|
هيكل هبوط القمر – رواية (1)
حمودي زيارة
الحوار المتمدن-العدد: 4863 - 2015 / 7 / 11 - 03:38
المحور:
الادب والفن
الأهداء الى أبي الذي أختلس الموت قلبه … قبل أن تقتحم رائحة شحوبه … دفاتر ذاكرتي.
الفصل الاول يتوسد هيكل الملاك، الذي قذف كالحجر من أمطار توهجه، عند أطراف القمر القاصية، ندف خطوط وطنه، الثملة بقطير جعة ماء الشط، الوارف بنور ضوء القمر. الوطن الشفيف الذي أخذ يرقد في ثمالة سباته، بعد إندراسه في طيات ألواح الطين. أخذ يتجلى بحلته من جديد، على ضوء لهاث أنفاس عائلة سامان. بسط خصابه بشغف، لخطواتهم الخائفة. أحتفى بعودة مواطنيه، وفرحته بأدراك أنتمائهم الحميم، لطين خارطته. نضت الأيام ثوبها الأسود، ولوّنت أوقاتها بدفقات الحنو والدعة . ريثما العائلة أخذت تمخر عقبات عمرها. والحياة أنهارت تستوطن في ظلال تعب ديدانهم. رانت على القمر أفياء البهجة، فأستغرق يلفظ أنواره، عندما أنتابه هاجس بأن أوان بواكير طلقة المخاض الأولى، التي مسدت أمتقاع الجبل بغمامة الوجع، لولادة البقرة، الشائبة بمسحة حمراء، التي تشبه قرص القمر، الجاثية على صدرها في لون جسمها الابيض الفاقع، قد باتت حقيقة. حيث كانت الولادة الأولى لها بعد عقم أستمر زمناً طويلاً، وذلك قبل قدومها الى ارض القمر، اذ عشق تربتها في عزلته، لشدة الوهج التي تعكسه أو كما تفشى بنواصي القرية، بأن الأرض تنتمي الى وطن القمر حيث أستحلف أن يغرقها بأسرها، ما أن حاول أحد أطلاق الشر فيها، إذ يدنو على مرمى قريب، في أوقات المد، فيشمل أعشابها، طوفان المياه. لكن الشط يدمن إرتهان أصفاد ضفافه الضيقة، الذي حفرته معاول السيول الجارفة، وذوبان الثلوج الهابطة من رؤوس قنن الجبال، التي لطالما سرقت سيول تدافع أمواجه، ونتوءات عبابه، العديد من البيوت، والبشر، والحيوانات .
***
أنسل سامان بعائلته وحيداً يختلس حدسه في جوف الليل، يغرز ذهنه بين الفينة والأخرى، هاجس بهيج، بأن الطريق يعلق في نهايات أفقه قناديل للفرح. خرج بأضغاث خوفه مع الليل، بعد أن أستوثق سواده، يقتفي أثر الحذر. فور ألقاه نضائد ولوازم بيته على فقرات ظهور البغال. هروبه من مدينت ، إستوجب من دون تواني، بعد قتل أبنه نادر من قبل قوات الدولة. أستمر في هروبه الليل بطوله وقساوته، لم يرفع رايته البيضاء للتعب، بل دأب بتحريض مراسه. يحاذر المرور بالقرى المأهولة. يعب نظراته من بقايا وميض القمر، الهارب بمشقة من تطفل الغيوم. أسترق السمع الى أنفاس البغال، بعد أن نظر الى الخلف بتثاقل، حيث كان يتقدم قافلته بمرمى متطامن، يحفزه الخوف والحياة، شعر وقتها بأن الأنفاس بدأت تفقد شكيمتها. هذا عندما أتت به خطواته الواهنة، الى رحاب أرض قمراء متوهجة، بضوء القمر الذي أستغرق كذلك بلذة في برجه النائي، ضمن دجى الظلام الشائك، يحبو بتهافت ضوئه على أكتاف الجبل. تتأنق مروج الأعشاب بنضارتها، في فنار الضوء الغارق في وسائد غرائز الخصوبة، وأريج تويجات الأزهار التي تبادل القمر رخاء الغواية. طلب سامان في تلك اللحظة، وقد تجلت على تجاعيده ملامح بسمة خافرة، من عائلته أن تستجم في تلك الأرض، على ضوء مصباح القمر الساطع، لحين أوائل الصباح. وفي اليوم التالي، وعلى هفيف برودة الهواء خلل الشجيرات، وصورة القمر الهلامية العالقة بفيض النهار. أبصر الحيوانات في مرح آخاذ يلثمن وريقات الأعشاب اللفاء، وبالذات البقرة كانت بدورها تستلقي بفرح على جانبها الأيمن، دلالة على إنتشائها، كتجلي الأخير لبوذا، مما حدا بسامان أن ينتبذه كبحبوحة للسكن. عندها قرر أن يبقى في تلك العشبة التي تتضوع بالرائحة الطيبة، النامية بغدران القمر، وطراوة التراب، ويرمي بيته المفخور من الطين والحجر على أكتاف الشط. البقرة في السنة الأولى، تاهت في الأحراش دون أن يعبأ سامان أو شلير بجلبها الى المراح. وفي أحدى الليالي، عندما كانت شلير ساهرة معها، وبعد مخاض مضض، أجتاحتها الدهشة، حينما ولدت بتناوب بعد وليدها الأول، وليد آخر توأم. كانت الولادة البكر لها، ذاع صيتها في نواصي القرى الأخرى. بدأت الناس وبالخصوص الخارجين عن القانون بالمجئ الى القرية، على ضوء أعتقاد، بأنه من المحال أن تكره البقرة على الولادة بعد عسر الليالي الأبدية، وطقوس المباخر والتضرعات الجاهشة التي تضج بها أوقات شلير، عندما كانت تعقد نهارها بسواد الليل من دون إيحاء سمائي. لذا تفشى هذا الأعتقاد، بأن ما حدث من إعجاز، بأنجاب البقرة للتوأم، ما هو الا سخاء ملكوتي مسيس، يعود الى الأعشاب التي نمت من رضاب المروج، وعشبة ليالي البدر الحمراء، الحاوية في أنساغها خمرة ضوء القمر ونشوة ربانية. وذهب البعض بأن القمر بادلها غريزته، لهذا تسنى أن تسكن أرضه، وكأنما أستدرجها لغوايته.
***
يتابع الشط، ساهماً كصبابة عاشقة، يتوغل بشطط في مباخر الهيكل، وكأنه يتضرع بنثيث دموعه، في غلالة دخانه. أسطورة الشط، في الحقيقة، نشأت ترسف بها الكلمات، التي نشرها طالب في الأسماع، بعد أن وجد لوحة طينية، أثناء عمله مع علماء الأثار، تتحدث عن تاريخه الغائر في المدن التي تناسلت على أديمه، في الحقب البعيدة، وعن وطن للقمر في أعشابه، وعشبة حمراء تتورق في ليالي البدر, ومعبد يستلقي على أكتاف باحته . يتخبط الشط، في لهاثه الأزلي، واهباً إرهاق مشواره الى جرفه العاري الذي تصفعه الريح بهوان دون حائل. جرفه الذي قام مزار الهيكل الحجري على عنايته. لكن ببلادة تبقى الزوابع تتعثر في تهدل اغصان الأشجار التي تتشابك على عارضه متباعدة، وأحراش وأدغال راحت تنز على رطوبة أكتافه، ونثار لسيقان طرية من أعشاب متنوعة، التي ترقد على هشاشة الطين بمسافات متباينة. ومرح ريعان الحياة المتشظي، التي ترفل به خصوبة قرية البقرة، حيث يمتد بهدوء كقطرات الندى، على هيام وريقات الصباح الغافية، قبالة ثقوب السماء. يبقى الشط العاكف على ترديد ترانيم وتعاويذ رجل الملاك، في ثمالة مع اطراده ونواعير جريانه، يبوح بأضطرابه الشجي الى تشققات أديمه، يطالع غيوم بخور الهيكل أيام الأثنين، وأراجيح مويجاته المترادفة، وهي تركل جرفه الحاسر. ينصاع الشط لدورته العفوية، بصبابة دمثة يركن بهيام الى طحالبه الداكنة الأخضرار، وأسراب عيدان أوساخه، وبقعة زبده اللزجة، وحثالة أردانه العائمة، وهوس الأطفال، وإيثار تمايل البقرة. يواصل هيامه وأنفراده في إمعان وخشوع، كالحبل السري يغذي أجنة القرية، متأملاً أعمدة الهيكل، جدران بيوت الطين والصخر وأعتاب البيوت، التي بقيت تحضنه كسنابل القمح لطحينها. وحرصت أن تظلله بأقتران مخاتل حياة القرية السمجة. القرية المتكأة على إنثيال الجبل الفارع، كقطعة خضراء معلقة في خصائل الأطفال. ولدت بحذر من الهاربين إليها بعيداً، عن عيون، وقبضة الدولة، وجثث قتلاهم التي أكتنزت بالموت، وأثر جرائمهم الناشبة في الذاكرة كحد السيف. القادمون الذين أنسلوا بخلسة من القرى البعيدة، من الأهوار والجبال وبلغات مختلفة، وأجناس بملامح متناقضة، والذين أرتضوا من كنوز الحياة، بسقوف جذوع الاشجار، وابواب الصفيح، وكتل الصخر.
*** في ذلك الوقت البعيد الذي بادلت القرية عشقها فيه، مع بواكير تشابك اللبنات على قفار التراب، وضوء القمر. لم يرهف السمع لصرخات ولادة القرية من أحد، في ذلك المدى المنعزل الذي ينتمي الى ملكوت السماء، والسهل الخصب. لا شئ يملئ فراغه، عدا خطوط الأفق، وسكون الجبل، وعائلة سامان، وذهول البغال، وأنسياب الشط. تاريخها الذي خطه ضياء القمر الذي يهبط ليستلقي على عرائش غضارتها. ركل بغربته حساب أيامه، منذ بدايات استواء جدران الطين على متون ضفاف نهرها، التي تعود الى زمن بعيد وغائر، زمن قدوم سامان مع عائلته . أستمرت القرية الجاثية على عاتق النهر، تمد خارطتها في كل النواحي، في أعقاب ذيوع نادرة، ولادة البقرة. لهذا نشأت البيوت تنبت في ظلال الجبل، وتستند على صلابة الطين. فيما راحت الوجوه الجديدة الهاربة من حبائل الحزن، تدب في الأرجاء تزين صورة الدروب بزهوٍ. القرية، نيزك يعود الى سطح القمر، رصف على مساند النهر، من أجل أن يتهالك نوره من طوافه، على مقاعده، هذا حسبما تفوه به سامان، على ضوء ما أخبره به طالب الذي أستوحاها من لوحات الطين..
***
على رائحة الشط البغيضة، التي ترزح بها الأنفاس، المتأتية من معمل لصناعة الأسمدة، الذي يقع على أطراف الجبل البعيدة، حيث تتسرب بنحو علني، المواد الكيميائية منه الى مياهه، ونباح الكلاب ، ومناسك الأطفال المقرفة . تتآلف القرية برقة حانية مع ركود الشط ، وهدوته المستلقاة على أرائك طينه، تتملقه بحياء متعبد في أروقة الهيكل، أن يبقى يغسل جدرانها المفعمة بأساطير الوجع، وحكايات الذكريات التي تعاف الرحيل، فتبقى في الزمن قابعة، دون أن تحمل حقائبها وتغادر مع الاموات. ونزق المواسم ودورة خربشاته التي تسبغ وجه طين القرية بمكياج جميل. تتناوب الأيام على ضفافه دون أمتعاض، وتبقى تواريخها في عقم دون أن تجلب فرحة ولو عابرة. الأطفال الذين ولدوا من إيحاء الملاك، وحليب البقرة حيث أعتاد أهل القرية بتغذيت الأطفال حليبها لمدة شهر، والأعشاب الربانية. تنصاع حزمة الاطفال برمتها الى إلتياث خطوات طالب الذي جاس الدروب البعيدة والطارئة بمفرده، عندما ترك وحيداً، في أثر عبور أمه الجبل مع زوجها الجديد. فعليه تناصب نتيجة لجرأته، كذئبٍ يذب عن وجاره فيما بينهم. نشأوا كيرقات العقارب على مناصبة الشط العداء والغيرة. ينام الأطفال من ديدنهم اليومي بين أكوام النفايات بملابسهم الوسخة، الممزقة التي تعج بروائح خانقة، كأنها نسجت على جلودهم. عندما تخمد الليالي شموع أتقاد النهار، ونيران أعواد القصب، ويختفي قرص الشمس. وينشأ السواد يجوس حافات أحيائهم التي لا تملك لظلام الدروب مصابيح أو مشاعل مرمدة، سوى كلاب تنبح العابرين، والخوف الساكن في الليل، وتهاويم روح الملاك، ورائحة الشط وهسهسة الاحراش.
#حمودي_زيارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية اقفاص الرمل (22) الجزء الأخير
-
رواية - اقفاص الرمل (21)
-
رواية – أقفاص الرمل (20)
-
رواية – أقفاص الرمل (19)
-
رواية – أقفاص الرمل (18)
-
رواية - اقفاص الرمل (17)
-
رواية - اقفاص الرمل (16)
-
رواية – أقفاص الرمل (15)
-
رواية – أقفاص الرمل (14)
-
رواية - اقفاص الرمل (13)
-
رواية – أقفاص الرمل (12)
-
رواية – أقفاص الرمل (11)
-
رواية – اقفاص الرمل (10)
-
رواية – أقفاص الرمل (9)
-
رواية- اقفاص الرمل (8)
-
رواية- اقفاص الرمل (7)
-
رواية- اقفاص الرمل (6)
-
رواية - اقفاص الرمل (5)
-
رواية – أقفاص الرمل (4)
-
رواية – أقفاص الرمل (3)
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|