|
قديس
عبدو أبو يامن
الحوار المتمدن-العدد: 1341 - 2005 / 10 / 8 - 09:41
المحور:
الادب والفن
كانت المدينة ساجية ساكنة، نائمة في أحضان الخمول والهدوء، بقايا النهار الراحل تسمعها في وقع خطوات السابلة الوئيدة الهينة التي تمر عبر طرقات المدينة وأزقتها. وبعد أن أوغل الليل في سدفته، وتباعدت آثار النهار أو كادت كان ماعز الأسلمي يطالع نجما في السماء، يرقب انحداره صوب الغروب وفي اللحظة الحاسمة انسل من بيته متقنعا عمامته حتى لا يعرفه من قد يصادفه في طريقه .. مضى لطيته لا يلوي على شيء حتى أتى بيتا منفردا في أطراف الحي كانت تقطنه جارية يعرفها، والتقيا وكان لقاء أي لقاء بعد أيام آب الرسول الكريم من غزوته ،في جيشه كبار المهاجرين والأنصار، فخرج أهل المدينة للقائه والترحيب بمقدمه وهم يهزجون وينشدون كعادتهم . خرج ماعز الأسلمي – قصيرا قويا، مفتول الساعدين،عريض المنكبين- خرج فيمن خرج للقاء صديقه ورفيقه حنظلة. أخذ يتصفح وجوه القوم واحدا واحدا، حتى إذا لم يعثر عليه جعل يرفع صوته صائحا: حنظلة! حنظلة! حنظلة! فما من مجيب. ثم جعل ينشد عنه عل أحدا رآه أو سمع له بخبر. وبعد لأي تقدم ناحيته رجل من أقاربه فقال له: -ما وراءك يا ماعز؟! -إنني أبحث عن حنظلة، هل رأيته؟! -حنظلة من؟! -حنظلة الأنصاري! أطرق الرجل زمنا، ثم رفع رأسه وقال: -لم تسأل عنه؟! -أسأل عنه؟! إنه رفيقي وخديني وشقيق روحي، كيف لا أسأل عنه؟! هل أصابه مكروه؟! تغيرت سحنة ماعز، وجب قلبه، ارتعشت أطرافه.. لاحظ أن الرجل صمت، ختم على لسانه فاندفع نحوه يهزه بعنف: -أخبرني، ماذا جرى له؟ لماذا تسكت؟! وبعد ساعة صمت كأنها الأبد فغر الرجل فاه بهذه الكلمة: -لقد استشهد!! -ماذا؟ هل….؟! أومأ الرجل برأسه ثم انصرف. تصلب ماعز في مكانه لا يبدي حراكا، كان مشدوها مصدوما مصعوقا…قل ما شئت في وصف حالته.أخلد إلى الأرض يقلب كفيه، يروم البكاء فلا يستطيع، يروم الكلام فلا يبين، يروم الحراك فلا يقدر. كان عنوانه الصمت، كان كميت أشبه منه بحي. وبعد وقت طال أمده قام يجرجر رجليه، يسحب جسمه، كأن روحه قد ثقلت على جسده فلا يستطيع حمل نفسه.أحس بالغصة تملأ حلقه، وبالكآبة تجوس خلال حنايا نفسه، فمشى حيث تقوده رجلاه. كان مذهولا جدا … وبعد زمن ثاب إليه عقله، وداخله شئ من إحساسه حين ألفى نفسه قد خلف المدينة وراءه. كانت الهاجرة تلهب الأرض، والرمضاء تشوي الحجارة وحبات الرمل، والسراب يغمر الأرض بمياه خادعة.أنشأ يتساحب في هذه الهاجرة، والشمس ترسل أشعتها عمودية على رأسه، والغرق الغزير يساقط من جبينه ويغمر تلافيف جسمه. وبعد أن أحس بالشمس تشوي جسده، والظمأ يزيد في وقعه مال إلى شجرة سيال من أشجار الوادي وقعد يستريح في ظلها. بعد تصرم الظهيرة هبت نسمة عليلة واهنة أعادت له شيئا من نشاطه، فبدأ عقله يشتعل، ونفسه تثوب، وذاكرته تتيقظ، تذكر أنه نسي موعدا ضربه، تذكر أنه لم يطعم شيئا منذ الصباح فأخذ يحدث نفسه ماذا أتى بي إلى هنا؟! دارت به ذاكرته كل مدار، وطارت به هواجسه كل مطار . ثمة أخذ ينظر حواليه عله يبصر ماء تذكر أن بالقرب من المكان بئرا، انحدر إليها شرب منها، غسل رأسه، بلل أطرافه ثم توضأ وصلى. كان ما يجنه له الليل أدهى وأمر، والليل عدو المحزونين والمصدومين إذ يخلون فيه إلى ذوات نفوسهم ولا يجدون ما يشغلهم إلا التذكر والتذكر والتذكر. حاول ترتيب سلسلة حياته مذ كان يافعا حتى شب وصار رجلا.. ماذا كانت حياته قبل ذلك؟! غدو ورواح إلى السوق وحمل الأثقال أحياة البهائم هي إذن؟! ثم ماذا؟! ماذا قدمت، وماذا اقترفت؟! وتخايل له خيال حنظلة الشاب التقي النقي، خرج فيمن خرج مع الرسول الكريم طائعا مختارا وباع واشترى، وماذا باع؟ باع نفسه، وماذا اشترى؟ اشترى الجنة! ومن المشتري؟! الله جل وعلا.. وأنت ماذا بعت وماذا اشتريت؟! بعت نفسك . وماذا اشتريت؟! الخسران والوبال. ومن كان الشاري؟! إبليس اللعين!! طافت برأسه كل هذه الأفكار فبكى وتململ وأخذ يتقلب على مهاد الحسك والسعدان، كان كمن يصطلي بنار، لم يغمض له جفن ولم ترق له جارحة. كان كمرجل يغلي من كل أقطاره، عاف النوم أو عافه النوم لا فرق، كره الراحة أو كرهته الراحة لا فرق، سئم الهدوء أو سئمه الهدوء لا فرق، فارق السلام والسكينة أو فارقتاه لا فرق. تبدلت حاله بأخرى، وانقلبت حياته ظهرا لبطن، أصبح خائفا بعد أن كان آمنا، وأضحى طاويا بعد أن كان ممتلئا، وأمسى ساهرا بعد أن كان هاجدا. شف ورق، حس وشعر، وتأمل فأطال التأمل في قوافل الشهداء من الصحابة والإخوان، والأقارب والخلان. كل له قصة هي نسيج وحدها ويتيمة دهرها. كلهم صافحت جنوبهم الردى، واستقبلت أرواحهم في الملأ. وكلهم قد خلدت نفسه وسعدت بقرب ربها.كلهم قد سجل اسمه في صفحات الخلود والفداء، وكلهم أضحى نبراسا يقتدي به السائرون من خلفهم. ثم ماذا؟! ثم يخرج الرسول الكريم إلى الغزو في سبيل الله، وفي عزة الإسلام وأخلفه أنا_ آه من أنا آه_ أخلفه في المدينة أتقحم بيوت النساء، وأعمل الفاحشة النكراء!! أي حياة هذه التي أعيشها، وأي ممات كان ينتظره؟؟ طارت طيور السكينة وخلفتها غربان العناء!! أخذ يؤامر نفسه ويحاورها ويداورها، عقله من جهة يأمره ويشده، ونفسه من أخرى تأمره وتشده.. فويل لمن ابتلي بالصراع بينهما!! طالت لياليه واستطالت أيامه وهو على هذه الحالة ،حتى إذا كان ذات غداة يهبط إلى رسول الله وهو في ثلة من أصحابه ،فيقبل عليه وهو منتفش الشعر ليس عليه رداء ويقول له : -طهرّني يا رسول الله ؟! فيعرض عنه عليه السلام إلى الجهة الأخرى، ويقول كرة أخرى : -طهرّني يا رسول الله ؟! ولايني يفعل ذلك والرسول الكريم لايني يعرض عنه،ثم يقول له الرسول الكريم: -من ماذا ؟ -لقد زنيت ! -أبك جنون؟! -لا! -فلعلك….! -لا والله إنه قد زني الآخر !!طهرّني يا رسول الله ! -ويحك أرجع فاستغفر الله وتب إليه . فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: -طهرّني يا رسول الله ! حتى إذا كانت الرابعة ، قال له : فيم أطهرك ؟ -قال : من الزنى . فسأل عنه قومه أبه جنون؟ فأخبروه أنه ليس بمجنون. فقال : أشرب خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر. فقال عليه السلام : أزنيت؟ قال : نعم.فأمر برجمه . فخرجوا به ، فمنهم من يسبه ومنهم من أمسك . حتى أتوا الحرة ،فلم يوثقوه ، ولم يحتفروا له حفيراً ، فرموه بالعظم والمدر والخزف . فلما أذلقته الحجارة وأحس ألمها قام فاشتد ،فاشتدوا خلفه حتى أتى عرض الحرة فانتصب لهم ، فرموه بجلاميد الحجارة حتى سكت. واختلف الناس بعده شأنهم في كل أمر .فقائل يقول: لقد هلك لقد أحاطت به خطيئته . وآخر يقول ما توبةٌ أفضل من توبة ماعز ،أنه جاء إلى النبي عليه السلام فوضع يده في يده ثم قال: اقتلني بالحجارة . فلبثوا على تلك الحالة يومين أو ثلاثة ، حتى جاء القول الذي قطع كل قول ، قال لهم عليه السلام : استغفروا لماعز بن مالك . فقالوا : اغفر الله لماعز بن مالك ؟ فقال عليه السلام : لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم ، ولقد رأيته بين أنهار الجنة ينغمس ويتنعم ،قد غفر الله وأدخله الجنة . هل أراد ماعز أن يكون قديساً ، أو أريد له ذلك، ذلك ما لا تقوله الحكاية !
#عبدو_أبو_يامن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كليلة ودمنة في أراب ستان – 4 –
-
كليلة ودمنة في أراب ستان – 3 –
-
كليلة ودمنة في أراب استان -2-
-
كليلة ودمنة في أراب ستان -1-
-
هذا بوش أم هتلر.. لا أستطيع التمييز بينهما؟!! - 2-
-
هذا بوش أم هتلر.. لا أستطيع التمييز بينهما؟!! - 1-
-
قنوات التدجين الفضائية العربية!!
-
ماذا يريد هؤلاء؟ ( زورق الإنقاذ ) 3
-
قضية سيد القمني، تضامن أم ضمانات؟
-
ماذا يريد هؤلاء؟ ( الليبراليون الجدد ) 2
-
ماذا يريد هؤلاء ( الصحوة الإسلامية )؟؟ 1
-
تحرير المرأة أم تحرير الرجل أم تحريرهما معا؟؟
-
جنة بوش أم جنة ابن لادن؟
-
فنارات على دروب التقدم 2
-
فنارات على دروب التقدم
-
إسلاميات
-
تعرية الذات العربية
-
باسم الشعب نبدأ
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|