احمد مصارع
الحوار المتمدن-العدد: 1338 - 2005 / 10 / 5 - 12:23
المحور:
الادب والفن
إنها القسوة دائما , ولا أحد يستطيع معرفة السر الذي جعلنا قساة , لا أحد يشفق على أحد , وبدون رحمة , حتى الغائب عنا لا يسلم من ألأذى , فالقسوة من كل نوع , قلوب متحجرة , وعقول سميكة , وعن بذاءة الوجدان فهناك طيس , موفور وفرة الأوحال والمستنقعات الآسنة .
كنت داخل زنزانتي التي لا تختلف عن أي قبر مهمل , فالظلام دامس ولا يمكنني رؤية كفي أثناء النهار , ومن غير المعقول أن لا نشير الى الفرق بين الموت وبقايا الحياة , نعم , فقبري يفتح مرتين أو ثلاث في اليوم , لثوان معدودة , ثم يغلق , ومن غير الإنصاف ألا نذكر السؤال المهم كل صباح , ما اسمك ؟ , ويغلق الكوة المروعة بقوة , ليعود الظلام الدامس يذكر السجين بأنه لم يزل بعد على قيد الحياة .
انه عذاب القبر كما يروى عنه في بعض الديانات الشرقية , ولكنه في السجن الزنزانة المنفردة يحدث قبل أوانه أي في الدنيا قبل الآخرة , وبدون وكالة ربانية يقوم البعض بتطبيقه على البشر وفقا لغريزة القسوة المتضادة , بحيث لا توجد منطقة وسط مابين الجنة والنار , ولذلك يقوم الناس الواقفين بالوقوف طويلا في البرزخ بانتظار نتائج الفرز الفوضوي , فمنهم الى الجنة السابعة , وآخرين الى قعر الجحيم , ولمعرفة تفاصيل الاختيار العشوائي الصارخ , فذلك جحيم آخر .
كان شريط المسجلة يصدح مغردا بصوت عال جدا , ولكنه صوت شجي لكوكب الشرق أم كلثوم :
- أغدا ألقاك ؟.. يا خوف فؤادي من غد؟...
وفجأة تدافع رجال الأمن , كما لوكان صبرهم قد نفذ , أحذيتهم العسكرية تقدمت كمارش عسكري للاندفاع نحو الموت في سبيل الوطن , وبخرطة واحدة قوية دوى لها باب الزنزانة , ولم أكد أقف على قدمي من الإعياء والانكماش من ضيق المكان وقلة الحركة , كنت فريسة تم اصطيادها , وقيدت بالحديد الذي أطبق على معصمي يداي بقوة, فكتمت بقوة فظيعة صرخة ألم , وحين عصبت عيوني بصفحة نعال اسود , أحسست لحظتها بانفتاح باب الجحيم , ولا ادري كيف علقت , بسرعة الكترونية , وراحت قضبان معدنية مجدولة تنتف صوف جلدي , كان ذلك جميلا , لست ادري , إنها تجربة وأجمل مافيها , أن تصل مرحلة فقدان الوعي , حيث تقف روحك وتقول في عطف شديد للاعبين الأقوياء , ما معنى تعذيبكم لهذا الجسد الشقي , إنها لعبة سخيفة وغير مسلية , لم لا تحضرون كرة قدم مثلا , وتلعبون بها , فما لذي يفيد سلخ الجسد بعد موته ؟
حين صحوت من موتي , ولا ادري في أي يوم حدث ذلك , جهدت كثيرا في التحقق وسط ظلام القبر , من أنني كائن حي , هل الدماء الحارة دمائي ؟, هل الورم هو العالق بروحي الشاردة ؟ !.
أين أنا ؟ الظلام والألم فقط , لابل هناك بعض البرودة أحسها تطفي حرارة جسدي , كنقطة ماء تلقى في فم الظاميء التائه في الصحراء الكبرى , وحين عدت للحياة وأبصرت خيوطا واهية من النور عرفت بان من يجرح ليس هو من يداوي , وربما كان المطلوب استبدال جلدي بجلد آخر ؟ هذا لايهم ؟ سيتحول الأمر الى عادة , وهناك الكثير من العادات القبيحة عند الناس .
هذا الأمر عادي بل واقل من عادي , ولكنه لن يكون كذلك قبل أن يجرب المرء بنفسه , كيف يكون بمقدور الإنسان أن يتعايش مع الألم , ويحدث هذا فقط حين تقع بين أيدي رجال قساة ,وستفرح كثيرا من زوال هيبتهم , ورهبتهم , المزروعة في القلب , وقد تعجبكم لعبة الاقتراب كثيرا من الموت ألما .
فقدان الوعي حتى لا يعود هناك الم ؟ من يضمن لمثل هذه العادة أن تكون جميلة ؟!.
من الأفضل أن لا يجرب المرء ذلك , حتى لوكانت الغاية من ذلك تحدي المخاوف التي تتناوشه وتعذبه بقسوة بالغة , ولتحدي الخطر وعبور جسره الطويل للغاية , سيعطش المرء كثيرا ولن يرتوي منه أبدا .
كان ذلك في بداية الصيف , وفي ليلة غاب عنها ضوء القمر , والساعة الآن الثانية بعد منتصف الليل , كنا نشرب الخمر , في هدوء غريب , وقلق خفي حين أغلق أبوعلي زجاجات الخمر , صارخا بجدية صارمة وقاسية :
هيا انهض هيا معي , أسرع , أسرع ...
أغلق المحل , وضغط على دواسة ( الموتوسيكل ) الذي ملأ المكان صخبا وضجيجا , وشدني من كتفي بقوة للذهاب معه , الى أين ؟ !.
إنني مضطر لتتبع قناني الخمر , فلست اقنع بالنشوة الكافية , ولن أفارقها إلا حين أغفو من تعب السكر والثمالة , وحتى أدخل مرحلة انعدام الإحساس بالألم , وتصبح كل الظروف القاسية المحدقة بي وبغضب لئيم , هينة , ولينة , بل وجميلة وهي المرحلة الأخيرة من الطمأنينة الحقيقية .
كانت الريح الباردة مشاكسة للغاية , تعاكس (الموتوسيكل) المنطلق كالشرارة , تبدد الدخان الكثيف والحار الذي يخنق الأنفاس , وتهرب بعضا من نشوى حب الحياة والتعلق الطفو لي بها .
كتمت صرخة دهشة , من المكان الذي توقف عنده ؟! .
- أبو علياء هذه مقبرة , قاتلك الله ؟!.
فأجابني مزدريا :
- أدري , وهل تحسبني غشيما ؟ !. هذا هو مكاننا الطبيعي , هم اليوم أموات , ونحن غدا سنكون معهم ؟
وراح يضع الأغراض على الأرض , وبكل روح تحد صاح بي:
- أتضع سترتك وتجلس , أم أعطيك سترتي ؟
ودفع إلي بقنينة الخمر بمودة عالية :
- اشرب يا رجل ..ستفهم بعد قليل ...
كنت منشغلا أغب من الخمر , وأنفث دخان اليسجارة بقرف , فلم أفهم بعد لم اختيار هذا المكان المقدس , وفيه حرمة للأرواح , ورغم أن الحدائق أفضل الأماكن للسمر , وهذه حديقة للأرواح , لكن هجمة قاسية من الخجل والاستحياء تمنعني من قبول مثل هذه الفكرة السخيفة .
وعادت القسوة في القلب والعقل والوجدان تنخزني بإبرها الدامية , وصرخة تهز كياني ( هذا غير معقول يا رجل ) , لابد من عمل شيء , وسأنتظر ريثما أتتحقق من رزانة أبو علي , ووزن منطقه , وقد تكون هذا هو لقاؤنا الأخير , كل هذا يتوقف على اللحظات القادمة ؟!.
- عم تبحث يا( أبوعلي )؟
رد باستياء عن شريط كاسيت , وفجأة ابتسم , لقد وجدته .
قلت هات اسمعنا , وفجأة غامت الدنيا في عيوني واكفهرت , حين سمعت الصوت من حنجرة كوكب الشرق أم كلثوم ( أغدا ألقاك .. يا خوف فؤادي من غد ؟ ) .
صحت به غاضبا , أعوي كما لوكنت كلب بافلوف في منعكسه الشرطي .
- ما هذا ؟ ما هذا؟ ما هذا ؟
رد علي بكل برود أعصاب :
- هدوء يا أخي دع الأموات يستمتعون بهذا الغناء الشجي ويطربون ....,....
موقف غير معقول , ولكنه كلام معقول , وحلو ومر في آن واحد معا , ولكن لابد من الاحتجاج , وصرخة الزنزانة التي تشبه القبر , وصوفي المتطاير , لحظة ( أغدا ألقاك ) .
ورحت أشرح له , ما حدث لي من عذاب وموت , بصحبة الأغنية التي نستمع إليها بكل روية وهدوء , فقال مبتسما كطفل لئيم :
- ألم تنس بعد ؟.. ذاك عهد مضى , أنت اليوم حر وحي وغدا تموت وغدا ألقاك , وغدا نلتقي مع سكان المقبرة , ولا يدري أي منا أين سيكون موضع قبره ؟.
لم يعجبه صمتي مقهورا , وراح يحاول مواساتي :
- اسمع يااخي , وافهمني .
رددت باستياء :
- وكأنني لا أفهم ؟.
ضحك ولم اغضب ,
- أنت تفهم الحياة اللينة في الكتب , وأنا أفهم الحياة القاسية في الواقع .
هتفت بطرب : أحسنت يا أبو علي ..
وراح يتكلم ساخرا هذا المرة :
- تخيل يا أخي انك كنت قد مت , وهذا قبرك , وأنا اليوم اجلس عند قبرك مؤ آنسا , وحيث لا احد يسليك أو يسمعك صوتا شجيا , وعنك الناس منصرفة , ... قل شيئا ..
الأمر الواقع يتسلل الى النفس بدون سحر , من القسوة الى القسوة ..
وأذكر أن قال :
- الناس في البلدة لا يعرفون الهدوء , حيثما التقيت بهم , والمشاكل تحدق بهم , وتضيق الخناق عليهم , والجميع يشكون من قسوة الحياة , أما الكذب والنفاق والاحتيال و.., فهناك طيس منه , أنت تعرف الحانات ومقاصف اللهو الليلي والعربدات والمجون و... أما هنا ..
قاطعته قائلا :
- نعم , هنا حديقة للأرواح .
هتف منطربا ومنتشيا من الخمر والصوت والهدوء الخفي :
- كم هذه العبارة , معبرة , نعم معبرة للغاية ..
حين عدنا قبل الفجر , قلت له معاتبا :
- أبوعلي , ألسنا أخوة ؟ لتكن هذه الليلة , ليلة غدا لا ألقاك .
فأجاب حزينا للغاية :
- لا, لاابدا , غدا نلتقي ولكن في مكان آخر ولكن بدون خوف .
احمد مصارع
الرقه - 2005
#احمد_مصارع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟