|
أولادي ( نشيد القدر ) قصة طويلة .
محمود شاهين
روائي
(Mahmoud Shahin)
الحوار المتمدن-العدد: 4867 - 2015 / 7 / 15 - 16:17
المحور:
الادب والفن
حصار. حصار.. حصار.. ثلاثة أشهر من الحصار المميت ، وأم محمود تتقلب في مخيم الدهيشة على نار . نار حقيقية . ف عقبة وابنه وزوجته محاصرون هناك مع المحاصرين في مخيمات لبنان . لم تعد قادرة على النوم ، حتى أن جفنيها استحالا على الإغلاق ! من اين سيأتيها النوم ؟ وكيف يأتيها وتسمع أن المحاصرين أكلوا لحم الحمير والبغال والقطط والجرذان ، وشربوا البول والماءالآسن . عشرات الأطفال ومئات الرجال والنساء ماتوا جوعا أو قنصا . البيوت تهدمت والناس يتكدسون في الملاجىء دون نور / دون هواء / دون ماء ، دون أي شيء على الإطلاق ! يا ربي !وتلطم أم محمود صفحتي رأسها براحتي يديها ، ثم تزم قبضتيها وتدق صدرها ، وصورة عقبة وزوجته وابنه لا تفارق مخيلتها
... وتطول أيام الحصار . تطول ليطول معها عذاب أم محمود ، ويعجز العالم كله عن إدخال مؤونة ومساعدات إلى المحاصرين . تفقد أم محمود كل مقدرتها وجبروتها على الإحتمال ، فتقرر الذهاب إلى لبنان مصطحبة صفيحتي زيت وزيتون ، وعلبتي حليب وبضعة ارطال من الطحين . أيقظت ابنتها قبيل الفجر، وخا طبتها بلهجة حاسمة < خلص يا بنتي ما قادر أصبر ، لازم اروح ، إما أحيا معهم وإما أموت معهم > هبت فاطمة على غير هدى < يا ويلي يا حسرتي كم مرة قطعت هذا الطريق من الدهيشة إلى مخيمات الشتات > غير أن أم محمود لم تجادل ونهضت من فورها قاصدة بيت المختار ليخرج لها تصريح زيارة . قبلت فاطمة واولادها عشرات القبل ، وراحت توصيها قبل أن تسلم نفسها لسيارة الأجرة التي ستقلها إلى الجسر < يمه يا حبيبتي الدنيا فيها حياة وموت ، ديري بالك على اولادك ، مش كل ما أجت دورية لليهود عالمخيم يطلعولها بلحجار ، الكف ما بيلاطم مخرز يمه ، الأولاد بيرجموا اليهود بلحجار واليهود برموهم بالرصاص ! الله يكسرهم ويهد حيلهم ، ويضيق الدنيا في وجوههم ، يكفي راح فيها جهاد يا بنتي ، بلاش يروح نصر وسرحان . برا وبعيد الموت لعدوينهم إن شاالله > أسلمت أم محمود جسدها إلى السيارة . انطرحت في المقعد الخلفي وشردت ، شردت ، شردت : ( ألله يرحمك يا بو محمود ويجمعني معك في الجنة ! ألله ما ينسيني اليوم إلي أجو فيه بجثتك محمولة على الكفوف بعد معركة القسطل عام ثمانية واربعين ، قالوا لي إنك استشهدت جنب القائد عبد القادر الحسيني ، اعتزيت فيك يا بو محمود ، ورفعت راسي وزغردت ، مثل ما رفعت راسك لما استشهد أبوك عام ستة وثلاثين . شمخت يا بو محمود شمخت ، وأقسمت أمام جسدك بأن يسير الأولاد على دربك لما تتحرر البلاد . بعد كم سنة صار محمود رجل مثل الجبل يا بو محمود ، اندلعت الثورة في غزة ، أطلعت بارودتك من المخبأ وقلت له < يله يا ابني على درب أبوك ، تأخرت كثير ! إن استشهدت ابنك بيكمل طريقك ، الله يحرسك ويوقف معك > وبوسته وودعته ، وراح يا بو محمود . راح . غاب غاب وما رجع . سنة سنتين وما رجع ، صارت حرب الستة وخمسين وخلصت الحرب وما رجع ، وانسحب اليهود من غزة وما رجع ، قلت راح فيها يا بو محمود ، وبتعرف قلب الأم يا بو محمود ، قلت اروح أدور عليه ، سافرت لمصر ومن مصر لغزة يا بو محمود ، شو بدي أحكيلك لحكيلك يا بو محمود ، دورت ، سألت ، استفسرت ، دلوني على شاب كان رفيقه ، رحب فيه وصار يبكي يا بو محمود ، . قلت له :< لا تبكي يا بني ألله يرضى عليك ، أنا حاسة أنه محمود بسلامته استشهد بس بدي أطمئن يا ابني ، إن كان محمود رجل ، إن كان بطل ، إن كان جبل مثل الجبل يا ابني ، ولا كان نذل وطى راس أمه ؟! > ومد الشاب إيده إليه وصرخ فيه < كان محمود أسد ابن أسد ، بزنده يشيل جمل ، وبصدره ينطح بلد ، ابسمته يطل الفجر ، ابضحكته يزخ الفرح ، وبخطوته يهز الأرض ، بجلسته يحل الأنس ، بغيبته يعم الحزن وبطلته يقبل مدد يقبل مدد > وزغردت يا بو محمود ، وزغردت يا بو محمود، وزغردت يا بو محمود . قلت للشب < وين استشهد يا ابني > ؟ أخذني للصحرا يا بو محمود . وقف جنبي وأشار لرجوم كثيرة فيها . قال لي < شايفة هذي الرجوم يا خالتي > قلت < شايفها يا بني > قال < هذي كلها قبور دفن فيها اليهود آلاف الشباب > وسكتت يا بو محمود وراح الشاب يحكي : < كان اليهود يجمعوا كل يوم مئات الشباب ، ويوخذوهم إلى أماكن مجهولة يا خالتي ، وفي يوم واحد أخذوا ألف وثمانمية شاب ، كان محمود بينهم ، محمود ما يستسلم ، لكنه كان مصاب بجروح خطيرة ، أخذوه من البيت إلي وجدوه فيه ، ومرت شهور وما عاد حدا من الشباب ، وما عاد حدا من إلي اخذوهم قبلهم وبعدهم . وبعد انسحاب اليهود من القطاع ، عثر أحد الناس على ساق اصطناعية تبرز من رمال الصحراء . كانت مياه الأمطار قد أزاحت الرمل عنها . كان صاحب هذه الساق واحد من الألف وثمانمية يا خالتي . هرع الناس وحفروا ، لقيوا مئات الجثث ، وراحوا يبحثون إلى أن عثروا على كافة القبور الجماعية المطمورة على آلاف الجثث المتآكلة . بنوا عليها هذه الرجوم وتركوها . في هذه الصحراء يرقد آلاف الشهداء يا خالتي ، وابنك محمود من بينهم . > آه يا بو محمود ! بتعرف قلب الأم يا بو محمود ، ما اعرفت إلا أبكي . قلت للشب خذني لواحد من هالرجوم يا بني . أخذني يا بو محمود . ذرفت عليه دمعتين . وزرعت جنبه شتلة برية ، وسقيته مي ، وحطيت عليه مصحف صغير . ورحت .. ورجعت يا بو محمود . رجعت عالضفة يا بو محمود . آه يا بو محمود ، شو بدي أحكيلك لحكيلك يا بو محمود ، لو تعرف كديش أم محمود تعبت وشقيت وعانت بعدك يا بو محمود ، لو تعرف كديش كان الثمن غالي ، كديش كان الثأر .. كديش كان الوطن يا بو محمود >؟ تنبهت أم محمود إلى صوت السائق ينبهها إلى انهم وصلوا الجسر . ألقى جنود الإحتلال نظرات متفحصة على صفيحتي الزيت والزيتون وعلبتي الحليب . مر كل شيء بسلام . استقلت أم محمود سيارة أخرى إلى عمان . القت نفسها في المقعد وشردت ، شردت كما في السابق : ( ايه يا بو محمود. لما رجعت ، قلت لأحمد تعال ! أجا يا بو محمود . قال لي : عارف شو بدك تقولي لي يمه . قلت له: طيب يمه ألله يرضى عليك وينصرك ، دبر لحالك بارودة ، واتبع درب أبوك وأخوك . إن استشهدت ، ابنك بيكمل طريقك . وراح يا بو محمود . غاب غاب غاب ورجع . ورد غاب غاب غاب ورجع . ورد غاب غاب غاب وما رجع يا بو محمود . رحت دورت سألت ، بحثت . اتقصيت . إعرفت إنه واحد من إلي أسسوا الثورة الجديدة يا بو محمود ، وعرفت يا بو محمود ، إنه أول بسمه ، أول شمعة ، أول نقطة دم ، أول دمعة ، أول حصاد ، أول شهيد للثورة يا بو محمود . وزغردت وزغردت وزغردت ورقصت وغنيت ودبكت يا بو محمود . يو على قلبك يا بو محمود ، ليش بتبكي يا بو محمود ، ليش بتبكي يا بو محمود ؟! ابتسم اضحك افرح غني يا بو محمود ، رفاق أحمد بنوا له صرح كبير وخطوا عليه بدم قلوبهم ( هذا ضريح البطل الشديد ، هذا ضريح القمر ، هذا ضريح النهر ، هذا ضريح أول شهيد للثورة الفلسطينية المعاصرة ) .. وتنبهت أم محمود إلى السائق والركاب يسألونها ( لماذا تبكين يا خالة ، لماذا تبكين ؟!) همست ببضع كلمات وهي تمسح دموعها ( ما فيه شي يمه مافيه شي سلامتكم ) وصلت السيارة محطة السفر في عمان . أسلمت أم محمود نفسها لأول سيارة واجهتها قاصدة الشام . وما أن انطلقت حتى عادت إلى شرودها . ( ايه يا بو محمود ، الأيام مرت والسنين مرت والعمر كله مر ، مر حامل الموت المغمس بالدم ، الدم يا بو محمود ، الدم !!لما رجعت ، جئت لعلي ، قلت له : روح اتبع درب أبوك واخوتك يمه ، إن استشهدت ابنك بيكمل طريقك ! راح مسرور يا بو محمود . قلت له : روح يا بني الله يسهلها في وجهك ، ويجعل لك في كل طريق رفيق . .. وراح يا بو محمود . غاب غاب ورجع . وبعدين غاب غاب وصارت حرب السبعة وستين ورجع . وبعدين غاب غاب وصارت معركة الكرامة وما رجع يا بو محمود . وبتعرف قلب الأم يا بو محمود ، بتعرف قلب الأم يا بومحمود . قلت لازم أروح . رحت يا بو محمود . رحت للكرامة يا بو محمود ، وبس عرفوا الشباب إني أم رفيقهم علي ، حطوني بعيونهم يا بو محمود ، وأخذوني لعند أبو عمار . قال لي : ارفعي راسك يا أم محمود ! قلت له ( راسي بعون الله وعون اولادي مرفوع يا بو عمار ) قال : علي كان الشهامة ، كان النخوة والكرامة ، علي كان بطل معركة الكرامة ، بزنده دمر خمس دبابات ، وأعطب ست مصفحات ، ويومن شحت الذخيرة ، عمل من جسمه لغم ، وقفز من فوق رجم ، في برج دبابة !! وزغردت يا بو محمود ، ورقصت يا بو محمود ، ليش بتبكي يا بو محمود ، عيب عليك يا زلمه ، زعلتني منك والله ، أيوه ابتسم ، افرح يا بو محمود ، لأن الحزن ما رايح يخلي للفرح مطرح يا بو محمود ، لأن الحزن ما رايح يخلي للفرح مطرح يا بو محمود ! < لماذا تبكين يا خاله ؟ لماذا تبكين ؟ > < ما فيه شي يا خاله ما فيه شي> < إلى أين تذهبين يا خاله ؟ > < إلى بيروت يا خالتي > < لك أقارب في بيروت ؟> < ابني يا خالتي > < ألله يخلي لك إياه . شو بشتغل ؟> < فدائي مع الثورة يا خالتي > < فدائي ؟!> < آه فدائي يا خالتي ! > < لعله مع المحاصرين في المخيمات ؟> < آه يا خالتي مع المحاصرين > < الله يكون في عونك يا خالتي > < وعونك يا ابني > ********** اجتازت السيارة الحدود الأردنية السورية . انزوت أم محمود إلى جانب النافذة اليسرى في المقعد الخلفي . النافذة التي اعتادت دائما أن تنزوي إلى جانبها في رحلات البحث الطويلة المضنية عن أبنائها . صالبت يديها على صدرها ، وغرقت في شرودها . أيه يا بو محمود . لما رجعت ، جئت لحسن . قال لي: قديمة يمه ، أنا التحقت بالثورة قبل ما تطلبي مني . لكن إذا استشهدت ، قولي لابني يتبع طريقي . قلت له روح يا بني ، عين الله تحرسك في كل خطوة تمشيها ، روح . وراح يا بو محمود ، غاب غاب وما رجع . وصار أيلول الأسود وما رجع . وبتعرف قلب الأم يا بو محمود ، بتعرف قلب الأم يا بو محمود . رحت . دورت . سألت . لقيته بطلع مع رفاقه من عمان . الفدائيين في الشاحنات يا بو محمود بيلوحوا ابواريدهم ، والنسوان على جناب الشوارع ، يودعنهم بالزغاريد والدموع . ، ونثر الرز على روسهم يا بو محمود . شفته في شا حنة : صرخت له : حسن يمه يا حبيبي ! شافني يمه على جنب الشارع . صرخ للشفير يوقف . وقف . نزل يا حبيبي . بوسته وبوسته يا بو محمود . قال: يمه يمه ، انت بدك تمضي عمرك تدوري علينا . إحنا رجال يمه ،ونذرنا حالنا للبلاد يمه . قلت له : قلب الأم ما هو حجر يمه . قال : ما عليك ، سلمي على مرتي وبوسي لي اولادي . وما تنسي الأهل والأحباب وما تظلي تدوري علي ـ أنا بخير يمه . حسيت بالخوف يا بو محمود ضحايا كثار راحوا في أيلول يا بو محمود . وعمان تكللت بالألم، حسبي الله على إلي كان السبب في اشعال الفتنة بين الأهل والأخوة يا بو محمود. حسيت بالخوف لما ما شفت في عيون النسوان إلا الحزن والدموع . قلت له : على وين رايحين يمه ؟ قال لي : على الأحراش . قلت له : يمه أنا خايفة عليكم. قلبي ناخزني وقلب الأم ما بيكذب يا بني . قال : ما تخافي يمه ما رايح يصير إلا إلي كاتبه ألله !! قلت له : في حفظ الله ياولدي . عيوني ترعاك ، والنبي يثبت خطاك ، ونجوم السما ترجم عداك . ورجعت يا بو محمود . رجعت للضفة يا بو محمود . ونقطعت أخباره يا بو محمود . وصارت الحرب في الأحراش وخباره مقطوعة يا بو محمود . ولي خفت منه صار يا بو محمود .. طيارات من السما ومدافع من الأرض يا بو محمود . وانسحب حوالي مائة فدائي من الحراش وعبروا النهر مستسلمين لليهود يا بو محمود . قالت لي فاطمة : لعل حسن معهم يمه ؟ قلت لها: حسن ما يستسلم يمه ، حسن إما ينتصر وإما يستشهد ، مثل أبوه واخوته . وظلت أخباره مقطوعة يا بو محمود . وبتعرف قلب الأم يا بو محمود ، بتعرف قلب الأم . رحت أدور يا بو محمود ، كديش بدي أدور لدور يا بو محمود ، وكديش قلبي بده يتحمل يا بو محمود ، هوه قلبي صخر ولا بحر ولا محيط يا بو محمود ، كديش بده يتحمل يا بو محمود ؟ وتحمل يا بو محمود !كان قلبي صخر كان بحر كان محيط يا بو محمود ، وتحمل يا بو محمود ، لكن يا ترى بده يتحمل هالمرة ، إذا لا سمح الله رحلت عيون عقبة يا بو محمود ، عيون عقبة ما تفارق عيوني يا بو محمود ، والبسمة إلي كانت دايما تهفهف على ثمه ما تغيب عن بالي يا بو محمود . رحت لعمان يا بو محمود . دورت ، سألت ، بحثت ، لقيت رفيق إله يا بو محمود . قال لي : حسن كان بطل يا أم محمود ، وظل يدافع عن جثمان القائد أبو علي إياد حتى استشهد جنبه ! وزغردت يا بو محمود . والله زغردت ، لكن بس مرة وحدة يا بو محمود . ما قدرت أزغرد غيرها يا بو محمود . قلت له : خذني يا بني على الحراش حتى أشم ريحة الأرض إلي استشهد عليها حسن . قال لي : على راسي وعيني يا خالتي . ورحنا يا بو محمود . قادني الشب لبعض الصخور يا بو محمود . قال لي : بين هذه الصخور استشهد حسن وعشرات الفدائيين يا خالتي . كانت عظام كثيرة وجماجم تتناثر بين الصخور . رحت أحدق فيها يا بو محمود . لمحت ساق حسن يا بو محمود! كان حسن يحمل ندبا في ساقه من جراء سقوطه عن السقيفة وهو صغير . عرفت الندب يا بو محمود . رفعت عظم الساق وحضنته وبوسته يا بو محمود! يو ليش بتبكي يا بو محمود ؟ < وصلنا الشام يا خاله ، الحمد لله على السلامه > < الله يسلمك يا خالتي > ***************** لحقت أم محمود آخر سيارة متجهة إلى بيروت . ألقت نفسها في زاويتها المفضلة ، وغرقت في شرودها كما في كل مرة : ( أيه يا بو محمود . رجعت للضفة . جيت لشاهين . قلت له ما قلته لإخوته يا بو محمود . حمل حاله وراح . وغاب غاب غاب ونقطعت أخباره يا بو محمود . صارت حرب رمضان وخباره مقطوعة يا بو محمود . وبتعرف قلب الأم يا بو محمود . قلت لفاطمة ، لازم أروح أشوف أخوك يمه . رحت يا بو محمود . ليش بتبكي يا بو محمود .؟! تظن أنني وجدته شهيد ؟ لا لم يستشهد شاهين في حرب رمضان يا بو محمود . ابتسم بالله عليك وما تبكي . ول يا زلمه ! قعدت عنده شهر ورجعت يا بو محمود . ونقطعت أخباره مرة ثانية يا بو محمود . وصارت حرب لبنان ، وصار حصار تل الزعتر ، وخباره مقطوعة يا بو محمود . وطلعوا الناس من تل الزعتر بعد حصار دام شهرين ، لكن أخباره ظلت مقطوعة يا بو محمود . وبتعرف قلب الأم يا بو محمود! ثلاثة آلاف شهيد كانوا ضحايا تل الزعتر يا بو محمود . ست آلاف عين انطفت يا بو محمود ، وست آلاف ايد انقطعت يا بو محمود ، وست آلاف رجل انبترت يا بو محمود . وكل نقطة مي دفع الفلسطينيين ثمنها نقطة دم يا بو محمود . يو يا بو محمود ، قوي قلبك يا بو محمود ، عيب تبكي وانته شهيد يا بو محمود . < أم محمود أم محمود أم محمود >!!قلت لك قوي قلبك يا بو محمود ! < استشهد شاهين يا أم محمود > ؟ وليش بتسأل يا بو محمود ؟ ما هياتني بحكيلك يا بو محمود ، خليك ساكت يا بو محمود !! رحت يا بو محمود . ونا داخله بيروت بالتاكسي . شفت صورة شب على الحيطان . عيونه مثل عيون شاهين . لكن كان إله لحية . شاهين ما كان إله لحيه يا بو محمود . حسيت إنه بيطلع فيه . ما قدرت أشيل نظراتي عنه . وكل ما عبرت السيارة شارع جديد ، رحت أدور بعيوني على صاحب الصورة الملزقة على الحيطان . كنت بدي أقول لشفير التاكسي يوقف وينزلني . لكن قلت أكيد رايحة أشوف صوره مطرح ما بينزلني التاكسي . وصلنا . نزلت . كانت صور الشاب املية الحيطان يا بو محمود . قربت لصورة منها . بحلقت في عينين الشب ، وبحلق هوه في عينيه . قلت هذا شاهين ! إذا ما كانت هذي صورة شاهين ما أكون أنا أمه إلي رضعته من حليبي ، لكن يا ابني يا حبيبي ليش ملزقين صوره على الحيطان ؟ ومنشان أتأكد يا بو محمود ، وقفت بنت كانت تحمل باروده وتمر من جنبي . سألتها : صورة مين هذي يا بنتي وليش ملزقينها على الحيطان ؟! اندهشت البنت وتطلعت لي باستغراب وسألتني : ما بتعرفي مين صاحب هاي الصورة يا خاله ؟! قلت لها : حاسة إني بعرفها بس بدي أتأكد . قالت : هذي صورة الشهيد شاهين بطل تل الزعتر !!!! آه آه آه يا بو محمود ، آه يا بو محمود ! حسيت حالي بدي أسقط ، لكني تمالكت حالي على بين ما زغردت ، وزغرودتي تختنق بالحزن والبكا ، وبعدين وقعت عالأرض يا بو محمود من غير ما أدري . لما صحيت لقيت حالي في المستشفى ، والشباب من حوالي يحملوا صور شاهين . حكوا لي عن بطولة شاهين . وحكوا لي عن تل الزعتر ما يشيب روس الأطفال يا بو محمود ، ************** توقفت السيارة لبعض الوقت على الحدود السورية اللبنانية . وما أن تجاوزتها حتى استأنفت أم محمود شرودها : ( أيه يا بو محمود . عد معي ! محمود بسلامته استشهد . أحمد ؟ استشهد . علي ؟ استشهد . حسن ؟ استشهد . شاهين ؟ استشهد . مين ظل ؟ اسحق وعقبة ! أيوه يا بو محمود ، اسحق وعقبه ! رايحة أظل معك حتى أسلمك أمانتك يا بو محمود ! < أم محمود ، لا غير معقول أن يسشتشهد اسحق أيضا غير معقول !> ألم تكن هذه رغبتك يا بو محمود ، ألم توصيني بأن يسير الأولاد على دربك حتى تتحرر البلاد ؟! هل نسيت يا بو محمود ؟! قوي قلبك ، خليه مثل الصخر ، مثل الحديد ، مثل الفولاذ يا بو محمود . لما رجعت . قلت لإسحق ما قلته لإخوته يا بو محمود . وراح يا بو محمود . غاب غاب غاب ونقطعت أخباره . صارت حرب الثمانية وسبعين مع اليهود وما أجا شي من اخباره ، وصارت حرب الثمانين وما أجا شي من اخباره . وبتعرف قلب الأم يا بو محمود . قلت أروح ادور عليه . رحت . لقيته صار زابط كبير يا بو محمود . يا ابني يا حبيبي . قال لي < أنا لن استشهد مثل اخوتي وأبي يا امي ـ أنا سأحقق النصر > ! يا ابني يا حبيبي يا روح أمك وعينها ، انشا الله يا حبيبي . < طبعا ولم يستشهد فيما بعد يا أم محمود ؟ > يو يا بو محمود ليش بتقاطعني ؟ وليش بتقاطعني يا بو محمود ؟! < كم حرب صارت بعدي يا أم محمود > ؟ كثير يا بو محمود ! ما تقاطعني ! ألله يهنيك في الجنة يا بو محمود !! ورجعت للضفة يا بو محمود . انقطعت أخباره كمان سنتين يا بو محمود . وصارت أكبر حرب مع اليهود في الثنين وثمانين يا بو محمود . وتحاصرت بيروت . ثلث شهور وبيروت تحت الحصار يا بو محمود . الطيارات ترميها من السما ، والبوارج من البحر ، والمدافع من الأرض يا بو محمود .قطعوا المي ، قطعوا النور . سمموا الهوا ، قطعوا الغذا ، منعوا الدوا من الدخول لبيروت يا بو محمود . آه يا بو محمود . عيونا صارت عبيروت ، وقلوبنا صارت مع بيروت ، ودموعنا كل دموعنا صارت لبيروت ، قلت راح فيها الولد السادس يا بو محمود ، وقلت من كل قلبي : فدوى فدوى فدوى ، اسحق فدوى عيونك يا بيروت . وانخذلنا يا بو محمود ، انخذلنا يا بو محمود ، وطلعوا الفدائية من بيروت مثل ما طلعوا من عمان قبل اطنعشر سنة يا بو محمود . تودعوا بالدموع الحارة والزغاريد وحفنات الرز والرصاص كمان يا بو محمود . حملهم البحر عظهره يا حبة عيني ، او وداهم البحر لبعيد لبعيد لبعيد ، ، نخزني قلبي ، دعيت عالبحر يا بو محمود ! قلت : ربي يجفف ميتك إذا غدرت فيهم ! < وغدر فيهم يا أم محمود > ؟ لا يا بو محمود ، البحر ما غدر فيهم ، هم غدروا بحالهم يا بو محمود ! غدروا بحالهم يا بو محمود !! < كيف غدروا بحالهم ؟ ما تعلموا من غدرة الحراش يا أم محمود ؟ > لأ ما تعلموا يا بو محمود . خذلتهم قياداتهم ، وخذلوهم العرب ، العرب يا بو محمود ! لكن ليش بتقاطعني يا بو محمود ، ليش بتقاطعني يا بو محمود . اسمع اسمع يا بو محمود ! < طيب قولي لي ، اسحق راح معهم ؟ > لأ يا بو محود ، اسحق مثل أخوته ومثلك ، ما بيعرف إلا النصرأو الشهادة . < ألله يرضى عليه وينصره ، أين راح إذن ؟ > ظل في صبرا وشاتيلا يابو محمود . < يعني ما استشهد في الحرب ؟> لأ يا بو محمود ، ما استشهد في الحرب ، لكن < لكن ماذا يا أم محمود ؟ > صارت مجزرة يا بو محمود ، قام فيها اليهود وزلامهم بعد ما خلت المخيمات من المدافعين عنها . < الجبناء ، الهمج ، الأوغاد !! > انجنيت لما سمعت الخبر يا بو محمود . وبتعرف قلب الأم يا بو محمود !! قلت أروح أتطمن عالولد، أشوف وين صارت أخباره . جيت لبيروت . كم مرة جيت لبيروت يا بو محمود ، وكم مرة بدي أيجي ؟ آه يا بو محمود ، ناس قالوا ، ضحايا المجزرة أربعة آلاف . وناس قالوا لي سبعة .وناس قالوا لي عشرة . أوصال قطعت ، بطون حوامل بقرت . ، عيون فقئت ، قلوب طعنت . أكباد طحنت ، ورؤوس يا بو محمود ، رؤوس بترت ، قوي قلبك يا بو محمود ، قوي قلبك . رحت أسأل عن اسحق يا بو محمود . لقيت كل الناس بيعرفوه يا بو محمود . قالوا لي < يا مرحبا بأم البطل يوم عزوا علينا الرجال . اسحق وحده قاد الدفاع عن المخيمات ، وظل يتلقى الرصاص بصدره ، حتى استشهد يا خاله . صورته محفورة في قلوبنا ، موشومة على زنودنا ، منقوشة في عقول جيالنا ، اسحق كان ابنا ، واستشهد ابنا ، ورايح يظل ابنا ، إبنا إبنا > !!! حاولت أزغرد ، لكني ما قدرت يا بو محمود . خنقني النحيب ، وغبت عن الوعي يا بو محمود ، ابك معلش ، البكا يخفف الهم يا بو محمود !!!! سحبت حالي ورجعت للضفة يا بو محمود . لقيت عقبة واقف بستنا فيه . إطلعت فيه يا بو محمود ، اطلعت فيه يا بو محمود ، وطفرت الدموع من عيني ، ما قدرت أحكي ولا كلمة يا بو محمود . قل لي هوه الموت قدرنا يا بو محمود ؟ ليش ما ترد يا بو محمود ؟ طيب يا بو محمود !!! مسك عقبة ذرعاني بيديه ، وحدق في عيني ، ما قدرت أحكي يا بو محمود ، لا من ثمي ولا من كمي . هزني هزني هزني ، وما قدرت إلا أبكي وأبكي يا بو محمود . سألني < اسحق استشهد ؟ > ما رديت . صرخ فيه كمان مرة ، < ردي عليه > ما رديت ! ما قدرت أرد يا بو محمود . صرخ . قال : < أنا رايح أستشهد ، خلي ابني لما يكبر يستشهد مثلي ، خليه يدمر ، خليه ينسف ، خليه يحرق ، ما بدي يكون في قلبه ولا مقدار ذرة من الرحمة والشفقة ، خليه ما يوري اليهود إلا الموت ، الدم الأحمر !!> ما قلت لك إن الموت صار قدرنا يا بو محمود . كنت بدي أصرخ وأصرخ يا بو محمود ، لكن لساني انخرس ، صرت عاجزة عن النطق يا بو محمود . < وخليتيه يروح يا أم محمود ؟ > خليته يروح يا بو محمود ، منشان العدا ما يقولوا ، إن محمود هربت من قدرها ، ومنشان ما يقولوا ، إن أم محمود انهزمت وإرادتها تحطمت ، وتراجعت عن قرارها إلي حفرته عظهر قلبها من يوم ما استشهد جوزها ، وخليته يروح منشان أنفذ وصيتك يا بو محمود ! < تسلمي تسلمي يا أم محمود ، ويظل راسك مرفوع ، وتظل قامتك شامخة شامخة ، لتصير أكبر من كل الدنيا يا أم محمود > وراح يا بو محمود ، وغاب يابو محمود ، وما سمعت عن اخباره ، وصار الحصار الأول لصبرا وشاتيلا يا بو محمود ، دمروا مخيم صبرا ومسحوه عن الأرض يا بو محمود ، وبتعرف قلب الأم يا بو محمود ، قلب الأم ينزف دم يا بو محمود، ، وقلب الأم يشيل الهم يا بو محمود ، وقلب الأم امتلى غم يا بو محمود ، ، كديش بده يكبر قلب الم تايكبر يا بو محمود ، وكديش بده يحمل هم ليحمل يا بو محمود. كنت بدي أروح لولا إنه أجاني منه خبر ، يسلم علي ويبوس ايدي ، ويذكرني بالأمانه إنه بده إياها من المي للمي ، وطلب إلي ولح علي ، إني أودي له ابنه وزوجته يا بو محمود . < الحمد لله الحمد لله ، ما استشهد يا أم محمود > لا في الحصار الأول ما استشهد يا بو محمود ، وفي الحصار الثاني ما استشهد يا بو محمود ، والحصار الثالث طالت ايامه يا بو محمود . خمس شهور يا بو محمود ، إن شاء الله إنه ما استشهد فيهن يا بو محمود . وبتعرف قلب الأم يا بو محمود .. قلت روحي شوفي يا أم محمود ، وهييتني رايحة يا بو محمود . < وما بتعرفي شو صار له يا أم محمود ؟ > إمنين بدي أعرف وكيف بدي أعرف يا بو محمود ، وكل مرة بيكون همي بشب ، المرة همي بعيلة يا بو محمود . < آه يا أم محمود ، كرمى لله يا أم محمود ، إذا لا سمح الله استشهد عقبة ولا مرته ولا ابنه ما تخبريني يا أم محمود ، ما عاد عندي قلب يتحمل يا أم محمود ، وخايف إذا خبرتيني أستشهد كمان مرة يا أم محمود !! > باطل يا بو محمود ، مخيم صبرا بحاله ، بنسوانه ورجاله ، بأطفاله وعياله ، استشهد مرتين يا بو محمود ، ومخيم شاتيلا هيه بيستشهد للمرة الثانية ، وانته أبو الشهداء ما فيك تستشهد إلا مرة وحدة يا بو محمود؟!! وين النشاما يا بو محمود ؟! ********* *********** < يا خاله ؟ انت يا خاله ! ألن تتوقفي عن البكاء والشرود ؟ ما بك ؟ > - ما فيه شي يا خالتي ما فيه شي . - إلى أين تذهبين ؟ - إلى بيروت يا بني . - أعرف إلى بيروت إلى أين ؟ - إلى مخيم شاتيلا يا بني . - المخيمات محاصرة يا خاله ، عصفور ما فيه يدخل عليها . والمساعدات التي جاءت من الضفة ومن كافة أنحاء العالم ما تزال عند الصليب الأحمر ، ولم يسمحوا لها بالدخول . - أعرف يا بني ! - إذا تعرفين كيف ستدخلين إليه ؟ - يا بني أنا امرأة مسنة شو بدهم فيه ؟ - يا خاله هؤلاء لا يرحمون أحدا هنا ، والدنيا ليل ، والقصف قد ينهمر في أية لحظة . لو تبقين في عاليه حتى الصباح ، فقد تجدين منفذا للدخول . - ما بعرف حدا في عاليه يا بني . - ولا واحد ؟ - ولا واحد يا ابني . صمت السائق للحظات ثم تساءل . - أنت من اين قادمة يا خاله ؟ - من الضفة الغربية يا بني . - ومن لك في المخيم ؟ - ابني يا بني ، ابني وزوجته وابنه . - ابنك مع الفدائية ؟ صمتت أم محمود مخافة ان يكون الرجل معاديا أو لا يحب الفدائية . أدرك السائق معنى صمتها . هتف : - أنا درزي ومع الشيوعية ، وحنا مع الفلسطينيين ، ولحد الآن ايدينا نظيفة من دمهم ، وإن شاء الله تظل نظيفة ونظل رفاق درب . - إن شاء الله يا بني إن شاء الله . - أنا مثل ابنك يا خالتي ، أين ستذهبين في هذا الليل ، سأصحبك إلى بيتي ، تنامين مع زوجتي وأولادي . - يكثر خيرك وأمثالك يا بني ، ويستر على عيالك ربنا العالي . كان جميع الركاب من عاليه . أوصلهم السائق إلى بيوتهم ، ثم قصد بيته مصطحبا أم محمود معه . تساءل وهو يدخل أحد المنعطفات على مهل . - يبدو أن هذا ابنك الوحيد حتى جئت من الضفة من أجله ؟ - نعم يا بني إنه ابني الوحيد المتبقي لي من اخوته . هو أصغر واحد . - وأين ذهب اخوته ؟ - استشهدوا يا بني . - استشهدوا كلهم ؟ - كلهم يا بني . - ليش كديش عددهم ؟ - ستة يا بني . ضغط السائق على فرامل السيارة وتوقف . - تقولين ستة يا خالتي ؟ - نعم ستة يا بني ، عدا أبوهم ، وعدا ابن بنتي إلي قتلوه اليهود في مظاهرة . - رباه ! منذ أن شاهدتك شاردة الذهن طوال الطريق ، والدموع تنزلق من عينيك بين لحظة وأخرى ، قلت لا بد أن وراءك قصة طويلة . ها أنا أعرف أنك أم عظيمة ، أنا سعيد لأنني تعرفت إليك يا خاله . - ألله يسعدك ويسلمك يا بني . - إذا فتحوا غدا منفذا للمخيمات سأصطحبك بنفسي يا خاله . - يكثر أمثالك يا بني . *********** لم يفتح أي منفذ طوال الأيام الثلاثة التالية . وازداد القصف وحدة الإشتباكات ، لتطول أيام الحصار . وكم بحثت أم محمود عن وسيلة تدخل بها صفيحتي الزيت والزيتون وعلبتي الحليب وأرطال الطحين لأبناء المخيمات ، فلم تجد . قالوا لها إن في الأمر مخاطرة كبيرة . والنساء اللواتي يتسللن إلى خارج المخيمات لإحضار شيء من التموين ، يحصدهن رصاص القنص في أغلب الأحيان . أكثر من سبعين امرأة قتلن بهذه الطريقة . وهي ليس في مقدورها أن تتسلل بهذا الحمل الذي معها ، ثم إنها لا تعرف الطرق المؤدية إلى المخيمات . في اليوم الرابع ، جاءها ابن السائق فرحا مستبشرا . هتف : - سيسمحمون إلى قافلتين من الصليب الأحمر بالدخول إلى المخيمين . هيا يا خاله لعلنا نرسلك مع قافلة شاتيلا . - وهل سيفكون الحصار يا بني ؟ - يقولون أنهم سيفكونه يا خاله . لحقا بقافلة الصليب الأحمر قبل أن تدخل . توسلت هي والشاب إليها ، فاصطحبوها دون الشاب . استقبلتها أطلال المخيم وكأنها غيلان فتحت أفواهها . دما ر دمار. دمار في كل مكان . أنقاض في كل مكان . دمار فوق الأرض ، دمار تحت الأرض . لم تر جدارا سليما . أكوام . حطام ، نفايات ، روائح كريهة . ولم يكن هناك أي أثر لحياة ، أي أثر على الإطلاق . لا حيوان ، لا طير ، لا بشر ، لا ماء ، وربما لا يوجد هواء ! ( لكن أين المدافعين عن المخيم يا أم محمود ؟ وأين المحاصرين ؟ يا كشلك يا حسرتك يا أم محمود، يا ويل راسك يا أم محمود ، يا حسرة قلبك يا أم محمود ، معقول تشوفي عيون عقبة يا أم محمود ؟ يا ابني يا حبيبي ، ، يا آخر بسمة عشفافي ، يا آخر شمعة في حلكة ظلامي ،يأ آخر أمل ليه ، يا آخر دمعة فيه ، معقول بعد عيونك عيوني تناغي النوم يمه ، معقول بعد بسمتك شفافي تفتر للفرح مرة ؟) توقفت القافلة ، وقد اطلقت إحدى سيارات الإسعاف بوقها عاليا . لم تصدق أم محمود ما رأته عيناها . فقد أخذت الأنقاض ترتفع من كل مكان وتنهض . أبواب . جدران . صفائح ، نوافذ ، كتل حيطانية ، ألواح خشبية شبيهة بالأبواب ، ألواح صفيح ، هياكل شجرية ـ بقايا أغصان ، دواليب سيارات ، نفايات . هياكل عظمية لحيوانات ، وأخرى لبشر ! تندفع قليلا إلى اعلى وتنهض !دمار ينهض ! أرض تنهض ! هياكل ما شبيهة بالبشر تنهض . ، تقوم ، تحاول أن تستقيم وتتحرك ! رباه ! فركت أم محمود عينيها . الأنقاض تدنو من كل اتجاه . هرعت نحوها . توقفت هلعة أمام أول هيكل واجهها . لم تعرف فيما إذا كان هيكلا بشريا أم أنه بقايا أنقاض تتحرك . . هربت منه ! ابتعدت . عدت شمالا . عدت جنوبا . شرقا . غربا . أنقاض ! أينما هرعت لا ترى غير انقاض شبيهة بالبشر ، تجاهد لأن تتحرك ، وبالكاد حتى تتحرك . تشحذ كل ما تبقى فيها من مقاومة الروح ، وتتحرك . تتحرك ببطء ، ببطء شديد يكاد ان يكون كدبيب النمل . قوى واهنة متهالكة ، عيون غائرة خائرة . لا ترى ولا ترى ! شفاه ذابلة متقصفة جافة . وجوه ميتة تغطيها طبقات كثيفة من التراب والرمل والطين . جلود جافة كالحطب . تستر عريها بقايا ملابس مهترئة ممزقة ومعفرة بكميات هائلة من التراب والحمأ . أفراد الصليب الأحمر يعدون هنا وهناك . يخرجون جثثا من تحت الأنقاض ، وجثثا من بين الأنقاض ، وجثثا من بين النفايات . ينزلون تحت الأرض ، يعودون بجثث وجرحى ، ثمة أنين هنا . ثمة آهة ملتاعة هناك . وشيئا فشيئا ، أخذت أم محمود ترى في الأنقاض هياكل بشرية حقة . وحين أخذت هذه الهياكل تذرف الدموع فرحا بالحياة ، أدركت أم محمود انها حقا أمام سكان المخيم ، فدقت صدرها بقبضتيها ، وهتفت بلوعة : يا حسرتي عليكم ! وفي غمرة دهشتها وذهولها . نسيت أن تسأل عن عقبة ، وعيون عقبة ، وابن عقبة ، وزوجة عقبة ، لكنها تذكرت ذلك عندما هرعت بعد لحظات إلى حملها وراحت توزع زيتون البلاد وزيتها وطحينها على الناس . ومع ذلك سيطر عليها إحساس غامض ، بأن تتريث في السؤال إلى أن يأكل الناس ويشربوا قليلا . وإلى أن تدب الحياة في أجسادهم ، بحيث يصبحون قادرين على الإنتباه إليها والإجابة عن تساؤلاتها . ******** حانت الفرصة عندما شاهدت ابتسامات ذابلة تشق طريقها عبر الوجوه الحزينة الكئيبة المتسخة الجافة ، وترتسم على الشفاه . أخذت تتأمل عشرات الوجوه المحيطة بها . ترددت في السؤال . لم تعرف لماذا ترددت في السؤال ، لأول مرة تجد لسانها وقلبها لا يطاوعانها ، والكلمات تخونها ، ألأنها لا تريد لعقبة أن يستشهد ، وتامل من الله أن يبقيه لها ، أم لأنها لا تريد أن تسمع نبأ استشهاده . لالا ! ربما لأنها لا تريد أن تمن على أحد باستشهاده . ، وربما لأنها لا تريد للناس أن يتذكروا الموت الذي عاشوه لفترة طويلة ، ثانية . وربما تخاف أن يكون عقبة قد خذلها ( لا سمح الله ) ولم يكن بطلا مقداما كإخوته. تنبه الناس إليها . أدركوا أنها تريد أن تسأل عن انسان ما ، ولا سيما أنهم عرفوا أنها قادمة من الضفة ، ولا يعقل أن تكون جاءت من الضفة لتحضر للمحاصرين زيتونا وزيتا . تساءل شاب من المحيطين بها : - ما بك يا أمي ؟ ألقت نحوه نظرات حائرة ، وما لبثت أن هتفت بصوت خفيض : - ولدي يا ولدي ! - ولدك كان معنا في الحصار يا خاله ؟ - أيه يا بني . - ما اسمه يا أمي ؟ - عقبة يا بني . وتساءل الشاب ثانية بدهشة وانفعال : - من يا أمي ؟ - عقبة يا بني . سقط الإسم على الحضور كما الصاعقة . : أطبقت الأفواه على ما فيها من طعام ، وتوقفت عن الحركة . والأيدي التي كانت تحمل بعض اللقيمات إلى الأفواه ، توقفت قبل أن تصل إليها وكأنها تجمدت . أطبق صمت مخيف . كتمت الأنفاس . تسمرت الأقدام في الأرض ، فيما العيون ، كل العيون تحدق إلى وجه أم محمود الذي حفرت عليه السنون آلامها . تأملت أم محمود الصمت الذي أطبق من حولها والحركة التي توقفت تماما ، والعيون المحدقة إليها . تمنت ألف مرة لو أنها لم تسأل عن عقبة . هتفت وكأنها تعتذر من أعماقها ( ليش وقفتوا يمه ليش ؟ كلوا يمه ، كلوا يا حبيبيني ، كلوا يا عيوني ، زيتون البلاد يمة ) وأوقفها صوت الشاب بعد أن أعطى ما في يديه من خبز وزيتون إلى امرأة تقف إلى جانبه : - أماه ! - ولدي . - كان عقبة بطل الحصار ( كبتت أم محمود في دخيلتها صرخة كالبركان ) ولولاه يا أماه لما كان صمودنا أسطوريا إلى هذا الحد ( وكبتت أم محمود صرخة ثانية كالزلزال ) وبدا الشاب مترددا في إكمال ما يريد قوله ، غير أنه استأنف بصوت متهدج متقطع خالجته نشجات بكاء لم ينفجر : قبل أن يستشهد يا أماه .. أوصانا أن ... أوصانا .. أن ... أوصانا أن .. نأكل ..لحمه .. أوصانا أن ناكل لحمه ، كي لا نموت جوعا !!! وكي نصمد في وجه الحصار !!! وكبتت أم محمود صرخة ثالثة بحجم الكون ، فيما الشاب يتابع : .. نحن أولادك يا أماه ، فخذينا إن شئت ، وإلى حيث تشائين . وحين أدركت أم محمود أن الشاب فرغ من كلامه . هرعت نحوه وهي تجاهد بكل ما بقي في جسدها الواهن من قوة روح ، لتنتصر على آلامها : ( العمر إلكم يمه ، تعيشوا وتناضلوا وتنتصروا على كل من يعاديكم ، وعداكم يموتوا بذلهم وحسرتهم يمه ، كلوا يمه ، كلوا يا حبيبيني ، هاظ الزيتون من زيتون البلاد يمه ، صحة وعافية ) وراحت تحث النساء والرجال ، الشباب والفتيات ، الصبية والأطفال ، على تذوق زيتون البلاد وزيتها ، دون أن تفارق الإبتسامة شفتيها ، راحت الأفواه تلوك الطعام في محاولة لإرضائها .. ازدادت ابتسامتها اتساعا وهي تجوب بنظراتها الوجوه ، مطمئنة إلى الناس يأكلون . وفجأة ، وفجأة ، وفجأة ، تهاوت كالسماء ، كالسماء ، تهاوت كالسماء .. وأسلمت الروح . محمود شاهين 13-4- 87
#محمود_شاهين (هاشتاغ)
Mahmoud_Shahin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ألعرب من وجهة نظر يابانية !!
-
مقالات ومقولات في : وحدة الوجود. الخالق . الخلق. المعرفة .
-
مقتل الله في الحسكة !!
-
أقوال ومقالات في الخلق والخالق والمعرفة
-
ردود على حوارات فلسفية حول الخلق والخالق !
-
ألله يا صديقي كن بعون بشريتك وانقذها من جهلها !
-
مقالات في الرواية . الجزء الأول.
-
رحيل معلن إلى رحاب المطلق الأزلي ! رواية . الجزء الأول
-
أسفار التوراة (6) قراءة نقد وتعليق . أمثال .الجامعة. نشيد ال
...
-
* رجل مسيء خير من امرأة محسنة ارتكبت خطأ !
-
* الرعب والهلاك ينبغي انزالهما بالأمم لتعرف أن لا إله إلا ال
...
-
* عينا الرب أضوأ من الشمس عشرة آلاف ضعف ! وداعا أيتها الشمس
...
-
سفر يشوع بن سيراخ 26/2/ فصل 151:يفترض أن الرب قاس الأرض بالم
...
-
سفر يشوع بن سيراخ 26/1 فصل (150) شطارة الرب في إحصاء رمال ال
...
-
تألق الخطاب الملحمي بين الشاعرية والتاريخ في - زمن الخيول ال
...
-
أسفار التوراة (5) قراءة نقد وتعليق . يهوديت .أستير . مزامير
-
أسفار التوراة (4) قراءة نقد وتعليق. ملوك ثاني. أخبار أيام أو
...
-
سفر الحكمة 25/4/ فصل : 144: إله يتمتع برؤية الدم يملأ كل مكا
...
-
- ترانيم الغواية - في مدينة السماء : موطن الآلهة ومقام الأمم
...
-
سفر الحكمة 25/3/ فصل 143: اختلاط الحابل بالنابل ويهوة بالمسي
...
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|