدرء عبء نفقات تحصيلي العلمي في كلية الحقوق عمن سواي . وأنا تلك نهاية طالبة البكالوريا في ثانوية التجهيز التي يركض ظلها برسالة من جورج حبش المتحفي في شارع بغداد ، وقد أخفيتُها في نطاقي ، إلى رفاقه المناضلين التاصريين في حركة القوميين العرب المتخفيين مثله عن أنوف المخبرين وعيون العسس في باب توما . لم يرَ أحد ، مثلي ، ظلي ذاك مرتعشاً في مدرسة البنات الأولى في الميسات ، أعلى " المزرعة " وأسفل الشيخ " محي الدين " ، والحرب على سوريا في سوريا تدخل الأمكنة والقرى لتفسد الحياة فيها . وأنا أعلق مجلة الحائط بخطوط ممهورة بألوان العلم الفلسطيني ، وأناصر ، بالفكرة التي تعلو على جسارة الروح وحنكة الصوت كي لا يعرفه المخبرون ِو يقتادونه ألى عتمة السجون ، الفكر الوحدوي الناصري ، وأفكار ساطع الحصري وعبد الرحمن كواكبي القومية التحررية آنذاك ، والأدب السوفيتي كروايات الحرب العالمية العظمى ، والأم ، وعشرة أيام هزت العالم ، وسواها . وكنتُ أروي كي أَذكّرَ أن الفلسطيني الذي ما يزال يدقٌ الخزان يبقى يهزّ العالم ببطولة تراجيدياه ، ويخيل لي أن على جون ريد الذي هزٌ العالم بتأملاته في شعلة ثورة أكتوبر أن يأتي إلى مخيماتنا في الشتات أو بيوتنا الصامدة بأهلها تحت الإحتلال ليؤسطر الملحمة الفلسطينية ، وأن الأمّ ، أي أم فلسطينية ، تكتب أسطورتها الخالدة ، كتلك الأم الذي أرّخ لحكايتها غوركي في روايته . وأنا ، أسوة بجدتنا الكنعانية التي حرست بفائض صبرها وفيض حكمتها حلم شعبها ، لا أكتفي بتعليم الرياضيات في مدرسة فرادة في مخيم سبينة ، فأواصل قصٌ رؤياي على الكواكب والشمس والقمر الساجدين لبطولته ، كما لبطولات مخيمات اليرموك وخان الشيح والنيرب وجرمانا والسيدة زينب والعائدين ودرعا وشقيقاتها ، أن المرأة الفلسطينية حارسة حلم العودة والإستقلال الأبدي ، بالزغرودة والميجنا والدبكة ، أجمل ، ككل أعضاء سلالتها ، في مرايا التاريخ الإنساني من مزامير قاتل شعبها العصريّ . وكأن ظلي لا يزال هناك في مكتب إقليم الجبهة الديمقراطية ، على مقربة من مقبرة الشهداء ، يقرأ الفاتحة و يحرس غفوتهم ، ويذرع أزقة المخيمات ، بصحبة نساء المخيمات اللواتي صرن امرأة واحدة ، نحض الرجال على البطولة ، ونحيّي على حلم العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة . كُنتُ أروي في مراياي شيئاً ، فيصاب بئر البيت القديم بالحزن ، مثلي : وكأنني حسبتُ أن المكان المتسع لصورتي بين الشهداء المبتسمين ، الحالمين ، أبداً مثلي ، سيبقى لي فوق جدران هذه المخيمات التي شئنا أن تصير متاحف بعد عودتنا تروي سيرتنا على الرواة والعصاة والطغاة ، قبل أن يزورها الموت والدمار ويعبثان بحلم الحياة ، وحياة الحلم بالعودة فيها . وأنا هي ، نهاية محمد ، حاملة ، وحارسة ، حلم العودة إلى الوطن ، لم أتمهّل الأبد الذاهب بي إلى غده ، والعمر ، عمري ، المرفوع على نشيد العودة في درب آلامنا الطويل ، لأعود إلى الجزء الممكن من وطني المحتلّ . وكأنني عدتُ ، ولم أعد . ظلالي هناك في مخيمات اللجوء تذكّر بي هنا ، في رام الله ، وعلى مقربة من القدس ، حيث السماء قربية من قلب الرب . الحجارة التي تحتفظ ما تزال برائحة ظلال أمنا الكنعانية التي أشبهها ، لا تشير إلى أثر عابرٍ لأولئك العابرين الذين خرجوا ، بأحفادهم ، من العهد القديم ، ليمحو أسماءنا وأجسادنا المتوحدة أبداً بالمكان المقدس ، وطننا الأصلي . وكما هناك ، في أزقة المخيمات والبيوتات التي ضاقت على ساكنيها ، حيث أحفظ أسماءهم واحداً واحداً ، وأوصاف شهدائهم واحداً واحداً ، وسيرة أحفادهم واحداً واحداً ، حفظت ، هنا ، ملامح المكان ، وانحناءات طرق البلدات التي تصل أرحام القرى برغبة إلهية ، ومواقف المواصلات العامة ، وأصوات الباعة أيضاً ، وكذا أسماء القرى المدمرة في الوطن كله، والروح البشري الفلسطيني التي ترفعه مع الصلوات لتحرس به تعاليم الرب وأجنحة الملائكة بين طائرات الأعداء العمياء ورصاص المستوطنين المدججين بغريزة القتل المقدس . وكأن قرية زوجي في الضفة غدت العتبة التي أطل بها على الوطن ، ومن عتباتها يبدأ العالم . وكأن الآل : الأم والأخوة والآخوات وأبنائهم وأحفادهم الذين ينوفون على المائتين أوراق مخضبة بروح الرب في غصن فرعه في السماء ، من شجرة السلالة - العائلة الفلسطينية الكبيرة والتي جذعها متوغل في الأرض - أرضنا هذه ، ليمسك العالم خشية أن يقع . وأنا نهاية محمد تركت لكم ، فيما تركت ، لتذكروا : قصاصة ورق رسمت عليها زهرة الدحنون وكتبت تحتها بماء الروح : " يداي اللتان لم تعتادا زرع الشوك أبداً سوف تبقيان ترسمان الورد وتخطان الأمل . للورد والصفاء نذرت نفسي وللحياة الصادقة وللمحبة تهفو روحي . سوف تبقى الوردة رمزاً أتوق إليه في كل الأحوال و الأزمان ". أنا نهاية محمد . كأني سمعت أحداً منكم يغني ، أو كلكم ، تغنون لي " مالت مالت مالت وحق النبي مالت سمرا يا نهاية ردي العصبة مالت " وها أنذا أردها . * شاعر فلسطيني مقيم في موسكو .
#عبدالله_عيسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سفير فلسطين في روسيا عبد الحفيظ نوفل في يوم القدس العالمي :
...
-
المالكي في موسكو : الشعب الفلسطيني فرض شرعيته
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يرثي - نهاية - الكنعانية
-
دفاعاً عن السلطة والمنظمة ، دفاعاً عن فلسطين
-
كمن ينتظر الأبدية خلف السياج
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب تحية للشاعر الفلسطيني الم
...
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب عن معلولا
-
الشاعر الفلسطيني عبدالله عيسى يكتب في الذكرى 67 للنكبة
-
في ذكرى النكبة : ولهذا ما زلنا أحياء
-
الساكت عن الإرهابي إرهابي أخرس
-
السيد الرئيس : جل ّشعراء وكتاب فلسطين في الموسوعة الروسية إس
...
-
التحالف الأصولي الإنجيلي - الإسلامي : الغاز أم الدم العربي
-
إذا لم تبك ِ ، حاول فحسب ُ
-
لا يفتى والمالكي في المدينة
-
أنا والسيدة أم كلثوم
-
محمود درويش . شعرية الخلق الجمالي
-
من وصايا فوزية العشر
-
بابا الأقباط : لن أدخل القدس إلا محررة
-
قبل وإبان وبعد حرب غزة . وكلاء - المقاومة - : الجدار العنصري
...
-
سميح القاسم : وما ذاك موت
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|