خاص: الحوار المتمدن
هناك مفارقة غريبة في الرواية المغربية والعربية تظهر بوضوح مخيف في طبيعة تعامل العالم مع الطاهر بن جلون من جهة ومع مواطنه الروائي محمد شكري من جهة أخرى.
ان بن جلون وشكري قاما بأدوات روائية مختلفة في تفكيك بنية المجتمع المغربي والعربي واسلوب عمل المؤسسات السري، وفضح وتعرية المسكوت عنه في المجتمع والسلطة الابوية أو السياسية أو الاجتماعية، لكن النتائج كانت مختلفة ومتناقضة بالنسبة لهذين الكاتبين الموهوبين.
في الوقت الذي دفع محمد شكري الثمن على كل الجبهات وكادت حياته ان تنتهي، وتلقى حفلات القدح وهتاف المحاكمات حتى في مدن عربية، واخرها الضجة التي اثيرت في القاهرة بسبب تدريس روايته" الخبز الحافي" في الجامعة الامريكية، كان مواطنه الطاهر بن جلون يحصد الجوائز وحفلات التكريم ويُستقبل في كل مكان وتترجم
رواياته الى لغات العالم، وليس مدهشا كثيرا ان اجد اكثر من عشر من رواياته مترجمة للغة النرويجية وهي لغة شديدة الحذر ازاء الكتاب القادم من عالمنا العربي خاصة والاسلامي عامة. على اي شيء تحتوي هذه المفارقة؟
هذه المفارقة الساخرة والمريرة تختزن وضعين اجتماعيين، وحالتين ثقافيتين، ومرجعيتين متناقضيتن، وذاكرتين مختلفتين. لذلك فإن الدراسة المقارنة بين ظاهرة حرب محمد شكري المفتوحة، وظاهرة تكريم الطاهر بن جلون ستقود حتما الى دراسة أوسع في التاريخ والمجتمع والسلطة والحرية والكتابة والاختلاف والهوية...
ان الطاهر بن جلون لم يخرج من مدن الصفيح ولم يتشرد مثل محمد شكري وعاش في كيان عائلي مستقر وفي اسرة غنية وسافر الى باريس باكرا وعمل محررا ثقافيا في جريدة الليموند الفرنسية وهي من صحف اوروبا الكبرى.كما ان الطاهر بن جلون كتب رواياته باللغة الفرنسية وترجمت الى العربية، وجمهوره جمهور فرنسي أوروبي، وهذا الجمهور غير معني أو مهتم بحياة الطاهر بن جلون الشخصية ـ كما سيفعل النقد المغربي ! ـ وهو معني بنصوصه الروائية.
اما محمد شكري المشرد الابدي فكتب باللغة العربية ـ بإستثناء الخبز الحافي التي نشرت بالانكليزية اولا ـ وجمهوره عربي مغربي، وكان تركيز هذا الجمهور اولا وأخيرا على حياة الروائي الخاصة وترك نصوصه جانبا..لم يلتفت الناقد الفرنسيون الى حياة الطاهر بن جلون الخاصة لأنهم يتعاملون مع نصوص من داخلها انطلاقا من مبادئ الحداثة النقدية الغربية التي تتعامل مع النصوص بصرف النظر عن كاتبها، وهكذا نظروا الى حياة رامبو، وبودلير، وسارتر، وجان جينيه، وفرلين، وبيكاسيو وهي حياة شديدة الغرابة، وكثيفة التعقيد.يذكر الشاعر الشهير اراغون كيف انه دخل يوما الى محل للاحذية فإلتقي بالرسام بيكاسيو وهو يحمل خارجا من المحل أكثر من مئة زوج من الاحذية، فعاد اراغون
خائبا لأنه لم يجد في المحل حذائا ليشتريه..! الطاهر بن جلون لم يُقرأ في المغرب قراءة نقدية، بل شخصية. اي ان النقد المغربي تعامل معه كما تعامل مع الروائي محمد شكري، لكن الفارق هنا هو ان هذا النقد يمتلك سطوة على شكري ، لكنه لا يمتلكها على الطاهر بن جلون الذي كان جمهوره آخر، ويتعامل مع مرجعيات نقدية مختلفة، كما ان الطاهر بن جلون لم يكن يقرأ ما يكتب عنه باللغة العربية، بل لم يكن يعرفه ابدا..!نظر النقد الغربي الى الطاهر على انه قام بتفكيك بنية القهر والتسلط والعبودية والاغتصاب العام للحرية والسلطة والانسان والعدالة، ونظر النقد المغربي، الغوغائي، الى شكري وبن جلون نظرة سلبية انطلاقا من مرجعية اخلاقية واجتماعية لا تصلح لقراءة نصوص روائية حداثية..
ان الادب يُقرأ ويُنقد ويصنف حسب معايير علم النقد وقراءة النصوص، وليس حسب معايير سطحية، مرتجلة، كاذبة، تغلف احتجاجاتها تحت قناع مزيف من الاخلاق كما لو ان الروائي هو الذي خلق هذه الاستباحة المروعة في المجتمع والسلطة والهوية..
في الوقت الذي تداعى مرة محمد شكري تحت وطأة الضغوط الحادة، والعامة، والمتداخلة،حتى انه كان يحتاج الى من يدله على منزله منتصف الليل، وصار اللصوص ينتظرون عودته من البار في الظلام لسرقته أو سرقة ماتبقى عنده وليس عنده شيء عدا ساعة اليد التي تحولت الى مكافاة يومية للصوص وصار ينزعها آليا كلما ظهر له شبح في العتمة، لكن الروائي الطاهر بن جلون ابدى صلابة ورسوخا وقوة بل لامبالاة عجيبة ازاء الضغوط نفسها وأعنف.
والسبب في هذه المفارقة مرة اخرى الى اختلاف سيرة وخلفية الرجلين، واختلاف المرجعيات النقدية، وكون جمهور الطاهر بن جلون ليس عربيا، وكون جلون نفسه لا يقرأ ما يكتب عنه ولا ينشغل به وهو كثير ومقرف، حتى ان الروائي المغربي أدمون عمران قال في مقابلة تلفزيونة مرة ان بن جلون لم يُقرأ قراءة نقدية، بل قراءة اجتماعية، شخصية، متخلفة، مبتذلة.وهذا هو رأي النقاد الفرنسيون ايضا..
كتب الطاهر بن جلون روايات جميلة ورائعة ترجمت جميعا الى اللغة العربية ولكن اشهرها:
* غزالة وتنتهي العزلة* يوم صامت في طنجة* حرودة* ليلة القدر* طفل
الرمل*ليلة
الغلطة* نزل المساكين* المرتشي*صلاة الغائب* أعناب مركب العذاب* الكاتب
العمومي* وتلك العتمة الباهرة..
وتلك العتمة الباهرة حسب ظني هي آخر رواية صدرت له.تتناول هذه الرواية الاحداث المأساوية التي عاشها سجناء سجن " تزمامارت" الرهيب، أو بيت الموتى كما قال عنه احد ضحاياها في مقابلة متلفزة قبل ايام.وهذا المعتقل هو قبر حقيقي دفن فيه لمدة تزيد على اكثر من ثماني عشرة سنة أكثر من ستين فردا مات بعضهم وظل البعض الاخر يقاوم الموت والنسيان والحشرات والبرد والحر والمرض والغريزة واليأس والتفسخ.بل ان بعضهم كان قد تفسخ فعلا وتحول الى لحم مهتريء يتمشى، وجن آخرون، وعاش بعضهم على حكايات تنتمي الى عالمهم القديم الذي أغلق عليهم مرة واحدة وبصورة قاطعة، لكنهم استعانوا بالذاكرة.ان مدفن "تزمامارت" هو شهادة مخيفة ، ومرعبة، وقوية، على قوة الامل البشري في الخروج من الهاوية والجنون والموت المؤكد.
ان الطاهر بن جلون كان يجد حرجا شخصيا حين يلتقي بضحايا هذا القبر أو السجن ويسألونه لماذا نسيتنا انت ايضا؟!
وكان لا يجد ردا مناسبا الى ان قرر الكتابة عنهم من خلال شهاداتهم هم الاحياء والذين نجوا من هذا العذاب بمعجزة الامل وحدها...
لم لا؟ ألم يكتب الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي الذي قضى هو الاخر أكثر من ثماني سنوات في السجن رائعة الشعرية " مجنون الأمل"؟.
يكتب الطاهر بن جلون في الاهداء مايلي:
"كل احداث هذه الرواية واقعية.. انها مستلهمة من شهادة أحد معتقلي سجن تزمامارت.. إنه عزيز،واليه أهدي هذا العمل الروائي، وأهديه ايضا الى صغيرته رضا، نور حياته الثالثة "
وهذا الاهداء/ الفخ/ هو احد شراك الروائي بن جلون الكثيرة، لأن هذا اللاعب الماهر يعرف كيف ان يقول مالا يقال وبلغة سهلة تماما...
إن الصغيرة رضا هي نور حياته الثالثة التي لم يستطع هذا القبر/ المدفن العام/ بيت الموتى/ ان يؤجل ولادتها أو يلغيها، لأن الحياة مستمرة، حتى لو نبتت الاعشاب قرب الزنزانة أو غرد عصفور في باحة السجن كما تقول روزا لكسمبورغ
في كتاب رسائل حبها الى كارل لبخنت القائد الشيوعي المعروف.على ان هذه الرواية ليست تسجيلا حرفيا للاحداث والشخوص والا لكانت تحقيقا، وليست رواية. ان الحقيقي الوحيد في هذه الرواية هو العذاب والصبر والامل . كما
ان هذه الرواية ليست رواية ابطال، لأن البطل يختار ويقرر بين عدة خيارات، أما هؤلاء ضحايا انقلاب قصر" الصخيرات" فلقد وجدوا انفسهم مدفونين وقد نساهم الزمن والعالم ونسى بعضهم حتى اسمه الحقيقي.الشيء الوحيد الذي يعمل في هذا المدفن الارضي هو الذاكرة..الذاكرة هي النقيض الوحيد والحقيقي وهي العدو الشرس للسجن والنسيان والدفن والعاهة والتشوه..خرج موتى هذا المعتقل من تحت الارض وهم في حالة صدمة من ضوء الشمس..!وخرج الروائي الطاهر بن جلون من حرجه الشخصي وهو يستطيع الان ان يوجه هؤلاء الضحايا، الموتى القادمين من المدفن، دون خجل.
لكن وحدها المؤسسة لم تشعر لا بالخجل ولا بالحرج وهي ترى ضحاياها يعلنون هذه الحكاية الطويلة على الملأ، حكاية العتمة الباهرة.
لم تتعلم هذا الدرس وهو: ان دفن الناس لن يدفن الحياة مادام هناك طائر واحد يسافر هذه اللحظة تحت سماء زرقاء بلون الأمل.