أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - كمال الجزولي - الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [1]















المزيد.....

الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [1]


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 4858 - 2015 / 7 / 6 - 03:13
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


مَائَةُ عامٍ مِنْ عُزْلَةِ الدُّرُوسِ المُهْدَرَة
(مَبْحَثٌ فِي قِيمَةِ الاعْتِبَارِ التَّارِيخِي)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإهداء:
"إلى رُوحِ جَدِّي لأمِّي مُحَمَّد وَدْ عَبْدَ الكَريمْ الأَنصَـاري الذي
عَاشَ لأكـثَرَ مِن نِصـفِ قَرْنٍ بَعْدَ (كَرَرِى)، راكِـلاً الدُّنيا بِمَا
فِيهَا، ومُتَرَقِّباً القِيامَةَ، فِي كُلِّ مَـرَّةٍ، يَومَ الجُّمُعَةِ القَادِمَةْ"!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"الخَيرُ فى ما اختارَ الله .. إلاَّ نصرَة مَا فِي"!
ــ الأمير إبراهيم الخليل في اجتماع قادة التَّشكيلات عشيَّة كرري ــ

"كانوا أشجع من مشى على الأرض،
دُمِّـروا ولـم يُقهـروا بقـوَّة الآلة"!
ـ تشرشل في دفتر المراسل الحربي ـ

"عَشَـرةُ ألفِ شَهـيدٍ وسِـتَّةُ عَشـرِ ألف جَـريح تَنَاثَرُوا،
شَظَايَا مِن اللَّحْمِ والعَظْمِ المُفتَّتِ، عَلى طَريقِ الصَّـلَفِ
الزَّاحـِفِ مِن وَرَاءِ البِحَـارِ باسـْمِ المَـدَنِيَّة والإِنسَـانِيَّةِ،
بَلْ وبِاسْـمِ اللهِ نَفْسِهِ"!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)
لست من أدعياء النُّبوءات لأزعم أنني، عندما فرغت من الصِّياغة الأولى لهذا المبحث، فجر الأحد 16 أغسطس 1998م، بين يدى مئويَّة كرري (2 سبتمبر 1898م ـ 2 سبتمبر 1998م)، كنت قد نجَّمت، ورميت الودع، وقرأت الطالع، واستيقنت من أن عدواناً سوف يقع بصواريخ "الكروز" على "مصنع الشِّفاء" بالخرطوم بحري، في تمام السَّابعة والنصف من مساء الخميس 20 أغسطس 1998م! بل حتَّى الرَّعد والقصف تشابها علىَّ، للوهلة الأولى، فلم أميِّز بين هزيم وهزيم، ولا بلغت احتمالاتي الغافلة أبعد من هطول المطر في ساعة متأخِّرة من تلك الليلة! غير أن دوىَّ القصف ما لبث أن تميَّز وسط رعود لاهثة الإرزام، وتحت سماء متلاصفة الوميض. أما الكهرباء التي تبكيها، أصلاً، لمسة الرِّيشة، فقد تذبذب تيَّارها، هنيهة، ثمَّ ذوى، هنيهة، ثمَّ انقطع. ولمَّا عاد كانت كلُّ أجهزة الإعلام العالميَّة تبثُّ، بجميع اللغات الحيَّة، أن الرَّئيس الأمريكي بيلْ كلنتون قطع، فجأة، عطلته، وطار من منتجعه الرِّيفي النَّاعم إلى بيته الأبيض المتجهِّم، ليعلن، على رؤوس الأشهاد، أنه قد فرغ، للتوِّ، من تدمير مصنع لإنتاج الأسلحة الكيماويَّة في السُّودان، فتأمَّل!
دهشت، لا للخبر في حدِّ ذاته، فتلك أمور فقدت قدرتها على الإدهاش في عالم اختفى المكافئ لكفَّته الثَّقيلة، فاختلَّ ميزانه، وخيَّم عليه ظلام القطبيَّة الأحاديَّة، وإنَّما دهشت للتَّوقيت. فقد بدا لي العدوان احتفالاً آخر بالذكرى المئويَّة لكرري، لكن .. على الطريقة الإستعماريَّة! ولئن كانت التَّذكرة واستدعاء الدُّروس والعِبَر هي بعض أغراض الاحتفالات عموماً، فإن غرض ذلك الاحتفال كان تذكيرنا، على وجه الخصوص، بأن الشَّجاعة والجُّبن شىء، وأن النَّصر والهزيمة شىء آخر! وأننا نزحف، بهذا المعنى، لا نزال، في المربع الأوَّل لهزيمتنا، لم ننس شيئاً، ولم نتعلم شيئاً! وأنه لا يغيِّر من هذه الحقيقة، قليلاً أو كثيراً، كون تلك الهزيمة نفسها موشَّاة، للعجب، بآيات الشَّجاعة والإقدام! فلو أن الشَّجاعة وحـدها تضمـن النَّصـر لكـان ذلك قـد تحقَّـق، وأيـْمُ الله، لأجدادنا الأماجد في كرري، ولما كان الآخر يرتع، ما يزال، في بحبوحة نصره المؤزَّر المدعوم بتفوقه الحضاري، دونما حاجة، البتَّة، لمثل هذه القيم، رغم اعترافه، بل وإشادته أحياناً بها إشادَتك برسومات الكهوف، واصطناع الفأس من الحجر، واستيلاد النَّار بفرك غصنين! فقد تصرَّمت أزمان مذ تعلم أن يركلها، ويستعيض عنها بثمار العلم والتكنولوجيا. ولعلَّ في ذلك شىء من المعنى الذي ذهب إليه الجنرال شوارسكوف، على أيَّام انشغاله بتحشيد التكنولوجيا العسكريَّة الحديثة عشيَّة "عاصفة الصحراء"، بعد زهاء القرن من كرري، عندما سأله الصحفيون عمَّا ستفعله قوَّاته عند الالتحام بـ "النشامى"، وهو الوصف الذي راج، وقتها، في الدَّلالة على "رجولة" الجُّندي العراقي، فأجاب متسائلاً بدوره: "وما حاجتنا إلى ذلك إذا كان باستطاعة أيَّة مجموعة من المجنَّدين المثليين gays، أو المجنَّدات، حسم هذه الحرب لصالحنا، طالما كانوا يحسنون، أو كُنَّ يحسنَّ استخدام أجهزة التَّحكم النَّائي remote control والضغط على الأزرار"؟! ويا لها من "حقيقة" فاجعة، ولكنها "الحقيقة" على كلِّ حال!
ذلك ما خطر لي خلال الدَّقائق القصار اللاتي أعقبن الحدث، والإعلان الرِّئاسي الأمريكي عنه، مثلما خطر لي أن نفس هذا المبحث الذي كان جاهزاً، أصلاً، للنَّشر، قبل أيَّام من ذلك، ربَّما يصبح صالحاً، أيضاً، للإحاطة، على نحو ما، بالمناسبة الجَّديدة، في ما لو أجريت عليه تعديلات طفيفة لا تقلقل فكرته الأساسيَّة قيد أنملة، بل، على العكس، تكثِّفها، ففعلت. ولكنني آثرت إرجاء النَّشر ريثما يهدأ غليان المشاعر، فللصَّدمة والغضب وقت، وللتَّفكير والتَّدبير وقت!

(2)
وإذن، ومع أن النَّشر الحالي يجئ في مناسبة أخرى، هي الذِّكرى المائة والثَّلاثين لوفاة الإمام الثَّائر محمَّد احمد المهدي، متأثِّراً بحمَّى التايفويد بأم درمان، في الرَّابعة من بعد ظهر الإثنين الثَّاني والعشرين من يونيو 1885م، الموافق التاسع من رمضان 1302هـ، إلا أن المبحث نفسه كان مكرَّساً، في أصله، للاحتفال بالذكرى المئويَّة لاستشهاد عشرة آلاف رجل، وجرح ستَّة عشر ألفاً آخرين، خرجوا، ضمن أربعين ألفاً، من بوَّابة أم درمان الغربيَّة، ثمَّ انعطفوا نواحي شمالها الشَّرقي، ليؤدُّوا صلاتهم الأخيرة ذات فجر ملبَّد بغمام خريف بعيد ما تزوَّدوا بغير "الحامض من رغوته"، كما في عبارة الشاعر محمد عبد الحي!
ستَّة وعشرون ألف صدر لم تنقصها البسالة أو الاستعداد للفداء والتَّضحية، لكنها أثقلت بهموم جبهة داخليَّة سرى إلى نخاعها الشَّوكي سوس الاستبداد بالسُّلطة، وصدَّعها، لحدِّ التآكل، قهر المظالم الاجتماعيَّة والجِّهويَّة تُباعد بين "أولاد العرب" و"أولاد البلد".
ستة وعشرون ألف عقل لم يَعُزْها الإيمان ولا الذَّكاء، غير أن العزلة الخانقة فرضت عليها ألا تبلغ من عِلم السِّلاح أكثر من بقايا مدافع هكس الجَّبليَّة قصيرة المدى، وبنادقه البطيئة ماركة "ريمنتون"، و"أبو صرة"، و"أبو روحين"، و"بيادة"، و"أورشليك"، و"خشخان"، وألا يطوف عليها ولو محض طائف من رشاشات "المكسيم"، أو دانات "المنثار SHARPHEL"، أو شظايا "الخراطيش CASE SHOTS"، أو بوارج الأساطيل المدرَّعة (ع زلفو؛ كرري، ص 359 ـ 360 ـ 412).
عشـرة آلاف شـهيد وسـتة عشـر ألف جـريح تدافعـوا، كمـا الضَّـواري الكواسر، ومـلء الصدور نشيد واحد ما أكثر ما دوَّى، في ذاكرة الثَّورة، عبر الوديان، والبراري، والصحاري، والجِّبال، والسهول، والغابات:
ـ "في شان الله .. في شان الله"!
لكن قليلاً ما تهيَّأ له، في ذلك النهار الأغبر، التحام ينقع الغلة أو يجلو الشَّجاعة. فأذرع المدفعيَّة الطويلة، مفخرة العدوِّ التي لم تكن قد أتيحت لأولئك البواسل أدنى معرفة بها، ظلت، وعلى مدى ساعات أربع هنَّ عمر الموقعة، تحصد الصُّفوف المتراصَّة "لعظمة الرجولة الصامدة" (Churchill, W.S.-;- The River War, An Account of the Reconquest of the Sudan, London, 1949)، الصفَّ وراء الصفِّ، تماماً مثل إعمالك ممحاة على أسطر بقلم الرَّصاص فوق صفحة بيضاء، بينما الحناجر لا ينقطع صداحها بنداء الفرسان النَّبيل:
ـ "سِدُّو الفرَقة .. سِدّو الفرَقة"!
عشرة آلاف شهيد وستة عشر ألف جريح تناثروا، شظايا من اللحم والعظم المفتَّت، على طريق الصَّـلف الزَّاحـف من وراء البحـار باسـم المـدنيَّة والإنسـانيَّة، بل وباسـم الله نفسه! وسيِّدي الخليفة، في مثار النَّقع ذاك، منتصب على ظهر جواده الأشهب، فلكأنه "في عين الرَّدى وهو نائم"، لا ينفكُّ يسأل أمراءه البواسل فرداً فرداً:
ـ "أوصيت بعدك منو في إمارة الرَّاية"؟
فتأتيه، على الفور، الإجابة الواثقة المطمئنَّة من فوق كلِّ دوىٍّ وقعقعة:
ـ "سيدى خليفة المهدى مخيَّر، وإن كان ولا بُدْ ففلان ود فلان"!
لقد "كانوا أشجع من مشى على الأرض، دُمِّروا ولم يُقهروا بقوَّة الآلة"، هكذا دوَّن تشرشل في دفتر المراسل الحربي (Ibid). وكتب ستيفنس: "لقد بلغ رجالنا درجة الكمال، ولكنهم هم فاقوا حدَّ الكمال. كان ذلك أعظم وأشجع جيش خاض حرباً ضدَّنا .. حملة بنادقهم يحيط بهم الموت والفناء من كلِّ جهة، وهم يجاهدون عبثاً لإطلاق ذخيرتهم القديمة الرَّديئة عديمة الأثر في وجه أقوى وأحدث أسلحة التَّدمير" (مع كتشنر إلى الخرطوم، ص 211 ـ ضمن: زلفو؛ كرري). وكتب فيليب وارنر، بعد زهاء السَّبعين سنة من كرري: "ربما وجدنا، إذا نقَّبنا في تاريخ الإنسان، جماعة ماثلت في شجاعتها الأنصار، ولكننا، قطعاً، لن نجد، مهما نقَّبنا، جماعة فاقتهم شجاعة" (قيام وسقوط إمبراطورية أفريقية، ص 9 ـ ضمن المصدر). لقد كانت تلك حقاً "أفضل خصال البشر عندما يتجرَّدون .. في أعنف اختبار .. من كل ضعف وخور" (زلفو؛ كرري، ص 495). حتى عبد الرحمن ود احمد، شقيق الأميرين محمود وإبراهيم الخليل، مضى يشقُّ طريقه بثبات إلى الجَّبهة الأماميَّة، متلمِّساً لنفسه، وسط كلِّ ذلك الموت المصبوب على الرُّؤوس، مكاناً وسط الصَّخر بعصاه التي لا تفارقه، رغم معارضة الأمير يعقوب "جراب الراى" الذى كان يشفق على ذلك الفارس الأسطوري، كونه كان .. ضريراً! (نفسه، ص 418).

(3)
ومع ذلك، ما الذي كان يمكن أن تحقِّق كلُّ تلك الأرتال من الشَّجاعة، والبسالة، والفداء، والتَّضحية، دون منٍّ ولا أذى، مع جبهة داخليَّة أريد لها، من جهة، أن تعيش، بلا انقطاع، حياة الثُّكنة العسكريَّة القائمة في روح الطاعة، والانضباط، والاستعداد الدَّائم لخوض حروب تكاد لا تنقضي، بينما أعماقها تعلكها، من جهة أخرى، وتسرى بالوهن المميت في أوصالها، سياسات الارتداد عن الإقرار القديم بالتعدُّد، وحِدَّة الفرز الطبقي، والاستقطاب الجِّهوي، واستبداد النُّخبة الأوتوقراطيَّة بالأمر دون سائر الناس، الشىء الذي مهَّد لمختلف صور المظالم، وممارسات التَّقريب والإبعاد، والتَّناحر بين القادة المدنيين والعسكريين على السُّلطة والثَّروة، بكلِّ السُّبل والوسائل، المشروع منها وغير المشروع، مثلما كانت تهبط بقدراتها، من جهة ثالثة، عزلة "السِّتار الحديدي" عن عالمها المحيط، باستراتيجيَّاته العظمى، وقوانين حراكه التاريخي، وطبوغرافيا تناقضاته الرَّئيسة، قبل أن تكتب عليها تصاريف العصر الكولونيالي، أن تجابه، في نهاية ذلك المشهد الدراماتيكي، قمة تكنولوجيا الحرب وتكتيكاتها، في خواتيم القرن التاسع عشر، دون أن تكون قد سمعت، مجرد السَّمع، بشىء منها، بينما أبطالها ".. يجاهدون عبثاً لإطلاق ذخيرتهم القديمة الرَّديئة عديمة الأثر"؟!
ما الذي كان يمكن أن تحقِّق كلُّ تلك الشَّجاعة سوى أن تثبُت ، ألا تبهرج ، ألا تسوخ مفاصلها في التراب، بل وأن تقذف بنفسها في لجج دواس مأساويٍّ خاسر، حين الموت أدنى من شِراك النَّعل وأقرب من حبل الوريد، وأن تردِّد، من أعماق بطولتها الإنسانيَّة المُهدَرة، مع الفتى الرِّزيقي الذي أبرأته عبقرية المكان والزَّمان الأمدرمانيَّين من كلِّ وساوس العصبيَّة الجِّهويَّة، القائد الفذِّ لجيش "الكارا"، سيِّدي الأمير الشَّهيد إبراهيم الخليل:
ـ "الخـير في ما اخـتار الله، المهديَّة مهديَّتكم إلا نِحنا قدَّنا بنسدُّو .. المهديَّة مهديَّتكم إلا نصرة ما في"! (نفسه ، ص 263 ـ 410 ـ 411).
فإذا بتلك الصيحة تتماوج، بين غيوم يأسها الخانق وحُرقة غبينتها الغائرة:
ـ "نصرة ما في .. نصرة ما في .. نصـ .."!
من "دهم" إلى "أبو سنط"، ومن "سركاب" إلى "أبو زريبة"، تترجَّع أصداؤها المرعبة من نواحي "الإزيرقاب" و"أم قرقور" و"راحة القلوب":
ـ "نصرة ما في .. ما .. في .. ما .."!
لتخفق بها أجنحة الغربان تنذر بالاستباحة السَّاحقة، واليتم الماحق، والترمُّل الثقيل، ونعيقها، من على البعد، يستحث نساء المدينة المكلومة، وصبيتها، بما يستحثهم عليه مشهد الثُّقب الفاغر في سنام "القبَّة": أن اخرجوا أجمعين، أخرجوا .. أخرجوا، موشَّحين بتراب الكارثة، وبسخامها، ورمادها، كأكلح ما يكون احتفال عبوس بمقدم "سردار الشُّؤم" فى وضح نهار الثَّاني من سبتمبر 1898م؟!

(4)
ما من شكٍّ في أن فكرة "المهدي المنتظر" قد وفَّرت، خلال النصف الأوَّل من ثمانينات القرن التاسع عشر، أيديولوجيَّة النُّهوض الثَّوري اللازمة لعموم أهل السُّودان في وجه مظالم الحكم التركي. فهي، وإن لم تقض على الفروقات الاجتماعيَّة التي بقيت شاخصة في أفق الثَّورة، إلا أنَّها استطاعت أن تصوغ، بكفاءة نادرة، في مرآة الممكن التَّاريخي، صرخة الولادة الأولى للوعي القومي في مرحلة تكوينه الجَّنيني (م س القدال؛ تاريخ السُّودان الحديث 1820 – 1955م، ص 164). ولأنَّ بمقدور الأيديولوجيَّة، حين تتغلغل، عميقاً، في العقول والوجدانات، أن تحوِّل الجَّماهير إلى قوَّة ماديَّة لا تُقهر، فإن أكثر شعوب السُّودان قد تداعت، بمختلف لغاتها ولهجاتها، لدعوة "المهديَّة الثَّورة"، من كلِّ فجٍّ عميق، لا لتلغى تعدُّد كياناتها ".. فتلك النُّظم جزء من واقع لا يمكن إلغاؤه بالتعليمـات" (الصَّـادق المهـدي؛ يسـألونك عـن المهـديَّة، ص 236)، وإنَّما لتتجـاوز، لأوَّل مرَّة، وإلى حدٍّ كبير، تنافر العنصرين المستعرب وغير المستعرب، ولتنتظم ، موحَّدة في تنوُّعها، ومتنوِّعة في وحدتها، خلف قيادة سيِّدي الإمام الفذَّة، وتحت راياته المتعدِّدة، صوب هدف واحد مشترك هو الإجهاز على الحكم الأجنبي، في تحالف عريض استطاع أن يستوعب، خلال مرحلة الثَّورة، كل أشكال التعـدُّد الاجتماعي، والعرقي، والجِّهوي، والقَبَلي، والدِّيني، واللغوي، والثَّقافي، وأن يهيِّئ لعبقريَّات أبناء الشَّعب ".. الفقراء الذين لا يُعبأ بهم"، كما كان الإمام الثائر يصفهم، طريق التَّفتُّح في كلِّ مجالات الفكر العسكري، والإدارة السِّياسيَّة، والاقتصاديَّة، والماليَّة، والتَّعليميَّة، والقضائيَّة، وغيرها، في مسيرة واحدة قاصدة، تكاتف فيها التَّعايشي والمحسي، الحمري والرُّباطابي، المسيري والبديري، الدِّينكاوي والدُّنقلاوي، النُّوباوي والبجاوي، الكاهلي والعبَّادي، وغيرهم، وغيرهم. حتى القبائل التي تخلفت سروجها يوم الزَّحف لم تعدم بطوناً، أو أفخاذاً، أو حتَّى أفراداً من ذوى البأس انخرطوا في عصبة التعدُّد السُّوداني تلك، والتي راحت طاقاتها تتفجَّر، وتتدافع، كما الحمم البركانيَّة، وسط دوىِّ "النِّحاس" الهادر، وصفير "الأمباية" الصَّدَّاح، باتِّجاه "القمة المنطقيَّة لمواقع النموِّ في المجتمع" (نفسه؛ ص 236 ـ 237)، من معركة "أبا"، وتشكيل مجتمع "قدير"، إلى تحرير الخرطوم، وتأسيس أم درمان عاصمة للسُّودان الطالع بأسره، عنوة واقتداراً، من سخام القهر التُّركي، تاريخئذٍ، إلى طلاقة "الرَّايات" الزَّاهيات، و"التَّهاليل" الحُرَّة، و"الجُّبب" المرقَّعة حدائق أمل، وتفاؤل، واستبشار، وألوان عزَّة، وكرامة، واستقلال، فكيف استحال كلُّ ذلك إلى رماد يوم كرري؟!
(نواصل)

***



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الذَّاكِرَةُ الحَقيقيَّةُ تِرياقُ الذَّاكِرَةِ المُخْتَرَعَة ...
- تُركيا: عِبْرِةُ التَّصْوِيتِ العِقَابِي!
- شُبُهاتٌ حَوْلَ العَلمَانيَّة!
- خَرَاقَةُ السِّياسَةِ: دَارْفُورْ وتَقْرِيرُ المَصِيْر!
- شَلْ .. ضِدَّ العَالَم!
- للمَرَّةِ الأَلْفِ: بِدُونِ تَعْليمِها حُقُوقِ الإِنْسَانِ ف ...
- أَنْدرو مُوينْدا: خِطابُ الاسْتِفْزِازِ الأَفريقِي!
- الدِّينُ والعَلْمَانِيَّةُ بَيْنَ السِّيَاسَةِ والثَّقَافَة!
- محمود!
- مُؤْتَمَرُ الشَّارِقَةِ .. السُّودانِي!
- إِنْتَبِهْ .. أنْتَ مَوْعُودٌ بِتَخَلُّفٍ عَقْلِي!
- قِيَامَةُ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ 26 مَارِس!
- مَرحَباً بِجَهدِ شَبَكةِ صَيْحة الاستِنَاري!
- عَلِي عُثْمَانْ وَالحِقْدُ الطَّبَقِي فِي السُّودَان!
- مِن نِيو دَلْهِي إلَى الخُرْطومِ إلى بُوغُوتَا: العِلمُ لأجْ ...
- بِانتِظارِ المِيلادِ الثَّالِث: مَنْ هُوَ -دَاعِشُ- اتِّحَاد ...
- فَارُوق وأَمِين: إِطلاقُ سَراحٍ أَمْ تَحْريرٌ بِالقَتْل؟!
- مَرْحَبَاً بِمحمَّد بَنيس وأَسئِلَتِهِ الشَّائِكَة!
- جُوزيف كُونِي: التَّقَرُّبُ إلى اللهِ زُلْفَى .. بِالسَّكاكِ ...
- شَمْلَلَةُ الدُّستور!


المزيد.....




- هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب ...
- حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو ...
- بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
- الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
- مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو ...
- مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق ...
- أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية ...
- حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
- تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - كمال الجزولي - الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [1]