|
الجريمة الفضيحة
إقبال الغربي
الحوار المتمدن-العدد: 1344 - 2005 / 10 / 11 - 13:00
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
عندما نقرا كتاب "ميشال فوكو" المراقبة و المعاقبة يصدمنا وصفه الدقيق لمشهد تعذيب وإعدام المسمى داميان المتهم بجريمة قتل أبيه و ذلك في ساحة"غريف "العامة. و من خلال هذا الاحتفال العقابي ومن وراء هذا المخزون الهائل من الهول والرّعب عندما يعيد "فوكو" إحياء فصول التعذيب و إيقاع التقطيع والتمزيق في لحم السجين وأطرافه. فهو يبين لنا كيف يتنزل الجسد تنزيلا مباشرا في مجال السياسة وعلاقات السلطة التي تنکل به وتبالغ في وصمه لتدعم مقوماتها وتعيد إنتاج ذاتها. فهذه الشعائر المنظمة والعلنية التي تقنن الآلام والأوجاع لها وظيفة محددة في مجال التكنولوجيا السياسية للجسد. إنها تجسد مراسم إعادة إقرار السيادة بعد تجريحها في لحظة ما. فمشاهدة الجسد المعذَّب تعيد الاعتبار والتوازن للسلطة القائمة والتي تجرّأ احد الأفراد علي اختراقها والتمرد عليها. صراخ المعذّب هو الذي يعيد إليها التوازن المفقود ويبرزها من جديد في كل هيبتها و تألقها و توهّجها.
بيد أن فوكو يبيّن لنا أيضا كيف تلاشى المشهد العقابي عبر التاريخ وكيف تم إخفاء الجسد الضحية، وإقصاء مشاهد المعاناة، من آليات العقاب والقصاص. وتتالت الإصلاحات الجزائية في الغرب وتحولت إلى آليات إصلاحية أكثر لطفا وعقلانية. بل و قد تعددت الوسائل العلاجية النفس اجتماعية للإحاطة بالفرد المنشق عن المعايير الاجتماعية و تاطيره و إعادة تأهيله.
و بينما تسير الإنسانية من الهمجية إلى المدنية وترتقي من المعاقبة الفظّة إلى تقنيات المراقبة والانضباط، وبينما بدأت بلدان العالم بالالتفاف حول موقف جمعي لبعض المفاهيم الرئيسية و المهمة المتعلقة ببقاء الإنسان و الإفصاح الواضح لاستقلالية الفرد بحقوقه الخاصة و هو ما أدى إلى إلغاء عقوبة الإعدام و إلغاء التجريم القانوني للممارسة الجنسية نسمع من حين إلى أخر بجرائم شرف شنيعة تقشعر لها الأبدان يقوم بها بعض الأفراد و تهلل لها و تكبر المجموعة التي ينتمي إليها هذا الفرد. و تمثل هذه الجرائم التي تقع وسط هستيريا جماعية تحول الاغتيال الى عرس حقيقي تنطلق فيه الاناشيد و الزغاريد خطرا داهما على حياة النساء.
بل و الأغرب من هذا أن الأصولية المتطرفة تريد النكوص بنا إلى غياهب البربرية وتطمح إلى نفض الغبار عن عقوبة الرجم اللاانسانية و تطبيقها في حالات "جرائم الشرف" . وتتباهى فرق منهم بهذه الممارسات البشعة وتبثها على شبكة الانترنيت كاستفزاز صارخ للرأي العام العالمي ولتأجيج مشاعر الرعب من العرب و "الاسلاموفوفيا" (أي كره الإسلام) .
طقوس الرّجم في الممالك "الإسلامية" تقع في ساحات عامة محتشدة بالمشاهدين و تتمّ تماما بالمواصفات التوراتية : تُطمَر الضحية في الأرض حتى العنق لكي لا تتمكّن من الفرار، وترجم حتّى الموت. ويشهد جميع السكان طقوسَ تنفيذِ حكم الرّجم، لكن الرّجال وحدهم يحقّ لهم أن يرجموا بحجارة ليست كبيرة بحيث تُقتَل المرأة مرّة واحدة، وليست صغيرة بحيث لا تؤذيها. لأن الهدف من العملية هو إلحاق ألم فظيع بالمرأة قبل قتلها، للانتقام منها ولإرجاع الإهانة الأخلاقية لها. ولإبرازها مغلوبة ومحطّمة لأن الثأر لـ" الشرف الرفيع" يجب أن يُدوَّن في قلوب الناس ويُستَبطَن في أعماقهم.
خلال شعائر الرجم الفظيعة، يبدأ الحاضرون بقذف الحجارة حسب مراتبهم ومكانتهم الاجتماعية: الأب ثم الأخ أو الابن ثم الشخصيات المحلّية. وتدوم هذه القتلة الهمجية 30 أو 50 دقيقة، وللتأكيد من موت الضّحية يُسحَقُ رأسها بحجرٍ كبير. ويبدو أن جذور هذا الحكم الدموي والمتشنج تعود بعيداً إلى الحرب القديمة بين النظامين الأبوي والامومي في العصور البدائية. كما انه يجسّد إنتصار قانون النظام الأبوي المتسلط الذي كان يريد إرساء "اسم الأب" أي سلسلة النسب الذكوري و الذي قَطع جذريا مع الأخلاق الأمومية الطبيعية و المرنة.
طبعا في هذه البقاع التي تُطبّق الحدود، يقدَّم حكمُ الرجم بشكل طبيعي بديهي لا يقبل النقاش. فهو حدّ إسلامي وبالتالي فهو مستغنٍ عن كل برهان لأنه حكم "شرعي" متعالي عن التاريخ كان دائما موجودا وسيظل موجودا هكذا إلى الأبد. وبهذا التضليل المنظّم يُخفَى سرّه وأصوله الماقبل إسلامية وملابسات بروزه.
فنحن مثلا لا نجد في القرآن الكريم أثرا لحدّ الرجم البربري، ووجوده في القرآن ولو لبضعة أيام مشكوك فيه، وعلى أية حال فهو غير موجود في مصحف عثمان (ر) الّذي وصل إلينا.
ولم ينص القرآن الكريم إلا على ثلاثة حدود للزنا ليس الرّجم واحداً منها : الحدّ الّذي ذكرته الآية 15 من سورة النساء أي سجن الزانية مدى الحياة إلى أن يجعل اللّه لها سبيلا بالوفاة أو بالعفو عنها. وما يعزّز نيّة العفو على السجينة في الآية هو الحدّ الثاني الأخفّ الّذي نصّت عليه الآية 16 من نفس السورة القائل بأذى الزانية أو الزّاني مادّيا ومعنويا، "واللّذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما فإن اللّه كان توّابا حكيما".
والعقاب القرآني للزّنا بالسجن المؤبّد أو بالأذى متوقّف على توبة الزاني أو الزانية التي تلغيه. وسياق الآيات التالية التي توصي الرّجال رفقا بالنساء تأكيد لا غبار عليه لإيقاف التوبة لحدّي الزّنا، وأغلب الظّن أننا بهذه الآيات الكريمة من شريعة الرّحمة يمكننا تجاوز الحدّ الثالث الّذي نصّت عليه الآية 2 من سورة النّور وهو جلد الزّاني والزانية مائة جلدة.
ولأنه من السهل تلفيق تهمة الزّنا ضدّ أي امرأة وإدانتها، فقد وضع القرآن شروطا تعجيزية لإقامة هذا الحدّ، إذ فرض على الزوج أن يُحضِرَ أربعة شهود لإثبات دعواه وأن تكون هذه الشهادة بالتصريح لا بالتلميح ولا بالكتابة. كما أن من هذه الشروط أن يعترف الزاني على نفسه أربع شهادات ولا يتراجع في أقواله فان تراجع في أقواله لا يُطبّقُ عليه الحد مثلا. وقد أثار تحريم القرآن على الزوج حقه التقليدي في قتل زوجته دفاعا على الشرف سلسلة من التساؤلات القلقة خاصّة من طرف المعارضة. فهذا قتادة يسأل نبيّ الإسلام مستفزّا: "ماذا أفعل إن وجدت رجلا يضاجع زوجتي يا رسول اللّه"؟ فينزل عليه الرّد كالصاعقة: "إن استطعت أن تسترها ببرديك فافعل"!
وفي هذا السياق تبدو لنا روايات الرّجم في عهد الرسول (ص) "غير جديرة بالثقة" كما تصفها دائرة المعارف الإسلامية. لأن شريعة محمد (ص) هي الرحمة والمغفرة.
طبعا لا داعي ليكون المرء خبيرا في علم النفس ليرى بصمات" مركّب أوديب" ورواسب "عقدة الخِصاء" في إصرار البعض على اختراع إسلام جديد مضاد للإسلام وعلى تطبيق حدٍّ غير موجود في القرآن لتصفية مخاوفهم اللاعقلانية وانفعالاتهم اللاشعورية تجاه المرأة.
وبما أن مبدأ احترام الذّات البشرية مبدأ لا يقبل التجزئة، فكيف يمكننا رفضُ القهر وأنواع المظالم التي يعيشها شعب فلسطين وأطفال العراق والتنديّد بالقصف البربريّ الّذي يتعرّض له المدنيون في أفغانستان والنضالَ ضد كل الانتهاكات، ومع ذلك التواطؤ مع هذه العقوبات البدنية، من رجمٍ وقطع لليد وجلد و ضرب غير مبرح للمرأة...؟
قطعا العنف غريزي في الإنسان. وقانون الثأر الهمجـي والانتقـام مـن الجانـي: "النفس بالنفس والسن بالسن والعين بالعين" قد وقعت صياغته منذ القرن 18 ق.م في مدوّنة حمورابي البابلي. لكن هذا لا يجعل من السادية فطرة و لا من العدوانية شرعا ومنهاجا.
لأن التحكّم في الغرائز البدائية هو ما يلخّص مسيرة البشرية من الحيوانية إلى الإنسانية من الطبيعة إلى الثقافة، ومن الهمجية إلى الحضارة.
#إقبال_الغربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العنف ضد المرأة ׃ﻫﺫه المجزرة الصامتة
-
إذا لم نغير ما بأنفسنا سيغير العالم أحوالنا
-
الصيف و الحجاب و شاطئ البحر...مداخل نفسية لفهم المشروع التوت
...
-
المرأة التونسية منعت تعدّد الزوجات منذ 9 قرون
المزيد.....
-
#لا_عذر: كيف يبدو وضع المرأة العربية في اليوم العالمي للقضاء
...
-
المؤتمر الختامي لمكاتب مساندة المرأة الجديدة “فرص وتحديات تف
...
-
جز رؤوس واغتصاب وتعذيب.. خبير أممي يتهم سلطات ميانمار باقترا
...
-
في ظل حادثة مروعة.. مئات الجمعيات بفرنسا تدعو للتظاهر ضد تعن
...
-
الوكالة الوطنية بالجزائر توضح شروط منحة المرأة الماكثة في ال
...
-
فرحة عارمة.. هل سيتم زيادة منحة المرأة الماكثة في البيت الى
...
-
مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %
...
-
نيويورك تلغي تجريم الخيانة الزوجية
-
روسيا.. غرامات بالملايين على الدعاية لأيديولوجيات من شأنها ت
...
-
فرنسا: مئات المنظمات والشخصيات تدعو لمظاهرات مناهضة للعنف بح
...
المزيد.....
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
-
مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية
/ رابطة المرأة العراقية
-
اضطهاد النساء مقاربة نقدية
/ رضا الظاهر
-
تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل
...
/ رابطة المرأة العراقية
-
وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن
...
/ أنس رحيمي
المزيد.....
|