|
الثقافة العربية _الأسبانية ..رؤية من خلال المنظور التأريخي
نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 1338 - 2005 / 10 / 5 - 12:03
المحور:
الادب والفن
يوم حزم عبدالله امتعته وغادر بلاد الاندلس. كان العرب يدركون ان مع دموع الملك الظليل، ان لا عودة لما كان. وكانت والدة الملك الذي سمح له بتدخل بابوي ان يصحب معه حقيبة ملابسه ودفتر صكوك، اكتشف بعد حين في منفاه بالمغرب انه من دون رصيد. وعندما ارسل فاكسا الى المصرف الاندلسي في مدريد، اخبره البنك: انه كان يودع اموالاً سقطت قيمتها في السوق وان اليورو هو ما متداول اليوم وليس الدينار الاندلسي الذي طبع عليه عبدالرحمن الداخل نخلة اتى بها من الرصافة، وعمامة يقال انها عمامة جده عبدالملك ابن مروان.
لهذا فضل عبدالله ان يعيش حياة الكفاف وان يبيع كل اسبوع جارية من جواريه لكي يعيش. ورغم ان الملك المغاربي الحسن الثاني وبعده ولده محمد قد اجريا له منحة من بيت مال المسلمين. لكنه كأي مستبد منفي كان يصرف ببذخ، وكان مثل شاه ايران يوم كان منفيا في قاهرة المعز يوصي بخياطة عباءته او طربوشه من دار كرستيان ديور الباريسية. ويبدو ان المنافي لا تغير الملوك. لكن منفى عبدالله وهو اول ملك في التاريخ يطرد من ملكه بطريقة لائقة. كان منفى فيه شيئا من الحسرة. فالرجل سلم دولة كاملة على بياض وتلك اول سابقة واتى بعدها احفاده وتعلموا منه ليسلموا دولهم على بياض ايضا. كانت والدته معه وقد عاشت عزلة ان تكون امام ملك محبط. وهي مثل امهات كل الملوك يدركن خفاء البلاطات لهذا وبأمر صارم قالت له: ساصفعك عندما اراك تبكي مرة اخرى. ويقال ان عبد الله منذ تلك اللحظة ظل يرسم على وجهه ابتسامة باهتة تشبه صفار البيض. البلاد التي غادرها ملكنا المفدى تسمى اليوم مملكة اسبانيا، التي تفكر وفق رؤى سعت الى ادارة قفاها لكل الذي كان وكل الذي جعل من التاريخ القريب لاسبانيا تاريخا استعماريا قاسيا. وما تركته مذابحها للسكان الاصليين في المكسيك وثلثي مدن اميركا الجنوبية لتأكيد ان الملكية الاسبانية كانت تفكر بعقلية الدم وشيء من الغموض الكنائسي المغلق. لذلك لم يكن استعمارها موفقا ولم يدم سوى قرون قليلة جراء الفعل الشعوبي المضاد لهذه القسوة المفرطة. ولكنها كثقافة سعت الى ايجاد شيء من الهوية المسيحية الصرفة في تأثر واضح بالتراث العربي الاسلامي الذي ترك شواهده الروحية والفكرية والعمرانية في اهم الحواضر الاسبانية ومنها قرطبة واشبيلية وطليطلة ومالقة وباقي المدن الاخرى التي ضمت في تراثها مشهدا حضاريا ارادت اسبانيا ان تبعده عن ناظرها بشق الانفس الا انها لم تستطع، وظل الهاجس العربي يمشي بموازاة الهاجس الاسباني خصوصا في الشعر وادب الحكايات المحلي. ويبقى القرن العشرون وقبله هما قرنا الثقافة الاسبانية الكونية التي حدثت وجودها وفق الموروث الادبي الذي تركه سيرفانتس وبدأت الذات الاسبانية تحاول ايجاد شكل للروح الاصلية التي ينبغي ان نجدها وسط الهتافات المتعالية في شوارع مدريد ان نجعل من الامة الاسبانية واجهة للمسيحية العظيمة وان لا نفرط بما ملكنا من مستعمرات حيث كتب اسقف كاتدرائية مدريد في بدايات القرن: ان الروح الاسبانية دفعت بكولمبس ليكتشف العالم الجديد. هي ذات الروح التي تحرسها العلا الالهية لتحكم العالم من سانتياغو حتى بحر العرب. ورغم هذا حاولت المملكة الاسبانية ان تنأى قليلا عن الصراعات الاوروبية رغم انها دخلت مع فرنسا في اكثر من موقعة وكان في اغلبها الهزيمة فعوضت عنها بسياسة المصاهرات التي ابقت حدود الالب بين البلدين هادئة حتى لحظة العبور الجماعي لعشرات الالاف من الجمهوريين يوم استطاع فرانكو ان يقتل الجمهورية ويبعدها عن المسرح السياسي ليبدأ حكما ديكتاتوريا منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى وفاته في سبعينيات القرن نفسه. لانه ايضا في هذا النأي صنع دولة حديثة مقتنعة بفكرة زوال المستعمرات. ورغم قمعه القاسي لكل التيارات اليسارية وادبها الا ان الذات الاسبانية جزءا من ثقافة العالم المتميزة وحرصت على ان لا تقطع صلة الارث الروحي الذي يشدها بالثقافة العربية عبر انشاء دور النشر التي تهتم بذات التراث. لكن الادباء الاسبان عدا لوركا حاولوا بشيء من تحقيق الهوية الاوروبية الخالصة ان يرسموا لادبهم شكلا اسبانيا صرفا مثلته طموحات خوان رامون خيمنيث ورفائيل البرتي وساليناس واليخاندروا بثينته وغيرهم، رغم ان معظم هؤلاء الادباء كانوا يشتغلون في الضد من التوجهات الايديولوجية التي كان فرانكو يشتغل عليها، حد الذي اختار اغلبهم المنفى مثل انتونيو ماتشادو والبرتي. فيما اثر الكسندر بثينته العزلة والصمت. اما خارج الحدود الاقليمية لاسبانيا فقد احدثت هذه اللغة التي امتازت بثقافتها الثرة احدثت طفرة وعي ثقافي لا مثيل لها عندما اظهرت للعالم شكلا جديدا للادب على صعيد الرواية والشعر وعد الامر كظاهرة حضارية ينبغي النظر اليها باحترام وهو ادب اميركا اللاتينية الذي تمثل في الاعمال الرائعة لبورخس وماركيز وبابلو نيرودا وسواهم من كتاب اميركا اللاتينية التي مثلها نيرودا بقوله: نحن نتاج الروح الاسبانية. وقبله لوركا قال: نحن نتاج الروح العربية. وهذا يعيدنا الى وعي فكرة عند شعراء التوربادو اولئك الجوالون الذين تأثروا بالاناشيد العربية وما تلاه ابن حزم في طوق الحمامة. اليوم المملكة من دون فرانكو. لكنها مملكة لرئيس الوزراء وليس الملك. غير ان المؤسسة الثقافية الاسبانية تحاول عبر معهد سيبرفانكس وغيره من الصروح الفكرية والثقافية ان تديم شيئا من ذلك الوصل القديم وكان من المفترض ان تكون الثقافة الاسبانية الاقرب الى ذاكرة المثقف العربي لكن العكس هو الصحيح حيث تأتي الثقافة الفرنسية والانكليزية والالمانية في مراتب متقدمة قبل الاسبانية وهذا يعود الى التفكير الفرانكوي في صناعة طوق من حديد حول كل شيء رغم اننا نحس بأن القصيدة الاسبانية مثلا تقترب من الذات العربية اكثر من القصيدة الجرمانية التي يكتبها بودلير ورينيه شار وهولدرن واليوت. لكن الاسبان في ادبهم حاولوا تحصين انفسهم برؤى كهنوتية صرفة لكن عالمها الرومانسي بدا واضحا في تعرضه لاسقاطات تلك الروح التي تركها عبد الله وغادر مع صرة ملابسه. يقول الشاعر السوري نزار قباني وقد خدم دبلوماسيا في اسبانيا: (كنت استعيد نفسي في قصر الحمراء وابتسم واتساءل: هل كنا هنا بدمنا ولحمنا العربي؟ وحين يجيبك الطلل: نعم. اعود وابكي). هذا يشعرنا بضرورة ان يكون الهاجس الاسباني قريبا منا اكثر من قصائد ارثر رامبو، ففي الادب الاسباني روائع تستطيع ان تغذي رغبة التلاقح عند المثقف العربي. وحين سألت مرة في المربد احد المثقفين المغاربة: لماذا تقتربون كثيرا من ادب ماري انطوانيت وتبتعدون عن ادب سيرفانتس. رغم انه الاقرب اليكم؟ قال: هم يبتعدون. ثم ان فرنسا منحتنا الاستقلال منذ اكثر من اربعين عاما لازالت اسبانيا تستعمر ارضا مغاربية هي سبته ومليلة. اذن دائما هناك سياسة وهي التي تحاول ان تسيطر على الفعل الابداعي الحضاري والفكر في ذاكرة موظفي الخارجية الاسبانية ومادموا هكذا سيظلون بعيدين عن العرب رغم القاسم التاريخي المشترك منذ العبور الاسطوري لطارق بن زياد وحتى هذا الحاضر الذي قرر فيه الاسبان المشاركة في القوة المتحالفة في العراق. ولكن جنودها جاءوا مع بنادقهم فقط. ولم يكن مع اي واحد منهم ديوان شعر للوركا مثلا ولسان حالهم يعيد ابياتا من قصيدة الشاعر الاندلسي محمد بن عباد يوم سقطت مدينة مالقا وغادرها العرب الى الابد والقائلة: سكن فؤاك لاتذهب بك الفكر ماذا يعيد عليك البث والحذر فان يكن قدر قد عاف عن وطر فـلا مرد لما يأتي به القدر وان تكن خيبة في الدهر واحدة فكم غزوت في اشياعك الظفر
#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فرنسا والعرب من نابليون وحتى جاك شيراك
-
عن الضوء الذي يبعث شهوته الى كل ذكور العالم
-
مشوار مع حنجرتي لطيفة التونسية وصديقة الملاية
-
الشعر والأقتراب من ذاكرة السياب وأنشودة المطر
-
خيمياء الكلمة شيدت للعشق كوخا ياصديقي
-
الأحتفاء بعينيك وبالقرية والشعر
-
أبو معيشي ذاكرة النخل والماء والقصيدة
-
قصيدة بومضة.ومضة برمش عين.رمش عين بنور كلمة
-
أيها الناس هذا وطن وليس بطيخة
-
الكوري عندما ينوح كأمراة من أجل الحياة
-
لوركا يشرب القهوة في أور
-
نسمة طاردة ..نسمة جاذبة ..تلك هي قصيدتي
-
بين الجواهري والجعفري
-
الأحتفاء بالشعر على الطريقة البوذية..(خدك جرح وقصيدتي خنجر )
...
-
الموسيقى بين روح الأنثى ومنى الرجل .. قراءة فلسفية
-
فلسفة لولادة حصان
-
حوار مع الشاعر العراقي كمال سبتي..قصيدتي قصيدة معنى ..والأنا
...
-
المندائية :المقدس وهو يتدفئ بمعطف النور
-
الثقافة العراقية العربية بين عولمة الدستور وحلم المتنبي
-
قصائد لحلمة النهد فقط
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|