أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - الشاعر والروائي فاضل العزاوي: المنفيون ذخيرة احتياطية كبيرة للعراق















المزيد.....


الشاعر والروائي فاضل العزاوي: المنفيون ذخيرة احتياطية كبيرة للعراق


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1343 - 2005 / 10 / 10 - 10:09
المحور: مقابلات و حوارات
    


أثبتت الدكتاتورية البعثية العراقية أنها الأكثر غباءً بين كل الدكتاتوريات التي شهدها التاريخ الحديث
استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية ( الحلقة الأولى ) تُنشر هذه المادة بالإتفاق مع صحيفة " الصباح الجديد العراقية
أعد الاستفتاء: عدنان حسين أحمد / أمستردام
لم يشهد الوسط الثقافي العراقي على مر السنين هجرات جماعية، ونفياً قسرياً للأدباء والفنانين والمفكرين، كما حدث للمثقفين العراقيين خلال حقبة الحكم الدكتاتوري البائد الذي جثم على صدور العراقيين طوال خمس وثلاثين عاماً، مسَّ فيها الضر كل العراقيين الذين لم ينسجموا مع سلطة البعث القمعية، ولم يتماهوا مع نظامها الفاشستي، والذي حاول بالترغيب والترهيب أن يروّض الذاكرة الجمعية للناس ويدمجها في مشروعه القمعي القائم على مُصادرة " المُعارِض "، وتهميش " المُختلِف " وإقصاء " الكائن غير المُدَجّن " والعصي على الذوبان والانصهار في الفكر الاستعلائي " الشوفيني " الذي كان يراهن على خلخلة الثوابت الأخلاقية، والإجهاز عليها، ومحوها من الوجود، ليؤسس لتقاليد " قومية " عدوانية، متعصبة، ضيقة الأفق، لا تقبل بالتنوع، ولا تستسيغ الاختلاف، الأمر الذي أفضى إلى شيوع ظواهر قمعية متعددة في آنٍ معاً، منها النفي، والاقتلاع القسري، والتهجير العرقي وما إلى ذلك. ولم تقتصر الهجرة أو اللجوء على المثقفين العراقيين حسب، وإنما امتدت لتشمل قرابة أربعة ملايين مواطن عراقي لم يستطيعوا " التكيّف " مع أطروحات النظام الشمولي الذي سرق الوطن في رابعة النهار، وزجّ العراق في سلسلة من الحروب العبثية، وأثث الفواصل الزمنية بين حرب وأخرى، بالمقابر الجماعية، والاغتيالات، والتصفيات الجسدية، فلم يكن أمام المثقفين العراقيين سوى الهجرة واللجوء إلى المنافي الأوروبية والأمريكية والكندية والأسترالية. إن نظرة عجلى إلى ضحايا الأنظمة النازية والفاشية والشمولية تكشف لنا عدداً قليلاً من الكتاب والأدباء المنفيين الذين اضطروا لمغادرة أوطانهم أمثال برتولد بريشت، وتوماس مان، وهاينرش مان، وأينشتاين، وأنا سيغرز الذين فروا من نازية هتلر، ورافائييل ألبرتي، وبابلو بيكاسو، وفرناندو أربال الذين هربوا من فاشية فرانكو، وسولجنستين، ونابكوف الذين تملصوا من النظام الشيوعي الشمولي، وهناك أسماء أُخر لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة غادروا أوطانهم بسبب القمع والمصادرة الفكرية أمثال الصيني غاو سينغ جيان، والتشيكي ميلان كونديرا وسواهما. أما المثقفون العراقيون من قصاصين وروائيين وشعراء وفنانين ومفكرين وإعلاميين فقد بلغ عددهم بضعة آلاف غادروا العراق مضطرين إلى المنافي البعيدة تحت مسميات عديدة من بينها، لاجئٌ، و مُهاجِرٌ، ومهجَّرٌ،، ومُغتربٌ، ومنفيٌّ، وهاربٌ. وللوقوف عند هذه الظاهرة ارتأت " الصباح الجديد " أن تقوم باستفتاء عدد من الكتاب والأدباء العراقيين الذين يعيشون في مختلف المنافي العالمية لاستجلاء أبعاد تجاربهم الأدبية، وما تمخض عن التلاقح بين الثقافة العراقية والثقافات الأخر الآوية للمثقفين العراقيين.
*جرت العادة في هذا الاستفتاء أن يجيب أن يُجيب المُستفتى على أسئلة الملف الأربعة على التوالي لكي نسلط الضوء للقارئ العراقي في الداخل على الكيفية التي انسجم فيها المبدع العراقي مع الأجواء والمناخات الجديدة التي صادفته في المنفى الجديد، والمُختلف بالضرورة عن الوطن الأم، غير الشاعر والروائي العراقي الكبير فاضل العزاوي قد خصّ قرّاء صحيفة " الصباح الجديد " بمقال مطوّل بعض الشيء يتحدث فيه ليس عن تجربته الشخصية في المنفى حسب، وإنما عن عموم المبدعين العراقيين الذين تعرضوا للاقتلاع من الجذور، وللنفي القسري، والتهجير، كما أنه وعد مُعِّد الملف بالإجابة على حوار مطوّل عن تجربته الشعرية والروائية سننشره في " الصباح الجديد " بعد الانتهاء من نشر مواد الملف التي استفتينا فيها خمسة عشر كاتباً عراقياً موزعين في مختلف بلدان العالم. طياً أسئلة الملف، ومقال الشاعر والروائي فاضل العزاوي عن المنفي، والغربة، وما تعرض له المثقف العراقي من مصاعب جمة، لم تُثنه عن تقديم منجز إبداعي ثر شهد له القاصي والداني على حد سواء.

*أتصنِّف نفسك أديباً مُهاجِراً، أم مُهجَّراً، أم مُغترباً، أم منفيّاً، أم لاجئاً، وهل أن ما تُنجزهُ من نصوص إبداعية، مُستوحىً من الوطن أو" عش الطفولة، ومستودع الذكريات " بحسب غاستون باشلار، أم ناتج عن المخيّال الإبداعي للمكان الجديد بوصفة مَهجراً، أو مُغترَباً، أو منفىً لا يعتمد على صياغة المفهوم القائل " هذه بضاعتكم رُدّت إليكم "؟ وكيف تتعاطى مع مخزون ذاكرتك الفردية الماضوية " القبْلية " المُهددة بالتلاشي والانطمار نتيجة لتراكم الذاكرة البعْدية التي تتأسس في المنافي أو المُغترّبات الجديدة؟
*كونك لاجئاً أو منفياً أو مُقتلعاً من الجذور، كيف تقيّم علاقتك بالوطن أو المعادل الموضوعي للمكان القديم، هل هي " علاقة ثأرية قائمة على التشفّي، وتصفية الحسابات " كما يذهب الدكتور سليمان الأزرعي، أم هي علاقة تفاعلية قادرة على تحويل التجارب السابقة واللاحقة إلى وعي حاد يتخلل تضاعيف النص الإبداعي المكتوب في الأمكنة الجديدة؟
*هل تعتقد أن بامكان اللاجئين والمهجرين والمغتربين في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا قادرون على التماهي في المجتمعات الجديدة الآوية لهم، أو التكامل معهم من دون أن يتعرضوا إلى مسخ مدروس أو تشويه متعمد أو تذويب قسري أو أن المرء ينقلب إلى غيره، أو " يزدوج ويفقد وحدته النفسية" كما يعتقد المفكر عبد الله العروي؟
*على مدى خمس وثلاثين سنة شهد العراق في حقبة الحكم الدكتاتوري البائد ثلاث هجرات ثقافية كبيرة، هل تعتقد أن المشهد الثقافي العراقي قد أثرى من خلال هذه الهجرات، وأفاد منها، أم أنه فقد بعض خصائصه، وسماته، ونكهته المحلية، وما الذي أضافه المبدع العراقي المنفي إلى المشهد الثقافي العراقي؟
* الطريد والمنفى
أملأ كيسي رملا وأؤسس في المنفى وطني". ماذا يعني ذلك؟ هل يمكن للطريد أن يبني وطنه في المنفى؟ أكانت تلك القصيدة التي كتبتها عام 1972 نبوءة بما سينتظرني؟
ألفي نفسي وأنا في عز ظهيرة حياتي، كما كتب دانتي ذات مرة في افتتاحية " كوميدياه الإلهية "، تائهاً في واد بلقع لا أعرف حتى كيف وصلت إليه؟ ولكن إذا كان دانتي قد قطع واديه ذاك، عابراً الجحيم إلى الجنة في لحظة حلم بين العتمة والنور فإن عبور وادي منفاي استمر ستة وعشرين عاماً، حتى من دون حلم في الوصول إلى الجنة. غادرت الوطن شاباً وها أنذا أفكر بالعودة إليه، خائفاً من نفسي ومنه، مفرغاً من الأوهام، مضعضع القلب والجسد، كما عاد يوليسيس ذات مرة من ضياعه الطويل في بحار العالم، لكن ما منح يوليسيس هذه المرة تلك القدرة على التحمل ليس الحنين إلى بنيلوب الجميلة التي ظلت تنتظره بصبر وتوق، فيما يحاصرها عشاقها الأجلاف، وإنما لأنه كان قد حمل إيثاكا، معه على كتفه الواهية في ذلك الكيس الذي ملأته له رملاً ذات يوم بعيد. وماذا يهم إن كانت حوريات البحر قد غنين لأنفسهن، كما يقول ت.إس. إليوت في قصيدته " أغنية حب إلى بروفرك " وليس لي؟" سمعت الحوريات يغنين لبعضهن/ لا أعتقد أنهن كن يغنين لي". ربما لم يكن يغنين لي حقاً، لكن يكفيني أنني تحديت وضعيتي، مكتشفاً السر كله في ذلك الغناء الآسر المهلك لحوريات البحر المستلقيات على صخرتهن السحرية. وهذا وحده يعني الكثير. تبدأ فكرة المنفى مع أسطورة الخليقة نفسها، تلك الأسطورة التي ترويها جميع الأديان السماوية: المنفى كعقاب. فحين رفض إبليس الجاحد أن يسجد لآدم لاعتبارات ذكرها القرآن طرده الله من الجنة إلى الجحيم وحرمه من العودة إليها. ثم تتكرر القصة ثانية مع آدم وحواء. فقد جعلهما الله يعيشان في الجنة " الوطن الأصلي "، ناهياً إياهما عن أمر واحد فقط وهو أن يأكلا من ثمرات الشجرة المحرمة " شجرة المعرفة" التي غالباً ما تصور في الأعمال الأدبية والفنية كشجرة تفاح، لكن فضولهما المعرفي وتمردهما على الممنوعات وتوقهما إلى حرية الإرادة من أجل المعرفة جعلهما يعصيان أمر الله، ويأكلان من الثمرة المحرمة. وهكذا أخرجهما الله من الجنة إلى الكرة الأرضية التي هي دار تجربة وعقاب لهما. فإذا ما أثبتا هناك وسط الأهوال والمصاعب حسن سلوكهما فإنهما سيعودان ثانية إلى الجنة. وهنا نجد أنفسنا أمام فكرة إلهية سامية في النظر إلى الصراع، أي صراع يمكن أن يقوم في العالم، تنسف كل الأساس القمعي الذي يلجأ إليه البعض باسم الله أو الدين أو أي اعتبار مقدس. فحين عصى إبليس الله ذا القوة والجبروت كان في إمكان الله القادر على كل شيء أن يزيله من الوجود في لحظة واحدة، بل وحتى قبل أن يعلن بيان عصيانه، لكنه منحه كامل الحرية والحق في أن يبين موقفه من خلق آدم. هذه الفكرة تشكل في الحقيقة أساس وجوهر كل ديمقراطية في العالم، فمهما كنت شريراً، حتى لو كنت الشيطان نفسه فإنني أضمن لك الحق في أن تعمل ضدي وتتحداني فكرياً وعملياً، بل إنها أكثر إنسانية وتسامحاً حتى من ذلك، فمهما كان الحاكم عظيماً فإنه لن يبلغ شأو الله بالتأكيد، ومهما كان المعارض شريراً فإنه سيظل أقل شراً من الشيطان.
* الخروج الكبير
بعد الوصول الثاني للبعثيين إلى الحكم في انقلاب 1968 شمل الضغط كل الفئات السياسية الأخرى، من اليساريين وحتى الإسلاميين والمستقلين، ثم راح يتزايد ويتخذ أشكالا مختلفة، حتى في ظل الجبهة التي تشكلت في العام 1973 بين البعثيين والشيوعيين والأكراد. فقد لجأ في البداية عدد من القوميين والشيوعيين " القيادة المركزية " والمثقفين المستقلين إلى حركة المقاومة الفلسطينية في الأردن ولبنان بصورة خاصة: قيس السامرائي، إبراهيم زاير، شريف الربيعي، جمعة اللامي، جاسم الزبيدي، عمران القيسي، زهير الجزائري، هناء الشيباني... الخ. وبعضهم قصد أوروبا مثل أنور الغساني، وعبد القادر الجنابي، وفاضل عباس هادي. أما البعثيون من الجناح السوري فقد قصدوا سوريا ومن بينهم الشاعرة آمال الزهاوي، وزوجها عداي النجم. وهكذا شهدت أعوام الجبهة تسرباً تدريجياً إلى المنفى باتجاه أوربا لمختلف الأسباب: صلاح فائق، هيفاء زنكنة، فيصل لعيبي، صلاح جياد، فاضل عباس هادي. وقد خرجت أنا وزوجتي سالمة صالح أيضاً في هذه الفترة, بدعوى مواصلة الدراسة، ولكن السبب الحقيقي كان هو أنني وجدت استحالة الإبداع في ظل الحكم البعثي القائم، وكنت أتوقع العاصفة ولا أريد الوقوع في الفخ نفسه الذي وقع فيه المثقفون في العام 1963، والذي كنت أنا نفسي واحداً من ضحاياه، حيث حكم علي بالسجن لمدة ثلاثة أعوام، أمضيتها متنقلا بين مختلف المعتقلات والسجون. ثم جاء الخروج الكبير بعد انهيار الجبهة الوطنية في العامين 1979 و1980 ووصول صدام حسين إلى الرئاسة في حفلة دموية قطع فيها رؤوس العشرات من رفاقه، فخرج عدد كبير من المثقفين اليساريين والمستقلين، غالباً باتجاه سوريا ولبنان. وهنا حدث تطور نوعي في مفهوم الخروج إلى المنفى. فقد كان الوجود في المنفى قبل ذلك نوعاً من الهروب الشخصي من دون فاعلية ثقافية عامة أو بفاعلية محدودة، غالباً ضمن الإطارات الحزبية الضيقة، أما هذه المرة فقد بادر المثقفون العراقيون الموجودون في المنفى إلى تشكيل معارضة ثقافية - سياسية منظمة للدكتاتورية، حيث انعقد في بداية العام 1980 في بيروت المؤتمر التأسيسي لرابطة الكتّاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين وحضره حوالي 40 مثقفاً يعيشون في مختلف البلدان، مثلما قررت الرابطة إصدار مجلة معارضة للدكتاتورية بعنوان " لبديل ". وحينما انعقد المؤتمر الثاني للرابطة في العام 1987 في دمشق كان عدد أعضاء الرابطة قد بلغ أكثر من 860 عضوا مع فروع في كثير من البلدان العربية والأوروبية. فإذا كانت هذه هي الموجة الكبيرة الأولى في الخروج إلى المنفى فقد أعقبتها موجتان أخريان: موجة الحرب العراقية - الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، وموجة ما بعد غزو الكويت وحرب الخليج الثانية والحصار الذي استمر حتى انهيار نظام البعث ودخول القوات الأمريكية إلى العراق في التاسع من أبريل 2003. هذه الموجات المتتابعة أدت إلى نزوح أبرز المثقفين العراقيين إلى الخارج، بل إن عددهم فاق عدد الموجودين في الداخل، حيث قدر عدد العاملين في مجال الثقافة من شعراء وكتّاب ومفكرين ورسامين وممثلين وسينمائيين وموسيقيين ومعماريين وصحفيين بما لا يقل عن بضعة آلاف، موزعين في كل قارات العالم ومشكلين طاقة ثقافية كبيرة لا يملكها الكثير من البلدان. وتقوم فكرة المنفى على ثنائية العلاقة بين المنفى والوطن من جهة، وعلاقة المنفي بالبلدان الغريبة التي يقيم فيها وبظروفها من جهة أخرى. فالمنفي يحول العلاقة بالوطن ويغيرها، إذ يصبح المنفى هو الوطن " ولو مؤقتا " فيما يتحول الوطن إلى أرض غريبة محرمة عليه، ولذلك فإن أي فهم للمنفى لا يقوم إلا على فهم ظرف الوطن الذي يقود المرء إلى المنفى وظرف الحرية الذي يتيحه المنفى للعمل الثقافي والسياسي من أجل إلغاء الظرف المسبب للمنفى. وهذا يعني ضرورة تحليل القسوة الاجتماعية والسياسية التي ترغم المنفي على أن يتخلى عن كل شيء ويتركه وراءه، لاجئاً إلى المنفى.
* شعب الداخل، وشعب الخارج
هذا التمزيق الشامل للمجتمع العراقي أثر بدوره على حركة الهجرة إلى المنفى، فإذا كان المنفى في العهود السابقة وحتى حرب الخليج الثانية في العام 1991 قد اتسم بالمعارضة السياسية المباشرة، فإن ما بعده اتسم بحركة هجرة جماهيرية، سواء أكان الشخص مطارداً أم غير مطارد. بحيث صار الشعار " لينج من يستطع النجاة بجلده!". لم يعد الأمر يقتصر على الجوع أو الوضع الاقتصادي الصعب، وإنما بفقدان الناس الثقة بأي مستقبل لهم أو حتى بإمكان الحياة في ظل النظام البعثي. كما امتد الأمر إلى القاعدة البعثية نفسها. فالألوف من الذين كانوا محسوبين على النظام تدفقوا إلى الخارج, معلنين القطيعة مع الدكتاتورية بهذا الشكل أو ذاك. قد لا يكون من المبالغة القول إن ذلك أدى إلى ظهور ما يكاد يكون شعبين عراقيين: شعب في الداخل وآخر في الخارج, ولعل شعب الخارج كان أكثر تعبيراً عن حقيقة الشعب العراقي، بقوة الحرية التي امتلكها، دون أن يعني هذا أي انتقاص من قيمة مبدعينا الآخرين الذين لم يكفوا عن الحلم بالجنة حتى وهم داخل جحيم الشيطان، فإذا كان بعضهم قد اختار الصمت، كأسلوب معروف في مقاومة الدكتاتورية، يطلق عليه في الأدب الألماني اسم " الهجرة الداخلية " فإن ثمة بعضا آخر منهم كان يهرب أعماله بهذه الطريقة أو تلك إلى الخارج، فتفلت من قبضة الرقابة المحتكرة للفكر والإبداع. ففي حين اختنقت الثقافة البعثية تحت وطأة الأحادية الفكرية والسياسية عكس إبداع الخارج الطبيعة المتنوعة والمتعددة، سياسياً وثقافياً وقومياً للعراقيين. وفي حين انحدر الركام الثقافي والفكري والأدبي والفني الرسمي المنشور في الداخل إلى الحضيض، ذلك الأدب الذي ظل يحرض دون خجل على الحروب ويرفع وحشاً دموياً مثل صدام حسين إلى مصاف الآلهة، تألق إبداع الخارج، محافظاً على اسم العراق وشرفه كبلد طليعي مجدد في الثقافة العربية، رغم كل العقبات التي اعترضت طريق المبدعين العراقيين الذين واجهوا في منفاهم أشكالاً متعددة من الحصار.
* ذخيرة الأمل بعراق جديد
ومع ذلك ورغم كل هذه القيود السياسية والنفسية والحياتية التي واجهها المبدعون والمثقفون العراقيون طوال ربع قرن من وجودهم في المنفى، فإنهم حققوا ما يشبه المعجزة، فقد أفلحوا في الولوج إلى نسيج معظم الثقافات العالمية الأخرى التي وجدوا أنفسهم على تماس معها، حيث ترجمت أعمال عراقية متميزة إلى الكثير من اللغات الأخرى، كما أنهم فرضوا حضورهم في معظم المهرجانات الثقافية العربية والعالمية، كروّاد حقيقيين داخل الثقافة الإنسانية، ومع موجات الهجرة الكبيرة انهدمت في النهاية معظم الجدران السابقة، إذ ما يكاد المرء يفتح جريدة أو مجلة حتى يندهش للوجود العراقي فيها. شكّلت ظاهرة المنفى العراقية، وبالذات خروج كل هذا العدد الكبير من المثقفين والمبدعين العراقيين إلى الخارج وإعلانهم القطيعة مع الدكتاتورية واحدة من أبرز الظواهر الثقافية في القرن العشرين ليس على المستوى العربي حسب، وإنما على المستوى العالمي أيضا. وهي ظاهرة تكاد تخلو من أي مثيل لها في المقاومة السياسية والثقافية في كل التاريخ العربي. فقد ضرب العراقيون مثلاً مضيئاً لكل الآخرين في رفضهم لكل ما يعادي الإبداع وحرية ثقافتهم، وضحوا بحياتهم نفسها من أجل ذلك. كانت هنالك قبلهم حركة المهجر في أمريكا، ولكنها لم تكن أكثر من حركة صغيرة مؤلفة من بضعة كتاب وشعراء لبنانيين وسوريين، خرجوا للتجارة والتكسب دون أي قطيعة سياسية أو ثقافية مع الأنظمة القائمة في بلدانهم ولم تتخذ حركتهم أي طابع سياسي أو مقاوم. أما في تجربة المنفى العراقية فقد كان الأمر يتعلق بالتحريم الكامل لأي إبداع حر في الداخل، متحرر من قبضة السلطة، مع احتمال تعرض الكاتب للموت إذا ما خرج على مفهوم الأدب البعثي الذي طالما روّجت له الدكتاتورية. وهكذا خرج معظم مبدعينا الكبار إلى المنفى: الجواهري، البياتي، الحيدري، نازك الملائكة، غائب طعمة فرمان، سعدي يوسف، نجيب المانع، ومئات الأسماء الأخرى من كل الأجيال، من مستقلين ويساريين وقوميين وإسلاميين. وأثبتت الدكتاتورية البعثية العراقية أنها الأكثر غباء بين كل الدكتاتوريات التي شهدها التاريخ الحديث. فهذا الانشقاق الكبير لم يحول العراق إلى مجرد خرابة ثقافية ينعق فيها البوم، وإنما فضح حقيقة دعاواها الكاذبة أكثر من أي عمل أخرق آخر قامت به. وفي كل الأحوال، ومهما كان حجم الخراب الذي حل بالعراق، فإن المنفى العراقي بملايينه العديدة استطاع الإسهام بصورة عميقة في إسقاط النظام الدكتاتوري وتشكيل صورة أخرى للعراق القادم الجديد الذي طالما حلمنا به. فرغم كل الآلام التي ارتبطت بمنفانا الطويل الذي بدت أعوامه بلا نهاية. حتى لكأننا عشنا الأبدية ذاتها، فإن خروج العراقيين على نظام القمع شكل ذخيرة ثقافية وسياسية وفكرية احتياطية كبيرة للعراق المتحرر من الدكتاتورية، ذخيرة لا يكاد يملكها أي شعب آخر في المنطقة. إنها ذخيرة الأمل بعراق جديد ناهض من الرماد، سوف يعرف كيف يعيد الاعتبار ثانية إلى الحياة.

فاضل العزاوي في سطور
- ولد في كركوك عام 1940.
- حاصل على الدكتوراه في الصحافة من جامعة لايبزج.
- أصدر أكثر من ثلاثين كتاباً في القصة والرواية والشعر والنقد والترجمة، من بينها " مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة، القلعة الخامسة، مدينة من رماد، سلاماً أيتها الموجة، سلاماً أيها البحر، الشجرة الشرقية، الأسفار، رجل يرمي أحجاراً في بئر، آخر الملائكة، صاعداً حتى الينبوع، في نهاية كل الرحلات، بعيداً داخل الغابة، الروح الحية، جيل الستينات في العراق، فراشة في طريقها إلى النار، الأسلاف وكتب أخرى.
- يقيم في برلين منذ عام 1983.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المخرج الأرميني أتوم إيغويان، الباحث عن المساحات المحجوبة في ...
- الفنان - التعبيري التجريدي - آرشيل غوركي وتقنية الرسم الآلي
- المخرج سيرغي باراجدانوف: ساحر السينما الروسية الذي أثار المش ...
- تركيا والطريق الطويلة إلى الاتحاد الأوروبي أو الجنة المفقودة
- قراءة نقدية للملحمة المُضادة - هكذا شطح الكائن مستقبلئذ - لل ...
- الناقد السينمائي عدنان حسين أحمد ل - الحوار المتمدن -: من غي ...
- هل أن المثقف العراقي مُطالب بأن يذهب إلى حتفه بقديمه؟
- المخرج باز شمعون ل - الحوار المتمدن -: أعشق سينما الحقيقة، و ...
- المخرج السينمائي قاسم حول لمجلة - العربي -: السينمائي يحتاج ...
- مسرحية - سنغافورة - للمخرج البرتغالي باولو كاسترو: كل المُتل ...
- - الدودة الصغيرة - المسرحية الراقصة للمخرجة الفنلندية إيفا م ...
- شرودر يرفض الإقرار بالهزيمة، وأنجيلا تطمح أن تكون أول مستشار ...
- مسرحية -موت في حجرة التمريض - لمارك فورتل: الخطاب البصري في ...
- الشعر العراقي في المنفى: المخيلة الطليقة التي فلتت من ذاكرة ...
- الفنان يوسف العاني عضواً في لجنة التحكيم للدورة السابعة عشر ...
- ملف الأدب المهجري العراقي
- حوار في الأزرق -معرض جديد للفنان ستار كاووش والهولندي مارك ل ...
- مسرحية - فاقد الصلاحية - لرسول الصغير على خشبة المجمع الثقاف ...
- الفنانة التشكيلية رملة الجاسم . . . من التشخيصية إلى التعبير ...
- الروائي العراقي سنان أنطون لـ - الحوار المتمدن -: البنية في ...


المزيد.....




- سفير الإمارات لدى أمريكا يُعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي: ...
- أول تعليق من البيت الأبيض على مقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ ...
- حركة اجتماعية ألمانية تطالب كييف بتعويضات عن تفجير -السيل ال ...
- -أكسيوس-: إسرائيل ولبنان على أعتاب اتفاق لوقف إطلاق النار
- متى يصبح السعي إلى -الكمالية- خطرا على صحتنا؟!
- الدولة الأمريكية العميقة في خطر!
- الصعود النووي للصين
- الإمارات تعلن القبض على متورطين بمقتل الحاخام الإسرائيلي تسف ...
- -وال ستريت جورنال-: ترامب يبحث تعيين رجل أعمال في منصب نائب ...
- تاس: خسائر قوات كييف في خاركوف بلغت 64.7 ألف فرد منذ مايو


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - الشاعر والروائي فاضل العزاوي: المنفيون ذخيرة احتياطية كبيرة للعراق