حمودي زيارة
الحوار المتمدن-العدد: 4837 - 2015 / 6 / 14 - 23:11
المحور:
الادب والفن
تشاوف عباس في ذلك اليوم في لوثة من امره, فقد كان يهب جسده المترع غربة والم الى مراتع الوديان والسفوح وصخب الشوارع, ونقاهة السماء الفارهة, وعبق تراب الارض, تاركا انفاسه الباعثة زناخة الغربة الى هفيف النسائم وظلال افنان اشجار السرو. عاد عباس الى الغرفة عندما دثر الليل الشوارع بظلمته, حاول ان يتصل ببثينة, فلم يحصل على خط, وفي صباح اليوم التالي حصل على خط بعد ثلاثة محاولات, القى عباس التحية في البداية وساْل عن حال الجنين, بدت بثينة فرحة, اعطاها رقم الهاتف, وبعد محادثة قصيرة, انقطع الخط. اسبوع كامل مضى على مجئ عباس الى سوريا, وكان على مدار الفترة يعاف الجلوس في الغرفة, فكان يستيقظ قبل اطلالة الفجر, ويذهب الى السوق مباشرة. يتناول الفطور من العربات التي تتناهب فضاء السوق, فيتوغل في جنبات الاماكن بعد ارتشافة قدح من الشاي. وفي احدى المرات, كان عباس كعادته يخطر في ثنايا السوق, وبينما راحت نظراته تتفحص الارجاء, واذا بوجه أليف يتراْى له من تفاصيل دكاكين السوق, تمعن عباس في الوجه بذهول وحدة, قارب المسافة بينه وبين الوجه بعد ان خطى نحوه بعض الخطوات, استلم الى تدافع التهاويم في ذهنه... وبعيد هنيهة, ركض عباس بصفاقة مثيرة نحوه, وعلى مقربة منه صرخ بلوعة جلبت انتباه السوق.
- فلاح.
هرع فلاح نحو عباس كذلك, فتشابكت الايادي في عناق طويل والعيون بدورها اذرفت الدموع بشدة, الناس اخذت تتطلع الى المشهد بذهول ورقة, فرح فلاح كثيرا كفرحة استدلاله على مغارة الكنز. فقال عباس وهو يحاول ان يضبط نبرة كلماته.
- بحثت عنك كثيرا في هوس المربعات, لم اجد لك اثر.
وبحرقة قال فلاح:
- بعد شهر تماما قررت ان ارجع, بعد البحث المضني, وبعدم العثور عليك, عندها توقعت بانك عاودت الادراج, لاني مازلت اتذكر حين قلت لي بانك سوف ترجع ان وضعونا في الخيام. بالاضافة الى ذلك الكاّبة التي اطبقت على ذهني, وعند لحظة الرجوع اخترت ان ارجع عن طريق الحدود متسللا, رجعت الى الجيش من اجل ان اضمن الحصة الشهرية, ولكن بعد فترة شهرين قررت ان اهرب الى سوريا, فالحياة في العراق ظهرت كمقبرة لا شئ فيها سوى الحزن والدمع.
دعاه عباس ان يسكن معه. تحدث عباس في الطريق لفلاح بشكل مفرط عن العراق, وعن نيته بالتسلل الى العراق.
وباْضطراب واضح رد فلاح وكاْنه قد داهمته لوثة:
- لا انصحك ان تذهب الى العراق, فالامور هناك تدعو الى التقيئ والياْس.
- انا على معرفة تامة, ولكن في دواخلي رغبة مجنونة لرؤية العراق.
- يمكنك الذهاب, ولكن ما الحيلة ان كشفوا امرك.
عاد عباس مع فلاح الى الغرفة, بعد ان جلب اغراض فلاح من شقته, الليل شرع يتوغل في تدفقات ظلمته. وبينما فلاح تراخى على اريكة مركونة على الجدار المواجه للباب الخارجي. وما ان دب الخدر في عظام فلاح, راحت قريحته تتاْرجح بقبسات الاوار التي توغلت في حياته كجرح ناغر من الصعب ان يندمل, وتحدث عن هول المعاناة التي خاضها من اجل ان يردم مارد الجوع, وعن المواقف التي اضطر فيها ان يساوم بغية تبديد شبح الالم الذي جثم على زوايا البيت, لحظتها صرخ فلاح:
- دعنا نتساْل هل منحنا الامنا لحظة تاْمل, ام ادمنا الهروب, هل وقفنا كالاحرار نقارع احزاننا, هل ناشدنا السماء ان تاْلفنا لنجسد حبنا ثورة على طريق الفقراء, ولكن في الحقيقة نحن مجرد عبيد, خلقنا لرفع عروش جزارينا.
- ما زلت تحارب الحزن, وماقلته للتو سوى انين لهذه الحرب.
اردف مطردا.
- نعم يافلاح, نحن مجرد عبيد نتلذذ بالعذاب, ونهفو بفرح نلعق دماء اترابنا التي تقطر من سيوف جزارينا, انا اعتقد بان السبب وراء ذلك, لاننا غادرنا الشوارع المضرجة بدم اوصالنا, وخفنا ان نطعن بصدورنا سيوف الاوغاد, وكذلك لم يبق في جوانحنا دمعة من اخبية كربلاء تذكرنا بالامنا.
***
قضى عباس ليلة خانقة مشبعة بالحزن مع فلاح ذلك اليوم, بعد ان تاهت الطرق بخطواتهم لسنوات عديدة, افترقا على لوعات الحزن, والتقيا على جمرة الحزن ايضا. في اليوم التالي, خرج عباس قبل الغبش الى السوق بعد ان ترك فلاح يغط في النوم, وبعد ان تناول الفطور, استأجر سيارة نقلته الى الحدود, وصل الحدود عند معبر نهر الفرات, تلظت جوانح عباس تستعر من الاشتياق ما ان جلس على التراب وانخرط بتألم يتسأل مع نفسه.
- لماذا حكومات الشرق تشيد امجادها على عظام الفقراء.
اخذ عباس يتاْمل بحدة, وكاْن مقلتيه عقدت في تخوم العراق, وفي اثناء ذلك اعترت عباس نوبة ذهول, عندما احس بان انهيال ناعم يداعب روحه, انتصب راقصا مكركرا بوتيرة ساخرة, رمى بنظرة حنونة الى السماء مرددا.
- اللمسة الالهية التي اختلجت في روحي للتو, لكم انتظرتها في توحش غربتي, انه يارب احساس عاصف ارجعني من جديد الى كيمياء جسدي. تسللت اصابع عباس الى جوف حقيبته ملتقطة دفترا, بداْ بقطع بعض الاوراق, واخذ يصنع منها قارب بعد الاخر, وعندما يسلم القارب الورقي الى مويجات النهر يبداْ يحدثه عن ذكرياته والامه.
- في نهاية النهر هناك, تركت بعض الذكرى والاحزان.
قضى عباس النهار كله يصنع القوارب ويودعها دفقات الموج بعد ان يحملها اوجاعه وشغفه بالرجوع, حتى دنا الغروب, فقرر عباس ان يعاود الادراج, ويقتفي طريقه الى غرفته المركونة على سطوح احياء الفقراء, وجد فلاح ينتظره في الغرفة, بادره فلاح في الحال.
- ماذا فعلت , ظننت بانك لن ترجع, بعد ان مضى النهار برمته.
- لا شئ, فقد ذهبت الى الحدود عند معبر نهر الفرات.
- دعك من العراق, فقد ناءت عنه طقوس الحياة, فاصبح ثور مخصي لا يصلح الا للحراثة.
- ربما لا تدرك حقيقة الوطن, لانك لم تعرض حزنك المخباْ في قسماتك في شوارع مدن الغربة, فاْن سنحت لك الفرصة وعشت الغربة, فانك قطعا ستعرف قيمة الوطن, عندما تذمك ارصفتها, وتغتال قلبك الالام عند بوابة الليل.
- اعرف اكثر مما تفوهت به, ولكن الوطن ليس لنا, نحن وارثي جينات الفقر, لاننا من المحال ان نتذوق نفطه مهما سكبنا من الدماء, وعلقنا الرقاب في احبال المشانق. لافتات الثورة تحمل على اكتاف الفقراء, ولكن زمام الثورة بيد اللصوص. (واضاف) اثناء غيابك, الفقراء اصبحوا رهن عذاب السلطة, والعالم يتفرج دون ان يبادر بفعل شئ, لمشاهد الموت اليومية, وللامراض الفتاكة, وللجوع القاتل العالم لا يكترث بالامنا مهما تفاقمت, مالم تمس مسيس حاجاتهم.
حاول عباس ان يماحك ايماءات الحزن التي شدت اعصاب فلاح قائلا:
- لدي رغبة شديدة بتناول العشاء في المطعم هذه الليلة.
واثناء تناول العشاء في المطعم الذي يقع في نهاية السوق اقتحم شاب في مقتبل العمر المطعم, واخذ يستنهض الجميع بان يحتشدوا في الشارع العام عند مرقد السيدة زينب للاعلان الاستنكار لمأرب دست الحكم في البيت الابيض بأبادة الانسان العراقي بدعمها للصوص بغداد. نظر عباس الى فلاح, فلمح عدم اللامبالاة في سحنته وبنوع من الاستغراب, ساْله عباس:
- لماذا لم تتاْثر بما قاله الشاب وكاْن موقفك سلبي؟
- لا اريد ان اجعل من نفسي ضحية لاخر امد في حياتي, يكفيني ان اكون ضحية لاكثر من عشرين سنة, طبعا من الصعب ان اتنكر لدوري كضحية في هذا الوجود, ولكن الان, وانا في سوريا لدي الفرصة ان ارفض سطوة الجلاد, نحن الضحايا يتوجب علينا ان نعرف طلاسم اللغز قبل ان نسكب دماءنا في كؤوس انخابهم.
- لمست هذه الحقيقة عبر ايامي في المخيم, وعند ارصفة الغربة.
- انا ارفض لغة الشوارع, ولغة العالم الحديث, لا اريد ان تكون ملامح الفقر التي ورثتها ان تمثل مطالب سياستهم القذرة, انا لا اريد ان اضع عنقي كالحمير في ربقات مكائدهم.
عندما شعر عباس بان فلاح غاص بعيدا في قرارة وجعه بالاضافة الى ان الجميع اخذوا يحدقون فيهم, عندها قال:
- هذا يكفي يا فلاح, دعنا نذهب الى الغرفة, فالوقت اقترب الى منتصفه.
واستمر فلاح يتاْوه:
- تعرضت الى الانتهاك عدة مرات من اجل ان اتدارك عائلتي قبل ان تنهار الى قاع الفاقة.
لم ينم فلاح تلك الليلة حتى ازف وقت الفجر, لان حديث ليلة امس اثار لواعجه وفجر شجونه, وحالما استيقظ عباس وجد فلاح يفترش بلاطات فناء الغرفة. ودخان السكائر يتشبث بالجدران, جلس عباس قبالة فلاح, بعد ان اعد الفطور, وقتها لم يحاول عباس ان يخوض في اي موضوع, هذا كان واضحا بصمته الحانق, وبمحاولة مكشوفة من عباس كيما لا يعطي فرصة لفلاح من ان يقحمه في اي موضوع, لذا قال:
- سوف اخذ حمام وبعدها ساخرج الى السوق لاستنشق بعض الهواء.
بقى فلاح بمضض يتأمل نفثات دخان سكارته, وعلى وجهه اثار الحزن, بينما عباس راحت خطواته تعزف لحن مشاعره على اسفلت الطريق, واثناء تهاديه في السوق, راح كعادته يتاْمل السحنات, ويسترق السمع الى الاحاديث التي تعج بها جنبات السوق, بقى عباس في مقهى مركون في زقاق متداعي حتى انتصف النهار, وبعدها قفل راجعا الى غرفته بغية مخابرة السفارة الهولندية. خابر عباس السفارة, ساْل الموظفة عن الن وفيما اذا تركت رقم هاتفها؟
وبسرعة ضاجة اجابت الموظفة:
- انت عباس فقد تركت الن رقمها منذ اسبوع.
وفور حصوله على الرقم, اتصل بالن مباشرة, واثناء المحادثة, ساْل عباس, الن عن اسم زوجها:
- محمد حنون
صرخ عباس بدهشة:
- الرسام.
- نعم الرسام.
- انه صديقي, قد تركته في المخيم, ولم اعرف عنه شيئا بعد ان عقم صندوق البريد منذ زمن عن رسائله.
- قمت بمحاولات عديدة مع مساعدة السفارة, ولكن لم اعثر على اثر له البتة.
- لا تقلقي, فان كان حي فسوف نجده, فسوف اساْل ابناء مدينته البصرة عنه.
انتاب عباس الاحباط والضجر من العبث الذي يشوب الاشياء وفي غمرة انفعاله, اخذ يستفز, ويبالغ في اثارت شجونه, جراء هذه الهلوسة التي اورثها له الزمن... وبالرغم من اكتئابه حاول عباس ان يقضي اوقات جميلة مع فلاح صديق طفولته الشاردة في خربشات الجدران, وحكايات الجن في الليالي الدامسة. تفاجاْ عباس في احدى المرات, وهو يتمشى مع فلاح في السوق بثلاثة اشخاص, يعترضون طريق فلاح, وبداْوا ينهالون عليه بكلام فاحش وبذئ. نظر فلاح الى عباس وقال:
- ساذهب معهم , وساعود بعد دقائق.
- اتحتاج ان اتي معك .
تبسم فلاح باقتضاب ولوح بيده, وغاب في زحمة السوق, وفي الليل عندما رجع فلاح, وجد عباس في انتظاره بادره عباس بالسؤال:
- ماذا حدث؟ ولماذا يتكلمون معك بهذه الطريقة الوقحة؟.
- لا عليك, فانهم فقد ارادوا ان يعرفوا, متى صديقي الذي تكفلته, يدفع لهم المبلغ الذي اقترضه منهم.
#حمودي_زيارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟