|
بين الأرضين
مرح البقاعي
الحوار المتمدن-العدد: 1341 - 2005 / 10 / 8 - 11:54
المحور:
الادب والفن
كيف تتبادل الذاكرةُ (المتحوِّلة) والجسد (الثابت) مربعاتِ رقعة الشطرنج متنقلان في المكان والزمان واللغة؟ كيف يعاد ترسيم ملامحها حين يجرجرها لبوسُها -الجسد عن أرضِها الأولى باتجاه عوالم ما وراء المحيط المستجِدّة؟ وهل ينكسر التاريخ عن نبعه الأصل أم أن الحياة هي خط للذاكرة متّصل لا ينفصم عن مسقط الرأس؟ وكم من الشِعر يلزم لإعادة كتابة الفائت في شرط المكان المختار ودواعي ثقافته؟ وهل الذهنية العولمية هي فعلا دينامو العمل الإبداعي المعاصر؟ وكيف يُهجَّن القصيد في ملاقحة ثقافتين ومكانين مفصولين أصلا؟ وما هو دور الشاعر "ابن العالم" في رهانات هذه المغامرة اللغوية؟
حين سألتُ الشاعر والروائي لطفي حداد، السوري المولد والمقيم في ولاية أنديانا الأميركية، كيف يعرّف نفسه كأديب ينتمي إلى ثقافتين: العربية الأم، والأميركية المكتسبة، قال: "أشعر أنني شرقيّ حتى الثمالة، بكل ما في الكلمة من تاريخ وتراث وذائقة أدبية. إلا أن وجودي في الولايات المتحدة جعلني أقرأ تاريخي بشكل أعمق، وفتح أمامي آفاقاً جديدة اتجهت بي للاهتمام بشؤون متسعة الطيف من حقوق الإنسان، إلى حوار الأديان، وتجاذب الحضارات. في البداية لم أستطع أن أخرج من قوقعتي، لكنني مع مرور الوقت بدأت أتعلم كيف يصير المثقّف مواطنا عالميا يلفي في حضارات وثقافات الأرض وطنا جديدا متجدِّدا".
وإذا كان الوطن لحظة توحّد واندغام بالذاكرة فإن أدباء المغتَرب تخيروا نوستالجيا تلك اللحظة لتكون المحور والمحرق لما خطّته أقلامهم في الأرض الجديدة من آلام وأحلام عريضة، حيث تتراجع إرهاصات المسافة والجغرافيا المتروكة لصالح تقدم رموز وإحداثيات اليومي المعاش بكل دواعيه وتداعياته.
الالتئام الثقافي لقد تمكن أدباء المغترب الأميركي في القرنين الـ20 والـ21 من تحقيق المعادلة السحرية للعيش في وحي المكانين: الأرض الأولى ـ مسقط الرأس ومربع الطفولة وازهرارها، والأخرى الموعودة ـ أرض الحريات التي لا تُحَد ومشروع التحديث الذي لا يهين؛ وذلك في خط زمني متصل ومفتوح على إشارات العصر العالية التوتر. وقد ساهم منتوج ثورة التقنيات في المواصلات والاتصالات في تقليص المسافة الشعورية أولا، والمعرفية والجغرافية تاليا. لم يعد الأديب المغترِب المعاصر يحمّل النص الشعري أعباء النوستالجيا وأوهامها أو يرى في الأرض الجديدة ـ في أحسن الأحوال - مساحة لـ"المنفى السعيد". يقول حداد في هذا الشأن: "الوطن لحظة عشق نختارها حتى الموت، ونرحل نحوها كغرباء ومنفيين. وهذه اللحظة العشقيّة قد اختارها أغلب أدباء المغترَب. هم يعيشون في شتات الحرف والوطن والهوية، ويسعون للحرية وقلوبهم أسيرة الأرضين".
في ضوء ذاك اليسر التكنولوجي تحولت حالة الانفصام الثقافي إلى التئام في المُعاش والمُرتجى في آن. غدا الوطن معادلا مجازا لمساحة الحرية التي يتنفس النص الجديد أكسجينها. المساحة التي تتناسب طردا مع طبائع المجتمع الأميركي وحجم الحريات السياسية في نظام يقوم أساسا على المساواة في المواطَنة في ظل النهج الديمقراطي التعددي الذي يتسع للأفكار والاتجاهات والقوميات قاطبة.
هكذا تجد المثقف العربي في محيطه الجديد المختار، نائيا بنفسه عن دوامة القمع الرسمي المزمن الذي عانى منه في غياب الحريات والمشاركة السياسية وإقامة الحوار الجدي والمتكافئ مع أصحاب القرار، تجده فردا منتجا وفاعلا. إنه يشارك بحيوية إبداعية في المعارف الكونية التي تضخها مركزية الحضارة الغربية الحديثة، وهو أصلا الذي يضفي حضورا مكمِّلا على معارفها المتحركة وذلك بامتحانها والمشاركة في معترك أنساقها ومناهجها وبتحليلها ونقدها ثم بإعادة إنتاجها، وبشكل مستقل ومتكامل، مع ما يجري في محيطه التاريخي وفي مناطق أخرى من العالم.
يقول حداد: "أشعر اليوم أنني وحدة من الثقافة الشرقية في خطها الحسّي والشكلاني، ومن الثقافة العولمية التي تكرّسها فورة المعلومات ويوفرها الاحتكاك المباشر بتيارات الفكر الغربي والعالمي واستقائه من مناهله. وقد فتحت أمامي تجربة ترجمة الأدب الأميركي العربي المعاصر (كتاب أنتولوجيا الأدب الأميركي العربي المعاصر) فضاء واسعاً للتعرف إلى الأدب العالمي وسبر ماورائياته من مشاربها الأصيلة، وبلغة أهلها". ويختم حداد شعرا ببضع أبيات من قصيدة "أحتاجكِ": /أذكرُ أنكِ قلتِ ذات منفى/ عيناكَ وطني/ ويخسر القلبُ جولتَه الأخيرة/ ويسقط كآخر راية حمراء/.
سايغون شعرا قررت الشاعرة والفنانة التشكيلية الأميركية الفييتنامية مونغ لان، المولودة في عام 1975 في مدينة سايغون والتي انتقلت وعائلتها إلى الولايات المتحدة وكان لها من العمر 5 سنوات، قررت أن تخرج من ظلال الحرب وأعبائها النفسانية السقيمة إلى عالم الضوء واللون والعزف على الكلمات.
أرادت لان أن تحاكي العالم بألوان وتشكيلات الأرض الأولى ـ أسيرة ذاكرة الطفولة الجارحة، ممسكة الريشة بيد، وبالأخرى القلم. لقد حدث أن عمّقت دراستها العليا في جامعة أريزونا لمساق "الفن التشكيلي في الشعر" من قدرتها على إبداع عالمها الخاص الذي هو وحدة من صور المخزون العاطفي والوجداني لمسقط رأسها مدينة سايغون، مختلطة بلغة وثقافة المكان الذي نشأت على معارفه الثرَّة ومناراته العلمية وإشاراته المحرِّضة.
تقول لان: "أردت أن أفكَّ طوق العزلة وأنتمي بكليتي إلى عوالم الولايات المتحدة منذ البدايات. هذا مكان تتمكن فيه من تحقيق إنسانيتك أولا، ومشروعك الشخصي كمواطن فاعل، متفاعل، ومنتج، تاليا".
وتتابع قائلة: "أردت أن أترجم كل تلك الصور الطافحة من شرفات الذاكرة إلى معادلات شعرية تستقي دواعي إشراقها من شرط اليومي الذي يضجّ بنكهة الحياة اللاذعة".
جاءت مجموعة لان الشعرية الأولى والتي تحمل عنوان "أغنية السيكادا" لتضيف إلى مكتبة الأدب الأميركي المعاصر صوتا شعريا شابا وجديدا؛ صوتا ارتفع في بيئة تحفِّز على الإبداع بما توفره من مناخات للحرية في التعبير والتواصل، ومن جراءة الانفتاح على المعاصر والتاريخي في آن.
ترسم لان على صفحات المجموعة ملامح فيتنام الجديدة التي شرعت أبوابها للعالم في التسعينات إثر غياب عن الحضور الدولي دام سني الحرب البائدة.
إنها هانوي العاصمة، وسايغون وهوشي منه حين خرجت إلى العالم ورجعت بشعبها إلى دورة التاريخ بعد أن دفعت أثمان الاقتتال باهظة؛ ذاك الذي شوَّه النفس قبل البدن.
وتعود بها الأغنية إلى خليج سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا- الأرض التي منحتها كرامة العيش، وحرية المعتقد والممارسة، ودافق المعارف، ورحب الانتشار.
هي قصائد يمتد فيها العشق ليكون الجسر الموصول بين أرضين وثقافتين في كوكب تحوّل بقاراته الخمس إلى قرية كونية غنية بعلاقاتها البشرية والعَمَلانية الحياتية. تقول لان في إحدى قصائد مجموعتها "أغنية السيكادا" والتي تحمل عنوان "رمل وذباب وأسماك":
/ أحتسي الرشفة الأخيرة من كأس الشمس المنتهية الصلاحية / إلى يميني ترتفع جبال كمبوديا / وفي الواجهة أشهد خليج تايوان / ويبدو رجال شرطة الحدود في بذاتهم الرسميّة كومبارس صامت خلف ستارة مسرح / الرمال ممعنة في سوادها / بدت أقرب إلى لون الجحيم / بينما يشقها من حين لآخر آثار بيْض لنقرات نوارس البحر /.
هكذا ينتفي الخط الواهي الذي يفصل البياض عن سواده، وتغدو المسافة بين الأرضين: مسقط الرأس وموطئ الحلم، هي "ذاكرة المُحقَّق" في فواصل الزمن بين لحظة الولادة ورفة الموت حيث صاحب الجلالة هو الشعر...
#مرح_البقاعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مجزرة الاعلام السوري
-
كونشرتو البصر: أوب آرت
-
ما وراء سياسيات الكره وشوفينية الانغلاق
-
هنا
-
لسان العالم
-
توق الشاعرة
-
مجموعة مرح البقاعي الشعرية الجديدة بالإنكليزية
-
لأول مرة في الصحافة العربية جريدة بلغة برايل للمكفوفين
-
أوراق أورشليم
-
الموسيقى في صناعة الحرية
-
لا
-
شعر العالم: الشاعر آليكسي شيرمان
-
فبراير الأسود البشرة
-
حرية القرن الأمني
-
شعر: عين واحدة
-
النفوذ الحر
-
شعر: المنتحرون
-
شعر:صولجان
-
شعر العالم: الشاعرة كيم آدونيزو
-
ملف شعر العالم: الشاعرة ساسيكا هاميلتون
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|